- الاثنين يوليو 16, 2012 10:52 pm
#52664
خـرافة التـنمية الإقـتصادية في العـالم الثالث بقلم:عـبـد القـادر حسين ياسين
تاريخ النشر : 2009-12-09
خـرافة التـنمية الإقـتصادية في العـالم الثالث بقلم:عـبـد القـادر حسين ياسين
كبر الخط صغر الخط
"خـرافة التـنمية الإقـتصادية في العـالم الثالث"
الـدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين*
مؤلف هذا الكتاب الدكتور رابندرانات باهالال ،أستاذ الأقتصاد السياسي بجامعة بومباي بالهند ، هو أحد المثقفين القلائل في العالم الثالث الذي نجحوا في الافلات من الوقوع في براثن “الانبهار” بالحـضـارة الأوروبيـة وبكل ما هو قادم من "العالم الـحـر" ... فعـلى الرغم من أنه أمضى عشرين عاما من الدراسة والتدريس في جامعات بريطانيا والمانياالاتـحـادية ، وعلى الرغم من إحتكاكه اليومي بالحضارة الأوروبية ، فهو يبدو شديد الوثوق في قيم مجتمعه الهندي وحضارته الـتـعـددية ...
ولأنه أفلت من مصيدة "الانهزام النفسي" أمام الحضارة الأوروبية فإنه ينظر إليها من منظور ثابت غير متردد ليراها في حجمها الطبيعي كمجرد تعـبير عن مجتمع محـدد المواصفات وليس بإعتبارها ترجمة للحضارة الإنسانية كلها مـن،ذ فـجـر التاريخ وحتى يـومـنـا هـذا.
والكتاب الذي نحن بصدده ، The Myth of Economic Development in the Third World(خرافة التنمية الاقتصادية في العالم الثالث) يجمع بين الرؤية الموضوعية الهادئة والالتزام السياسي الواضح بقضايا العالم الثالث ، ذلك أن المؤلف يدرك جيدا الأخطار التي تهدد الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، والدور القذر الذي تلعـبه الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات Multinational Corporations ونهبها لثروات العالم الثالث تحت عناوين بريئة وفي إطارات براقة تخفي في طياتها أهدافا مسمومة !
في هذا الكتاب القيم الذي يقع في 380 صفحة يحاول الدكتور باهالال إعادة النظر فيما أصطلح على تسميته بمشكلة التخلف والتنمية ،ويثير الكثير من التساؤلات حول بعض المقولات التي يطرحها أقتصاديو التنمية المحدثون وإعادة الجانب الإقتصادي من مشكلة التنمية الى حجمه الطبيعي ، والنظر إليه كجزء من أهداف أكبر وأخطر ... ويشير المؤلف صراحة الى أن أحد الأهداف الرئيسية لكتابه هو رفض النظريات القائلة بأن هدف الدول الفقيرة في العالم الثالث هو "اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة"...
وتمثل قضية التبعية الإقتصادية والثقافية في العالم الثالث ودور الشكات الأحتكارية المتعددة الجنسيات في نهب ثرواته ثلاثة فصول كاملة من الكتاب يناقش فيها المؤلف أهم صور وأشكال الخضوع الثقافي الذي يرتبط بعملية التنمية .
يقول الدكتور باهالال : "منذ الثلاثينات ، ومع ظهور حركات التحرر الوطني في معظم الدول المستعمرة (بفتح الميم) في العالم الثالث كانت القضية الأساسية التي يدور حولها الجدل بين دعاة الاصلاح ، وبخاصة في شـبـه القارة الهندية والشرق الأوسط ،هي الموقف من الحضارة الأوروبية ،وإذا كان ثمة خط يمكن تمييزه في مجرى الحياة الثقافية لهذه الشعوب " ...
وبعد أن وضعـت الحرب العالمية أوزارها ،بدا وكأن هذه القضية لم تعـُد أهم ما يشغل بال المفكرين في العالم الثالث ، وتحول الحوار في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات إلى حوار حول "الإختيار بين الإشتراكية والرأسمالية" ، وتحولت القضية ـ للأسف الشديد ـ الى قضية إقتصادية ، وصورت المشكلة على أنها "التخلف القتصادي" والهدف على أنه "التنمية"... ويرى الدكتور باهالال أن ثمة خطأ فادحا حدث في "تشخيص" المشكلة ، وقد واكب هذا التشخيص الخاطئ ما أسماه بعملية "تغريب الثقافة " The Westernization of culture والحياة الأجتماعية "بكل ما تحتوي هذه العملية من طمس للشخصية الوطنية وتساهل أمام الوافد من السلع الكمالية والأفكار..."
ويؤكد المؤلف أن تصوير مشاكل العالم الثالث على أنها مشاكل إقتصادية هو تصوير "مجافي للحقيقة" ؛ فالمشكلة – كما يراها ـ ليست إنخفاض مستوى الدخل في العـديد من دول العالم الثالث ، بل المشكلة أن معظم شعوب العالم الثالث "مغلوبة على أمرها ، تريد إستعادة سيطرتها على مصيرها وتحقيقها لذاتها" ، بعد أن أبتليت بأنظمة عسكرية ودكتاتورية سخرت نفسها بشكل أو بآخر لخدمة الشركات الأحتكارية...
فالدعوة للتنمية لا تكـتـفي فقط بتجاهل القضية الحضارية بل أنها لا تتورع عن إعتبار نظام القيم السائد من "معوقات التنمية " ، فالولاء للعائلة والإرتباط العاطفي والمادي بها "يضعـف حافز الفرد لأحراز النجاح المادي "... وهكذا يبدو المـفـكر الاقتصادي الحديث في العالم الثالث على "إستعداد تام للتضحية بالشخصية الوطنية للأمة في سبيل معـدل أعلى للنمو" ، ولا تكاد تكون هناك قيمة واحدة من نظام القيم السائد في العالم الثالث لا يعتبرها من "معوقات التنمية" ، فالنمو ، في تصور الكثيرين من أقتصاديي العالم الثالث ، هو نمو أقتصادي فقط ...
أن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل ما يحدث الآن في العالم الثالث تنمية أم تبعـية ؟ للإجابة على هذا السؤال يستعرض الدكتور باهالال المشاكل الرئيسية للعالم الثالث ليصل الى أن المشكلة هي مشكلة تخلف إقتصادي، وليس تخلف حضاري ... ويؤكد أن "مفتاح الرفاهية ليس في يد الأقتصاديين"...
ويتناول المؤلـف بالتحليل مآزق التنمية في العالم الثالث ، ويرد على أولئك القائلين بضرورة "التعامل"مع الغـزو الحضاري الغربي ، وينتقد الصورة النمطية السائدة لـ "الساحر" الامريكي القادر على خلق "جنة الله على الأرض" ، و"تحويل بنغلاديش أو النيجر ألى فلوريدا "... ويحمل المؤلف بعض مثقفي العالم الثالث ، وبخاصة أولئك الذي يسمون أنفسهم بـ "النخبة"، مسؤولية ما وصلت اليه شعوبهم حيث يقول : "لقد أرغمت شعوب العالم الثالث ـ بوعي أو على غير وعي ـ على قبول مـُصنـفـات عـقـلية لاهي من إختراعهم ولا تـعـبـر عن طموحاتهم وآمالهم"...
وليس ثمة شك في أن المثـقـفـين أسهموا بدورهم في قبول المصنفات ، فـمـثـقـفـو العالم الثالث يجـدون من السهل مجاراة النغمة السائدة ، وهناك رغـبة وميل من هؤلاء المثقـفـين غير الملتزمين بقضايا شعوبهم إلى القبول بمعطيات قد لا تتفق مع الواقع لسببين رئيسيين : إما للأغراء المادي الذي تقدمه الدول الغربية ـ وخاصة الولايات المتحدة ـ كفخ لعـقـل العالم أو أنـهـم لايجدون منافذ حقيقية في دولهم للتعـبير عن المشاكل التي تواجهها مجتمعاتهم".
وينتقد الدكتور باهالال الدور الذي تلعبه المؤتمرات الدولية التي يدعى اليها مثقفو العالم الثالث ، حيث يصار الى إفسادهم ومحاولة استقطابهم بعـيدا عن قضايا بلادهم ، وفصلهم نفسيا عن شعوبهم ، وذلك عن طريق إستدراجهم للتمتع بمزايا مادية ... فمن أكثر وسائل الغـزو فعالية ، وأن اتخذت صورة متـفـاوتـة في البراءة ، "إصابة مثقفي العالم الثالث بالشلل عن طريق إستغراقهم في أعمال لا تسهم بشكل أيجابي في التطور الفكري المستقبل لشعوبهم" ، وربطهم بعجلة الفكر الغربي "تحت شعار التنمية"...
ومن المـعـروف أن بعض المؤسسات الدولية (وبخاصة "البنك الدولي للإنشاء والتعمير" و"صندوق النقد الدولي") تـقـوم بدور بارز في هذا المجال (إفساد المثـقـفـين وإستقطابهم) في السنوات الأخيرة ، وقد إنضمـت إليها مؤخرا المؤسسات الاستشارية وبيوت الخبرة وبعض الجامعات الامريكية والاوروبية ، اذ تحرص هذه المؤسسات على شراء خدمات الـعـديد من الخبراء في العالم الثالث ، وبخاصة فى مجال العلوم الاجتماعية ، بمرتبات خرافية ؛ فيكلفونهم في الظاهر بدراسات وأبحاث ميدانية قد تبدو لأول وهلة وثيقة الصلة بمشاكل شعوبهم لكن الاطار الفكري الذى يحدد لهذه الدراسات ليس من اختيارهم ...
وبـعـد ؛
غني عن البيان ان الهزيمة النفسية امام المنتوجات والافكار الغـربية هي أول أهداف هذا الغـزو الثقافي الذى تـتعرض له شعـوب العالم الثالث ... وربما كان من قبيل التكرار القول بأن علينا التمييز بين تفاعـل الحضارات وخضوع حضارة لأخرى ... والأسئلة التي تـطرح نفـسـهـا هي : كيف يمكن حماية أنفسنا من مزيد من الانهيار النفسي والانبهار بالحضارة الغربية ؟ كيف يمكن تخليص المثقفين من "عـقـدة الخواجة" ، في الوقت الذي تنهال عليهم وسائل الاعلام من صحافة واذاعة وتليفـزيون ملـقـنة إياهم مفاتن "نـمـط الحياة الامريكية" ؟ .
لقد قدم لنا الدكتور رابندرانات باهالال في هذا الكتاب أحد تجارب إيقاظ الوعي . والكتاب في جملته يشكل محاولة رائدة... وسواء اتفقنا مع المؤلف أو اختلفنا معه في بعض استنتاجاته، فإن رحلة القارئ بين صفحات هذا الكتاب ، الغنّي بمعلوماته، وأصالة تأويلاته، الغزير بمصطلحاته الجديدة أو المولّدة والمبتكرة ، ستكون دون شك مليئة بالإثارة والفائدةمـن خـلال الإطـلاع على إبداعات وكتابات وحقول معرفية كثيرة قامت الامبريالية بتوظيفها واستغلالها، خدمة لأهدافٍ سياسية واقتصادية واستراتيجية واسعة النطاق .
تاريخ النشر : 2009-12-09
خـرافة التـنمية الإقـتصادية في العـالم الثالث بقلم:عـبـد القـادر حسين ياسين
كبر الخط صغر الخط
"خـرافة التـنمية الإقـتصادية في العـالم الثالث"
الـدكـتـور عـبـد القـادر حسين ياسين*
مؤلف هذا الكتاب الدكتور رابندرانات باهالال ،أستاذ الأقتصاد السياسي بجامعة بومباي بالهند ، هو أحد المثقفين القلائل في العالم الثالث الذي نجحوا في الافلات من الوقوع في براثن “الانبهار” بالحـضـارة الأوروبيـة وبكل ما هو قادم من "العالم الـحـر" ... فعـلى الرغم من أنه أمضى عشرين عاما من الدراسة والتدريس في جامعات بريطانيا والمانياالاتـحـادية ، وعلى الرغم من إحتكاكه اليومي بالحضارة الأوروبية ، فهو يبدو شديد الوثوق في قيم مجتمعه الهندي وحضارته الـتـعـددية ...
ولأنه أفلت من مصيدة "الانهزام النفسي" أمام الحضارة الأوروبية فإنه ينظر إليها من منظور ثابت غير متردد ليراها في حجمها الطبيعي كمجرد تعـبير عن مجتمع محـدد المواصفات وليس بإعتبارها ترجمة للحضارة الإنسانية كلها مـن،ذ فـجـر التاريخ وحتى يـومـنـا هـذا.
والكتاب الذي نحن بصدده ، The Myth of Economic Development in the Third World(خرافة التنمية الاقتصادية في العالم الثالث) يجمع بين الرؤية الموضوعية الهادئة والالتزام السياسي الواضح بقضايا العالم الثالث ، ذلك أن المؤلف يدرك جيدا الأخطار التي تهدد الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، والدور القذر الذي تلعـبه الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسيات Multinational Corporations ونهبها لثروات العالم الثالث تحت عناوين بريئة وفي إطارات براقة تخفي في طياتها أهدافا مسمومة !
في هذا الكتاب القيم الذي يقع في 380 صفحة يحاول الدكتور باهالال إعادة النظر فيما أصطلح على تسميته بمشكلة التخلف والتنمية ،ويثير الكثير من التساؤلات حول بعض المقولات التي يطرحها أقتصاديو التنمية المحدثون وإعادة الجانب الإقتصادي من مشكلة التنمية الى حجمه الطبيعي ، والنظر إليه كجزء من أهداف أكبر وأخطر ... ويشير المؤلف صراحة الى أن أحد الأهداف الرئيسية لكتابه هو رفض النظريات القائلة بأن هدف الدول الفقيرة في العالم الثالث هو "اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة"...
وتمثل قضية التبعية الإقتصادية والثقافية في العالم الثالث ودور الشكات الأحتكارية المتعددة الجنسيات في نهب ثرواته ثلاثة فصول كاملة من الكتاب يناقش فيها المؤلف أهم صور وأشكال الخضوع الثقافي الذي يرتبط بعملية التنمية .
يقول الدكتور باهالال : "منذ الثلاثينات ، ومع ظهور حركات التحرر الوطني في معظم الدول المستعمرة (بفتح الميم) في العالم الثالث كانت القضية الأساسية التي يدور حولها الجدل بين دعاة الاصلاح ، وبخاصة في شـبـه القارة الهندية والشرق الأوسط ،هي الموقف من الحضارة الأوروبية ،وإذا كان ثمة خط يمكن تمييزه في مجرى الحياة الثقافية لهذه الشعوب " ...
وبعد أن وضعـت الحرب العالمية أوزارها ،بدا وكأن هذه القضية لم تعـُد أهم ما يشغل بال المفكرين في العالم الثالث ، وتحول الحوار في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات إلى حوار حول "الإختيار بين الإشتراكية والرأسمالية" ، وتحولت القضية ـ للأسف الشديد ـ الى قضية إقتصادية ، وصورت المشكلة على أنها "التخلف القتصادي" والهدف على أنه "التنمية"... ويرى الدكتور باهالال أن ثمة خطأ فادحا حدث في "تشخيص" المشكلة ، وقد واكب هذا التشخيص الخاطئ ما أسماه بعملية "تغريب الثقافة " The Westernization of culture والحياة الأجتماعية "بكل ما تحتوي هذه العملية من طمس للشخصية الوطنية وتساهل أمام الوافد من السلع الكمالية والأفكار..."
ويؤكد المؤلف أن تصوير مشاكل العالم الثالث على أنها مشاكل إقتصادية هو تصوير "مجافي للحقيقة" ؛ فالمشكلة – كما يراها ـ ليست إنخفاض مستوى الدخل في العـديد من دول العالم الثالث ، بل المشكلة أن معظم شعوب العالم الثالث "مغلوبة على أمرها ، تريد إستعادة سيطرتها على مصيرها وتحقيقها لذاتها" ، بعد أن أبتليت بأنظمة عسكرية ودكتاتورية سخرت نفسها بشكل أو بآخر لخدمة الشركات الأحتكارية...
فالدعوة للتنمية لا تكـتـفي فقط بتجاهل القضية الحضارية بل أنها لا تتورع عن إعتبار نظام القيم السائد من "معوقات التنمية " ، فالولاء للعائلة والإرتباط العاطفي والمادي بها "يضعـف حافز الفرد لأحراز النجاح المادي "... وهكذا يبدو المـفـكر الاقتصادي الحديث في العالم الثالث على "إستعداد تام للتضحية بالشخصية الوطنية للأمة في سبيل معـدل أعلى للنمو" ، ولا تكاد تكون هناك قيمة واحدة من نظام القيم السائد في العالم الثالث لا يعتبرها من "معوقات التنمية" ، فالنمو ، في تصور الكثيرين من أقتصاديي العالم الثالث ، هو نمو أقتصادي فقط ...
أن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل ما يحدث الآن في العالم الثالث تنمية أم تبعـية ؟ للإجابة على هذا السؤال يستعرض الدكتور باهالال المشاكل الرئيسية للعالم الثالث ليصل الى أن المشكلة هي مشكلة تخلف إقتصادي، وليس تخلف حضاري ... ويؤكد أن "مفتاح الرفاهية ليس في يد الأقتصاديين"...
ويتناول المؤلـف بالتحليل مآزق التنمية في العالم الثالث ، ويرد على أولئك القائلين بضرورة "التعامل"مع الغـزو الحضاري الغربي ، وينتقد الصورة النمطية السائدة لـ "الساحر" الامريكي القادر على خلق "جنة الله على الأرض" ، و"تحويل بنغلاديش أو النيجر ألى فلوريدا "... ويحمل المؤلف بعض مثقفي العالم الثالث ، وبخاصة أولئك الذي يسمون أنفسهم بـ "النخبة"، مسؤولية ما وصلت اليه شعوبهم حيث يقول : "لقد أرغمت شعوب العالم الثالث ـ بوعي أو على غير وعي ـ على قبول مـُصنـفـات عـقـلية لاهي من إختراعهم ولا تـعـبـر عن طموحاتهم وآمالهم"...
وليس ثمة شك في أن المثـقـفـين أسهموا بدورهم في قبول المصنفات ، فـمـثـقـفـو العالم الثالث يجـدون من السهل مجاراة النغمة السائدة ، وهناك رغـبة وميل من هؤلاء المثقـفـين غير الملتزمين بقضايا شعوبهم إلى القبول بمعطيات قد لا تتفق مع الواقع لسببين رئيسيين : إما للأغراء المادي الذي تقدمه الدول الغربية ـ وخاصة الولايات المتحدة ـ كفخ لعـقـل العالم أو أنـهـم لايجدون منافذ حقيقية في دولهم للتعـبير عن المشاكل التي تواجهها مجتمعاتهم".
وينتقد الدكتور باهالال الدور الذي تلعبه المؤتمرات الدولية التي يدعى اليها مثقفو العالم الثالث ، حيث يصار الى إفسادهم ومحاولة استقطابهم بعـيدا عن قضايا بلادهم ، وفصلهم نفسيا عن شعوبهم ، وذلك عن طريق إستدراجهم للتمتع بمزايا مادية ... فمن أكثر وسائل الغـزو فعالية ، وأن اتخذت صورة متـفـاوتـة في البراءة ، "إصابة مثقفي العالم الثالث بالشلل عن طريق إستغراقهم في أعمال لا تسهم بشكل أيجابي في التطور الفكري المستقبل لشعوبهم" ، وربطهم بعجلة الفكر الغربي "تحت شعار التنمية"...
ومن المـعـروف أن بعض المؤسسات الدولية (وبخاصة "البنك الدولي للإنشاء والتعمير" و"صندوق النقد الدولي") تـقـوم بدور بارز في هذا المجال (إفساد المثـقـفـين وإستقطابهم) في السنوات الأخيرة ، وقد إنضمـت إليها مؤخرا المؤسسات الاستشارية وبيوت الخبرة وبعض الجامعات الامريكية والاوروبية ، اذ تحرص هذه المؤسسات على شراء خدمات الـعـديد من الخبراء في العالم الثالث ، وبخاصة فى مجال العلوم الاجتماعية ، بمرتبات خرافية ؛ فيكلفونهم في الظاهر بدراسات وأبحاث ميدانية قد تبدو لأول وهلة وثيقة الصلة بمشاكل شعوبهم لكن الاطار الفكري الذى يحدد لهذه الدراسات ليس من اختيارهم ...
وبـعـد ؛
غني عن البيان ان الهزيمة النفسية امام المنتوجات والافكار الغـربية هي أول أهداف هذا الغـزو الثقافي الذى تـتعرض له شعـوب العالم الثالث ... وربما كان من قبيل التكرار القول بأن علينا التمييز بين تفاعـل الحضارات وخضوع حضارة لأخرى ... والأسئلة التي تـطرح نفـسـهـا هي : كيف يمكن حماية أنفسنا من مزيد من الانهيار النفسي والانبهار بالحضارة الغربية ؟ كيف يمكن تخليص المثقفين من "عـقـدة الخواجة" ، في الوقت الذي تنهال عليهم وسائل الاعلام من صحافة واذاعة وتليفـزيون ملـقـنة إياهم مفاتن "نـمـط الحياة الامريكية" ؟ .
لقد قدم لنا الدكتور رابندرانات باهالال في هذا الكتاب أحد تجارب إيقاظ الوعي . والكتاب في جملته يشكل محاولة رائدة... وسواء اتفقنا مع المؤلف أو اختلفنا معه في بعض استنتاجاته، فإن رحلة القارئ بين صفحات هذا الكتاب ، الغنّي بمعلوماته، وأصالة تأويلاته، الغزير بمصطلحاته الجديدة أو المولّدة والمبتكرة ، ستكون دون شك مليئة بالإثارة والفائدةمـن خـلال الإطـلاع على إبداعات وكتابات وحقول معرفية كثيرة قامت الامبريالية بتوظيفها واستغلالها، خدمة لأهدافٍ سياسية واقتصادية واستراتيجية واسعة النطاق .