- الثلاثاء يوليو 17, 2012 9:41 pm
#52746
كتبهابدرالدين القمودي ، في 26 أكتوبر 2008 الساعة: 11:38 ص
المشاركة السياسية في أي مجتمع هي محصلة نهائية لجملة من العوامل الاجتماعية الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية؛ تتضافر في تحديد بنية المجتمع المعني ونظامه السياسي وسماتهما وآليات اشتغالهما، وتحدد نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية ومدى توافقها مع مبدأ المشاركة الذي بات معلماً رئيساً من معالم المجتمعات المدنية الحديثة، المجتمعات التي أعاد العمل الصناعي وتقدم العلوم والتقانة والمعرفة الموضوعية والثقافة الحديثة بناء حياتها العامة وعلاقاتها الداخلية، على أساس العمل الخلاق، والمبادرة الحرة، والمنفعة والجدوى والإنجاز، وحكم القانون، في إطار دولة وطنية حديثة، هي تجريد عمومية المجتمع وشكله السياسي وتحديده الذاتي.
بعبارة أخرى، المشاركة السياسية مبدأ ديمقراطي من أهم مبادئ الدولة الوطنية الحديثة؛ مبدأ يمكننا أن نميز في ضوئه الأنطمة الوطنية الديمقراطية التي تقوم على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، من الأنظمة الاستبدادية، الشمولية أو التسلطية التي تقوم على الاحتكار. مبدأ يقيم فرقاً نوعياً بين نظام وطني ديمقراطي قوامه الوحدة الوطنية، وحدة الاختلاف والتنوع والتعارض الجدلي، ونظام شمولي أو تسلطي قوامه التحاجز الاجتماعي والحرب الأهلية الكامنة التي يمكن أن تنفجر عنفاً عارياً وتدميراً ذاتياً في أي وقت. مبدأ سياسي وأخلاقي يقيم فرقاً نوعياً بين الحرية والاستبداد.
ويمكن القول إن المشاركة السياسية هي التعبير العملي عن العقد الاجتماعي الطوعي، لا في مفهومه فحسب، بل في واقعه العملي أيضاً، إذ تعيد المشاركة السياسية إنتاج العقد الاجتماعي وتؤكده كل يوم؛ أي إنها تعيد إنتاج الوحدة الوطنية وتعزها كل يوم، وهذه أي الوحدة الوطنية من أهم منجزات الحداثة، ولا سيما الاعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف الفئات الاجتماعية وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي على الصعيدين المادي والروحي، نعني الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والتبادل. وهي، من ثم، تعبير عملي عن المواطنة، أي عن صيرورة الفرد، من الجنسين بالتساوي، عضواً في الدولة الوطنية متساوياً، بفضل هذه العضوية، مع سائر أفراد المجتمع وأعضاء الدولة في جميع الحقوق المدنية والحريات الأساسية. ويمكن القول إن المشاركة السياسية هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية، وهي التي تحدد الفارق النوعي بين الرعايا والمواطنين وبين الامتيازات والحقوق. ذوو الامتيازات، في كل عصر وفي كل نظام، لم يكونوا مواطنين، بل رعايا. وذوو الامتيازات اليوم ليسوا مواطنين، بل هم رعايا وموالون وعبيد، فمن يظن نفسه سيداً على جماعة من العبيد هو أكثر منهم عبودية. وذوو الاميتيازات اليوم ليسوا وطنيين، لأن الوطنية تتنافى مع الامتيازات على طول الخط. والنظام الذي يقوم على الامتيازات وتسلسل الولاءات ليس نظاماً وطنياً بأي معنى من المعاني. الوطنية هنا مرادفة لكلية المجتمع وعمومية الدولة وسيادة الشعب، وليست حكم قيمة أو صفة أخلاقية. المواطنون فقط هم ذوو الحقوق المدنية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي يعترف بها الجميع للجميع بحكم العقد الاجتماعي، ويصونها القانون الذي يعبر عن هذا العقد.
وثمة علاقة لا تخفى بين الحق والحرية، إذ يتجسدان معاً في الملكية شكلاً ومضموناً[1]؛ فلا تنفصل حقوق الفرد في مجتمع من المجتمعات عن حريته. وكلما انتُقصت حقوق الفرد انتُقصت حريته، والعكس صحيح. لذلك ينبغي البحث في حرية المرأة ومدى مشاركتها في الحياة العامة من خلال ما نالته من الحقوق، والبحث في حقوق المرأة من خلال ما تتمتع به من حرية. وأيٌّ من الحق والحرية يصلح أن يكون أساساً للتفكير في المشاركة السياسية، بما هي الوسيلة السلمية للتعبير عن المصالح المشروعة لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك.
الفرد، من الجنسين، هو الأساس الطبيعي للمجتمع المدني، و المواطن، من الجنسين أيضاً، هو الأساس السياسي، المدني، للدولة الحديثة، الدولة الوطنية / القومية؛ لذلك يبدو لزاماً على من يبحث في موضوع المشاركة السياسية أن يدرس مدى تحرر الأفراد من الروابط الطبيعية، أو الروابط الأولية، روابط الجماعات ما قبل الوطنية وما دون الوطنية، كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية وما إليها، مما يؤلف عوالم (جمع عالَم) المجتمع التقليدي وكسوره المتناثرة والمتحاجزة، أي التي تعيش داخل أسوارها، وتقيم فيما بينها حواجز عشائرية أو عرقية أو دينية أو مذهبية، وتكتسي لديها السياسة طابعاً دينياً، إيمانياً ودوغمائياً، ويكتسي الدين طابعاً سياسياً، تبريرياً وذرائعياً.
ولعل حضور المقدس، الذي حدد وضعية الفرد بوجه عام ووضعية المرأة بوجه خاص، في مجتمعات الكتاب[2]، ومنها المجتمع السوري، حضوراً طاغياً في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولا سيما في مجال السلطة، مرتبط أوثق ارتباط وأشده بسيادة العلاقات والروابط الطبيعية، روابط الدم والنسب والعقيدة، بين الأفراد والجماعات من جهة، وبشدة التبعية للطبيعة وآلام الاستقلال عنها ومحاولة السيطرة عليها من جهة أخرى[3]. فبقدر ما ترتدي السلطة طابع القداسة، الناجم عن تحوير مصدرها، ترتدي العلاقات الاجتماعية والسياسية طابعاً أبويا (بطريركياً) تجعل من الفرد كائناً امتثالياً عاجزاً ومتواكلاً ومعجباً بالورود التي تخفي قيوده، وتغل عقله ويديه. بل إن سيادة العلاقات الطبيعية والروابط الأولية هي التي تفسر قداسة السلطة، سواء كان التعبير عن هذه القداسة مباشراً، كما كان في العصور القديمة والوسطى، أو غير مباشر، كما هي حال المجتمعات المتأخرة في الأزمنة الحديثة، المجتمعات التي لا تزال تقدِّس الحاكم وتسبغ عليه جميع صفات الآلهة، فتغلب لديها عبادة الأب القائد على عبادة الإله الواحد. ورائز ذلك في كل زمان ومكان هو مدى انعتاق الفرد من براثن التقليد، ومقدار العمل البشري الخلاَّق في عمليات تغيير أشكال الطبيعة وإنتاج الثروات المادية والروحية، بالتلازم الضروري، ونسبته إلى العناصر الطبيعية.
ومن ثم، فإن المشاركة السياسية، مشروطة بالانتقال من الجماعة الطبيعية إلى الجماعة المدنية، من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، مجتمع الشغل والإنتاج والمصالح المختلفة والمتباينة والتنافس الخلاق والاعتماد المتبادل، أي إنها مرتبطة بالاندماج الوطني أو الاندماج القومي والانتقال من التشظي والتناثر إلى الوحدة، وحدة الاختلاف، ومن الملة إلى الأمة، بالمعنى الحديث للكلمة، وهو غير المعنى المتداول في الخطاب الثقافي والسياسي العربي حتى اليوم، والانتقال من ثم من وضعية ما قبل الدولة الوطنية إلى الدولة الوطنية بثلاثة أركانها: الأرض (الوطن) والشعب والسلطة السياسية[4].
وللاندماج الوطني، كما هو معلوم عاملان أساسيان: أولهما العمل والإنتاج الاجتماعي، أي قدرة المجتمع على إنتاج حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية وإعادة إنتاجها بحرية، والثاني هو الدولة السياسية أو الدولة الوطنية التي يتساوى في عضويتها جميع أفراد المجتمع، بلا استثناء ولا تمييز. فليس بوسع العمل، مجرداً ومشخصاً، أن ينظر إلى الفرد إلا بوصفه منتجاً للقيمة، بغض النظر عن الجنس والدين والانتماء العرقي وسائر التحديدات الذاتية الأخرى، وليس بوسع الدولة بما هي تجريد العمومية أن تنظر إلى الفرد وأن تتعامل معه إلا بصفته مواطناً؛[5] بهذين العاملين: العمل والدولة[6]، تتنحى عن علاقات العمل، وعن العلاقات السياسية خاصة، جميع تحديدات الأفراد ومحمولاتهم، سوى القدرة والمهارة والكفاية العلمية، على صعيد العمل، والتزام القانون والوفاء بالالتزامات والمسؤوليات التي تلقيها المواطنة على عاتق الفرد، على صعيد الدولة. ولعل تمييز عمل النساء من عمل الرجال، وتفاوت الأجور بينهما، لقاء الأعمال المتساوية، كان في بدايات الثورة الديمقراطية امتداداً لنظرة المجتمعات التقليدية الآخذة في النمو والتقدم إلى المرأة وإلى الطفل أيضاً، ولم يكن ناجماً عن طبيعة العمل، خالق القيمة وجميع القيم، وخالق السياسة والمشاركة السياسية.
ومن البديهي أن المشاركة السياسية، في زمان ومكان محددين، تتوقف على معنى السياسة وقيمتها ومدى حيويتها وعقلانيتها، في المجتمع المعني، أي على نحو ما تفهمها مختلف الفئات الاجتماعية، وعلى القيمة التي تمنحها لها هذه الفئات، وعلى مدى إدراجها في تحديد ذواتها، لا على نحو ما تفهما وتعقلها النخبة فقط. والفرق بين هذين المستويين أشبه ما يكون بـ فرق الكمون الذي يولد الطاقة والحركة. فحين يكون الأمر مقصوراً على نخبة لا تزال حداثتها وعقلانيتها موضع شك تغدو أفضل المبادئ والنماذج النظرية بلا قيمة عملية. ومن ثم، فإن عنصر التحديد الحاسم هو النظر إلى السياسية، إما على أنها شأن عام، وصفة ملازمة للمواطنة، أي على أنها علم إدارة الشؤون العامة بوصفها علاقات موضوعية، أو علم الدولة؛ وإما على أنها شأن من شؤون النخبة، وجملة من الأهداف والمطالب والتطلعات والرغبات الذاتية، وهو المعنى الغالب على السياسة في بلادنا حتى اليوم، إذا صرفنا النظر، هنا فقط، عن مقاصدها الأساسية التي كشفت عنها الدراسات الأنتروبولوجية والتاريخية، أعني الغنيمة والعشيرة والعقيدة، بتعبير الجابري[7].
وتجدر الملاحظة أن مفهوم المشاركة السياسية مفهوم حديث، وافد على الثقافة العربية، وعلى الفكر السياسي خاصة، ولم يتبياً بعد، ولم يستوطن؛ أي إن الثقافة العربية لم تتمثل هذا المفهوم وما يتصل به من المفاهيم الحديثة، وتعيد إنتاجها وفق معطيات الواقع وحاجات المجتمع. بل إن جل ما فعلته، حتى يومنا، هو غمس هذه المفاهيم في مستنقع التقليد، ومحاولة تكييفها مع التراث، أو إعادة إنتاجها فيه، بحسب ما يرغب محمد عابد الجابري وغيره من التراثويين، من دون أن تدرك أنها تعزز التقليد، وتحد من القدرة التنويرية والتحريرية والتوليدية والإجرائية لهذه المفاهيم، إن لم تخصها.
بوجيز القول، لا يمكن الحديث عن مشاركة سياسية إلا في نطاق مجتمع مدني حديث ودولة وطنية حديثة لا تبدو لمواطنيها من الداخل سوى بصفتها دولة حق وقانون، لا دولة حزب، ولا دولة نخبة ولا دولة طغمة ولا دولة عشيرة، ولا دولة طائفة أو جماعة دينية، ولا دولة جماعة عرقية[8]، وإلا فنحن إزاء بوادر وإرهاصات عسى أن تكون ذاهبة إلى المستقبل. لذلك يميل الكاتب إلى القول: ليس لدينا بعد سوى ضرب من مشاركة سياسية سلبية تتجلى في التأييد السلبي، أو القبول التام، وفي المعارضة السلبية أو الرفض التام، لا مشاركة سياسية إيجابية وخلاقة للجنسين على حد سواء. إذ للمشاركة السياسية الإيجابية رائزان: الأول هو مشروعية المعارضة وقانونيتها، والثاني هو مشاركة المرأة في الحياة السياسية على قدم المساواة مع الرجل.
الاستبداد المحدث القائم على تسلسل الولاءات وعلى الامتيازات، لا على الحقوق وحكم القانون، يساوي بين الرعايا في توزيع هداياه التي أهمها القمع و الخوف واليأس، ويساوي بين الأفراد من الجنسين على أنهم لا شيء، ولا يقبل بأي نوع من المعارضة، لا من داخل بنيته ولا من خارجها، لأنه يقوم على احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية، وعلى الاحتكار الفعال لجميع مصادر السلطة والثروة والقوة. فالمعارضة في جميع النظم الاستبدادية، الشمولية منها والتسلطية مؤثمة ومكفرة ومخونة. والحيف الواقع على المرأة حيف مضاعف يجعل منها عبدة العبد ومستغَلة المستغَل (بفتح الغين)، وموضوعاً لقهر من هو موضوع للقهر والاضطهاد والذل، فقد كان الاستبداد على مر العصور ولا يزال إهانة للكرامة البشرية.
ومنذ صار تحرر المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، ولا سيما في الحياة السياسية، رائزاً من روائز التحضر والتمدن والتقدم الاجتماعي، راح الكتاب والباحثون العرب ينبشون في ثنايا التاريخ البعيد والقريب، كعلماء الآثار، بحثاً عن نسوة شاركن في الغزوات والحروب أو في صدها، أو كانت لهن مجالس يؤمها الرجال، أو شاركن في مقاومة الاستعمار الحديث، ورفعن راية الحرية والاستقلال، أو كن من أعلام الثقافة والاستنارة قديماً وحديثاً، أو قدن مظاهرات احتجاج على تعسف المستعمرين، كتلك التي وصفها حافظ إبراهيم، في مصر، أو التي يتحدث عنها أنصار المرأة في سورية، وجعلوا من شجرة أو عدة شجيرات غابة، ومن زهرة أو عدة زهرات ربيعاً، فأنتجوا نوعاً من ثقافة افتخارية وتبريرية في آن؛ ولم يلتفتوا إلى حقيقة أن تلك الاستثناءات تؤكد القاعدة، أي تؤكد دونية المرأة واضطهادها وهامشيتها في المجتمع. ولم يدر في خلد أحدهم أن الجماعات البشرية تتراخى في التزام المعايير الاجتماعية، والأخلاقية منها خاصة، في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية، فتشارك النساء كالرجال سواء بسواء في الدفاع عن الوجود فحسب، كما تتراخى المعايير كذلك في المراحل الانتقالية، وليس ذلك، في نظر الكاتب، من قبيل المشاركة السياسية، بمعناها الحديث، من قريب أو من بعيد؛ فإن التراخي في المعايير شيء واستقرار الحياة الاجتماعية والسياسية على التعاقد والمشاركة والتسامح واعتراف الجميع بحقوق الجميع وحرياتهم شيء آخر.
على أن التراخي في المعايير الذي يسم المراحل الانتقالية يمهد السبيل للتغيير الاجتماعي؛ بقدر ما تتوفر قوى التغيير على القوة والنفوذ والجذرية والمثابرة، وبقدر ما تعبر عن مصالح جذرية لمختلف الفئات الاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة، وبقدر ما تنفتح الثقافة على آفاق كونية وإنسانية وتقوم بوظيفتها التنويرية والتحريرية، وتنفتح التربية على معطيات الحداثة ومبادئها وقيمها ومناهجها.
تعيش سورية منذ خمس سنوات مرحلة انتقالية، أبرز سماتها ظهور نوع من معارضة جديدة خرجت في معظمها من البنى الأيديولوجية المتخشبة التي لا تزال تجثم على صدر الحياة السياسية، ولا تزال هذه المعارضة الوليدة تحمل كثيراً من رواسب تلك البنى. ويمكن القول إن في سورية اليوم معارضين مشوشي الوعي لم يتمكنوا بعد من التوافق على رؤية وطنية ديمقراطية عامة تنبع من حاجات المجتمع وضرورة الخروج من النظام الشمولي إلى نظام وطني ديمقراطي، فلا تزال الطريق طويلة حتى يتحولوا إلى حركة معارضة شعبية، مدنية وسلمية، كانتفاضة الأرز في لبنان أو حركة كفاية في مصر. ولعل مثل هذه الحركة هي صمام الأمان الممكن من انفجار المجتمع واضطراب الأمن وسيادة الفوضى.
ومعظم السوريين الذين كانوا يمانعون تعليم البنات، على سبيل المثال، انتقلوا من الممانعة إلى التحفظ، ثم إلى التسامح، ثم إلى الإقبال والحماسة، فتراجعت نسبة الأمية بين النساء بوتائر متسارعة، وصار الآباء يفاخرون ببناتهم المتفوقات والمؤهلات علمياً مفاخرتهم بأولادهم الذكور. وقل مثل ذلك في موقف المجتمع من عمل المرأة[9]. ولم يعد سفرها في سبيل التحصيل العلمي أو في سبيل العمل أمراً مستهجناً جداً. بل إن موقف المجتمع بدأ يتزحزح شيئاً فشيئاً من مشاركة المرأة في التمثيل والغناء والرقص وارتياد البلاجات والمسابح، ومن الزواج المدني في حدود ضيقة جداً، وصار للفتاة بعض الحرية في اختيار شريك حياتها، ولا يخلو الأمر من مد وجزر في جميع هذه الميادين. وهذا كله ناتج من تراخي المجتمع في التزام المعايير التقليدية، بحكم المرحلة الانتقالية التي تعيشها سورية، مرحلة الانتقال الصعب والمتعثر من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث.
ويمكن القول بثقة: إن المرأة السورية تتمتع اليوم بحق التعليم وحق العمل، قانونياً وعملياً، بغض النظر عن تدني معدلات الادخار والاستثمار وندرة فرص العمل وتنامي الفقر والبطالة. وهذان، حق العمل وحق التعليم، محرزان أساسيان وشرطان ضروريان لنيل بقية الحقوق، وشرطان ضروريان لمشاركتها في الحياة السياسية أيضاً. على أن حقوق المرأة لا تتجذَّر ولا تستقر إلا في كنف الحرية وبكفالة القانون، وإلا فإنها تظل سطحية وهشة وقابلة للانتكاس والتراجع، ولا تتحول إلى مهماز لتقدم المجتمع؛ فإن الإفقار المتزايد ومصادرة الحريات الأساسية، على نحو ما يجري في سورية، يجعل من هذه الحقوق المكتسبة شكلاً بلا مضمون، كالنظام السياسي ذاته. آية ذلك أن تعلم المرأة ومشاركتها في العمل على قدم المساواة مع الرجل لم يسفرا حتى اليوم عن أي تغيير أو تعديل يذكر في شرطها الاجتماعي والإنساني أو في القوانين التي تحط من إنسانيتها وتنتقص من أهليتها القانونية[10]، بل إن عمل المرأة، خاصة في الريف والبادية حيث تقوم بجميع الأعمال، يضيف أعباء جديدة إلى أعبائها وشقاء إلى شقائها، إلا في القليل والنادر مما يومئ إلى المستقبل.
المشاركة السياسية في أي مجتمع هي محصلة نهائية لجملة من العوامل الاجتماعية الاقتصادية والمعرفية والثقافية والسياسية والأخلاقية؛ تتضافر في تحديد بنية المجتمع المعني ونظامه السياسي وسماتهما وآليات اشتغالهما، وتحدد نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية ومدى توافقها مع مبدأ المشاركة الذي بات معلماً رئيساً من معالم المجتمعات المدنية الحديثة، المجتمعات التي أعاد العمل الصناعي وتقدم العلوم والتقانة والمعرفة الموضوعية والثقافة الحديثة بناء حياتها العامة وعلاقاتها الداخلية، على أساس العمل الخلاق، والمبادرة الحرة، والمنفعة والجدوى والإنجاز، وحكم القانون، في إطار دولة وطنية حديثة، هي تجريد عمومية المجتمع وشكله السياسي وتحديده الذاتي.
بعبارة أخرى، المشاركة السياسية مبدأ ديمقراطي من أهم مبادئ الدولة الوطنية الحديثة؛ مبدأ يمكننا أن نميز في ضوئه الأنطمة الوطنية الديمقراطية التي تقوم على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، من الأنظمة الاستبدادية، الشمولية أو التسلطية التي تقوم على الاحتكار. مبدأ يقيم فرقاً نوعياً بين نظام وطني ديمقراطي قوامه الوحدة الوطنية، وحدة الاختلاف والتنوع والتعارض الجدلي، ونظام شمولي أو تسلطي قوامه التحاجز الاجتماعي والحرب الأهلية الكامنة التي يمكن أن تنفجر عنفاً عارياً وتدميراً ذاتياً في أي وقت. مبدأ سياسي وأخلاقي يقيم فرقاً نوعياً بين الحرية والاستبداد.
ويمكن القول إن المشاركة السياسية هي التعبير العملي عن العقد الاجتماعي الطوعي، لا في مفهومه فحسب، بل في واقعه العملي أيضاً، إذ تعيد المشاركة السياسية إنتاج العقد الاجتماعي وتؤكده كل يوم؛ أي إنها تعيد إنتاج الوحدة الوطنية وتعزها كل يوم، وهذه أي الوحدة الوطنية من أهم منجزات الحداثة، ولا سيما الاعتراف بالحقوق الناجمة عن الاعتماد المتبادل بين مختلف الفئات الاجتماعية وإسهام كل منها في عملية الإنتاج الاجتماعي على الصعيدين المادي والروحي، نعني الإنتاج والاستهلاك والتوزيع والتبادل. وهي، من ثم، تعبير عملي عن المواطنة، أي عن صيرورة الفرد، من الجنسين بالتساوي، عضواً في الدولة الوطنية متساوياً، بفضل هذه العضوية، مع سائر أفراد المجتمع وأعضاء الدولة في جميع الحقوق المدنية والحريات الأساسية. ويمكن القول إن المشاركة السياسية هي جوهر المواطنة وحقيقتها العملية، وهي التي تحدد الفارق النوعي بين الرعايا والمواطنين وبين الامتيازات والحقوق. ذوو الامتيازات، في كل عصر وفي كل نظام، لم يكونوا مواطنين، بل رعايا. وذوو الامتيازات اليوم ليسوا مواطنين، بل هم رعايا وموالون وعبيد، فمن يظن نفسه سيداً على جماعة من العبيد هو أكثر منهم عبودية. وذوو الاميتيازات اليوم ليسوا وطنيين، لأن الوطنية تتنافى مع الامتيازات على طول الخط. والنظام الذي يقوم على الامتيازات وتسلسل الولاءات ليس نظاماً وطنياً بأي معنى من المعاني. الوطنية هنا مرادفة لكلية المجتمع وعمومية الدولة وسيادة الشعب، وليست حكم قيمة أو صفة أخلاقية. المواطنون فقط هم ذوو الحقوق المدنية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي يعترف بها الجميع للجميع بحكم العقد الاجتماعي، ويصونها القانون الذي يعبر عن هذا العقد.
وثمة علاقة لا تخفى بين الحق والحرية، إذ يتجسدان معاً في الملكية شكلاً ومضموناً[1]؛ فلا تنفصل حقوق الفرد في مجتمع من المجتمعات عن حريته. وكلما انتُقصت حقوق الفرد انتُقصت حريته، والعكس صحيح. لذلك ينبغي البحث في حرية المرأة ومدى مشاركتها في الحياة العامة من خلال ما نالته من الحقوق، والبحث في حقوق المرأة من خلال ما تتمتع به من حرية. وأيٌّ من الحق والحرية يصلح أن يكون أساساً للتفكير في المشاركة السياسية، بما هي الوسيلة السلمية للتعبير عن المصالح المشروعة لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك.
الفرد، من الجنسين، هو الأساس الطبيعي للمجتمع المدني، و المواطن، من الجنسين أيضاً، هو الأساس السياسي، المدني، للدولة الحديثة، الدولة الوطنية / القومية؛ لذلك يبدو لزاماً على من يبحث في موضوع المشاركة السياسية أن يدرس مدى تحرر الأفراد من الروابط الطبيعية، أو الروابط الأولية، روابط الجماعات ما قبل الوطنية وما دون الوطنية، كالعائلة الممتدة والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية وما إليها، مما يؤلف عوالم (جمع عالَم) المجتمع التقليدي وكسوره المتناثرة والمتحاجزة، أي التي تعيش داخل أسوارها، وتقيم فيما بينها حواجز عشائرية أو عرقية أو دينية أو مذهبية، وتكتسي لديها السياسة طابعاً دينياً، إيمانياً ودوغمائياً، ويكتسي الدين طابعاً سياسياً، تبريرياً وذرائعياً.
ولعل حضور المقدس، الذي حدد وضعية الفرد بوجه عام ووضعية المرأة بوجه خاص، في مجتمعات الكتاب[2]، ومنها المجتمع السوري، حضوراً طاغياً في الحياة الاجتماعية والسياسية، ولا سيما في مجال السلطة، مرتبط أوثق ارتباط وأشده بسيادة العلاقات والروابط الطبيعية، روابط الدم والنسب والعقيدة، بين الأفراد والجماعات من جهة، وبشدة التبعية للطبيعة وآلام الاستقلال عنها ومحاولة السيطرة عليها من جهة أخرى[3]. فبقدر ما ترتدي السلطة طابع القداسة، الناجم عن تحوير مصدرها، ترتدي العلاقات الاجتماعية والسياسية طابعاً أبويا (بطريركياً) تجعل من الفرد كائناً امتثالياً عاجزاً ومتواكلاً ومعجباً بالورود التي تخفي قيوده، وتغل عقله ويديه. بل إن سيادة العلاقات الطبيعية والروابط الأولية هي التي تفسر قداسة السلطة، سواء كان التعبير عن هذه القداسة مباشراً، كما كان في العصور القديمة والوسطى، أو غير مباشر، كما هي حال المجتمعات المتأخرة في الأزمنة الحديثة، المجتمعات التي لا تزال تقدِّس الحاكم وتسبغ عليه جميع صفات الآلهة، فتغلب لديها عبادة الأب القائد على عبادة الإله الواحد. ورائز ذلك في كل زمان ومكان هو مدى انعتاق الفرد من براثن التقليد، ومقدار العمل البشري الخلاَّق في عمليات تغيير أشكال الطبيعة وإنتاج الثروات المادية والروحية، بالتلازم الضروري، ونسبته إلى العناصر الطبيعية.
ومن ثم، فإن المشاركة السياسية، مشروطة بالانتقال من الجماعة الطبيعية إلى الجماعة المدنية، من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، مجتمع الشغل والإنتاج والمصالح المختلفة والمتباينة والتنافس الخلاق والاعتماد المتبادل، أي إنها مرتبطة بالاندماج الوطني أو الاندماج القومي والانتقال من التشظي والتناثر إلى الوحدة، وحدة الاختلاف، ومن الملة إلى الأمة، بالمعنى الحديث للكلمة، وهو غير المعنى المتداول في الخطاب الثقافي والسياسي العربي حتى اليوم، والانتقال من ثم من وضعية ما قبل الدولة الوطنية إلى الدولة الوطنية بثلاثة أركانها: الأرض (الوطن) والشعب والسلطة السياسية[4].
وللاندماج الوطني، كما هو معلوم عاملان أساسيان: أولهما العمل والإنتاج الاجتماعي، أي قدرة المجتمع على إنتاج حياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية وإعادة إنتاجها بحرية، والثاني هو الدولة السياسية أو الدولة الوطنية التي يتساوى في عضويتها جميع أفراد المجتمع، بلا استثناء ولا تمييز. فليس بوسع العمل، مجرداً ومشخصاً، أن ينظر إلى الفرد إلا بوصفه منتجاً للقيمة، بغض النظر عن الجنس والدين والانتماء العرقي وسائر التحديدات الذاتية الأخرى، وليس بوسع الدولة بما هي تجريد العمومية أن تنظر إلى الفرد وأن تتعامل معه إلا بصفته مواطناً؛[5] بهذين العاملين: العمل والدولة[6]، تتنحى عن علاقات العمل، وعن العلاقات السياسية خاصة، جميع تحديدات الأفراد ومحمولاتهم، سوى القدرة والمهارة والكفاية العلمية، على صعيد العمل، والتزام القانون والوفاء بالالتزامات والمسؤوليات التي تلقيها المواطنة على عاتق الفرد، على صعيد الدولة. ولعل تمييز عمل النساء من عمل الرجال، وتفاوت الأجور بينهما، لقاء الأعمال المتساوية، كان في بدايات الثورة الديمقراطية امتداداً لنظرة المجتمعات التقليدية الآخذة في النمو والتقدم إلى المرأة وإلى الطفل أيضاً، ولم يكن ناجماً عن طبيعة العمل، خالق القيمة وجميع القيم، وخالق السياسة والمشاركة السياسية.
ومن البديهي أن المشاركة السياسية، في زمان ومكان محددين، تتوقف على معنى السياسة وقيمتها ومدى حيويتها وعقلانيتها، في المجتمع المعني، أي على نحو ما تفهمها مختلف الفئات الاجتماعية، وعلى القيمة التي تمنحها لها هذه الفئات، وعلى مدى إدراجها في تحديد ذواتها، لا على نحو ما تفهما وتعقلها النخبة فقط. والفرق بين هذين المستويين أشبه ما يكون بـ فرق الكمون الذي يولد الطاقة والحركة. فحين يكون الأمر مقصوراً على نخبة لا تزال حداثتها وعقلانيتها موضع شك تغدو أفضل المبادئ والنماذج النظرية بلا قيمة عملية. ومن ثم، فإن عنصر التحديد الحاسم هو النظر إلى السياسية، إما على أنها شأن عام، وصفة ملازمة للمواطنة، أي على أنها علم إدارة الشؤون العامة بوصفها علاقات موضوعية، أو علم الدولة؛ وإما على أنها شأن من شؤون النخبة، وجملة من الأهداف والمطالب والتطلعات والرغبات الذاتية، وهو المعنى الغالب على السياسة في بلادنا حتى اليوم، إذا صرفنا النظر، هنا فقط، عن مقاصدها الأساسية التي كشفت عنها الدراسات الأنتروبولوجية والتاريخية، أعني الغنيمة والعشيرة والعقيدة، بتعبير الجابري[7].
وتجدر الملاحظة أن مفهوم المشاركة السياسية مفهوم حديث، وافد على الثقافة العربية، وعلى الفكر السياسي خاصة، ولم يتبياً بعد، ولم يستوطن؛ أي إن الثقافة العربية لم تتمثل هذا المفهوم وما يتصل به من المفاهيم الحديثة، وتعيد إنتاجها وفق معطيات الواقع وحاجات المجتمع. بل إن جل ما فعلته، حتى يومنا، هو غمس هذه المفاهيم في مستنقع التقليد، ومحاولة تكييفها مع التراث، أو إعادة إنتاجها فيه، بحسب ما يرغب محمد عابد الجابري وغيره من التراثويين، من دون أن تدرك أنها تعزز التقليد، وتحد من القدرة التنويرية والتحريرية والتوليدية والإجرائية لهذه المفاهيم، إن لم تخصها.
بوجيز القول، لا يمكن الحديث عن مشاركة سياسية إلا في نطاق مجتمع مدني حديث ودولة وطنية حديثة لا تبدو لمواطنيها من الداخل سوى بصفتها دولة حق وقانون، لا دولة حزب، ولا دولة نخبة ولا دولة طغمة ولا دولة عشيرة، ولا دولة طائفة أو جماعة دينية، ولا دولة جماعة عرقية[8]، وإلا فنحن إزاء بوادر وإرهاصات عسى أن تكون ذاهبة إلى المستقبل. لذلك يميل الكاتب إلى القول: ليس لدينا بعد سوى ضرب من مشاركة سياسية سلبية تتجلى في التأييد السلبي، أو القبول التام، وفي المعارضة السلبية أو الرفض التام، لا مشاركة سياسية إيجابية وخلاقة للجنسين على حد سواء. إذ للمشاركة السياسية الإيجابية رائزان: الأول هو مشروعية المعارضة وقانونيتها، والثاني هو مشاركة المرأة في الحياة السياسية على قدم المساواة مع الرجل.
الاستبداد المحدث القائم على تسلسل الولاءات وعلى الامتيازات، لا على الحقوق وحكم القانون، يساوي بين الرعايا في توزيع هداياه التي أهمها القمع و الخوف واليأس، ويساوي بين الأفراد من الجنسين على أنهم لا شيء، ولا يقبل بأي نوع من المعارضة، لا من داخل بنيته ولا من خارجها، لأنه يقوم على احتكار الحقيقة واحتكار الوطنية، وعلى الاحتكار الفعال لجميع مصادر السلطة والثروة والقوة. فالمعارضة في جميع النظم الاستبدادية، الشمولية منها والتسلطية مؤثمة ومكفرة ومخونة. والحيف الواقع على المرأة حيف مضاعف يجعل منها عبدة العبد ومستغَلة المستغَل (بفتح الغين)، وموضوعاً لقهر من هو موضوع للقهر والاضطهاد والذل، فقد كان الاستبداد على مر العصور ولا يزال إهانة للكرامة البشرية.
ومنذ صار تحرر المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، ولا سيما في الحياة السياسية، رائزاً من روائز التحضر والتمدن والتقدم الاجتماعي، راح الكتاب والباحثون العرب ينبشون في ثنايا التاريخ البعيد والقريب، كعلماء الآثار، بحثاً عن نسوة شاركن في الغزوات والحروب أو في صدها، أو كانت لهن مجالس يؤمها الرجال، أو شاركن في مقاومة الاستعمار الحديث، ورفعن راية الحرية والاستقلال، أو كن من أعلام الثقافة والاستنارة قديماً وحديثاً، أو قدن مظاهرات احتجاج على تعسف المستعمرين، كتلك التي وصفها حافظ إبراهيم، في مصر، أو التي يتحدث عنها أنصار المرأة في سورية، وجعلوا من شجرة أو عدة شجيرات غابة، ومن زهرة أو عدة زهرات ربيعاً، فأنتجوا نوعاً من ثقافة افتخارية وتبريرية في آن؛ ولم يلتفتوا إلى حقيقة أن تلك الاستثناءات تؤكد القاعدة، أي تؤكد دونية المرأة واضطهادها وهامشيتها في المجتمع. ولم يدر في خلد أحدهم أن الجماعات البشرية تتراخى في التزام المعايير الاجتماعية، والأخلاقية منها خاصة، في أوقات الحروب والكوارث الطبيعية، فتشارك النساء كالرجال سواء بسواء في الدفاع عن الوجود فحسب، كما تتراخى المعايير كذلك في المراحل الانتقالية، وليس ذلك، في نظر الكاتب، من قبيل المشاركة السياسية، بمعناها الحديث، من قريب أو من بعيد؛ فإن التراخي في المعايير شيء واستقرار الحياة الاجتماعية والسياسية على التعاقد والمشاركة والتسامح واعتراف الجميع بحقوق الجميع وحرياتهم شيء آخر.
على أن التراخي في المعايير الذي يسم المراحل الانتقالية يمهد السبيل للتغيير الاجتماعي؛ بقدر ما تتوفر قوى التغيير على القوة والنفوذ والجذرية والمثابرة، وبقدر ما تعبر عن مصالح جذرية لمختلف الفئات الاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة، وبقدر ما تنفتح الثقافة على آفاق كونية وإنسانية وتقوم بوظيفتها التنويرية والتحريرية، وتنفتح التربية على معطيات الحداثة ومبادئها وقيمها ومناهجها.
تعيش سورية منذ خمس سنوات مرحلة انتقالية، أبرز سماتها ظهور نوع من معارضة جديدة خرجت في معظمها من البنى الأيديولوجية المتخشبة التي لا تزال تجثم على صدر الحياة السياسية، ولا تزال هذه المعارضة الوليدة تحمل كثيراً من رواسب تلك البنى. ويمكن القول إن في سورية اليوم معارضين مشوشي الوعي لم يتمكنوا بعد من التوافق على رؤية وطنية ديمقراطية عامة تنبع من حاجات المجتمع وضرورة الخروج من النظام الشمولي إلى نظام وطني ديمقراطي، فلا تزال الطريق طويلة حتى يتحولوا إلى حركة معارضة شعبية، مدنية وسلمية، كانتفاضة الأرز في لبنان أو حركة كفاية في مصر. ولعل مثل هذه الحركة هي صمام الأمان الممكن من انفجار المجتمع واضطراب الأمن وسيادة الفوضى.
ومعظم السوريين الذين كانوا يمانعون تعليم البنات، على سبيل المثال، انتقلوا من الممانعة إلى التحفظ، ثم إلى التسامح، ثم إلى الإقبال والحماسة، فتراجعت نسبة الأمية بين النساء بوتائر متسارعة، وصار الآباء يفاخرون ببناتهم المتفوقات والمؤهلات علمياً مفاخرتهم بأولادهم الذكور. وقل مثل ذلك في موقف المجتمع من عمل المرأة[9]. ولم يعد سفرها في سبيل التحصيل العلمي أو في سبيل العمل أمراً مستهجناً جداً. بل إن موقف المجتمع بدأ يتزحزح شيئاً فشيئاً من مشاركة المرأة في التمثيل والغناء والرقص وارتياد البلاجات والمسابح، ومن الزواج المدني في حدود ضيقة جداً، وصار للفتاة بعض الحرية في اختيار شريك حياتها، ولا يخلو الأمر من مد وجزر في جميع هذه الميادين. وهذا كله ناتج من تراخي المجتمع في التزام المعايير التقليدية، بحكم المرحلة الانتقالية التي تعيشها سورية، مرحلة الانتقال الصعب والمتعثر من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث.
ويمكن القول بثقة: إن المرأة السورية تتمتع اليوم بحق التعليم وحق العمل، قانونياً وعملياً، بغض النظر عن تدني معدلات الادخار والاستثمار وندرة فرص العمل وتنامي الفقر والبطالة. وهذان، حق العمل وحق التعليم، محرزان أساسيان وشرطان ضروريان لنيل بقية الحقوق، وشرطان ضروريان لمشاركتها في الحياة السياسية أيضاً. على أن حقوق المرأة لا تتجذَّر ولا تستقر إلا في كنف الحرية وبكفالة القانون، وإلا فإنها تظل سطحية وهشة وقابلة للانتكاس والتراجع، ولا تتحول إلى مهماز لتقدم المجتمع؛ فإن الإفقار المتزايد ومصادرة الحريات الأساسية، على نحو ما يجري في سورية، يجعل من هذه الحقوق المكتسبة شكلاً بلا مضمون، كالنظام السياسي ذاته. آية ذلك أن تعلم المرأة ومشاركتها في العمل على قدم المساواة مع الرجل لم يسفرا حتى اليوم عن أي تغيير أو تعديل يذكر في شرطها الاجتماعي والإنساني أو في القوانين التي تحط من إنسانيتها وتنتقص من أهليتها القانونية[10]، بل إن عمل المرأة، خاصة في الريف والبادية حيث تقوم بجميع الأعمال، يضيف أعباء جديدة إلى أعبائها وشقاء إلى شقائها، إلا في القليل والنادر مما يومئ إلى المستقبل.