By محمد المنجي313 - الأربعاء يوليو 18, 2012 2:06 pm
- الأربعاء يوليو 18, 2012 2:06 pm
#52784
راكان المجالي
تناقش الجمعية العامة للأمم المتحدة حول التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويركز تقرير هذا العام بشكل خاص على التنمية السياسية في دول العالم الثالث، وتحديداً في منطقتنا، وبينما يشير إلى العوامل الخارجية بشكل مقتضب إلا أنه يسهب في وصف المعوقات الداخلية وشرحها التي تحول دون تحقيق التنمية السياسية، ويتجاهل هذا التقرير المحاولات العربية لخلق تنمية سياسية بينما الحقيقة هي أن غالبية الدول العربية قد شهدت حراكاً سياسياً من خلال حوارات في الشارع وقرارات تتخذها الحكومات لمواجهة تحد من بعدين، الأول حالة الجمود والعزلة التي تعيشها المجتمعات العربية، والثاني عواصف التغيير التي تهب من الخارج والتي تريد اقتحام المنطقة والمساهمة في تغييرها تحت شعار إدخال تعديلات وتبديلات منظومة القيم في بلداننا عبر الاستجابة لمنطق التحديث الذي يقوم على ترسيخ الديمقراطية وتحقيق المشاركة وإعلاء قيم العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
وكما هو معروف فإن المحاولات لم تتوقف لإحداث تنمية سياسية في العديد من أقطار الوطن العربي من خلال مجالس الشورى وإجراء انتخابات وتشجيع الديمقراطية.
والصدمة التي خلفتها كارثة 11 ايلول من العام 2001م فرضت إيقاعاً جديداً يستدعي العمل بجد وسرعة للبدء في عملية تحول لإحداث تغيير جدي يحقق التواصل والتفاعل مع الغرب الذي يرفع شعارات نشر الديمقراطية في العالم.
ولقد تابع الإنسان العربي عبر وسائل الإعلام مؤتمرات لأحزاب وقوى وحوارات واسعة بين كل مؤسسات المجتمع المدني ودعوات رسمية وشعبية للمضي في طريق التغيير من خلال تلمس الأسباب التي تفضي إلى تنمية سياسية لكن هذه المحاولات ظلت تصطدم بخصائص للأفراد والمجتمعات عبر تراكمات خلقت ثوابت جامدة، ومنها أننا عشنا عقوداً طويلة من الزمن كانت الأولية فيها للشأن القومي عند الأكثرية التي رأت أن تحقيق الوحدة العربية الذي هو أمل الجميع وهو ما يجب أن يتم التفرغ لإنجازه، كما أن تحرير فلسطين كان المثل الأعلى عند كل العرب والمسلمين وأي عمل سياسي يجب أن يعطي الأولية لرص الصفوف في سبيل التحرير فكانت قضية فلسطين هي القاسم المشترك لأي خطاب سياسي رسمي أو شعبي، ولكل الدول والأحزاب والنقابات والتنظيمات.
ولم يقتصر الأمر على حلم الوحدة العربية وتحرير فلسطين فقد تأثرنا في الوطن العربي كذلك بطروحات اليسار العالمي ودعوات ماركس ولينين لإقامة الأممية، ولم يفارق الإنسان العربي كذلك الاعتقاد بأن دولة الخلافة المثالية في فجرها الأول أيام أبوبكر وعمر ستتحقق يوماً، وكان ذلك عاملاً مهماً في تمدد الإسلام السياسي.
وقد تنبه الكثيرون من العلماء والفقهاء في بدايات هذا القرن إلى أن العرب لم يلتفتوا للتنمية السياسية مما يدفع اليوم إلى التنبه لضرورة التجسير بين قيم الإسلام العظيمة القائمة على التسامح والاعتدال والمساواة والعدالة وبين المعطيات الإيجابية في الحضارة الغربية ومنظومة القيم التي تدعو للديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة الإنسانية، وهو ما يفرض الاهتمام بالعلوم السياسية وإدخالها في حياتنا وإذا كان هذا الأمر قد فاتنا في الماضي فإنه يجب ألا يفوتنا اليوم.
والحقيقة أن تشخيص الواقع والاعتراف بمدى تأثيرات العقيدة الدينية والفكر القومي واليساري وكذلك تأثيرات احتلال فلسطين قبل 55 عاماً وتفاعلات الأحداث وما تحمله من أخطار وشكوك من خلال الحروب والمخططات والتهديدات المتواصلة لبلدان المنطقة التي انفجرت بشكل عدائي بعد احداث 11 أيلول من العام 2001م وترتب عليها احتلال افغانستان والعراق.. إلخ. كل ذلك يشكل عوائق كبرى في طريق التنمية السياسية.
ولا يمكن إنكار حالة الجمود في المجتمعات العربية حيث يتكرس تأطير المجتمع عبر الانتماء العشائري والقبلي والعائلي والروابط والجمعيات على أسس جهوية أو بلدية التي يميل المواطن العربي للانضواء فيها مما يضعف مؤسسات المجتمع المدني الحديث الأخرى وفي مقدمتها الأحزاب السياسية التي لا تلقى قبولاً رغم تشجيع الحكومات أحياناً لهذه الأحزاب التي يفترض أن تكون الركيزة الأساس للتنمية السياسية..
وإذا كنا أشرنا إلى كل معوقات التنمية السياسية في الوطن العربي فإنه لابد من التأسيس لفكر ثابت موحد بخطوات جادة وعبر أوليات محددة تبدأ كما أشرنا بالتجسير بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وقد تنبه كثيرون إلى أن ذلك يشكل نقطة الانطلاق السليمة نحو التحديث والتغيير في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وعلى سبيل المثال فإن الكتاب الذي صدر قبل 35 عاماً للدكتور المرحوم حنا ميخائيل هو من أهم الكتب التي سلطت الأضواء على جذور التنمية السياسية في التاريخ العربي والإسلامي، حيث أصبحت التنمية السياسية في السنوات الأخيرة هاجس الجميع وهو ما دعا أستاذ الكيمياء في جامعة هارفرد حنا ميخائيل لأن يتفرغ عدة سنوات ليقدم رسالة دكتوراه في العام 1968م حول هذا الموضوع تحت عنوان «السياسة والوحي - الماوردي وما بعده»، ولعله لم يصدر حتى اليوم كتاب مفيد ومحدد مثل هذا الكتاب يمكن أن يؤسس للجوامع المشتركة بين الفكر الإسلامي المستنير والفكر الغربي الحديث، وقد اهتم الأستاذ ميخائيل بدراسة مؤلفات الماوردي وتفاعلاتها في تلك المرحلة من القرن الخامس الهجري، وقد توصل الكاتب إلى نتيجة وهي أن التحديث والتغيير لا يمكن تحقيقه إلا عبر توافق بين السياسة والوحي وهو ما نجح الماوردي في صياغته: «ليبقى في الوقت نفسه موافقاً لأحكام الدين ومطابقاً لأحوال الدنيا».
ولم يتطور الفكر السياسي العربي بعد الماوردي وابن تيميه والغزالي، ولذلك ظلت السياسة في الوجدان العربي من شرور الدنيا، والملاحظ أن اهتمام العرب بالعلوم السياسية كان معدوماً على مستوى الترجمة والتأليف حتى في أبهى عصور النهضة الفكرية والعلمية في العصر العباسي، ورغم افتتان العرب بفلاسفة اليونان إلا أنهم لم يتوقفوا عند العلوم السياسة.
وقد توقف العالم الأزهري المشهور الدكتور علي عبدالرازق عند هذا الموضوع في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» حيث يقول: «ومن الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسة فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الاخرى أسوأ حظاً وأن وجودها بينهم كان أضعف وجوداً، فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة اللهم إلا قليلاً لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون. ذلك وقد توافرت عندهم الدواعي التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق بها، وأقل تلك الأسباب أنهم مع ذكائهم الفطري ونشاطهم العلمي كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم، وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودراستها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة وتحببه إليهم فإن ذلك العلم قديم، وقد شغل كثيراً من قدماء الفلاسفة اليونانيين وكانت له في فلسفة اليونان بل في حياتهم شأن خطير».
ويتساءل الدكتور عبدالرازق بدهشة حول هذا الأمر ويقول «فمالهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم وارتدوا دون مباحثة حسيرين؟ مالهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن نعتوه المعلم الأول؟ ومالهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم الوحي وأن يروضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة ودمنة، بل رضوا بأن يترجموا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر وإيمان وكفر».
وقد كرس الدكتور علي عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر في العام 1925م للإجابة عن هذا السؤال بعد دراسة عميقة وشاملة لتراث الفكر الإسلامي حيث خلص إلى نتيجة تؤكد عدم التعارض بين الإسلام وقيام دولة مدنية عصرية لكن هذا الكتاب جوبه بعاصفة من النقد والاحتجاج برغم ما تضمنه من حقائق مستمدة من الدين الحنيف.
وإذا كان ثابتاً أن اهتمام العرب بالعلوم السياسية في عصر نهضتهم الأولى كان ضئيلاً ومحدوداً فإن اهتمام العرب في العصر الحديث بالعلوم السياسية كان متواضعاً بل يكاد يكون معدوماً وحتى على المستوى النظري والعلمي فإن ما تمت ترجمته من كتب العلوم السياسية لتدرس في كليات العلوم السياسة في جامعات الوطن العربي كان قليلاً مما يشير إلى فقر أيضاً في القطاع الأكاديمي التخصصي الجامعي..
ويؤكد أساتذة العلوم السياسة من كبار المفكرين والفلاسفة في الغرب ممن اهتموا بدراسة التنمية السياسة في دول العالم الثالث أن أدبيات التطور السياسي تعكس غياب أية نظرية توجيهية محددة في مجال التنمية السياسية في دول العالم النامي، وهو ما أكدته لجنة العلوم السياسية المقارنة التابعة لمجلة بحوث العلوم الاجتماعية الأمريكية ولذلك كلفت لجنة عشرات من كبار المفكرين والفلاسفة وأساتذة العلوم السياسية في العام 1968م بدراسة واقع التنمية السياسة في الدول النامية واستمر عمل هذه اللجنة حتى العام 1974م للتوصل إلى خلاصة نظرية محددة وكان هدفها: «إقامة قاعدة نظرية أكثر جوهرية لدراسة التطور السياسي والتفاوت بين أنظمة الحكم التي تمر بمرحلة التحديث». وقد ضمنت اللجنة الأساتذة «جيمس كولمان» و«جوزيف لابالومبارا» و«لوسيان باي» و«سيدني فيربا» و«ميرون واينر» وآخرين..
وقد ظل موضوع التنمية السياسية موضع حوارات طويلة واجتهادات متواصلة ومتجددة للتعرف على محاولات تعريف عملية التحديث ومن هذه التعريفات تعريف «دانكوت روستو» الذي يعرف التحديث «بأنه عملية سيطرة متسارعة على الطبيعة من خلال تعاون أوثق بين البشر»، بينما يقول «بنيامين شوارتز: «إن التحديث هو الاستخدام المنظم والمتواصل والهادف للطاقات البشرية في السيطرة العقلانية على بيئة الإنسان المادية والاجتماعية»، وهنالك تعريف آخر أطلقه «روبرت وارد» حيث يؤكد أن التحديث هو «التحرك نحو مجتمع عصري يتميز بقدرته الفائقة على السيطرة أو التأثير على الظروف المادية والاجتماعية في بيئته، ويتميز بنظام للقيم تحدوه نظرة متفائلة أساساً حول الرغبة في هذه القدرة ونتائجها»، وتعريف آخر أورده «دانيل» وهو أن التحديث حالة عقلية تنطوي على توقع التقدم والاتجاه نحو النمو والاستعداد للتكيف مع التغير».
وخلاصة القول إن التنمية السياسية لا يمكن أن تتم في ظل سجن العقل في أسوار الماضي والارتهان للفكر الديني المطلق، كما أنها لا يمكن أن تتم بدون ملامسة آفاق التطور والتحديث للفكر السياسي في العالم المتقدم.
تناقش الجمعية العامة للأمم المتحدة حول التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويركز تقرير هذا العام بشكل خاص على التنمية السياسية في دول العالم الثالث، وتحديداً في منطقتنا، وبينما يشير إلى العوامل الخارجية بشكل مقتضب إلا أنه يسهب في وصف المعوقات الداخلية وشرحها التي تحول دون تحقيق التنمية السياسية، ويتجاهل هذا التقرير المحاولات العربية لخلق تنمية سياسية بينما الحقيقة هي أن غالبية الدول العربية قد شهدت حراكاً سياسياً من خلال حوارات في الشارع وقرارات تتخذها الحكومات لمواجهة تحد من بعدين، الأول حالة الجمود والعزلة التي تعيشها المجتمعات العربية، والثاني عواصف التغيير التي تهب من الخارج والتي تريد اقتحام المنطقة والمساهمة في تغييرها تحت شعار إدخال تعديلات وتبديلات منظومة القيم في بلداننا عبر الاستجابة لمنطق التحديث الذي يقوم على ترسيخ الديمقراطية وتحقيق المشاركة وإعلاء قيم العدل والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
وكما هو معروف فإن المحاولات لم تتوقف لإحداث تنمية سياسية في العديد من أقطار الوطن العربي من خلال مجالس الشورى وإجراء انتخابات وتشجيع الديمقراطية.
والصدمة التي خلفتها كارثة 11 ايلول من العام 2001م فرضت إيقاعاً جديداً يستدعي العمل بجد وسرعة للبدء في عملية تحول لإحداث تغيير جدي يحقق التواصل والتفاعل مع الغرب الذي يرفع شعارات نشر الديمقراطية في العالم.
ولقد تابع الإنسان العربي عبر وسائل الإعلام مؤتمرات لأحزاب وقوى وحوارات واسعة بين كل مؤسسات المجتمع المدني ودعوات رسمية وشعبية للمضي في طريق التغيير من خلال تلمس الأسباب التي تفضي إلى تنمية سياسية لكن هذه المحاولات ظلت تصطدم بخصائص للأفراد والمجتمعات عبر تراكمات خلقت ثوابت جامدة، ومنها أننا عشنا عقوداً طويلة من الزمن كانت الأولية فيها للشأن القومي عند الأكثرية التي رأت أن تحقيق الوحدة العربية الذي هو أمل الجميع وهو ما يجب أن يتم التفرغ لإنجازه، كما أن تحرير فلسطين كان المثل الأعلى عند كل العرب والمسلمين وأي عمل سياسي يجب أن يعطي الأولية لرص الصفوف في سبيل التحرير فكانت قضية فلسطين هي القاسم المشترك لأي خطاب سياسي رسمي أو شعبي، ولكل الدول والأحزاب والنقابات والتنظيمات.
ولم يقتصر الأمر على حلم الوحدة العربية وتحرير فلسطين فقد تأثرنا في الوطن العربي كذلك بطروحات اليسار العالمي ودعوات ماركس ولينين لإقامة الأممية، ولم يفارق الإنسان العربي كذلك الاعتقاد بأن دولة الخلافة المثالية في فجرها الأول أيام أبوبكر وعمر ستتحقق يوماً، وكان ذلك عاملاً مهماً في تمدد الإسلام السياسي.
وقد تنبه الكثيرون من العلماء والفقهاء في بدايات هذا القرن إلى أن العرب لم يلتفتوا للتنمية السياسية مما يدفع اليوم إلى التنبه لضرورة التجسير بين قيم الإسلام العظيمة القائمة على التسامح والاعتدال والمساواة والعدالة وبين المعطيات الإيجابية في الحضارة الغربية ومنظومة القيم التي تدعو للديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة الإنسانية، وهو ما يفرض الاهتمام بالعلوم السياسية وإدخالها في حياتنا وإذا كان هذا الأمر قد فاتنا في الماضي فإنه يجب ألا يفوتنا اليوم.
والحقيقة أن تشخيص الواقع والاعتراف بمدى تأثيرات العقيدة الدينية والفكر القومي واليساري وكذلك تأثيرات احتلال فلسطين قبل 55 عاماً وتفاعلات الأحداث وما تحمله من أخطار وشكوك من خلال الحروب والمخططات والتهديدات المتواصلة لبلدان المنطقة التي انفجرت بشكل عدائي بعد احداث 11 أيلول من العام 2001م وترتب عليها احتلال افغانستان والعراق.. إلخ. كل ذلك يشكل عوائق كبرى في طريق التنمية السياسية.
ولا يمكن إنكار حالة الجمود في المجتمعات العربية حيث يتكرس تأطير المجتمع عبر الانتماء العشائري والقبلي والعائلي والروابط والجمعيات على أسس جهوية أو بلدية التي يميل المواطن العربي للانضواء فيها مما يضعف مؤسسات المجتمع المدني الحديث الأخرى وفي مقدمتها الأحزاب السياسية التي لا تلقى قبولاً رغم تشجيع الحكومات أحياناً لهذه الأحزاب التي يفترض أن تكون الركيزة الأساس للتنمية السياسية..
وإذا كنا أشرنا إلى كل معوقات التنمية السياسية في الوطن العربي فإنه لابد من التأسيس لفكر ثابت موحد بخطوات جادة وعبر أوليات محددة تبدأ كما أشرنا بالتجسير بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وقد تنبه كثيرون إلى أن ذلك يشكل نقطة الانطلاق السليمة نحو التحديث والتغيير في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وعلى سبيل المثال فإن الكتاب الذي صدر قبل 35 عاماً للدكتور المرحوم حنا ميخائيل هو من أهم الكتب التي سلطت الأضواء على جذور التنمية السياسية في التاريخ العربي والإسلامي، حيث أصبحت التنمية السياسية في السنوات الأخيرة هاجس الجميع وهو ما دعا أستاذ الكيمياء في جامعة هارفرد حنا ميخائيل لأن يتفرغ عدة سنوات ليقدم رسالة دكتوراه في العام 1968م حول هذا الموضوع تحت عنوان «السياسة والوحي - الماوردي وما بعده»، ولعله لم يصدر حتى اليوم كتاب مفيد ومحدد مثل هذا الكتاب يمكن أن يؤسس للجوامع المشتركة بين الفكر الإسلامي المستنير والفكر الغربي الحديث، وقد اهتم الأستاذ ميخائيل بدراسة مؤلفات الماوردي وتفاعلاتها في تلك المرحلة من القرن الخامس الهجري، وقد توصل الكاتب إلى نتيجة وهي أن التحديث والتغيير لا يمكن تحقيقه إلا عبر توافق بين السياسة والوحي وهو ما نجح الماوردي في صياغته: «ليبقى في الوقت نفسه موافقاً لأحكام الدين ومطابقاً لأحوال الدنيا».
ولم يتطور الفكر السياسي العربي بعد الماوردي وابن تيميه والغزالي، ولذلك ظلت السياسة في الوجدان العربي من شرور الدنيا، والملاحظ أن اهتمام العرب بالعلوم السياسية كان معدوماً على مستوى الترجمة والتأليف حتى في أبهى عصور النهضة الفكرية والعلمية في العصر العباسي، ورغم افتتان العرب بفلاسفة اليونان إلا أنهم لم يتوقفوا عند العلوم السياسة.
وقد توقف العالم الأزهري المشهور الدكتور علي عبدالرازق عند هذا الموضوع في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» حيث يقول: «ومن الملاحظ البين في تاريخ الحركة العلمية عند المسلمين أن حظ العلوم السياسة فيهم كان بالنسبة لغيرها من العلوم الاخرى أسوأ حظاً وأن وجودها بينهم كان أضعف وجوداً، فلسنا نعرف لهم مؤلفاً في السياسة ولا مترجماً ولا نعرف لهم بحثاً في شيء من أنظمة الحكم ولا أصول السياسة اللهم إلا قليلاً لا يقام له وزن إزاء حركتهم العلمية في غير السياسة من الفنون. ذلك وقد توافرت عندهم الدواعي التي تدفعهم إلى البحث الدقيق في علوم السياسة، وتظاهرت لديهم الأسباب التي تعدهم للتعمق بها، وأقل تلك الأسباب أنهم مع ذكائهم الفطري ونشاطهم العلمي كانوا مولعين بما عند اليونان من فلسفة وعلم، وقد كانت كتب اليونان التي انكبوا على ترجمتها ودراستها كافية في أن تغريهم بعلم السياسة وتحببه إليهم فإن ذلك العلم قديم، وقد شغل كثيراً من قدماء الفلاسفة اليونانيين وكانت له في فلسفة اليونان بل في حياتهم شأن خطير».
ويتساءل الدكتور عبدالرازق بدهشة حول هذا الأمر ويقول «فمالهم وقفوا حيارى أمام ذلك العلم وارتدوا دون مباحثة حسيرين؟ مالهم أهملوا النظر في كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو وهم الذين بلغ من إعجابهم بأرسطو أن نعتوه المعلم الأول؟ ومالهم رضوا أن يتركوا المسلمين في جهالة مطبقة بمبادئ السياسة وأنواع الحكومات عند اليونان وهم الذين ارتضوا أن ينهجوا بالمسلمين مناهج السريان في علم الوحي وأن يروضوهم برياضة بيدبا الهندي في كتاب كليلة ودمنة، بل رضوا بأن يترجموا لهم علوم دينهم بما في فلسفة اليونان من خير وشر وإيمان وكفر».
وقد كرس الدكتور علي عبدالرازق كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر في العام 1925م للإجابة عن هذا السؤال بعد دراسة عميقة وشاملة لتراث الفكر الإسلامي حيث خلص إلى نتيجة تؤكد عدم التعارض بين الإسلام وقيام دولة مدنية عصرية لكن هذا الكتاب جوبه بعاصفة من النقد والاحتجاج برغم ما تضمنه من حقائق مستمدة من الدين الحنيف.
وإذا كان ثابتاً أن اهتمام العرب بالعلوم السياسية في عصر نهضتهم الأولى كان ضئيلاً ومحدوداً فإن اهتمام العرب في العصر الحديث بالعلوم السياسية كان متواضعاً بل يكاد يكون معدوماً وحتى على المستوى النظري والعلمي فإن ما تمت ترجمته من كتب العلوم السياسية لتدرس في كليات العلوم السياسة في جامعات الوطن العربي كان قليلاً مما يشير إلى فقر أيضاً في القطاع الأكاديمي التخصصي الجامعي..
ويؤكد أساتذة العلوم السياسة من كبار المفكرين والفلاسفة في الغرب ممن اهتموا بدراسة التنمية السياسة في دول العالم الثالث أن أدبيات التطور السياسي تعكس غياب أية نظرية توجيهية محددة في مجال التنمية السياسية في دول العالم النامي، وهو ما أكدته لجنة العلوم السياسية المقارنة التابعة لمجلة بحوث العلوم الاجتماعية الأمريكية ولذلك كلفت لجنة عشرات من كبار المفكرين والفلاسفة وأساتذة العلوم السياسية في العام 1968م بدراسة واقع التنمية السياسة في الدول النامية واستمر عمل هذه اللجنة حتى العام 1974م للتوصل إلى خلاصة نظرية محددة وكان هدفها: «إقامة قاعدة نظرية أكثر جوهرية لدراسة التطور السياسي والتفاوت بين أنظمة الحكم التي تمر بمرحلة التحديث». وقد ضمنت اللجنة الأساتذة «جيمس كولمان» و«جوزيف لابالومبارا» و«لوسيان باي» و«سيدني فيربا» و«ميرون واينر» وآخرين..
وقد ظل موضوع التنمية السياسية موضع حوارات طويلة واجتهادات متواصلة ومتجددة للتعرف على محاولات تعريف عملية التحديث ومن هذه التعريفات تعريف «دانكوت روستو» الذي يعرف التحديث «بأنه عملية سيطرة متسارعة على الطبيعة من خلال تعاون أوثق بين البشر»، بينما يقول «بنيامين شوارتز: «إن التحديث هو الاستخدام المنظم والمتواصل والهادف للطاقات البشرية في السيطرة العقلانية على بيئة الإنسان المادية والاجتماعية»، وهنالك تعريف آخر أطلقه «روبرت وارد» حيث يؤكد أن التحديث هو «التحرك نحو مجتمع عصري يتميز بقدرته الفائقة على السيطرة أو التأثير على الظروف المادية والاجتماعية في بيئته، ويتميز بنظام للقيم تحدوه نظرة متفائلة أساساً حول الرغبة في هذه القدرة ونتائجها»، وتعريف آخر أورده «دانيل» وهو أن التحديث حالة عقلية تنطوي على توقع التقدم والاتجاه نحو النمو والاستعداد للتكيف مع التغير».
وخلاصة القول إن التنمية السياسية لا يمكن أن تتم في ظل سجن العقل في أسوار الماضي والارتهان للفكر الديني المطلق، كما أنها لا يمكن أن تتم بدون ملامسة آفاق التطور والتحديث للفكر السياسي في العالم المتقدم.