- الأربعاء يوليو 18, 2012 2:32 pm
#52788
تتمتع ليبيا بموارد كبيرة من النفط والغاز كما تمتلك إمكانيات ضخمة لزيادة إنتاجهما في المستقبل. وبطلب محلي متوسط نسبياً، تتمتع ليبيا أيضاً بإمكانية لزيادة صادراتها في المستقبل من الوقود على نحو جيد ويقدر حاليا حجم احتياطيات ليبيا من النفط الخام القابلة للاسترداد بـ39,1 مليار للبرميل (Bbbl) , فيما تبلغ احتياطيات الغاز الطبيعي 51,3 مليار قدم مكعب (bcf) أي 1450 مليار متر مكعب (bcm) , أما احتياطيات الغاز القابلة للاسترداد المعروفة فهي أقل من ربع حجم احتياطيات الغاز استنادا لقاعدة النفط المتكافئة (oil equivalent basis) , وكما أنها تمثِّل تقديرات الاحتياطيات الاقتصادية المخصصة للتنمية فقط، فهي لا تشمل الاحتياطيات غير المطوَّرة أو تقديرات الاحتياطيات المحتملة والممكنة , وتختلف صيغ إنتاج Production) (profiles ليبيا التراكمي المتعلق بالنفط والغاز، بحيث يقدر إنتاج النفط التراكمي في الوقت الحاضر بـ 60 % من التقديرات الحالية للاحتياطيات القابلة للاسترداد, أما إنتاج الغاز فهو أقل من إنتاج النفط، إد يبلغ الإنتاج التراكمي 12 % من الاحتياطيات التراكمية.
كما تشيرالتقديرات إلى أن إحتياطي النفط غير المكتشف والقابل للاسترداد جد معتبرة (significant). في آخر تقييم للمسح الجيولوجي الأميركي (U.S. Geological Survey, USGS) لاحتياطيات النفط والغاز في العالم، حُدِّدت احتياطيات ليبيا من النفط غير المكتشف بـ 8,3 مليار للبرميل , ويشمل المسح المذكور احتمال تراوح احتياطيات النفط الفعلية كحدٍّ أعلى عند 15,3 مليار برميل (عند نسبة احتمال خطأ 5 %). أما بالنسبة إلى احتياطيات الغاز الطبيعي فقد بيَّن المسح تقدير الاحتياطي الوسطي بـ 21.1 tcf، أي 600 مليار متر مكعب مع حدٍّ أعلى يبلغ 47,2 tcf.
وأما تقديرات الغاز الطبيعي المسال (NGL) الوسطية فتبلغ 0,9 مليار برميل مع حدٍّ أعلى 2,1 مليار برميل. وينبغي التشديد على أنَّ تقديرات الاحتياطي تميل إلى الارتفاع مع مضي الزمن من خلال تحصيل معرفة أكبر بالمزيد من الاكتشافات والتطوُّرات, ومنذ عام 1981 ارتفعت تقديرات المسح الجيولوجي الأميركي لاحتياطيات النفط والغاز العالمية بحوالي 76 و66 % ، ويرجع ذلك أساسا إلى القيام بتقدير بأقل قيمة لاحتياطي النمو في الحقول التي سبق اكتشافها.
كما تمتلك ليبيا إمكانيات لرفع إنتاجها من النفط والغاز بشكل ملموس في السنوات القادمة، الأمر الدي يمكنها من قاعدة احتياطيات كبيرة بحيث يمكن توسيع نمو الاحتياطي بشكل مهم لإنتاج أنواع الوقود النفطي وتصديرها في المستقبل. ويكمن الشيئ الوحيد الذي عانى منه إنتاج النفط وتصديره في السنوات العشرين الماضية في الإفتقار إلى استثمار المصدر والالتزام بحصص "أوبيك". وقد تشكل خطط الاستثمار الحالية المحددة لرفع القدرات عائقاً أساسياً أمام التقيد بحصة "أوبيك". ومن جهة أخرى، يمكن زيادة صادرات الغاز الطبيعي دون عوائق ودون تواجد سياسةٍ تقيِّد مُخرَجاتها. كما تتمتع ليبيا بالإمكانيات التي تسمح لها في أن تصبح أدنى المورِّدين كلفة، كونها تقع على مقربة من أوروبا وحيث يُتوقَّع أن يتوسَّع الطلب على الغاز بصورة ملموسة في العقدين القادمين. بيد أنَّ ليبيا ستواجه منافسة متزايدة مع تحرير الاتحاد الأوروبي أسواقه للغاز والكهرباء، ومن المرجَّح تحرير الأسعار عن أسعار النفط بشكل متزايد. وقد يتسبب الإبقاء في المستقبل على إعانات الدعم الكبيرة لطلب الغاز المحلي في وقوع اختلالات في القطاع ويُحتمل أن تحد من الصادرات.
تشير الفرضيات البديلة إلى زيادة ثابتة في الإنتاج النفطي لليبيا حتى عام 2025. تتوقع السلطات الليبية ارتفاع قدرة الإنتاج النفطي إلى ما يفوق 2,1 مليون برميل يومياً بحلول عام 2010 من 1,6 مليون برميل يومياً تُنتج حاليا، وقبل أن تنخفض إلى 1,8 مليون برميل يومياً في عام 2014 , ويشكل إنتاج الغاز الطبيعي تقريباً بحسب بيانات المؤسسة ، ضعفي الأرقام التي توردها المصادر الأكثر مصداقية، كوكالة الطاقة الدولية IEA ووزارة الطاقة في الولايات المتحدة US DOE وغيرهما من المستشارين المختلفين.
والتوقعات (projections) التي أعلنتها أيضاً وزارة الطاقة الأميركية مبنية على ثلاثة إحتمالات لسوق النفط العالمي إذ تتوقَّع منطمة "أوبيك" إنتاجا يتراوح من 40,1 إلى 70,3 مليون برميل يومياً بحلول عام 2025. ومع أنَّ وزارة الطاقة الأميركية تشعر بوضوح أنَّ قدرة إنتاج النفط الليبي قد ترتفع إلى الحد الأقصى، فإنَّ كل التكهنات تدل على زيادة ملموسة في الإنتاج.
تُقدَّر القيمة الحالية الصافية لعائدات الدولة النفطية على المدى الطويل بين 7,3 إلى 19,8 أضعاف مستوى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2005. يقوم تقدير القيمة الحالية الصافية (NPV) للعائدات الحكومية من إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي على الافتراضات المتنوعة المتعلقة بالاحتياطيات وصيغ الإنتاج وأسعار النفط والغاز.
ويتم حساب القيمة الحالية الصافية لعائدات الدولة النفطية على امتداد الأفق الزمني بعيد المدى، أي إلى غاية2100، على أساس ثلاثة سيناريوهات متعلقة بالعائدات وعلى أساس ثلاثة افتراضات مختلفة متعلقة بأسعار النفط والغاز ، ويمكن الأخد بهذه التقديرات لكونها تفترض أنَّ الاحتياطيات ستكتُشف في ظل مناخ استثماري ملائم وفي ظل ظروف سوقية ملائمة , وتتراوح تقديرات القيمة الحالية الصافية الإجمالية للعائدات النفطية بالدولار الأميركي عام 2005 المستندة إلى عامل خصم يعادل 4 % بين 287 مليار دولار أميركي وبين 777 مليار دولار أميركي , أي من 7,3 إلى 19,8 ضعف المستوى الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005.
كدلك يمكن للثروة النفطية أن تولِّد تدفقَا كبيراً بشكل مستدام في الدخل ً لليبيا, مع أنَّ الثروة النفطية قابلة للنفاد، يمكن لإدارة مالية مناسبة أن تحول العائد القابل للنفاد إلى تدفق دخلي دائم يمكن التمتع به إلى أجل غير محدد من قبل أجيال المستقبل، و يمكن احتساب تدفق العائد النفطي الدائم بوصفه دخلاً سنوياً، على امتداد أفق زمني غير محدود، معادلاً لتدفق قيمة العائد النفطي على امتداد فترة استخراجية أقصر shorter extraction period , ومع معدل خصم قدره 4 % قُدِّر الدخل الدائم في سيناريو وضعية السعر والاحتياطي المتدنِّي بنحو 11.5 مليار د.ل مقابل 29.3 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005.
وفي سيناريو الاحتياطي المتدني والسعر المتوسط يُقدَّر الدخل النفطي الدائم بـ 18.1 مليار د.ل (أي 46 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005). ويمكن لتدفق الدخل النفطي أن يقفز إلى مستوى 20,4 مليار د.ل (52 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005)، وذلك بموجب تكهن الاحتياطي والسعر المتوسطين، بل ويمكن أن يرتقي إلى مستويات أعلى إذا كانت افتراضات الاحتياطيات والسعر مواتية بشكل أكبر.
توقعات إنتاج وعائدات النفط يشوبها غموض كبير. ثمَّة مخاطر كبيرة تهدد مستويات إنتاج النفط في ليبيا مستقبلاً، استناداً إلى تسعير منظمة "أوبيك" وسياستها الإنتاجية (وغير ذلك من عوامل السوق)، وما إذا كانت ليبيا ستظل عضواً قوياً في المنظمة محافظةً على حصتها الحالية من مُخرَجات المنظمة.
هل ينبغي على الطلب العالمي أن يصبح أكثر بطئاً وركوداً عند الأسعار المرتفعة المشار إليها أعلاه؟
من الممكن أن يزداد الطلب على نفط "أوبيك" قليلاً. وفي هذه الحالة ستكون
عائدات ليبيا أقل مما هو مخطَّط لها، الأمر الذي سيؤدي بالبلاد إلى توافر فائض (surplus capacity) كبير على المدى المتوسط. وقد تصطدم هذه القدرة الفائضة، بالتالي، بالاستثمار الأجنبي في قطاع النفط. أما على المدى البعيد، تتار شكوك بشأن زيادة الطلب على النفط العالمي، لاسيما في البلدان النامية، كما تتار أيضا شكوك فيما يتعلق بنقل مواد الوقود ويزداد القلق البيئي حول استخدام النفط والاحترار العالمي (global warming). وليس ثمَّة عوائق أو قيود في ما يتعلق بالمصادر حتى في المستقبل البعيد، والتكنولوجيات الجديدة تواصل تخفيض كلفة الإنتاج وتدفع منحنى العرض (supply curve) نحو الخارج. وهكذا، من المرجَّح أن تبقى أسعار النفط الخام متقلبة إلى الحد الأقصى، مع قوى اقتصادية تمارس الضغوط لخفض الأسعار، في حين أنَّ القيود على إنتاج "أوبيك" تدفع الأسعار نحو الأعلى، وغالباً ما يفوق تكاليف الإنتاج.
الإستخدام الأمثل لعائدات النفط وتعزيز النمو غير النفطي ومواجهة التقلبات وضمان استمرارية السياسات المالية حيث تعزيز النمو وخلق فرص العمل في القطاع غير النفطي تمثل التحدي التنموي الرئيسي لليبيا, إذ يستدعي الأمر لخلق فرص العمل زيادة النمو في القطاع غير النفطي ومن المتوقع أن تزيد القوة العاملة التي تقدَّرحاليا بنحو 1,8 مليون عامل، بنسبة 3,3 % سنوياً في غضون المدى المتوسط , كما يُرجَّح أن تتدعَّم بمشاركة العنصر النسائي مع ملاحظة المستويات الضعيفة حاضراً لمعدل المشاركة لهدا العنصر, وفي ظل الافتراضات الأخرى المؤاتية المتعلقة بمرونة العمالة (employment elasticity) للنمو (بافتراض مرونة قدرها 0,75)، يُقدَّر أنَّ القطاعات غير النفطية ستكون في حاجة إلى النمو على نحو 4,5 % سنوياً لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وذلك للحيلولة دون ارتفاع معدَّل البطالة , وستكون هناك حاجة إلى نمو أكبر بكثير يبلغ قرابة 6,5 % حتى يصبح في الإمكان خفض معدَّل البطالة التي تقدَّر حالياً بنحو 25 % إلى النصف خلال فترة عشر سنوات.
أما نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي يعتبر ضعيفاً مقارنةً بمعدل النمو المسجل في البلدان المنتجة للنفط والاقتصاديات المتحولة, فمنذ أوائل التسعينات وبحوالي نسبة 2.8 % كان نمو ناتج ليبيا المحلي الإجمالي غير النفطي الحقيقي منخفضا جدا مقارنة بمعدل النمو المسجل في الاقتصاديات النفطية الأخرى كما شهد معدل نمو السكان أيضا انخفاضا, ومنذ عام 2000 شهد النمو غير النفطي زيادة ويعود ذلك إلى ارتفاع العائدات النفطية ، إلا أنه بقي في درجة أدنى مقارنة بالبلدان المقارنة على الرغم من رفع الأمم المتحدة للعقوبات التي كانت مفروضة.
انتقلت تقلبات العائد النفطي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي, حيث كغيرها من الدول المنتجة للنفط، تعرَّضت ليبيا خلال الفترة الممتدة من 1991إلى2002 لصدمات مهمة في مجال التبادل التجاري (terms-of-trade) ناجمة عن تقلب سعر النفط، بحيث تعرضت ليبيا وعلى وجه خاص إلى تقلبات حادة في معدلات التبادل مما يعكس ضعف تنوع الاقتصاد خارج القطاع النفطي, وقد انعكست هذه الصدمات على نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي, وكما تفيد التجربة العالمية فإنَّ التقلبات المرتفعة تشكل عامل أداء ضعيف للنمو على المدى البعيد، وقد ينعكس سلبا على المجتمع ككل.
لقد كانت التقلبات في القطاع غير النفطي حادة بوجه خاص،لاسيما في قطاعي الصناعة والبناء. فمنذ أوائل التسعينات بلغ انحراف النمو المعياري (standard deviation of growth) أكثر بثلاثة أضعاف من معدل النمو الوسطي، مما يعني أنَّ التقلبات تتقارن بتقلبات القطاع النفطي , وعلى العكس، فقد كانت تقلبات النمو أصغر بكثير في الزراعة، بل وحتى أصغر في قطاع الخدمات، الذي كان له الإسهام الأكبر في نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي, رغم التقلبات في نمو الصناعة المرتبطة بالخدمات فهي لا تختلف عن الأنماط التي رصدت في مجالات أخرى، إلا أنَّ المستوى المرتفع الذي شُهِد في ليبيا يمكن أن يزيد في المستقبل من خطر العلاوات (premia risk) الذي يواجهه المستثمرون، معرقلاً بذلك الجهود الرامية إلى تعزيز الاستثمار الخاص في السنوات القريبة المقبلة.
كما يمكن أن تسمح سياسات الدولة الملائمة والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بالتخفيف من تأثير التقلبات على النمو. حيث تفيد التجربة العالمية أنَّ السياسات المالية العقلانية تسمح بتجنيب الاقتصاد من الصدمات الخارجية بحيث أنها توفر مساحة لامتصاص الصدمات دون ممارسة الضغوط المتمادية على الطلب المحلي، وذلك بغية المحافظة على وضع مالي وخارجي مستقر إلى حد ما.
بيد أنَّ النظم المالية القوية ستكون في وضع أفضل لتخفيف تأثير التقلب على النمو؛ وذلك بالسماح للمزيد من التخصيص الكفوء للموارد عبر القطاعات الاقتصادية في مواجهة غموض أكبر. إنَّ أسواق العمل المرنة تساعد أيضاً على تلطيف تأثير الصدمات على العمالة، وبالتالي على الطلب المحلي والنمو.
في ليبيا، أخفقت سياسة الدولة في عزل الاقتصاد عن تقلبات الدورة النفطية. حيث شكَّلت التغيُّرات في الاستثمار المحلي، مع تأثير مضاعف على الطلب المحلي، المصدر الرئيسي لتقلب نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي , فتقلبات الاستثمار المحلي وثيقة الارتباط بالتقلبات في العائدات النفطية فالاستثمار المحلي الذي يهيمن عليه القطاع العام يجب أن يتوقف بحزم للحفاظ على التوازن المالي في مواجهة العائدات النفطية الضعيفة خلال التسعينات , وعلى العكس من ذلك، فقد تعزز الاستثمار العام منذ عام 2000 نتيجة لازدياد العائدات النفطية. لقد تم فصل السياسة المالية عن الدورة النفطية بشكل ينم عن ضعف في الأداء.
فعلى الرغم من تأسيس صندوق الاحتياطي النفطي عام 1995 بهدف الادِّخار الضمني وضمان الاستقرار خلال فترات ارتفاع أسعار النفط، فقد عُمِدَ إلى رفع الإنفاق العام فعلياً بتمويله من الصندوق. وعلى النقيض من ذلك، فبسبب الحصة الكبيرة التي حازتها نفقات الحكومة المموَّلة من العائدات النفطية في الوقت الذي كانت فيه هذه الأخيرة منخفضة، فقد حوفظ على التوازن المالي فقط في حينه من خلال تقليص النفقات.
وقد اتجه العجز غير النفطي بالتالي نحو التزايد عندما كانت العائدات النفطية تشهد ارتفاعاً، فيما كان يتجه إلى الانخفاض عندما كانت العائدات النفطية تشي بدورية الركود المالي.
فمند عام 2000 إتضح العجز غير النفطي بشكل كبير من الناحية العملية، خصص صندوق الاحتياطي النفطي خلال الفترة الممتدة بين 1997 و2001، لضمان الاستقرار. فعندما شهدت أسعار النفط انخفاضا نسبياً بين عامي 1998 و1999، تم اجراء سحوبات صافية من الصندوق (بمعدل وسطي قدره 2 % من الناتج المحلي الإجمالي). وبعد الارتفاع الذي أصاب أسعار النفط عام 2000 ، تضاعف ميزان صندوق الاحتياطي النفطي تقريباً.
بيد أنَّه مع ارتفاع الإنفاق من خارج الميزانية ابتداءً من عام 2001 ، بلغ التمويل المطلق لمثل هذه النفقات من الصندوق، مع حلول عام 2003، نحو 14 % من الناتج المحلي الإجمالي , كما بلغ العجز المالي غير النفطي حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة الممتدة من 2002 إلى 2005 .
وعلاوة على ذلك، فقد ازداد الإنفاق الجاري ولا سيَّما الأجور والمرتبات بسرعة كبيرة مع مضي الوقت ليتجاوز تخصيصاتها من العائد النفطي المدرج في الميزانية (30 % من العائدات النفطية المدرجة في الموازنة). وعلى العكس، فقد أخفق تطور الإنفاق، الذي يعكس قدرة الاقتصاد الليبي الاستيعابية المحدودة في توزيع تخصيصاتها من العائد النفطي (70 % من العائدات النفطية المُدرَجة في الميزانية).
كمــا أدت الواردات إلى اضعاف العائدات النفطية (عقم فعالية) على وفرة الأموال (money supply).
نجم عن زيادات العجز المالي غير النفطي، بشكل عام، زيادة في وفرة الأموال, وفي الوقت نفسه نجم عن النفقات ارتفاع في الواردات الأمر الدي أجهـد جزئياً الزيادة في وفرة الأموال بسبب انخفاض صافي الأصول الأجنبية للنظام المصرفي. ونتيجةً لذلك، فإنَّ القوة الدافعة وراء التوسع النقدي في ليبيا تشكل جزءً من الدفعة التي منحها العجز المالي غير النفطي الذي لم يتسرب عبر ميزان المدفوعات (balance of payments).
بيد أنَّ الوضع الراهن لفائض السيولة (excess liquidity) يمكن أن يشكل خطراً على استقرار الاقتصادالكلي ولكنَّ الارتفاع في السيولة لم ينتج عنه ضغوطاً على مستوى التضخُّم، ذلك أنَّ التضخم يبدو في الوقت الراهن غير مرتبط بالتطوُّرات النقدية، ما يعكس أيضاً استمرار التدخُّلات العميمة في الاقتصاد. غير أنه ومع العوامل التي أدَّت إلى الانكماش منذ عام 2000 هي عوامل غير متكررة (non-recurrent factors) من حيث طبيعتها، فمن المُتوقَّع أنَّ مُخرَجات التضخم ستعتمد في الفترة المقبلة إلى حدٍّ كبير على التطورات النقدية.
فعلى المدى المتوسط وإلى غاية تطور الأدوات النقدية بشكل فعال فإن الإجراء الأكثرفعالية لضبط النمو السريع في وفرة الأموال يكمن في تجنب تكوين وضع مالي مفرط.
ومن هنا تبدو المخاطر على الأوضاع المالية والخارجية محدودة نسبيا. فبتوقع بقاء ارتفاع أسعارالنفط بحوالي 60 دولار للبرميل عند الخط القاعدي، يكون خطر الانخفاض على الميزانية محدودا نسبيا ولقد بيَّن تحليل استجابي، معتمدا على هبوط أسعار النفط إلى 15 دولار، أنَّ الفائض المالي الإجمالي (overall fiscal surplus) سيبقى عند حوالي 22 % من الناتج المحلي الإجمالي (الصندوق النقد الدولي2006 ). بينما سيبقى الحساب الجاري الخارجي يسجل فائضا يقدر بحوالي 27%من الناتج المحلي الإجمالي وعليه، ستستمر الاحتياطات من العملة الصعبة في تزايد في ظل هذا الظرف وفي إطار السياسات الراهنة يقتضي الأمر تخفيض سعر النفط بـ 30 دولار من أجل امتصاص الفائض المالي. إن التخفيض المطلوب في سعر النفط للحساب الجاري الخارجي لتغطية العجز، ينبغي أن يكون متساويا وبحوالي 33 دولار.
أنجع السبل لاستخدام الموارد المالية النفطية
سيتمكن الارتفاع المتوقع في العائدات النفطية من تمويل النمو، ولكنها لا تقتضي بالضرورة نمواً مستداماً في القطاع غير النفطي. لقد برهنت تجربة ليبيا الفاشلة في إطار الاقتصاد الموجه، المعتمد على التعويض الاستيرادي عن محدودية استخدام العائدات النفطية في تمويل استثمار المؤسسات العمومية في مجال الصناعات المختارة . وبعيدا عن هذا النموذج التنموي، وبناءً على تجربة البلدان الأخرى المنتجة للنفط والدروس المستخلصة منها، يبدو أنَّ ثمَّة ثلاثة خيارات استراتيجية لاستخدام الموارد المالية الكبيرة الناجمة من النفط كوسيلة لتعزيز النمو غير النفطي وهي كالآني:
· استخدام العائدات النفطية المتراكمة لتوسيع الاستثمار العام في البُنى التحتية كوسيلة لتعزيز القطاع غير النفطي بشكل مباشر، إضافة إلى زيادة عائدات الأُسَر، مما يسمح بمضاعفة النمو.
§ توزيع العائدات النفطية على الأُسَر وسيلةً لدعم المداخيل ونمو الطلب المحلي، في حين من الممكن ضمان آلية استقرار أفضل ضد تقلبات العائد النفطي.
§ ادِّخار جزءٍ من العائدات النفطية للمستقبل؛ واستخدام البقية استراتيجياً لتحسين الرأسمال البشري وبناء شبكات الضمان الاجتماعي؛ وبالتزامن ، تسريع خطى الاصلاحات الهيكلية اللازمة للتحوُّلٍ في اتجاه اقتصاد السوق والاندماج مع بقية بلدان العالم.
كما تشيرالتقديرات إلى أن إحتياطي النفط غير المكتشف والقابل للاسترداد جد معتبرة (significant). في آخر تقييم للمسح الجيولوجي الأميركي (U.S. Geological Survey, USGS) لاحتياطيات النفط والغاز في العالم، حُدِّدت احتياطيات ليبيا من النفط غير المكتشف بـ 8,3 مليار للبرميل , ويشمل المسح المذكور احتمال تراوح احتياطيات النفط الفعلية كحدٍّ أعلى عند 15,3 مليار برميل (عند نسبة احتمال خطأ 5 %). أما بالنسبة إلى احتياطيات الغاز الطبيعي فقد بيَّن المسح تقدير الاحتياطي الوسطي بـ 21.1 tcf، أي 600 مليار متر مكعب مع حدٍّ أعلى يبلغ 47,2 tcf.
وأما تقديرات الغاز الطبيعي المسال (NGL) الوسطية فتبلغ 0,9 مليار برميل مع حدٍّ أعلى 2,1 مليار برميل. وينبغي التشديد على أنَّ تقديرات الاحتياطي تميل إلى الارتفاع مع مضي الزمن من خلال تحصيل معرفة أكبر بالمزيد من الاكتشافات والتطوُّرات, ومنذ عام 1981 ارتفعت تقديرات المسح الجيولوجي الأميركي لاحتياطيات النفط والغاز العالمية بحوالي 76 و66 % ، ويرجع ذلك أساسا إلى القيام بتقدير بأقل قيمة لاحتياطي النمو في الحقول التي سبق اكتشافها.
كما تمتلك ليبيا إمكانيات لرفع إنتاجها من النفط والغاز بشكل ملموس في السنوات القادمة، الأمر الدي يمكنها من قاعدة احتياطيات كبيرة بحيث يمكن توسيع نمو الاحتياطي بشكل مهم لإنتاج أنواع الوقود النفطي وتصديرها في المستقبل. ويكمن الشيئ الوحيد الذي عانى منه إنتاج النفط وتصديره في السنوات العشرين الماضية في الإفتقار إلى استثمار المصدر والالتزام بحصص "أوبيك". وقد تشكل خطط الاستثمار الحالية المحددة لرفع القدرات عائقاً أساسياً أمام التقيد بحصة "أوبيك". ومن جهة أخرى، يمكن زيادة صادرات الغاز الطبيعي دون عوائق ودون تواجد سياسةٍ تقيِّد مُخرَجاتها. كما تتمتع ليبيا بالإمكانيات التي تسمح لها في أن تصبح أدنى المورِّدين كلفة، كونها تقع على مقربة من أوروبا وحيث يُتوقَّع أن يتوسَّع الطلب على الغاز بصورة ملموسة في العقدين القادمين. بيد أنَّ ليبيا ستواجه منافسة متزايدة مع تحرير الاتحاد الأوروبي أسواقه للغاز والكهرباء، ومن المرجَّح تحرير الأسعار عن أسعار النفط بشكل متزايد. وقد يتسبب الإبقاء في المستقبل على إعانات الدعم الكبيرة لطلب الغاز المحلي في وقوع اختلالات في القطاع ويُحتمل أن تحد من الصادرات.
تشير الفرضيات البديلة إلى زيادة ثابتة في الإنتاج النفطي لليبيا حتى عام 2025. تتوقع السلطات الليبية ارتفاع قدرة الإنتاج النفطي إلى ما يفوق 2,1 مليون برميل يومياً بحلول عام 2010 من 1,6 مليون برميل يومياً تُنتج حاليا، وقبل أن تنخفض إلى 1,8 مليون برميل يومياً في عام 2014 , ويشكل إنتاج الغاز الطبيعي تقريباً بحسب بيانات المؤسسة ، ضعفي الأرقام التي توردها المصادر الأكثر مصداقية، كوكالة الطاقة الدولية IEA ووزارة الطاقة في الولايات المتحدة US DOE وغيرهما من المستشارين المختلفين.
والتوقعات (projections) التي أعلنتها أيضاً وزارة الطاقة الأميركية مبنية على ثلاثة إحتمالات لسوق النفط العالمي إذ تتوقَّع منطمة "أوبيك" إنتاجا يتراوح من 40,1 إلى 70,3 مليون برميل يومياً بحلول عام 2025. ومع أنَّ وزارة الطاقة الأميركية تشعر بوضوح أنَّ قدرة إنتاج النفط الليبي قد ترتفع إلى الحد الأقصى، فإنَّ كل التكهنات تدل على زيادة ملموسة في الإنتاج.
تُقدَّر القيمة الحالية الصافية لعائدات الدولة النفطية على المدى الطويل بين 7,3 إلى 19,8 أضعاف مستوى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2005. يقوم تقدير القيمة الحالية الصافية (NPV) للعائدات الحكومية من إنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي على الافتراضات المتنوعة المتعلقة بالاحتياطيات وصيغ الإنتاج وأسعار النفط والغاز.
ويتم حساب القيمة الحالية الصافية لعائدات الدولة النفطية على امتداد الأفق الزمني بعيد المدى، أي إلى غاية2100، على أساس ثلاثة سيناريوهات متعلقة بالعائدات وعلى أساس ثلاثة افتراضات مختلفة متعلقة بأسعار النفط والغاز ، ويمكن الأخد بهذه التقديرات لكونها تفترض أنَّ الاحتياطيات ستكتُشف في ظل مناخ استثماري ملائم وفي ظل ظروف سوقية ملائمة , وتتراوح تقديرات القيمة الحالية الصافية الإجمالية للعائدات النفطية بالدولار الأميركي عام 2005 المستندة إلى عامل خصم يعادل 4 % بين 287 مليار دولار أميركي وبين 777 مليار دولار أميركي , أي من 7,3 إلى 19,8 ضعف المستوى الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005.
كدلك يمكن للثروة النفطية أن تولِّد تدفقَا كبيراً بشكل مستدام في الدخل ً لليبيا, مع أنَّ الثروة النفطية قابلة للنفاد، يمكن لإدارة مالية مناسبة أن تحول العائد القابل للنفاد إلى تدفق دخلي دائم يمكن التمتع به إلى أجل غير محدد من قبل أجيال المستقبل، و يمكن احتساب تدفق العائد النفطي الدائم بوصفه دخلاً سنوياً، على امتداد أفق زمني غير محدود، معادلاً لتدفق قيمة العائد النفطي على امتداد فترة استخراجية أقصر shorter extraction period , ومع معدل خصم قدره 4 % قُدِّر الدخل الدائم في سيناريو وضعية السعر والاحتياطي المتدنِّي بنحو 11.5 مليار د.ل مقابل 29.3 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005.
وفي سيناريو الاحتياطي المتدني والسعر المتوسط يُقدَّر الدخل النفطي الدائم بـ 18.1 مليار د.ل (أي 46 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005). ويمكن لتدفق الدخل النفطي أن يقفز إلى مستوى 20,4 مليار د.ل (52 % من الناتج المحلي الإجمالي المقدَّر لعام 2005)، وذلك بموجب تكهن الاحتياطي والسعر المتوسطين، بل ويمكن أن يرتقي إلى مستويات أعلى إذا كانت افتراضات الاحتياطيات والسعر مواتية بشكل أكبر.
توقعات إنتاج وعائدات النفط يشوبها غموض كبير. ثمَّة مخاطر كبيرة تهدد مستويات إنتاج النفط في ليبيا مستقبلاً، استناداً إلى تسعير منظمة "أوبيك" وسياستها الإنتاجية (وغير ذلك من عوامل السوق)، وما إذا كانت ليبيا ستظل عضواً قوياً في المنظمة محافظةً على حصتها الحالية من مُخرَجات المنظمة.
هل ينبغي على الطلب العالمي أن يصبح أكثر بطئاً وركوداً عند الأسعار المرتفعة المشار إليها أعلاه؟
من الممكن أن يزداد الطلب على نفط "أوبيك" قليلاً. وفي هذه الحالة ستكون
عائدات ليبيا أقل مما هو مخطَّط لها، الأمر الذي سيؤدي بالبلاد إلى توافر فائض (surplus capacity) كبير على المدى المتوسط. وقد تصطدم هذه القدرة الفائضة، بالتالي، بالاستثمار الأجنبي في قطاع النفط. أما على المدى البعيد، تتار شكوك بشأن زيادة الطلب على النفط العالمي، لاسيما في البلدان النامية، كما تتار أيضا شكوك فيما يتعلق بنقل مواد الوقود ويزداد القلق البيئي حول استخدام النفط والاحترار العالمي (global warming). وليس ثمَّة عوائق أو قيود في ما يتعلق بالمصادر حتى في المستقبل البعيد، والتكنولوجيات الجديدة تواصل تخفيض كلفة الإنتاج وتدفع منحنى العرض (supply curve) نحو الخارج. وهكذا، من المرجَّح أن تبقى أسعار النفط الخام متقلبة إلى الحد الأقصى، مع قوى اقتصادية تمارس الضغوط لخفض الأسعار، في حين أنَّ القيود على إنتاج "أوبيك" تدفع الأسعار نحو الأعلى، وغالباً ما يفوق تكاليف الإنتاج.
الإستخدام الأمثل لعائدات النفط وتعزيز النمو غير النفطي ومواجهة التقلبات وضمان استمرارية السياسات المالية حيث تعزيز النمو وخلق فرص العمل في القطاع غير النفطي تمثل التحدي التنموي الرئيسي لليبيا, إذ يستدعي الأمر لخلق فرص العمل زيادة النمو في القطاع غير النفطي ومن المتوقع أن تزيد القوة العاملة التي تقدَّرحاليا بنحو 1,8 مليون عامل، بنسبة 3,3 % سنوياً في غضون المدى المتوسط , كما يُرجَّح أن تتدعَّم بمشاركة العنصر النسائي مع ملاحظة المستويات الضعيفة حاضراً لمعدل المشاركة لهدا العنصر, وفي ظل الافتراضات الأخرى المؤاتية المتعلقة بمرونة العمالة (employment elasticity) للنمو (بافتراض مرونة قدرها 0,75)، يُقدَّر أنَّ القطاعات غير النفطية ستكون في حاجة إلى النمو على نحو 4,5 % سنوياً لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وذلك للحيلولة دون ارتفاع معدَّل البطالة , وستكون هناك حاجة إلى نمو أكبر بكثير يبلغ قرابة 6,5 % حتى يصبح في الإمكان خفض معدَّل البطالة التي تقدَّر حالياً بنحو 25 % إلى النصف خلال فترة عشر سنوات.
أما نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي يعتبر ضعيفاً مقارنةً بمعدل النمو المسجل في البلدان المنتجة للنفط والاقتصاديات المتحولة, فمنذ أوائل التسعينات وبحوالي نسبة 2.8 % كان نمو ناتج ليبيا المحلي الإجمالي غير النفطي الحقيقي منخفضا جدا مقارنة بمعدل النمو المسجل في الاقتصاديات النفطية الأخرى كما شهد معدل نمو السكان أيضا انخفاضا, ومنذ عام 2000 شهد النمو غير النفطي زيادة ويعود ذلك إلى ارتفاع العائدات النفطية ، إلا أنه بقي في درجة أدنى مقارنة بالبلدان المقارنة على الرغم من رفع الأمم المتحدة للعقوبات التي كانت مفروضة.
انتقلت تقلبات العائد النفطي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي, حيث كغيرها من الدول المنتجة للنفط، تعرَّضت ليبيا خلال الفترة الممتدة من 1991إلى2002 لصدمات مهمة في مجال التبادل التجاري (terms-of-trade) ناجمة عن تقلب سعر النفط، بحيث تعرضت ليبيا وعلى وجه خاص إلى تقلبات حادة في معدلات التبادل مما يعكس ضعف تنوع الاقتصاد خارج القطاع النفطي, وقد انعكست هذه الصدمات على نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي, وكما تفيد التجربة العالمية فإنَّ التقلبات المرتفعة تشكل عامل أداء ضعيف للنمو على المدى البعيد، وقد ينعكس سلبا على المجتمع ككل.
لقد كانت التقلبات في القطاع غير النفطي حادة بوجه خاص،لاسيما في قطاعي الصناعة والبناء. فمنذ أوائل التسعينات بلغ انحراف النمو المعياري (standard deviation of growth) أكثر بثلاثة أضعاف من معدل النمو الوسطي، مما يعني أنَّ التقلبات تتقارن بتقلبات القطاع النفطي , وعلى العكس، فقد كانت تقلبات النمو أصغر بكثير في الزراعة، بل وحتى أصغر في قطاع الخدمات، الذي كان له الإسهام الأكبر في نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي, رغم التقلبات في نمو الصناعة المرتبطة بالخدمات فهي لا تختلف عن الأنماط التي رصدت في مجالات أخرى، إلا أنَّ المستوى المرتفع الذي شُهِد في ليبيا يمكن أن يزيد في المستقبل من خطر العلاوات (premia risk) الذي يواجهه المستثمرون، معرقلاً بذلك الجهود الرامية إلى تعزيز الاستثمار الخاص في السنوات القريبة المقبلة.
كما يمكن أن تسمح سياسات الدولة الملائمة والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية بالتخفيف من تأثير التقلبات على النمو. حيث تفيد التجربة العالمية أنَّ السياسات المالية العقلانية تسمح بتجنيب الاقتصاد من الصدمات الخارجية بحيث أنها توفر مساحة لامتصاص الصدمات دون ممارسة الضغوط المتمادية على الطلب المحلي، وذلك بغية المحافظة على وضع مالي وخارجي مستقر إلى حد ما.
بيد أنَّ النظم المالية القوية ستكون في وضع أفضل لتخفيف تأثير التقلب على النمو؛ وذلك بالسماح للمزيد من التخصيص الكفوء للموارد عبر القطاعات الاقتصادية في مواجهة غموض أكبر. إنَّ أسواق العمل المرنة تساعد أيضاً على تلطيف تأثير الصدمات على العمالة، وبالتالي على الطلب المحلي والنمو.
في ليبيا، أخفقت سياسة الدولة في عزل الاقتصاد عن تقلبات الدورة النفطية. حيث شكَّلت التغيُّرات في الاستثمار المحلي، مع تأثير مضاعف على الطلب المحلي، المصدر الرئيسي لتقلب نمو الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي , فتقلبات الاستثمار المحلي وثيقة الارتباط بالتقلبات في العائدات النفطية فالاستثمار المحلي الذي يهيمن عليه القطاع العام يجب أن يتوقف بحزم للحفاظ على التوازن المالي في مواجهة العائدات النفطية الضعيفة خلال التسعينات , وعلى العكس من ذلك، فقد تعزز الاستثمار العام منذ عام 2000 نتيجة لازدياد العائدات النفطية. لقد تم فصل السياسة المالية عن الدورة النفطية بشكل ينم عن ضعف في الأداء.
فعلى الرغم من تأسيس صندوق الاحتياطي النفطي عام 1995 بهدف الادِّخار الضمني وضمان الاستقرار خلال فترات ارتفاع أسعار النفط، فقد عُمِدَ إلى رفع الإنفاق العام فعلياً بتمويله من الصندوق. وعلى النقيض من ذلك، فبسبب الحصة الكبيرة التي حازتها نفقات الحكومة المموَّلة من العائدات النفطية في الوقت الذي كانت فيه هذه الأخيرة منخفضة، فقد حوفظ على التوازن المالي فقط في حينه من خلال تقليص النفقات.
وقد اتجه العجز غير النفطي بالتالي نحو التزايد عندما كانت العائدات النفطية تشهد ارتفاعاً، فيما كان يتجه إلى الانخفاض عندما كانت العائدات النفطية تشي بدورية الركود المالي.
فمند عام 2000 إتضح العجز غير النفطي بشكل كبير من الناحية العملية، خصص صندوق الاحتياطي النفطي خلال الفترة الممتدة بين 1997 و2001، لضمان الاستقرار. فعندما شهدت أسعار النفط انخفاضا نسبياً بين عامي 1998 و1999، تم اجراء سحوبات صافية من الصندوق (بمعدل وسطي قدره 2 % من الناتج المحلي الإجمالي). وبعد الارتفاع الذي أصاب أسعار النفط عام 2000 ، تضاعف ميزان صندوق الاحتياطي النفطي تقريباً.
بيد أنَّه مع ارتفاع الإنفاق من خارج الميزانية ابتداءً من عام 2001 ، بلغ التمويل المطلق لمثل هذه النفقات من الصندوق، مع حلول عام 2003، نحو 14 % من الناتج المحلي الإجمالي , كما بلغ العجز المالي غير النفطي حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة الممتدة من 2002 إلى 2005 .
وعلاوة على ذلك، فقد ازداد الإنفاق الجاري ولا سيَّما الأجور والمرتبات بسرعة كبيرة مع مضي الوقت ليتجاوز تخصيصاتها من العائد النفطي المدرج في الميزانية (30 % من العائدات النفطية المدرجة في الموازنة). وعلى العكس، فقد أخفق تطور الإنفاق، الذي يعكس قدرة الاقتصاد الليبي الاستيعابية المحدودة في توزيع تخصيصاتها من العائد النفطي (70 % من العائدات النفطية المُدرَجة في الميزانية).
كمــا أدت الواردات إلى اضعاف العائدات النفطية (عقم فعالية) على وفرة الأموال (money supply).
نجم عن زيادات العجز المالي غير النفطي، بشكل عام، زيادة في وفرة الأموال, وفي الوقت نفسه نجم عن النفقات ارتفاع في الواردات الأمر الدي أجهـد جزئياً الزيادة في وفرة الأموال بسبب انخفاض صافي الأصول الأجنبية للنظام المصرفي. ونتيجةً لذلك، فإنَّ القوة الدافعة وراء التوسع النقدي في ليبيا تشكل جزءً من الدفعة التي منحها العجز المالي غير النفطي الذي لم يتسرب عبر ميزان المدفوعات (balance of payments).
بيد أنَّ الوضع الراهن لفائض السيولة (excess liquidity) يمكن أن يشكل خطراً على استقرار الاقتصادالكلي ولكنَّ الارتفاع في السيولة لم ينتج عنه ضغوطاً على مستوى التضخُّم، ذلك أنَّ التضخم يبدو في الوقت الراهن غير مرتبط بالتطوُّرات النقدية، ما يعكس أيضاً استمرار التدخُّلات العميمة في الاقتصاد. غير أنه ومع العوامل التي أدَّت إلى الانكماش منذ عام 2000 هي عوامل غير متكررة (non-recurrent factors) من حيث طبيعتها، فمن المُتوقَّع أنَّ مُخرَجات التضخم ستعتمد في الفترة المقبلة إلى حدٍّ كبير على التطورات النقدية.
فعلى المدى المتوسط وإلى غاية تطور الأدوات النقدية بشكل فعال فإن الإجراء الأكثرفعالية لضبط النمو السريع في وفرة الأموال يكمن في تجنب تكوين وضع مالي مفرط.
ومن هنا تبدو المخاطر على الأوضاع المالية والخارجية محدودة نسبيا. فبتوقع بقاء ارتفاع أسعارالنفط بحوالي 60 دولار للبرميل عند الخط القاعدي، يكون خطر الانخفاض على الميزانية محدودا نسبيا ولقد بيَّن تحليل استجابي، معتمدا على هبوط أسعار النفط إلى 15 دولار، أنَّ الفائض المالي الإجمالي (overall fiscal surplus) سيبقى عند حوالي 22 % من الناتج المحلي الإجمالي (الصندوق النقد الدولي2006 ). بينما سيبقى الحساب الجاري الخارجي يسجل فائضا يقدر بحوالي 27%من الناتج المحلي الإجمالي وعليه، ستستمر الاحتياطات من العملة الصعبة في تزايد في ظل هذا الظرف وفي إطار السياسات الراهنة يقتضي الأمر تخفيض سعر النفط بـ 30 دولار من أجل امتصاص الفائض المالي. إن التخفيض المطلوب في سعر النفط للحساب الجاري الخارجي لتغطية العجز، ينبغي أن يكون متساويا وبحوالي 33 دولار.
أنجع السبل لاستخدام الموارد المالية النفطية
سيتمكن الارتفاع المتوقع في العائدات النفطية من تمويل النمو، ولكنها لا تقتضي بالضرورة نمواً مستداماً في القطاع غير النفطي. لقد برهنت تجربة ليبيا الفاشلة في إطار الاقتصاد الموجه، المعتمد على التعويض الاستيرادي عن محدودية استخدام العائدات النفطية في تمويل استثمار المؤسسات العمومية في مجال الصناعات المختارة . وبعيدا عن هذا النموذج التنموي، وبناءً على تجربة البلدان الأخرى المنتجة للنفط والدروس المستخلصة منها، يبدو أنَّ ثمَّة ثلاثة خيارات استراتيجية لاستخدام الموارد المالية الكبيرة الناجمة من النفط كوسيلة لتعزيز النمو غير النفطي وهي كالآني:
· استخدام العائدات النفطية المتراكمة لتوسيع الاستثمار العام في البُنى التحتية كوسيلة لتعزيز القطاع غير النفطي بشكل مباشر، إضافة إلى زيادة عائدات الأُسَر، مما يسمح بمضاعفة النمو.
§ توزيع العائدات النفطية على الأُسَر وسيلةً لدعم المداخيل ونمو الطلب المحلي، في حين من الممكن ضمان آلية استقرار أفضل ضد تقلبات العائد النفطي.
§ ادِّخار جزءٍ من العائدات النفطية للمستقبل؛ واستخدام البقية استراتيجياً لتحسين الرأسمال البشري وبناء شبكات الضمان الاجتماعي؛ وبالتزامن ، تسريع خطى الاصلاحات الهيكلية اللازمة للتحوُّلٍ في اتجاه اقتصاد السوق والاندماج مع بقية بلدان العالم.