الجمهورية العربية المتحدة -
مرسل: الخميس يوليو 19, 2012 1:32 pm
الجمهورية العربية المتحدة - سامي شرف
حين أتحدث عن خصوصية العلاقات المصرية السورية لابد أن أرجعها ليوم التقت الحضارتين الفرعونية المصرية والفينيقية السورية ، وكان لقاؤهما تزاوجا أبديا ، إذن الحضارة سجلها التاريخ فكانت وثيقة الزواج الذى لا فكاك منه .
فى بداية حديثى عن العلاقات المصرية السورية أتذكر مقولة مشهورة لدافيد بن جوريون الذى قال :
" إن اتحدت مصر وسورية فإن فكى الكماشة العربية ستعصر هذا الكيان وتنهيه ."
هذه مقولة عدو . . فعندما يتحدث بن جوريون وهو يشعر بالخطورة والرغبة فى البقاء ، بل والسيطرة واستمرار الاحتلال للأرض العربية ، ويدرك أنه كيان غريب ، والكيان الغريب علميا لابد أن يلفظه الجسد مهما طال الزمن ، فهذا يعنى أنه بالتقاء الجانب المصرى مع الجانب السورى سيتحقق أمرين . . إنهاء لهذا الوجود الدخيل ، وتحقيق نهضة عربية شاملة .
ومن المسلم به أن مصر تمثل قلب الأمة العربية ونبضها ، وقوة مصر تعنى قوة للعرب ، و هى كذلك قوة جذب وتأثير بحكم عوامل عديدة ، جغرافية وتاريخية وحضارية . كذلك دمشق التى هى عاصمة بلاد الشام ، وأقدم مدينة فى التاريخ مأهولة بالسكان ـ وهو ما يعنى حضارة ممتدة ـ وما تمثله سوريا كرمز للعروبة وقوة تأثير وجذب ، إذن لو اجتمعت قوتا جذب وتأثير وهما القوتان العربيتان الأصيلتان منذ التاريخ الأول ، وفى صدر الإسلام فسوف تشكلان القاعدة الحقيقية للقوة العربية ، بما يجعل هذه الأمة قوة عظمى تؤثر فى مجريات الأحداث إقليميا وعالميا .
إن لبلاد الشام التى تمثل سورية منها موقع القلب ، قوة تأثير هامة ، فهى مركز تجارة المنطقة بأكملها ، ويكفى أن الله تعالى ذكر فى القرآن الكريم رحلتا الشتاء والصيف ، وهو ما يؤكد أهمية هذه الرقعة الجغرافية لبلاد الشام والتى تمثل سورية قلبها ومركز تأثيرها .
كذلك فإن لمصر خصوصية فى القرآن الكريم حيث ذكرت خمس مرات صراحة " مصر " وأكثر من سبعين مرة غير مباشرة من طور سيناء إلى البحر إلى قارون إلخ ، وهذا يؤكد أن الله قد اختص هذين البلدين بخصوصية لحكمة يعلمها هو ، وعلينا أن ندرك أبعادها ما استطعنا ونوظف ذلك بما يخدم العروبة والإسلام .
إن تجربة الوحدة المصرية السورية هى تجربة إنسانية قبل أن تكون تعبيرا سياسيا عن أمل عربى ولأنها تجربة إنسانية فلها بعض الجوانب السلبية ، وكذلك الإيجابية ، ويمكن لى وصف هذه التجربة بأنها تماثل تجربة جمال عبد الناصر منذ بداية ثورة يوليو 1952 وحتى سبتمبر عام 1970 ، فهى ليست تجربة قوالب ـ لأن عبد الناصر لم يأخذ قالب الرأسمالية ليقوم بتطبيقه ، ولا المادية الماركسية ، إنما استوعب وأحس وهضم نبض الشارع المصرى وبدأ يترجم هذا النبض والإحساس والآمال والأحلام إلى واقع لمصلحة الجماهير العريضة صاحبة المصلحة الحقيقية فى التغيير .
ولقد استطاع جمال عبد الناصر بإرادة شعبية جارفة أن يتخطى عقبات تمثلت فى مؤامرات داخلية وخارجية ومحاولات اعتداء متنوعة بلغت مداها فى العدوان الثلاثى عام 1956 الذى استطاع الشعب المصرى ومعه أمته العربية من المحيط إلى الخليج أن يحقق انتصارا سياسيا ضخما نتج عنه ميلاد تجسيد القومية العربية من جديد على أرض الواقع العربى هذا بالإضافة إلى تمكين مصر من الاستقلال السياسى والاقتصادى والاجتماعى وبداية بناء دولة عربية تعتمد على نفسها لتتحول مصر من مجتمع زراعى يعتمد على القطن إلى مجتمع زراعى صناعى متطور ليكون مثل يحتذى بالمستقبل فى العالم العربى وذلك لكى لا نبقى أسرى الاعتماد على الخارج فى مجالات التطور والتقدم .
هذه التجربة لم تكن مفروضة على أمتنا العربية كما يحاول البعض إلصاق هذه التهمة بعبد الناصر لأن كل مجتمع عربى فى إطار دولته له مزاجية وعادات متوارثة ، كما أن للبعض تركيبة خاصة مثل المجتمع اللبنانى مثلا الذى يقوم على الطائفية التى كان عبد الناصر متفهما له تماما وكان يرى أنه من الصعب ، بل من الخطأ تغيير هذه التركيبة . ولتأكيد كلامى هذا ، فلقد حضر إلى القاهرة خلال الستينات بعض الإخوة القوميين اللبنانيين ، وبعضهم ما زال على قيد الحياة أطال الله فى أعمارهم ، وطلبوا من الرئيس جمال عبد الناصر المعاونة فى تغيير التركيبة اللبنانية ، لكن الرجل رفض تماما هذه الفكرة وأذكر أنه قال لهم:
" إن لبنان هو لبنان بهذا الشكل ، ولن يكون غير ذلك . . ولن أسمح بتغييرهذه التركيبة اللبنانية . . "
هذه هى نظرة الرئيس عبد الناصر للمجتمعات العربية بمكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والحضارية والثقافية ، فلم يكن أبدا كما يحاول بعض المتشككين وصفه بالرغبة فى السيطرة بل كانت حركته من خلال محاولة تحقيق أحلام وأهداف ورغبات الجماهير العريضة . .
هذا هو جمال عبد الناصر و كذلك كانت تجربة الوحدة المصرية السورية .
إذن نعود لنؤكد أن التلاقى المصرى السورى هو ركيزة للعمل العربى ، وكلما اقتربت القاهرة من دمشق أكثر وأكثر كلما ارتفعت أعلام القومية العربية ، والوحدة العربية ، والتقدم العربى ، فقوة مصر وسورية حين تلتقيان تشكلان ما يمكن أن أسميه ( بعبع ) للأعداء بما تعنيه هذه الكلمة تماما .
ومهما قمنا بعملية تنظير لتجربة الوحدة ، مع احترامى الشديد لجميع من تناول هذه التجربة ، سواء بتحقيق الوحدة أو بمؤامرة الانفصال ، فلقد تعلمت من الرئيس جمال عبد الناصر أن أكون إنسانا عمليا .
فتجربة الوحدة كانت تمثل خطرا حقيقيا على الأطماع الاستعمارية بالمنطقة تلك القوى التى تسعى للسيطرة على مقدراتنا وعلى مواردنا وثرواتنا وعلى الموقع الجغرافى ، ولقد التقى فى هذا كل من الشرق والغرب ، فالشرق كان يسعى للوصول إلى الجنوب ، والغرب كان يسعى لفرض مبدأ أيزنهاور بنظرية ملء الفراغ وبالتالى فقد التقت القوتين لمقاومة الوحدة العربية وبالتالى القضاء على الأمانى العربية .
لقد كانت ولادة الوحدة المصرية السورية ولادة طبيعية وشرعية ، ولم تكن قيصرية كما يحلو للبعض أن يصفها ظلما . ولو كانت هذه الوحدة ولادة من حمل سفاح ، كما يشيع الحاقدين أو نتيجة رغبة شخصية ، أو لفرض رأى وهيمنة وزعامة لكان الشعب السورى ارتضى بالانفصال فور حدوثه ، وإلا بماذا نفسر الرد الشعبى الغاضب لحركة الانفصال ورفضه من الشارع السورى .
لقد كذب الحاقدون وافتروا على عبد الناصر بأنه يريد الزعامة والسيطرة ، فهل نسوا أن الإخوة السودانيين جاءوا له لإعلان وحدة وادى النيل عام 1956 ، وكان جوابه أن تقرير المصير يتم شعبيا أولا ، وما سيقبله الشعب السودانى سيقبله هو .
كذلك حدث نفس الشىء مع ليبيا الثورة عام 1969 ، وكنا فى أشد الحاجة للمساندة المادية والمعنوية جاء العقيد القذافى مطالبا بقيام الوحدة ، إلا أن الرئيس عبد الناصر قال له فى هذه المرحلة لآ . . ، إن هذه القضية ليست بهذه البساطة ، لكنها تحتاج لتحضيرات على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية بل والنفسية ، وهذه تحتاج لوقت ومتابعة وتقويم ثم يعقب ذلك اتخاذ القرار الصعب فى التوقيت والزمن المناسبين .
نفس الشىء حدث يوم 11يناير1958 بين الرئيس جمال عبد الناصر والمجلس العسكرى السورى عندما قرروا بالإجماع الحضور إلى القاهرة ، وقد مثلهم كل من
عفيف البزرى ـمصطفى حمدون ـ أحمد عبدالكريم ـ أحمد حنيدى ـ طعمة العودة الله ـ حسين حدة ـ عبدالغنى قنوت ـ محمد النسر ـ يسن فرجانى ـ عبدالله جسومة ـ جادو عزالدين ـ مصطفى رام حمدانى ـ أكرم ديرى ـ جمال الصوفى 0
وبقى فى دمشق كل من : عبدالحميد السراج ـ أمين النفورى ـ جاسم علوان ـ محمد اسطنبولى ـ أمين الحافظ ـ راشد قطينى ـ نورالله حاج إبراهيم ـ لؤى الشطى ـ بشير صادق ، وهم باقى المجلس العسكرى الذى كان يدير دفة شئون البلاد فى ذلك الوقت .
وقد وصلوا ليس لبحث قضية الوحدة بين القطرين ، بل لفرضها على الرئيس جمال عبد الناصر الذى رفض هذا المنطق وأصر على أن تقوم الوحدة على أسس قوية وسليمة لتعيش وتبقى لا لتقوم وتنتهى فى ليلة ظلماء ، ولقد شهدت قاعة الاجتماعات فى مكتبى بمبنى مجلس الوزراء كل الاجتماعات التمهيدية التى طالت لليال ، كما أن لقاءات الإخوة السوريين مع الرئيس جمال عبد الناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة المصريين وبالذات المشير عبد الحكيم عامر والسيد كمال الدين حسين والسيدين محمود رياض وعبد المحسن أبو النور كانت مستمرة ليل نهار فى منزل الرئيس بمنشية البكرى من أجل محاولة إقناع الإخوة السوريين بأن القضية من الأهمية والخطورة بمكان بحيث نأخذ فيها قرارات متعجلة قد نندم عليها فيما بعد ، إلا أن إصرار الإخوة أعضاء المجلس العسكرى والسياسيين بوضع الصورة أمام الرئيس عبد الناصر إما وحدة فورية أو تضيع سوريا للأبد من على الخريطة العربية مما كان له الأثر فى تراجع الإصرار من الجانب المصرى ليقبل حل يمكن اعتباره حلا وسطا لإنقاذ أوضاع خطيرة كانت ماثلة فعلا أمام الجميع مما جعل الجانب المصرى يضع شروطا معينة منها حل الأحزاب وكان بعض! هذه الأحزاب يعتبر واجهة وتعبير عن وجهات نظر ومفاهيم ليست سورية أو عربية ، وعدم تدخل الجيش فى السياسة مع العمل بسرعة نحو توحيد القوات المسلحة فى القطرين وبما لا يسمح بتدخلها فى السياسة . . الخ
ووقع الانفصال نتيجة أخطاء بشرية مركبة ومتبادلة ، وأخطاء فى التطبيق عقب قيام الوحدة على أساس قد يبدو فى جوانب منه عاطفى ثم أخيرا ، وهو الأهم ، نتيجة أولا :
تآمر الملك سعود الذى تدينه الحقائق التالية :
شيك رقم 85902 مسحوب على البنك العربى بالرياض بتاريخ20فبراير1958 بمبلغ مليون جنيه إسترلينى
شيك رقم 85903 مسحوب علىالبنك العربى بالرياض بمبلغ700ألف جنيه إسترلينى 0
شيك رقم 85904 مسحوب على البنك العربى بالرياض بمبلغ 200 ألف جنيه إسترلينى 0
وقد تم صرف هذه الشيكات وأودعت بالبنك العربى بدمشق بأوامر من الرئيس جمال عبد الناصر لعبد الحميد السراج 0
وفى أحد لقاءات الرئيس عبد الناصر مع الملك سعود بعد لجوئه إلى القاهرة سأله الرئيس :
ألم تصرف مبلغ سبعة ملايين جنيه لضرب الوحدة ؟
فرد الملك سعود قائلا : طال عمرك يا سيادة الرئيس أنا دفعت 12 مليون جنيه إسترلينى لإثارة الإنفصال بين سوريا ومصر 0
وثانيا :
ما قام به الملك حسين والمخابرات المركزية الأمريكية . والكل يعلم ماذا حدث ليلة الانفصال من الخط التليفونى الساخن الذى فتح بين القيادة العامة فى دمشق وبين القصر الملكى فى عمان وأكثر من هذا حكاية الشنطة التى عبرت من عمان إلى دمشق عبر بيروت
ثم ثالثا :
ما قام به قيادات حزب البعث وقد وقّع بعضهم على عريضة الانفصال ، وقد يكون من المفيد ولتنشيط الذاكرة أن أضع السطور التالية تحت أنظار القارىء الكريم لمجرد إلقاء ضوء كاشف على رؤيتهم لثورة يوليو:
عقب ثورة يوليو 52 هاجم حزب البعث النظام الجديد بدعوى أنه حكم عسكرى يشك فى إرتباطاته مع بعض الجهات الأجنبية ! وبالرغم من أنهم عادوا فأيدوا الثورة بمرور الزمن ـ مثلما فعل الشيوعيين تماما ـوكانوا عاملا مؤثرا فى الدعوة لقيام الوحدة سنة 1958 إلا أنهم ما لبثوا أثناء الوحدة أن لعبوا دورا أساسيا فى تحطيم الوحدة ، حيث هاجموا نظام الوحدة على أنه نظام ديكتاتورى يعتمد على أجهزة المخابرات والمباحث لحماية الوحدة بدلا من الإعتماد على المؤسسات الجماهيرية 0 وعندما إستولوا على السلطة فى بغداد مثلا مورست أبشع أنواع الديكتاتورية والمباحثية والإعتقالات العشوائية وذلك بتطبيق حكم يعتبر الحكم البوليسى إلى جواره نعيما ! ( راجع محاضر إجتماعات الوحدة الثلاثية وإعترافات على صالح السعدى حول هذه النقطة بالذات ) 0
ثم كانت إستقالة أعضاء الحزب الجماعية من حكومة الوحدة ، وهذا يعنى إنسحاب الحزب من الوحدة نفسها وقد تعاون حزب البعث مع دعاة الإنفصال حتى تم الإنفصال ولم يتورع بعض قادته عن مباركة الإنفصال بل والتوقيع على وثيقة الإنفصال ـ صلاح البيطار ـ ثم بدأوا الهجوم على الجمهورية العربية المتحدة و الرئيس عبد الناصر بكل الأساليب وفى كل المناسبات 0
تفسير شعار الحرية والإشتراكية والوحدة أو وحدة حرية إشتراكية كما كان ينادى البعث وهل مفتاح الحرية هى الحرية الإجتماعية أم الحرية السياسية 0 وقد فسر عبد الناصر الإشتراكية بوضوح نتيجة التجربة والواقع والتنفيذ فى الوقت الذى لم يكن فيه المفهوم واضحا أو قد نضج بعد لإفتقارهم للتجربة وما تعطيه من بعد أصيل على الفكر 0
ثم كان تفسير الوحدة الذى مارسته وجسدته القاهرة فى الجمهورية العربية المتحدة التى تضافرت القوى المعادية لضربها فى الوقت التى سعت بعض الإتجاهات الحزبية إلى الحفاظ على كياناتها الحزبية فى ظل الوحدة 0
والنقطة التالية كانت تجربة الأحزاب فى مقابل تجربة تحالف قوى الشعب العامل 0 ومناداة البعث بتعدد الأحزاب تحت شعار " الحزب القائد " ـ البعث ـ ثم حينما يتمكن من السلطة يتخذ شعار آخر " الحزب الواحد " 0
و رابعا :
على الشيوعيين الذين هربوا من أول المشوار إلى بلغاريا لتفادى التصويت على قيام الوحدة فى المجلس النيابى السورى .
إن واحدة من أهم المشاكل التى واجهت الوحدة فى سوريا ، أجهزة الدولة التى قامت بدور لم تتهيأ له، فقد حدث شىء من ذلك وتصرف عدد من الضباط المصريين والسوريين الذين أحاطوا بالمشيرعبد الحكيم عامر وبقيادته فى دمشق فى قضايا لم يتهيأوا لها ، وفى نفس الوقت وضع المشير عبد الحكيم عامر باعتباره النائب الأول لرئيس الجمهورية الثقة الكاملة لمجموعة من الضباط الذين كانت تدور حولهم شكوك تمس ولاؤهم وانتماؤهم للجمهورية العربية المتحدة وبالرغم من التحذيرات المؤكدة التى قدمها رجال مخلصون كان من أبرزهم السيد هانى الهندى ، تلك التحذيرات التى تثبت أن ضباطا بعينهم ممن يتولون مناصب غاية فى الحساسية يقومون بنشاط معاد للوطن ولم يقبل المشير عامر اتخاذ إجراء ضدهم بل سلمهم التقارير التى تثبت تآمرهم ، وقد أثبتت الأيام أن هؤلاء هم الذين قاموا بمؤامرة الانفصال .
وكان ثمة محظور آخر هو الاعتماد على الجماهير التى مهما كانت حماستها لا تستطيع أن تفعل شيئا أمام قوة السلاح ـ الدبابة ـ كما أن هناك فترات من التاريخ يحدث فيها أن تتمكن قلة من المغامرين من أن تجر وراءها كتلا من الغافلين .
ولقد شارك آخرون بنصيب فيما حدث والتمكين له ، على سبيل المثال :
أن مجموعة من العسكريين فى الجيش السورى قبل الوحدة ظلوا على إرتباطهم السابق بأحلامهم الشحصية والإرتباطات الحزبية والإجتماعية .
وأن حزب البعث السورى إعتبر نفسه شريكا أساسيا فى إقامة الوحدة وترتب على ذلك أن كثيرا من الضباط والأحزاب والتجمعات أعطوا لنفسهم حقوقا وأحسوا بعد الوحدة أنهم فى الحقيقة قد فقدوا نفوذهم القديم فى سوريا ولم يستبدلوه بشىء فى الجمهورية العربية المتحدة .
وأن الضغوط والمزايدات التى أحاطت بسوريا من سنة1955 حتى سنة 1958 خلقت إحساسا بضرورات الأمن وزاد نفوذ الأجهزة الأمنية بدعوى الحفاظ على سوريا ، ولم يتوقف عمل هذه الأجهزة ولا دورها ولم يلائم نفسه للظروف الجديدة بعد قيام الوحدة .
وأن إنتقال مركز الحكم للقاهرة خلق فراغا فى دمشق التى لم تكن معتادة على ذلك الوضع .
وأن الخلافات بدأت مبكرة بين البعث السورى وضباطه وبين السيد عبد الحميد السراج وكتلته وكذلك بين البعث والكتل القومية والوحدوية الأخرى .
فى هذا المناخ وجدت القوى المعادية لحركة الثورة العربية فرصتها للعمل : إتصالات ، تحركات ، ترتيبات أموال ، خطط ، تتحين كلها الفرص للإنقضاض على الوحدة .
وبالرغم من الأسباب التى ذكرتها فإن الانفصال كان ـ من وجهة نظرى ـ نتيجة عوامل خارجية فى أغلبه والدليل على ذلك أن الشعب السورى انتفض عن بكرة أبيه يرفض الانفصال بمن فيهم كبار الرأسماليين الوطنيين السوريين ولقد ظل الشعب السورى يرفض كل المحاولات الانفصالية وشبه الانفصالية حتى اليوم . وسبب آخر هو انه بمجرد قيام الوحدة سقط النظام العميل فى العراق هذا النظام الذى سبق وقام بتحريض بريطانيا على غزو مصر سنة 1956 .
وإن الشعبين المصرى والسورى لم ولن يكفروا بالوحدة ، بل المناداة بها اليوم أشد وأحوج من أجل الثبات فى وجه قوى الاستعمار الجديد المتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الكيان العنصرى إسرائيل .
إن الرصيد الهام الذى تركته تجربة الوحدة المصرية السورية لا زلنا نعيشه كأمة عربية وبخاصة الشعبين السورى والمصرى . وهذا الرصيد بقى فى العقل والوجدان السورى بنسبة أكبر مما يؤكد ان دمشق ستبقى العقل والوجدان والقلب النابض للحركة العربية الواحدة التى يجسدها التركيبة الوجدانية لأبناء الشعبين فهى مبنية على قاعدة حضارية صلبة وهذا بالتالى جعل المخزون العاطفى فى العقل والوجدان كبيرا . إن قضية الوحدة ستظل مطروحة وستبقى مطروحة كما كان ذلك قبل تجربة الوحدة الاندماجية ، ولكن قد يكون الطرح بأشكال مختلفة لأن ذلك هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل هذه الأمة ، وإن أى وحدة عربية لابد أن تستند على مقومات حقيقية لواقع هذه الأمة بما يحقق إقامة كيان عربى قوى فى مواجهة تحديات هذا العصر وبما يجعلها قوة فاعلة فى النظام العالمى الذى يرتكز على الكيانات الكبرى حيث لم تعد للكيانات الصغيرة مكان فيه، فإما أن نكون او لا نكون . و لقيام هذا الكيان العربى الكبير لابد من قاطرة تشده لتحقيق الهدف وهذه القاطرة هى لقاء بين سوريا ومصر ، و إن هدف الوحدة كعقيدة وجدانية عربية سيبقى قائما ، لكن آليات تحقيقها يمكن أن تتغير نتي! جة للتطورات والمتغيرات التى طرأت على الحركة الكونية .
سامى شرف
حين أتحدث عن خصوصية العلاقات المصرية السورية لابد أن أرجعها ليوم التقت الحضارتين الفرعونية المصرية والفينيقية السورية ، وكان لقاؤهما تزاوجا أبديا ، إذن الحضارة سجلها التاريخ فكانت وثيقة الزواج الذى لا فكاك منه .
فى بداية حديثى عن العلاقات المصرية السورية أتذكر مقولة مشهورة لدافيد بن جوريون الذى قال :
" إن اتحدت مصر وسورية فإن فكى الكماشة العربية ستعصر هذا الكيان وتنهيه ."
هذه مقولة عدو . . فعندما يتحدث بن جوريون وهو يشعر بالخطورة والرغبة فى البقاء ، بل والسيطرة واستمرار الاحتلال للأرض العربية ، ويدرك أنه كيان غريب ، والكيان الغريب علميا لابد أن يلفظه الجسد مهما طال الزمن ، فهذا يعنى أنه بالتقاء الجانب المصرى مع الجانب السورى سيتحقق أمرين . . إنهاء لهذا الوجود الدخيل ، وتحقيق نهضة عربية شاملة .
ومن المسلم به أن مصر تمثل قلب الأمة العربية ونبضها ، وقوة مصر تعنى قوة للعرب ، و هى كذلك قوة جذب وتأثير بحكم عوامل عديدة ، جغرافية وتاريخية وحضارية . كذلك دمشق التى هى عاصمة بلاد الشام ، وأقدم مدينة فى التاريخ مأهولة بالسكان ـ وهو ما يعنى حضارة ممتدة ـ وما تمثله سوريا كرمز للعروبة وقوة تأثير وجذب ، إذن لو اجتمعت قوتا جذب وتأثير وهما القوتان العربيتان الأصيلتان منذ التاريخ الأول ، وفى صدر الإسلام فسوف تشكلان القاعدة الحقيقية للقوة العربية ، بما يجعل هذه الأمة قوة عظمى تؤثر فى مجريات الأحداث إقليميا وعالميا .
إن لبلاد الشام التى تمثل سورية منها موقع القلب ، قوة تأثير هامة ، فهى مركز تجارة المنطقة بأكملها ، ويكفى أن الله تعالى ذكر فى القرآن الكريم رحلتا الشتاء والصيف ، وهو ما يؤكد أهمية هذه الرقعة الجغرافية لبلاد الشام والتى تمثل سورية قلبها ومركز تأثيرها .
كذلك فإن لمصر خصوصية فى القرآن الكريم حيث ذكرت خمس مرات صراحة " مصر " وأكثر من سبعين مرة غير مباشرة من طور سيناء إلى البحر إلى قارون إلخ ، وهذا يؤكد أن الله قد اختص هذين البلدين بخصوصية لحكمة يعلمها هو ، وعلينا أن ندرك أبعادها ما استطعنا ونوظف ذلك بما يخدم العروبة والإسلام .
إن تجربة الوحدة المصرية السورية هى تجربة إنسانية قبل أن تكون تعبيرا سياسيا عن أمل عربى ولأنها تجربة إنسانية فلها بعض الجوانب السلبية ، وكذلك الإيجابية ، ويمكن لى وصف هذه التجربة بأنها تماثل تجربة جمال عبد الناصر منذ بداية ثورة يوليو 1952 وحتى سبتمبر عام 1970 ، فهى ليست تجربة قوالب ـ لأن عبد الناصر لم يأخذ قالب الرأسمالية ليقوم بتطبيقه ، ولا المادية الماركسية ، إنما استوعب وأحس وهضم نبض الشارع المصرى وبدأ يترجم هذا النبض والإحساس والآمال والأحلام إلى واقع لمصلحة الجماهير العريضة صاحبة المصلحة الحقيقية فى التغيير .
ولقد استطاع جمال عبد الناصر بإرادة شعبية جارفة أن يتخطى عقبات تمثلت فى مؤامرات داخلية وخارجية ومحاولات اعتداء متنوعة بلغت مداها فى العدوان الثلاثى عام 1956 الذى استطاع الشعب المصرى ومعه أمته العربية من المحيط إلى الخليج أن يحقق انتصارا سياسيا ضخما نتج عنه ميلاد تجسيد القومية العربية من جديد على أرض الواقع العربى هذا بالإضافة إلى تمكين مصر من الاستقلال السياسى والاقتصادى والاجتماعى وبداية بناء دولة عربية تعتمد على نفسها لتتحول مصر من مجتمع زراعى يعتمد على القطن إلى مجتمع زراعى صناعى متطور ليكون مثل يحتذى بالمستقبل فى العالم العربى وذلك لكى لا نبقى أسرى الاعتماد على الخارج فى مجالات التطور والتقدم .
هذه التجربة لم تكن مفروضة على أمتنا العربية كما يحاول البعض إلصاق هذه التهمة بعبد الناصر لأن كل مجتمع عربى فى إطار دولته له مزاجية وعادات متوارثة ، كما أن للبعض تركيبة خاصة مثل المجتمع اللبنانى مثلا الذى يقوم على الطائفية التى كان عبد الناصر متفهما له تماما وكان يرى أنه من الصعب ، بل من الخطأ تغيير هذه التركيبة . ولتأكيد كلامى هذا ، فلقد حضر إلى القاهرة خلال الستينات بعض الإخوة القوميين اللبنانيين ، وبعضهم ما زال على قيد الحياة أطال الله فى أعمارهم ، وطلبوا من الرئيس جمال عبد الناصر المعاونة فى تغيير التركيبة اللبنانية ، لكن الرجل رفض تماما هذه الفكرة وأذكر أنه قال لهم:
" إن لبنان هو لبنان بهذا الشكل ، ولن يكون غير ذلك . . ولن أسمح بتغييرهذه التركيبة اللبنانية . . "
هذه هى نظرة الرئيس عبد الناصر للمجتمعات العربية بمكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والحضارية والثقافية ، فلم يكن أبدا كما يحاول بعض المتشككين وصفه بالرغبة فى السيطرة بل كانت حركته من خلال محاولة تحقيق أحلام وأهداف ورغبات الجماهير العريضة . .
هذا هو جمال عبد الناصر و كذلك كانت تجربة الوحدة المصرية السورية .
إذن نعود لنؤكد أن التلاقى المصرى السورى هو ركيزة للعمل العربى ، وكلما اقتربت القاهرة من دمشق أكثر وأكثر كلما ارتفعت أعلام القومية العربية ، والوحدة العربية ، والتقدم العربى ، فقوة مصر وسورية حين تلتقيان تشكلان ما يمكن أن أسميه ( بعبع ) للأعداء بما تعنيه هذه الكلمة تماما .
ومهما قمنا بعملية تنظير لتجربة الوحدة ، مع احترامى الشديد لجميع من تناول هذه التجربة ، سواء بتحقيق الوحدة أو بمؤامرة الانفصال ، فلقد تعلمت من الرئيس جمال عبد الناصر أن أكون إنسانا عمليا .
فتجربة الوحدة كانت تمثل خطرا حقيقيا على الأطماع الاستعمارية بالمنطقة تلك القوى التى تسعى للسيطرة على مقدراتنا وعلى مواردنا وثرواتنا وعلى الموقع الجغرافى ، ولقد التقى فى هذا كل من الشرق والغرب ، فالشرق كان يسعى للوصول إلى الجنوب ، والغرب كان يسعى لفرض مبدأ أيزنهاور بنظرية ملء الفراغ وبالتالى فقد التقت القوتين لمقاومة الوحدة العربية وبالتالى القضاء على الأمانى العربية .
لقد كانت ولادة الوحدة المصرية السورية ولادة طبيعية وشرعية ، ولم تكن قيصرية كما يحلو للبعض أن يصفها ظلما . ولو كانت هذه الوحدة ولادة من حمل سفاح ، كما يشيع الحاقدين أو نتيجة رغبة شخصية ، أو لفرض رأى وهيمنة وزعامة لكان الشعب السورى ارتضى بالانفصال فور حدوثه ، وإلا بماذا نفسر الرد الشعبى الغاضب لحركة الانفصال ورفضه من الشارع السورى .
لقد كذب الحاقدون وافتروا على عبد الناصر بأنه يريد الزعامة والسيطرة ، فهل نسوا أن الإخوة السودانيين جاءوا له لإعلان وحدة وادى النيل عام 1956 ، وكان جوابه أن تقرير المصير يتم شعبيا أولا ، وما سيقبله الشعب السودانى سيقبله هو .
كذلك حدث نفس الشىء مع ليبيا الثورة عام 1969 ، وكنا فى أشد الحاجة للمساندة المادية والمعنوية جاء العقيد القذافى مطالبا بقيام الوحدة ، إلا أن الرئيس عبد الناصر قال له فى هذه المرحلة لآ . . ، إن هذه القضية ليست بهذه البساطة ، لكنها تحتاج لتحضيرات على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية بل والنفسية ، وهذه تحتاج لوقت ومتابعة وتقويم ثم يعقب ذلك اتخاذ القرار الصعب فى التوقيت والزمن المناسبين .
نفس الشىء حدث يوم 11يناير1958 بين الرئيس جمال عبد الناصر والمجلس العسكرى السورى عندما قرروا بالإجماع الحضور إلى القاهرة ، وقد مثلهم كل من
عفيف البزرى ـمصطفى حمدون ـ أحمد عبدالكريم ـ أحمد حنيدى ـ طعمة العودة الله ـ حسين حدة ـ عبدالغنى قنوت ـ محمد النسر ـ يسن فرجانى ـ عبدالله جسومة ـ جادو عزالدين ـ مصطفى رام حمدانى ـ أكرم ديرى ـ جمال الصوفى 0
وبقى فى دمشق كل من : عبدالحميد السراج ـ أمين النفورى ـ جاسم علوان ـ محمد اسطنبولى ـ أمين الحافظ ـ راشد قطينى ـ نورالله حاج إبراهيم ـ لؤى الشطى ـ بشير صادق ، وهم باقى المجلس العسكرى الذى كان يدير دفة شئون البلاد فى ذلك الوقت .
وقد وصلوا ليس لبحث قضية الوحدة بين القطرين ، بل لفرضها على الرئيس جمال عبد الناصر الذى رفض هذا المنطق وأصر على أن تقوم الوحدة على أسس قوية وسليمة لتعيش وتبقى لا لتقوم وتنتهى فى ليلة ظلماء ، ولقد شهدت قاعة الاجتماعات فى مكتبى بمبنى مجلس الوزراء كل الاجتماعات التمهيدية التى طالت لليال ، كما أن لقاءات الإخوة السوريين مع الرئيس جمال عبد الناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة المصريين وبالذات المشير عبد الحكيم عامر والسيد كمال الدين حسين والسيدين محمود رياض وعبد المحسن أبو النور كانت مستمرة ليل نهار فى منزل الرئيس بمنشية البكرى من أجل محاولة إقناع الإخوة السوريين بأن القضية من الأهمية والخطورة بمكان بحيث نأخذ فيها قرارات متعجلة قد نندم عليها فيما بعد ، إلا أن إصرار الإخوة أعضاء المجلس العسكرى والسياسيين بوضع الصورة أمام الرئيس عبد الناصر إما وحدة فورية أو تضيع سوريا للأبد من على الخريطة العربية مما كان له الأثر فى تراجع الإصرار من الجانب المصرى ليقبل حل يمكن اعتباره حلا وسطا لإنقاذ أوضاع خطيرة كانت ماثلة فعلا أمام الجميع مما جعل الجانب المصرى يضع شروطا معينة منها حل الأحزاب وكان بعض! هذه الأحزاب يعتبر واجهة وتعبير عن وجهات نظر ومفاهيم ليست سورية أو عربية ، وعدم تدخل الجيش فى السياسة مع العمل بسرعة نحو توحيد القوات المسلحة فى القطرين وبما لا يسمح بتدخلها فى السياسة . . الخ
ووقع الانفصال نتيجة أخطاء بشرية مركبة ومتبادلة ، وأخطاء فى التطبيق عقب قيام الوحدة على أساس قد يبدو فى جوانب منه عاطفى ثم أخيرا ، وهو الأهم ، نتيجة أولا :
تآمر الملك سعود الذى تدينه الحقائق التالية :
شيك رقم 85902 مسحوب على البنك العربى بالرياض بتاريخ20فبراير1958 بمبلغ مليون جنيه إسترلينى
شيك رقم 85903 مسحوب علىالبنك العربى بالرياض بمبلغ700ألف جنيه إسترلينى 0
شيك رقم 85904 مسحوب على البنك العربى بالرياض بمبلغ 200 ألف جنيه إسترلينى 0
وقد تم صرف هذه الشيكات وأودعت بالبنك العربى بدمشق بأوامر من الرئيس جمال عبد الناصر لعبد الحميد السراج 0
وفى أحد لقاءات الرئيس عبد الناصر مع الملك سعود بعد لجوئه إلى القاهرة سأله الرئيس :
ألم تصرف مبلغ سبعة ملايين جنيه لضرب الوحدة ؟
فرد الملك سعود قائلا : طال عمرك يا سيادة الرئيس أنا دفعت 12 مليون جنيه إسترلينى لإثارة الإنفصال بين سوريا ومصر 0
وثانيا :
ما قام به الملك حسين والمخابرات المركزية الأمريكية . والكل يعلم ماذا حدث ليلة الانفصال من الخط التليفونى الساخن الذى فتح بين القيادة العامة فى دمشق وبين القصر الملكى فى عمان وأكثر من هذا حكاية الشنطة التى عبرت من عمان إلى دمشق عبر بيروت
ثم ثالثا :
ما قام به قيادات حزب البعث وقد وقّع بعضهم على عريضة الانفصال ، وقد يكون من المفيد ولتنشيط الذاكرة أن أضع السطور التالية تحت أنظار القارىء الكريم لمجرد إلقاء ضوء كاشف على رؤيتهم لثورة يوليو:
عقب ثورة يوليو 52 هاجم حزب البعث النظام الجديد بدعوى أنه حكم عسكرى يشك فى إرتباطاته مع بعض الجهات الأجنبية ! وبالرغم من أنهم عادوا فأيدوا الثورة بمرور الزمن ـ مثلما فعل الشيوعيين تماما ـوكانوا عاملا مؤثرا فى الدعوة لقيام الوحدة سنة 1958 إلا أنهم ما لبثوا أثناء الوحدة أن لعبوا دورا أساسيا فى تحطيم الوحدة ، حيث هاجموا نظام الوحدة على أنه نظام ديكتاتورى يعتمد على أجهزة المخابرات والمباحث لحماية الوحدة بدلا من الإعتماد على المؤسسات الجماهيرية 0 وعندما إستولوا على السلطة فى بغداد مثلا مورست أبشع أنواع الديكتاتورية والمباحثية والإعتقالات العشوائية وذلك بتطبيق حكم يعتبر الحكم البوليسى إلى جواره نعيما ! ( راجع محاضر إجتماعات الوحدة الثلاثية وإعترافات على صالح السعدى حول هذه النقطة بالذات ) 0
ثم كانت إستقالة أعضاء الحزب الجماعية من حكومة الوحدة ، وهذا يعنى إنسحاب الحزب من الوحدة نفسها وقد تعاون حزب البعث مع دعاة الإنفصال حتى تم الإنفصال ولم يتورع بعض قادته عن مباركة الإنفصال بل والتوقيع على وثيقة الإنفصال ـ صلاح البيطار ـ ثم بدأوا الهجوم على الجمهورية العربية المتحدة و الرئيس عبد الناصر بكل الأساليب وفى كل المناسبات 0
تفسير شعار الحرية والإشتراكية والوحدة أو وحدة حرية إشتراكية كما كان ينادى البعث وهل مفتاح الحرية هى الحرية الإجتماعية أم الحرية السياسية 0 وقد فسر عبد الناصر الإشتراكية بوضوح نتيجة التجربة والواقع والتنفيذ فى الوقت الذى لم يكن فيه المفهوم واضحا أو قد نضج بعد لإفتقارهم للتجربة وما تعطيه من بعد أصيل على الفكر 0
ثم كان تفسير الوحدة الذى مارسته وجسدته القاهرة فى الجمهورية العربية المتحدة التى تضافرت القوى المعادية لضربها فى الوقت التى سعت بعض الإتجاهات الحزبية إلى الحفاظ على كياناتها الحزبية فى ظل الوحدة 0
والنقطة التالية كانت تجربة الأحزاب فى مقابل تجربة تحالف قوى الشعب العامل 0 ومناداة البعث بتعدد الأحزاب تحت شعار " الحزب القائد " ـ البعث ـ ثم حينما يتمكن من السلطة يتخذ شعار آخر " الحزب الواحد " 0
و رابعا :
على الشيوعيين الذين هربوا من أول المشوار إلى بلغاريا لتفادى التصويت على قيام الوحدة فى المجلس النيابى السورى .
إن واحدة من أهم المشاكل التى واجهت الوحدة فى سوريا ، أجهزة الدولة التى قامت بدور لم تتهيأ له، فقد حدث شىء من ذلك وتصرف عدد من الضباط المصريين والسوريين الذين أحاطوا بالمشيرعبد الحكيم عامر وبقيادته فى دمشق فى قضايا لم يتهيأوا لها ، وفى نفس الوقت وضع المشير عبد الحكيم عامر باعتباره النائب الأول لرئيس الجمهورية الثقة الكاملة لمجموعة من الضباط الذين كانت تدور حولهم شكوك تمس ولاؤهم وانتماؤهم للجمهورية العربية المتحدة وبالرغم من التحذيرات المؤكدة التى قدمها رجال مخلصون كان من أبرزهم السيد هانى الهندى ، تلك التحذيرات التى تثبت أن ضباطا بعينهم ممن يتولون مناصب غاية فى الحساسية يقومون بنشاط معاد للوطن ولم يقبل المشير عامر اتخاذ إجراء ضدهم بل سلمهم التقارير التى تثبت تآمرهم ، وقد أثبتت الأيام أن هؤلاء هم الذين قاموا بمؤامرة الانفصال .
وكان ثمة محظور آخر هو الاعتماد على الجماهير التى مهما كانت حماستها لا تستطيع أن تفعل شيئا أمام قوة السلاح ـ الدبابة ـ كما أن هناك فترات من التاريخ يحدث فيها أن تتمكن قلة من المغامرين من أن تجر وراءها كتلا من الغافلين .
ولقد شارك آخرون بنصيب فيما حدث والتمكين له ، على سبيل المثال :
أن مجموعة من العسكريين فى الجيش السورى قبل الوحدة ظلوا على إرتباطهم السابق بأحلامهم الشحصية والإرتباطات الحزبية والإجتماعية .
وأن حزب البعث السورى إعتبر نفسه شريكا أساسيا فى إقامة الوحدة وترتب على ذلك أن كثيرا من الضباط والأحزاب والتجمعات أعطوا لنفسهم حقوقا وأحسوا بعد الوحدة أنهم فى الحقيقة قد فقدوا نفوذهم القديم فى سوريا ولم يستبدلوه بشىء فى الجمهورية العربية المتحدة .
وأن الضغوط والمزايدات التى أحاطت بسوريا من سنة1955 حتى سنة 1958 خلقت إحساسا بضرورات الأمن وزاد نفوذ الأجهزة الأمنية بدعوى الحفاظ على سوريا ، ولم يتوقف عمل هذه الأجهزة ولا دورها ولم يلائم نفسه للظروف الجديدة بعد قيام الوحدة .
وأن إنتقال مركز الحكم للقاهرة خلق فراغا فى دمشق التى لم تكن معتادة على ذلك الوضع .
وأن الخلافات بدأت مبكرة بين البعث السورى وضباطه وبين السيد عبد الحميد السراج وكتلته وكذلك بين البعث والكتل القومية والوحدوية الأخرى .
فى هذا المناخ وجدت القوى المعادية لحركة الثورة العربية فرصتها للعمل : إتصالات ، تحركات ، ترتيبات أموال ، خطط ، تتحين كلها الفرص للإنقضاض على الوحدة .
وبالرغم من الأسباب التى ذكرتها فإن الانفصال كان ـ من وجهة نظرى ـ نتيجة عوامل خارجية فى أغلبه والدليل على ذلك أن الشعب السورى انتفض عن بكرة أبيه يرفض الانفصال بمن فيهم كبار الرأسماليين الوطنيين السوريين ولقد ظل الشعب السورى يرفض كل المحاولات الانفصالية وشبه الانفصالية حتى اليوم . وسبب آخر هو انه بمجرد قيام الوحدة سقط النظام العميل فى العراق هذا النظام الذى سبق وقام بتحريض بريطانيا على غزو مصر سنة 1956 .
وإن الشعبين المصرى والسورى لم ولن يكفروا بالوحدة ، بل المناداة بها اليوم أشد وأحوج من أجل الثبات فى وجه قوى الاستعمار الجديد المتمثل فى الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الكيان العنصرى إسرائيل .
إن الرصيد الهام الذى تركته تجربة الوحدة المصرية السورية لا زلنا نعيشه كأمة عربية وبخاصة الشعبين السورى والمصرى . وهذا الرصيد بقى فى العقل والوجدان السورى بنسبة أكبر مما يؤكد ان دمشق ستبقى العقل والوجدان والقلب النابض للحركة العربية الواحدة التى يجسدها التركيبة الوجدانية لأبناء الشعبين فهى مبنية على قاعدة حضارية صلبة وهذا بالتالى جعل المخزون العاطفى فى العقل والوجدان كبيرا . إن قضية الوحدة ستظل مطروحة وستبقى مطروحة كما كان ذلك قبل تجربة الوحدة الاندماجية ، ولكن قد يكون الطرح بأشكال مختلفة لأن ذلك هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل هذه الأمة ، وإن أى وحدة عربية لابد أن تستند على مقومات حقيقية لواقع هذه الأمة بما يحقق إقامة كيان عربى قوى فى مواجهة تحديات هذا العصر وبما يجعلها قوة فاعلة فى النظام العالمى الذى يرتكز على الكيانات الكبرى حيث لم تعد للكيانات الصغيرة مكان فيه، فإما أن نكون او لا نكون . و لقيام هذا الكيان العربى الكبير لابد من قاطرة تشده لتحقيق الهدف وهذه القاطرة هى لقاء بين سوريا ومصر ، و إن هدف الوحدة كعقيدة وجدانية عربية سيبقى قائما ، لكن آليات تحقيقها يمكن أن تتغير نتي! جة للتطورات والمتغيرات التى طرأت على الحركة الكونية .
سامى شرف