- الخميس يوليو 19, 2012 1:34 pm
#52857
اعتــرافــات .. فـقيــــــــــــر
والدي الحبيب جمــال عبـد الناصـــر
اللقاء الثاني..مع عيد الوحدة
بقلــــــــم : محمد فــؤاد المغازي:
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كل عام وأنت في جنة الخلد مقيم..حيث الصديقين والشهداء...
كان لقائي الأول بك في يوم ميلادك التسعين...
هذه هي المرة الثانية التي التقى معك فيها في عيد ميلاد الوحدة..وميلاد الجمهورية العربية المتحدة...
ولقائنا اليوم هو إذا سمحت لي أن استكمل لك الحدوتة..حدوتة من بيلا...
وفي كل مرة نبدي بالصلاة والسلام..على نبينا العربي الكريم الفقير، وعلى كل الأنبياء الفقراء الكرام...
بعد أن فرغت من تدوين اللقاء الأول معك يا أبي، وصلتني رسالة من أخي المحب الكريم الأستاذ سامي شرف وزير رئاسة شئون الجمهورية..ثائر من ثوار يوليو، واحد ممن أحبوك، أخلصوا لمصر ولأمتهم..وما يزال، محافظا على العهد..وما يزال...
قرأ ( حدوتة من بيلا ) فبعث برسالة هذا نصها:
" ابكيتنى يا رجل .. ربنا يسامحك يا فؤاد يا مغازى "
والحقيقة أنا لم أقصد أن أثير أحزان أخي الغالي..ولا أحزان أحد..صحيح أن بعدك عنا يثير فينا كل الحزن..لكن ما تعلمناه منك يثير فينا كل العزم..ويستنهض فينا كل مفردات المقاومة...
خاصة وأن الحدوتة التي سأرويها هذه المرة فيها ما يفرحك..كما أفرح أهلي وأفرحني يوم أن وصلتني رسالة تقول: لقد جري تعيينك في مصنع 135 للطائرات في حلوان وعليك استكمال أوراق التعيين...
ذهبت إلي حلوان..وكان تعييني في يوم 20/11/1959 ...
كانت حلوان لا هي بالمدينة ولا هي بالقرية...
بلدا غير آهل بالسكان فتعداد السكان قليل للغاية...
والبيوت أغلبها على شكل فيلات متباعدة...
وهناك لافتات تقول: غرفة للإيجار وشقة للإيجار...
ومناخها غريب لا تتساقط فيها الأمطار طوال العام إلا في النادر، وتظل الشمس رغم المطر ساطعة مبتسمة وكأنها تسخر من المطر الغير قادر على ارغامها أن تتواري خلف سحاب حتى يقال أن هناك فصل شتاء ..لكنها في الصيف شديدة الحرارة...
وعرفت فيما بعد أن حلوان هذه كانت منتجع الشتاء لأثرياء مصر..يلجئون إليها يستمتعون بدفء شمسها وبمياهها المعدنية التي تساعدهم على شفاء أمراضهم الجسدية..ويا ليتها شفتهم من أنانيتهم وذاتيتهم...
ويقال أن حلوان كانت في الأصل مدينة فرعونية..وأنها في مرحلة تاريخية كانت عاصمة الأمويين في مصر تحت قيادة عبد العزيز بن مروان..ويقال أن حلوان كانت الحضن الذي استقبل ميلاد الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز...
ويقال عنها _أيضا_ أن الخديوي إسماعيل باشا أدخل عليها من التحسينات بما يتلاءم ويتناسب مع مقامه الرفيع، كي تكون حلوان قادرة على توفير المتعه والراحة له ولحاشيته، ولعل الخديوي إسماعيل كان يستأجر من يتثاءب له، شأنه شأن خديوي مصر الحالي المقيم في شرم الشيخ...
أما آخر الحكاوي التي قيلت عن حلوان رواها ممثل لزج أسمه حسين فهمي دخل الفن من باب أن شعره أصفر وعيونه زرق..طلعته ليس لها أي علاقة بالجنس الموجود في شمال أفريقيا..قال هذا الشخص أن حلوان نصفها كان ملكية خالصة لأسرته، وأضاف أن الملك فاروق كان يـُجـْلـِسَـهُ على حجره ويدلعه قائلا: يا مليكي. وكان حديثه مليء بالسخرية والشماتة في ثورة يوليو..وافتخارا بالعصر المملوكي..وماذا ننتظر من شخص يتباهي أن الملك فاروق كان يجلسه على حجره ويدلعه !!!
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
مع مشروع النهضة لثورتك تغيرت معالم حلوان كليا..تحولت أرضها الصحراوية الخراب إلي حضانة لمصانع ناشئة تنمو مع السنيين إلا أن أصبحت حلوان وضواحيها أكبر قلعة صناعية على أرض مصر.
وأنا أذكر أن من بين المصانع التي انشأت بها مصنع 135، مصنع 36، مصنع 45، 54، مصانع النسيج والغزل، مصانع المطروقات، مصانع الحديد والصلب، مصانع الأسمنت وتوسيعها، مصانع السيارات، مصانع محركات الديزل، وتأسس بها أول معهد للتكنولوجيا تحول فيما بعد إلي كلية هندسة، وتوسع قطاع التعليم لينشأ على أرض حلوان جامعة...
في مصنع 135 التقيت ولأول مرة في حياتي مع خبراء أجانب من المانيا والنمسا وسويسرا. فمصنع 135 أنشأ بغرض إنتاج محرك طائرة نفاثة وكنا نعرفها باسم ( هـ 300 )، كان هناك محرك نفاس صنعته مصر عرف بالمحرك ( هـ 200 ) وهو نسخة من محرك اسباني خاص بطائرات التدريب للطيارين، أما محرك ( هـ 300 ) فهو محرك مصمم لطائرة مصرية مقاتلة سرعتها ضعف سرعة الصوت...
وأتذكر يا ولدي الحبيب ما قلته يوم أن أطـَلـَّيْـتَ علينا لتفتتح المصنع وكان من بين الكلمات التي قلتها للعاملين في المصنع : في الغالب الدول بتبعت أبنائها في بعثات للخارج علشان تتعلم، ما فعلته مصر هي أنها أتت بالمدرسة إليكم، وعليكم واجب هو أن تستوعبوا الخبرة الفنية في أقل فترة ممكنة لتقللوا مدة بقاء الخبراء الأجانب في المصنع لأنهم بيقبضوا بالعملة الصعبة ومصر في حاجة إلي العملة الصعبة...
كان اقتحامك بنا آفاق المعرفة، واستيعاب حقائق العصر ادراكا منك أن قوي الشر المتمثلة في قوي الاستعمار والصهيونية الراغبين دوما في السيطرة ومواصلة الاستغلال سوف تحول بكل الطرق بما فيها القوة المسلحة لمنع طلاب المعرفة والنهضة من بلوغ أهدافهم...
والغريب أنه من بين المصريين من كان يستكثر على بلده أن تنهض بهذه الطفرة..ويقولون أن هذا تبذير في الأموال..ظلت تلك المقولة معزوفة جوقة أتباع حسن البنا..يرددونها دون ملل أو كلل حتى يومنا هذا. بالرغم من أن ترويج مثل هذه الدعايات الكاذبة تهدر وتعرض أمن مصر للخطر. وتشكك في امكانية مصر في النهوض. لقد أرادوا لنا أن نبقي في دائرة الدراويش نأتمر بأوامر أفاقين جهلة حاقدين..همهم الأول والوحيد الوصول إلي السلطة..واجزم أنهم أفضل من قرأ واستوعب كتاب الأمير لميكيافللي...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كانت رؤيتك للأشياء تتخطي رؤيتنا فوعيننا بالأشياء في تلك المرحلة، وفي ظل مناخ اجتماعي لم نتعود عليه، جعلنا غير مهيئين أصلا أن نستوعب تلك النقلة التي لو مرت بالخيال لانبهرنا، فما بالك ونحن نلمسها بالمعايشة. فمن رؤية المحراث، والنورج، والساقية، حتى معرفتنا بما كان يسمي بالطائرات كانت علاقة سمعية فقط، فعندما نسمع أصوات عالية قادمة من السماء نعرف أنها أصوات منبعثة من طائرة وكانت تلك الأصوات تحرك لدينا الفضول لرؤيتها..لكني لم أراها أبدا...
وفجأة أجد نفسي أعمل في مصنع مهمته انتاج محرك طائرة نفاثة..نقلة نوعية بخيال قاصر في مواجهة واقع مجسد يحتاج فيه العقل والوجدان والخيال لوقت كي يهضم كل هذه الأشياء...
كنا على بداية الطريق إلي المعرفة التي كانت تنمو بحكم المعايشة، لكن ما كان غائبا عنا تفاصيل أسباب هذه التغييرات، فرؤيتنا للواقع الذي يتغير أمامنا بمعدلات متسارعة لا تصل بنا إلي معرفة ما وراء الأشياء، أو أبعاد ما كان مطلوبا منا تنفيذه. لم نكن نعي مثلا أن مصر عليها أن تعوض ما فاتها وبأسرع ما يمكن، فالمتربصين بها على استعداد للانقضاض في أي لحظة..لهذا لم يكن أمام الثورة غير أن تتجه بأبناء مصر إلي آفاق المعرفة وتطبيقاتها...
كانت الاستجابة لنداءاتك ولكل ما تحرضنا عليه أساسها الثقة فيك والمحبة كل المحبة لك..لم نتوقف لنقول قبل أن نبدأ معك مشوار النهضة أن علينا أولا معرفة أيهما خلق أولا البيضة أم الفرخة كما كان يفعل رواد قهوة النشاط والسفسطائيون من المتعلمين...
لكن مع الأيام ومع تعدد اللقاءات بحبيب الملايين..اللقاءات التي كانت تمثل لنا أمرين المعرفة والفرحة. وأعتقد يا ولدي الحبيب أن هناك علاقة بين المعرفة والفرحة..فبلقائك يتجمع الاثنان ويظهر التأثير المتبادل بينهما وينعكس في سرعة ما كنا نتعلمه منك..ومع مرور الأيام كانت المعرفة في حالة تراكم، والوعي في حالة نضوج..فما كنا نتعلمه منك وتشرحه بدون تعقيدات رغم أنها مواضيع تتعلق بفروع علوم مختلفة. فمثلا تلقينا دروس في علم السياسية بدون أن نبدأ قراءة الجمهورية لأفلاطون، أو نعرف شيئا عن القسمة المنطقية ودورها في تقسيمات نظم الحكم لأرسطو. كنا نتعلم منك علم المالية عندما تبدأ في شرح الموازنة العامة (الموارد، والإنفاق)..ونتعلم دروس في العلاقات الدولية..ودروس في التاريخ العربي والإنساني...
كانت جميع الدروس التي نتلقاها منك تتجه بنا إلي وجهة واحدة حيث الهدف النهضة النهضة..وأمن النهضة..فلا نهضة بغير أمن، ولا حرية لقرار بغير النهضة...
لهذا كان حديثك دوما عن التقسيم التسلسلي للصناعات صناعات بسيطة، وصناعات متوسطة، وصناعات ثقيلة. وعلينا أن نحصل على أم الصناعات وهي الصناعات الثقيلة..صحيح أن مصر تبدأ خطوات النهضة في كل القطاعات تقريبا من الصفر..وكان على جيل الثورة..هذا الجيل الذي قلت عنه أنه جيل جاء في موعده مع القدر..أن ينجز بناء الصناعات الثقيلة فكان الاهتمام ببناء مصانع الحديد والصلب...
وكانت النهضة والأمن معا يمثلهما كنموذج في رأي المتواضع مصنع 36 إنه نموذج يوفر الانتاج المدني ( الثلاجات، البوتاجازات،المراوح الهوائية..ويصنع الطائرة ) صورة رمزية للإنتاج وضمانات أمنه...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كانت اهتماماتك الأساسية أولا وأخيرا منصبة على بناء الإنسان لأنه العنصر الأساسي لبناء النهضة فبدونه يستحيل تحقيق أي تقدم. وكان البناء يجري على قدم وساق..توفير رغيف الخبز..يقود إلي استقرار اجتماعي، والاستقرار الاجتماعي..يوفر الثقة بالنفس، والثقة بالنفس تصل بصاحبها إلي الإرادة الحرة، والإرادة الحرة تصل بالفرد إلي امتلاكه لقراره..اليس هذا هو مضمون الحرية ومعناها ؟؟
لم يكن هذا يعجب النخب الطفيلية والمتاجرين بالدين. لم يعجبهم أن تسترد مصر حريتها، وأن يتوفر لأبنائها فرصة الخروج للحياة..للعالم يشاركون بجهدهم وإبداعاتهم جهود الآخرين..يشتركون مع قوي الخير في العالم في تأسيس نظام عالمي يتعايش فيه الجميع بسلام..ينبذون الحرب، وينبذون الاستغلال..ليفسحوا الطريق أمام تعاون بين الشعوب قائم على قواعد العدل كما كنت تقول وتنادي...
كان البناء معك وبك يا والدي الغالي يعلوا مع كل يوم. وكانت جبهة أعداء مصر أو أعدائك -لا فرق- منهمكة بالتحضير والاستعدادات للعدوان على مصر الثورة، مصر..أم جمال، أبو خالد وأبو فؤاد وأبو الملايين من الفقراء، كان حزب عصبة الأشرار معروف لنا جميعا إسرائيل ومن ورائها الغرب أو الغرب ومن ورائه إسرائيل يستعدون لضرب مشروع النهضة الناصري..وقوى التبعية في الداخل توزع أزيز الأفاعي وسمومها..وتعوي عواء الضباع الجائعة.. بغرض خلق حالة من التشكيك والارتباك...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كانت الضجة من حولك وحولنا لا تصل في نتائجها بأبعد من نتيجة واحدة أنك تسلك بنا الطريق الصحيح. وأتذكر يا ولدي أنك قلت لنا أنه إذا لم تسمع عويل الذئاب والكلاب المسعورة وسباب الكارهين لمصر كل يوم..كانت تساورك الشكوك بأن هناك خطأ ما..كان قياس ردود أفعال أعداء مصر وأعداء أمتها يمثلون لنا ولك بارومتر اختبار لما يجري على أرضنا. وليسمح لي القارئ أننا بعد ثورة يوليو تجرئنا وأصبحنا نقولها بفخر واعتزاز ( أرضنا ) فقبل ثورة يوليو كنا نمشي على أرض مصر هذا صحيح..لكنها لم تكن ملكا لنا المسموح لنا هو أن نمشي عليها..لا أن نمتلكها.
ولا يسمح لنا أن نقول هذه أرضي أنا..لكن جاء اليوم الذي أصبح في مقدور أبناء مصر أن يقولوها وقالوها في يوم الوغى..مع عدوان 1956 رددناها مع فايدة كامل هذه أرضي..أنا وأبي قال لنا مزقوا أعدائنا..وبالتأكيد كنت أنت (الأب) الرمز المتواري خلف وجدان شعب رفع رأسه لأول مرة متطلعا للحرية..لرؤية الشمس...
عندما بدأت مصر بالفعل تضع أقدامها على الطريق الصحيح..تأكد لنا من خلال ردود أفعال قوي الشر أن ما يفعله جمال عبد الناصر ويستجيب له الشعب العربي يهدد بنسف مصالح قوي الاستعمار وأتباعهم من الخونة المصريين. كانوا يدركون أن استمرار مصر في نهجها التحرري لن يقتصر عليها، بل سيتخطى حدودها إلي حدود الإقليم الذي تنتمي إليه..ومن حدود الإقليم إلي حدود العالم الثالث وستتحول إلي دولة ريادة. إذن فماذا سيتبقي لتجار الحروب في الخارج، والعاطلين بالوراثة في الداخل...
نعم تحولت مصر عبد الناصر إلي دولة نموذج أمام عالم المستضعفين حطمت جدار الخوف لتستبدله ببناء جدار الجسارة جدار الأمن..لها ولمن حولها..وكان تصنيع محرك الطائرة ( هـ 300 ) يمثل أحد صخور هذا الجدار في أمن مصر..قد تكون البداية متواضعة..واقسم واقسم واقسم انها لم تكن بداية متواضعة ولكنها كانت طفرة..وأن ما كانت تملكه مصر من آلات في مصنع 135 يتوازي مع ما تملكه أحدث المصانع في الغرب..لم يكن أحد يصدقنا ونحن نذكر لهم هذا...
أثار الاتجاه نحو بلوغ النهضة..ذئاب العالم المتحضر..لأنهم يدركون أن البدء بتصنيع السلاح بقرار وبأيدي مصرية يعني أول ما يعني وصولهم إلي المعرفة المتعلقة بأسرار السلاح والقدرة على انتاجه. والتجربة سواء في الغرب أو في إسرائيل خير دليل. فلم يبدأ الأمريكيون انتاجهم بطائرة الفانتوم وإنما بطائرة متواضعة..لكن الأهم من بناء الطائرة كان القرار الاستراتيجي باقتحام الفضاء..فمن يمتلك الفضاء ويمتلك السيطرة عليه..يمتلك تأمين الأمن الوطني..ويمتلك القدرة على اقتحام وتهديد أمن الآخرين...
جن جنون الصهيونية على تجربة انتاج الطائرة ( هــ 300 )، فبدأت بإرسال الغام مفخخة على شكل طرود بريدية بغرض قتل الخبراء الألمان وإثارة الذعر بينهم..وكانت هذه هي المرة الأولي الذي يسجل فيها التاريخ بداية الإرهاب عن طريق ارسال طرود بريدية كان الصهاينة هم أول من استخدم هذه الوسيلة الارهاب عن بعد...
ثم استكملت الصهيونية الخطوة الثانية بتكثيف الضغوط على الحكومة الألمانية التي أصدرت قانونا يسقط الجنسية الألمانية عن الألمان العاملين في مصنع 135، وعلى الألمان العاملين _فيما أعتقد_ في مصنع 333 الخاص بصناعة الصواريخ في حالة بقائهم في مصر والامتناع عن العودة لألمانيا...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر
أنا اكتب ما عايشته واقعا..كي تقرأه الناس خاصة الأجيال الجديدة، ليتعرفوا على مشروع النهضة الذي أنجزته ثورة يوليو وذلك من خلال قراءة تاريخ مدينة..ويتأكد لتلك الأجيال أنه في مقدورهم أن يستعيدوا مشروع النهضة..فالنهضة والثورة تلخصهما كلمة واحدة هي ( الإرادة )، فإذا ما استعادوا الإرادة..ظهر لهم الطريق إلي النهضة وأمن النهضة...
وعندما أحكي قصة مدينة حلوان فهذا ليس حديثا للتسلية، ولا هو تطفل مني على وقت القارئ..ما قصدته تحديدا أن قراءة تاريخ أي مدينة يعني إما أن يكون الحديث عن ماض أو يكون الحديث عن تاريخ والفارق بينهما كبير. فماضي مدينة حلوان الذي سجل بأنها كانت مدينة فرعونية، أو انها كانت عاصمة للأمويين، أو أنها كانت مكان يتثاءب فيه الخديوي إسماعيل ومن بعده أثرياء مصر ومنهم أسرة هذا الأراجوز أبو عيون زرقة وشعر أصفر واللي كان الملك فاروق بيقعدوا على حجره..كل هذا زال ماضي تجمد تحجر ليس فيه روح، أخبار مكتوبة فقط على حجر..أو تضمه أوراق كتاب.. أو تندر يتفاخر به تافه...
أما ما صنعه بناة مصر من العمال والمهندسين تحت قيادتك ظل قائما يحكي تاريخا نبضه تؤكده حركة التطور لأنها حركة حياة ومن يزور مدينة حلوان لن يحتاج لمرشد سياحي..سيتلمس التغييرات التي جرت على ارضها وما زالت تعيش مع الناس وهذا هو التاريخ الحي لم يتجمد ولم يتحجر، جريان نهر مياهه تتدفق ولا تتوقف..حتى ولو كره الكارهون...
والتغييرات التي لحقت بحلوان..هي تمثل سند وثائقي ومصدر معلوماتي لأي باحث يجري توظيفها في رصد التغييرات التي شملت شرائح اجتماعية مختلفة..فعلي سبيل المثال فإن مدينة حلوان شهدت تغيير اجتماعي لشريحتين من الشرائح الاجتماعية الموجودة في مصر، شريحة الأثرياء وأغلبهم من كبار ملاك الأراضي الزراعيين، وشريحة اجتماعية نامية هم العمال...
على أرض حلوان جري صعود اجتماعي لطبقة العمال، وجري أفول اجتماعي ( ولا أقول زوال ) لطبقة الأثرياء. جاءت الطبقة العاملة الصاعدة والمنتجة لتطرد الطبقة الناعسة الطفيلية الغير منتجة من مدينة حلوان..طاردتهم. لم تعد تقبل على أرضها أثرياء يتثاءبون كسلا..فلا مكان في حلوان لغير عامل منتج...
ما أردت التأكيد عليه هو أن قراءة تاريخ أي مدينة..هي قراءة حقيقية للتاريخ..وحدوتة حلوان سبقتها حواديت كثيرة..على سبيل المثال حدوتة مدينة المحلة الكبري ومصانع الغزل والنسيج الكبري التي أنشئها بنك مصر تحت قيادة طلعت حرب..وكيف فتحت مصانع الغزل والنسيج أبواب الرزق أمام آلاف الأسر المصرية..رحل عنا طلعت حرب لكن أثره الوطني ما زال حيا بيننا لأن مصانع الغزل والنسيج ما زالت قائمة ومنتجة..وهذا مثال آخر وفارق آخر بين الماضي المسجل على ورق ويوضع على رف..وبين التاريخ الذي يعيشه الناس كل لحظة...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
هذا الحراك الاجتماعي الذي عاشته مصر..نشأ عنه وعلى المستوي الانساني موقفين...
موقف الطبقة الاجتماعية الـْمُـسْتـَغـِلـِّة التي تنتج بأيدي غيرها، وتحصل وحدها على كامل عائد الانتاج. والتي فاجئها جمال عبد الناصر ومعه ثوار يوليو يقلمون أظافرهم، يهدمون سطوهم وسطوتهم..طبقة اجتماعية عاشت تأكل المال الحرام والجهد الحرام ولن يعفيهم أمام الخالق ما اقترفوه من ذنوب..حتى ولو كانوا يصلون خمسا.. هؤلاء كرهوك...
أما مصر..مصر مجتمع الفقراء..مصر الشعب..مصر أم الدنيا..مصر الفلاحين والعمال والمثقفون باختلاف توجهاتهم..ولا أقول المتعلمين..أعطتك من حبها، ومن ثقتها، ومن احترامها، ما لم تعطيه لأي إنسان ولد على أرضها من قبلك...
ومصر أم الدنيا هي التي لقبتك ( بالريس )..اسما لم تمنحه لأحد من قبلك..واستغرب عندما يتطفل الصعاليك مقلدين...
واختبرت يا والدي الحبيب حبها لك، وخوفها وهلعها عليك، يوم أن حاول القتلة تجار الدين من جوقة حسن البنا أن يغتالوك في الإسكندرية..هؤلاء الآن يمدون أيديهم للأمريكان قتلة العراقيين..وقتلة كل انسان حر على وجه الأرض..هؤلاء التلموديين طلاب السلطة وبأي ثمن..سوف يظلوا يكرهوك..ولهذا لا أمان معهم ولا سلام...
واختبرت ثقتها بك وحبها لك..يوم أن اصطفت مصر من خلفك رجل واحد لرد العدواني الثلاثي في عام 1956..تردد تكبيرة الأزهر الشريف، فكبرت معك الله أكبر ..الله أكبر يا بلادي كبري..وخذي بناصية المغير ودمري...
واختبرت حبها وثقتها بغير حدود..يوم أن أحاطت بك كتل من ملايين البشر يمنعون عنك أذي أعدائك بعد عدوان 5 يونيو 1967. فلأول مرة إن لم يكن في التاريخ العام لكل شعوب الأرض، فعلي الأقل فلأول مرة على أرض مصر يصدر الشعب العربي في مصر نيابة عن أبناء أمته..بإجراء استفتاء فوري بدون مراسيم يقول فيه..أنا الشعب العربي أرفض استقالة ولدي وبطلي وأمام كل العالم أعيد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة...
لم يكن هناك مجال أن يقال أن كل هذا جري بالتزوير، أو أن يقال كما تقول أفاعي جوقة حسن البنا أن هذا كان من تدبير أجهزة السلطة..عدسات التاريخ كانت ترصد وتسجل وهي لا تعرف التحيز، كانت تؤكد على واقع يؤكد على أن جمال عبد الناصر أصبح جزء طبيعي في كيان ووجدان كل عربي شريف...
حقيقة تبصق في وجوههم..وتظهر ضعفهم وأنهم لم يقدروا ان يتحملوا رؤية الحقيقة تـُخـْتـَبـَرُ في أعقد وأصعب المواقف..فراحوا كعادتهم..عادة الدجالين كتبة الأحجبة وإصدار الفتواي الباطلة إلي حيلتهم الدنيئة يمارسون الكذب..يكذبون كل شيء له صلة بجمال عبد الناصر...
لم يتحمل كارهوك أن يروا بعيون الحقيقة تأييد أمة لرجل..فراحوا يكذبون على أنفسهم وعلى الناس وعلى الله..فمن كان في شوارع مصر يومها كان هو شعبها الذي أحبك..جددوا لك البيعة وطالبوك أن تبقي حيث كنت قائدا ورئيسا..شعبا عربيا أدرك بالوعي الصادق أن من حاول أن يصيبك بالأذى..إنما قصد مصر وقصد أمتها...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
وأخيرا يا والدي في هذه المرة لم تختبر أنت حب مصر وأمتك...
لأنها كانت المرة الأولي التي تختبر فيها الأمة نفسها بنفسها فتأكدت من حبها لك وثقتها في الراحل العظيم...
حولت وداعك الأخير إلي وداع أسطوري لم يشهده التاريخ البشري لأحد من قبلك...
ولم تكن الملايين التي خرجت في وداعك تملأ شوارع مصر مدنها ونجوعها فحسب...
كان ما يجري في مصر من مراسيم للوداع الاسطوري هو صورة تكررت في مدن وشوارع ونجوع لبنان والعراق وسوريا وكل ركن من أركان الأمة التي استعادت حريتها وكبريائها مع أبو خالد...
يعتصرها الحزن..نعم فنحن بشر...
تجري دموعها أنهارا..نعم فنحن بشر...
لكنها بعد ان جففت دمعها عادت لترفع شعارك " أن ما أخذ بالقوة..لا يسترد بغير القوة "..فأنجزت حرب اكتوبر عام 1973..لتهدي نصرها لروحك الطاهرة.
والدي الحبيب جمــال عبـد الناصـــر
اللقاء الثاني..مع عيد الوحدة
بقلــــــــم : محمد فــؤاد المغازي:
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كل عام وأنت في جنة الخلد مقيم..حيث الصديقين والشهداء...
كان لقائي الأول بك في يوم ميلادك التسعين...
هذه هي المرة الثانية التي التقى معك فيها في عيد ميلاد الوحدة..وميلاد الجمهورية العربية المتحدة...
ولقائنا اليوم هو إذا سمحت لي أن استكمل لك الحدوتة..حدوتة من بيلا...
وفي كل مرة نبدي بالصلاة والسلام..على نبينا العربي الكريم الفقير، وعلى كل الأنبياء الفقراء الكرام...
بعد أن فرغت من تدوين اللقاء الأول معك يا أبي، وصلتني رسالة من أخي المحب الكريم الأستاذ سامي شرف وزير رئاسة شئون الجمهورية..ثائر من ثوار يوليو، واحد ممن أحبوك، أخلصوا لمصر ولأمتهم..وما يزال، محافظا على العهد..وما يزال...
قرأ ( حدوتة من بيلا ) فبعث برسالة هذا نصها:
" ابكيتنى يا رجل .. ربنا يسامحك يا فؤاد يا مغازى "
والحقيقة أنا لم أقصد أن أثير أحزان أخي الغالي..ولا أحزان أحد..صحيح أن بعدك عنا يثير فينا كل الحزن..لكن ما تعلمناه منك يثير فينا كل العزم..ويستنهض فينا كل مفردات المقاومة...
خاصة وأن الحدوتة التي سأرويها هذه المرة فيها ما يفرحك..كما أفرح أهلي وأفرحني يوم أن وصلتني رسالة تقول: لقد جري تعيينك في مصنع 135 للطائرات في حلوان وعليك استكمال أوراق التعيين...
ذهبت إلي حلوان..وكان تعييني في يوم 20/11/1959 ...
كانت حلوان لا هي بالمدينة ولا هي بالقرية...
بلدا غير آهل بالسكان فتعداد السكان قليل للغاية...
والبيوت أغلبها على شكل فيلات متباعدة...
وهناك لافتات تقول: غرفة للإيجار وشقة للإيجار...
ومناخها غريب لا تتساقط فيها الأمطار طوال العام إلا في النادر، وتظل الشمس رغم المطر ساطعة مبتسمة وكأنها تسخر من المطر الغير قادر على ارغامها أن تتواري خلف سحاب حتى يقال أن هناك فصل شتاء ..لكنها في الصيف شديدة الحرارة...
وعرفت فيما بعد أن حلوان هذه كانت منتجع الشتاء لأثرياء مصر..يلجئون إليها يستمتعون بدفء شمسها وبمياهها المعدنية التي تساعدهم على شفاء أمراضهم الجسدية..ويا ليتها شفتهم من أنانيتهم وذاتيتهم...
ويقال أن حلوان كانت في الأصل مدينة فرعونية..وأنها في مرحلة تاريخية كانت عاصمة الأمويين في مصر تحت قيادة عبد العزيز بن مروان..ويقال أن حلوان كانت الحضن الذي استقبل ميلاد الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز...
ويقال عنها _أيضا_ أن الخديوي إسماعيل باشا أدخل عليها من التحسينات بما يتلاءم ويتناسب مع مقامه الرفيع، كي تكون حلوان قادرة على توفير المتعه والراحة له ولحاشيته، ولعل الخديوي إسماعيل كان يستأجر من يتثاءب له، شأنه شأن خديوي مصر الحالي المقيم في شرم الشيخ...
أما آخر الحكاوي التي قيلت عن حلوان رواها ممثل لزج أسمه حسين فهمي دخل الفن من باب أن شعره أصفر وعيونه زرق..طلعته ليس لها أي علاقة بالجنس الموجود في شمال أفريقيا..قال هذا الشخص أن حلوان نصفها كان ملكية خالصة لأسرته، وأضاف أن الملك فاروق كان يـُجـْلـِسَـهُ على حجره ويدلعه قائلا: يا مليكي. وكان حديثه مليء بالسخرية والشماتة في ثورة يوليو..وافتخارا بالعصر المملوكي..وماذا ننتظر من شخص يتباهي أن الملك فاروق كان يجلسه على حجره ويدلعه !!!
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
مع مشروع النهضة لثورتك تغيرت معالم حلوان كليا..تحولت أرضها الصحراوية الخراب إلي حضانة لمصانع ناشئة تنمو مع السنيين إلا أن أصبحت حلوان وضواحيها أكبر قلعة صناعية على أرض مصر.
وأنا أذكر أن من بين المصانع التي انشأت بها مصنع 135، مصنع 36، مصنع 45، 54، مصانع النسيج والغزل، مصانع المطروقات، مصانع الحديد والصلب، مصانع الأسمنت وتوسيعها، مصانع السيارات، مصانع محركات الديزل، وتأسس بها أول معهد للتكنولوجيا تحول فيما بعد إلي كلية هندسة، وتوسع قطاع التعليم لينشأ على أرض حلوان جامعة...
في مصنع 135 التقيت ولأول مرة في حياتي مع خبراء أجانب من المانيا والنمسا وسويسرا. فمصنع 135 أنشأ بغرض إنتاج محرك طائرة نفاثة وكنا نعرفها باسم ( هـ 300 )، كان هناك محرك نفاس صنعته مصر عرف بالمحرك ( هـ 200 ) وهو نسخة من محرك اسباني خاص بطائرات التدريب للطيارين، أما محرك ( هـ 300 ) فهو محرك مصمم لطائرة مصرية مقاتلة سرعتها ضعف سرعة الصوت...
وأتذكر يا ولدي الحبيب ما قلته يوم أن أطـَلـَّيْـتَ علينا لتفتتح المصنع وكان من بين الكلمات التي قلتها للعاملين في المصنع : في الغالب الدول بتبعت أبنائها في بعثات للخارج علشان تتعلم، ما فعلته مصر هي أنها أتت بالمدرسة إليكم، وعليكم واجب هو أن تستوعبوا الخبرة الفنية في أقل فترة ممكنة لتقللوا مدة بقاء الخبراء الأجانب في المصنع لأنهم بيقبضوا بالعملة الصعبة ومصر في حاجة إلي العملة الصعبة...
كان اقتحامك بنا آفاق المعرفة، واستيعاب حقائق العصر ادراكا منك أن قوي الشر المتمثلة في قوي الاستعمار والصهيونية الراغبين دوما في السيطرة ومواصلة الاستغلال سوف تحول بكل الطرق بما فيها القوة المسلحة لمنع طلاب المعرفة والنهضة من بلوغ أهدافهم...
والغريب أنه من بين المصريين من كان يستكثر على بلده أن تنهض بهذه الطفرة..ويقولون أن هذا تبذير في الأموال..ظلت تلك المقولة معزوفة جوقة أتباع حسن البنا..يرددونها دون ملل أو كلل حتى يومنا هذا. بالرغم من أن ترويج مثل هذه الدعايات الكاذبة تهدر وتعرض أمن مصر للخطر. وتشكك في امكانية مصر في النهوض. لقد أرادوا لنا أن نبقي في دائرة الدراويش نأتمر بأوامر أفاقين جهلة حاقدين..همهم الأول والوحيد الوصول إلي السلطة..واجزم أنهم أفضل من قرأ واستوعب كتاب الأمير لميكيافللي...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كانت رؤيتك للأشياء تتخطي رؤيتنا فوعيننا بالأشياء في تلك المرحلة، وفي ظل مناخ اجتماعي لم نتعود عليه، جعلنا غير مهيئين أصلا أن نستوعب تلك النقلة التي لو مرت بالخيال لانبهرنا، فما بالك ونحن نلمسها بالمعايشة. فمن رؤية المحراث، والنورج، والساقية، حتى معرفتنا بما كان يسمي بالطائرات كانت علاقة سمعية فقط، فعندما نسمع أصوات عالية قادمة من السماء نعرف أنها أصوات منبعثة من طائرة وكانت تلك الأصوات تحرك لدينا الفضول لرؤيتها..لكني لم أراها أبدا...
وفجأة أجد نفسي أعمل في مصنع مهمته انتاج محرك طائرة نفاثة..نقلة نوعية بخيال قاصر في مواجهة واقع مجسد يحتاج فيه العقل والوجدان والخيال لوقت كي يهضم كل هذه الأشياء...
كنا على بداية الطريق إلي المعرفة التي كانت تنمو بحكم المعايشة، لكن ما كان غائبا عنا تفاصيل أسباب هذه التغييرات، فرؤيتنا للواقع الذي يتغير أمامنا بمعدلات متسارعة لا تصل بنا إلي معرفة ما وراء الأشياء، أو أبعاد ما كان مطلوبا منا تنفيذه. لم نكن نعي مثلا أن مصر عليها أن تعوض ما فاتها وبأسرع ما يمكن، فالمتربصين بها على استعداد للانقضاض في أي لحظة..لهذا لم يكن أمام الثورة غير أن تتجه بأبناء مصر إلي آفاق المعرفة وتطبيقاتها...
كانت الاستجابة لنداءاتك ولكل ما تحرضنا عليه أساسها الثقة فيك والمحبة كل المحبة لك..لم نتوقف لنقول قبل أن نبدأ معك مشوار النهضة أن علينا أولا معرفة أيهما خلق أولا البيضة أم الفرخة كما كان يفعل رواد قهوة النشاط والسفسطائيون من المتعلمين...
لكن مع الأيام ومع تعدد اللقاءات بحبيب الملايين..اللقاءات التي كانت تمثل لنا أمرين المعرفة والفرحة. وأعتقد يا ولدي الحبيب أن هناك علاقة بين المعرفة والفرحة..فبلقائك يتجمع الاثنان ويظهر التأثير المتبادل بينهما وينعكس في سرعة ما كنا نتعلمه منك..ومع مرور الأيام كانت المعرفة في حالة تراكم، والوعي في حالة نضوج..فما كنا نتعلمه منك وتشرحه بدون تعقيدات رغم أنها مواضيع تتعلق بفروع علوم مختلفة. فمثلا تلقينا دروس في علم السياسية بدون أن نبدأ قراءة الجمهورية لأفلاطون، أو نعرف شيئا عن القسمة المنطقية ودورها في تقسيمات نظم الحكم لأرسطو. كنا نتعلم منك علم المالية عندما تبدأ في شرح الموازنة العامة (الموارد، والإنفاق)..ونتعلم دروس في العلاقات الدولية..ودروس في التاريخ العربي والإنساني...
كانت جميع الدروس التي نتلقاها منك تتجه بنا إلي وجهة واحدة حيث الهدف النهضة النهضة..وأمن النهضة..فلا نهضة بغير أمن، ولا حرية لقرار بغير النهضة...
لهذا كان حديثك دوما عن التقسيم التسلسلي للصناعات صناعات بسيطة، وصناعات متوسطة، وصناعات ثقيلة. وعلينا أن نحصل على أم الصناعات وهي الصناعات الثقيلة..صحيح أن مصر تبدأ خطوات النهضة في كل القطاعات تقريبا من الصفر..وكان على جيل الثورة..هذا الجيل الذي قلت عنه أنه جيل جاء في موعده مع القدر..أن ينجز بناء الصناعات الثقيلة فكان الاهتمام ببناء مصانع الحديد والصلب...
وكانت النهضة والأمن معا يمثلهما كنموذج في رأي المتواضع مصنع 36 إنه نموذج يوفر الانتاج المدني ( الثلاجات، البوتاجازات،المراوح الهوائية..ويصنع الطائرة ) صورة رمزية للإنتاج وضمانات أمنه...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كانت اهتماماتك الأساسية أولا وأخيرا منصبة على بناء الإنسان لأنه العنصر الأساسي لبناء النهضة فبدونه يستحيل تحقيق أي تقدم. وكان البناء يجري على قدم وساق..توفير رغيف الخبز..يقود إلي استقرار اجتماعي، والاستقرار الاجتماعي..يوفر الثقة بالنفس، والثقة بالنفس تصل بصاحبها إلي الإرادة الحرة، والإرادة الحرة تصل بالفرد إلي امتلاكه لقراره..اليس هذا هو مضمون الحرية ومعناها ؟؟
لم يكن هذا يعجب النخب الطفيلية والمتاجرين بالدين. لم يعجبهم أن تسترد مصر حريتها، وأن يتوفر لأبنائها فرصة الخروج للحياة..للعالم يشاركون بجهدهم وإبداعاتهم جهود الآخرين..يشتركون مع قوي الخير في العالم في تأسيس نظام عالمي يتعايش فيه الجميع بسلام..ينبذون الحرب، وينبذون الاستغلال..ليفسحوا الطريق أمام تعاون بين الشعوب قائم على قواعد العدل كما كنت تقول وتنادي...
كان البناء معك وبك يا والدي الغالي يعلوا مع كل يوم. وكانت جبهة أعداء مصر أو أعدائك -لا فرق- منهمكة بالتحضير والاستعدادات للعدوان على مصر الثورة، مصر..أم جمال، أبو خالد وأبو فؤاد وأبو الملايين من الفقراء، كان حزب عصبة الأشرار معروف لنا جميعا إسرائيل ومن ورائها الغرب أو الغرب ومن ورائه إسرائيل يستعدون لضرب مشروع النهضة الناصري..وقوى التبعية في الداخل توزع أزيز الأفاعي وسمومها..وتعوي عواء الضباع الجائعة.. بغرض خلق حالة من التشكيك والارتباك...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
كانت الضجة من حولك وحولنا لا تصل في نتائجها بأبعد من نتيجة واحدة أنك تسلك بنا الطريق الصحيح. وأتذكر يا ولدي أنك قلت لنا أنه إذا لم تسمع عويل الذئاب والكلاب المسعورة وسباب الكارهين لمصر كل يوم..كانت تساورك الشكوك بأن هناك خطأ ما..كان قياس ردود أفعال أعداء مصر وأعداء أمتها يمثلون لنا ولك بارومتر اختبار لما يجري على أرضنا. وليسمح لي القارئ أننا بعد ثورة يوليو تجرئنا وأصبحنا نقولها بفخر واعتزاز ( أرضنا ) فقبل ثورة يوليو كنا نمشي على أرض مصر هذا صحيح..لكنها لم تكن ملكا لنا المسموح لنا هو أن نمشي عليها..لا أن نمتلكها.
ولا يسمح لنا أن نقول هذه أرضي أنا..لكن جاء اليوم الذي أصبح في مقدور أبناء مصر أن يقولوها وقالوها في يوم الوغى..مع عدوان 1956 رددناها مع فايدة كامل هذه أرضي..أنا وأبي قال لنا مزقوا أعدائنا..وبالتأكيد كنت أنت (الأب) الرمز المتواري خلف وجدان شعب رفع رأسه لأول مرة متطلعا للحرية..لرؤية الشمس...
عندما بدأت مصر بالفعل تضع أقدامها على الطريق الصحيح..تأكد لنا من خلال ردود أفعال قوي الشر أن ما يفعله جمال عبد الناصر ويستجيب له الشعب العربي يهدد بنسف مصالح قوي الاستعمار وأتباعهم من الخونة المصريين. كانوا يدركون أن استمرار مصر في نهجها التحرري لن يقتصر عليها، بل سيتخطى حدودها إلي حدود الإقليم الذي تنتمي إليه..ومن حدود الإقليم إلي حدود العالم الثالث وستتحول إلي دولة ريادة. إذن فماذا سيتبقي لتجار الحروب في الخارج، والعاطلين بالوراثة في الداخل...
نعم تحولت مصر عبد الناصر إلي دولة نموذج أمام عالم المستضعفين حطمت جدار الخوف لتستبدله ببناء جدار الجسارة جدار الأمن..لها ولمن حولها..وكان تصنيع محرك الطائرة ( هـ 300 ) يمثل أحد صخور هذا الجدار في أمن مصر..قد تكون البداية متواضعة..واقسم واقسم واقسم انها لم تكن بداية متواضعة ولكنها كانت طفرة..وأن ما كانت تملكه مصر من آلات في مصنع 135 يتوازي مع ما تملكه أحدث المصانع في الغرب..لم يكن أحد يصدقنا ونحن نذكر لهم هذا...
أثار الاتجاه نحو بلوغ النهضة..ذئاب العالم المتحضر..لأنهم يدركون أن البدء بتصنيع السلاح بقرار وبأيدي مصرية يعني أول ما يعني وصولهم إلي المعرفة المتعلقة بأسرار السلاح والقدرة على انتاجه. والتجربة سواء في الغرب أو في إسرائيل خير دليل. فلم يبدأ الأمريكيون انتاجهم بطائرة الفانتوم وإنما بطائرة متواضعة..لكن الأهم من بناء الطائرة كان القرار الاستراتيجي باقتحام الفضاء..فمن يمتلك الفضاء ويمتلك السيطرة عليه..يمتلك تأمين الأمن الوطني..ويمتلك القدرة على اقتحام وتهديد أمن الآخرين...
جن جنون الصهيونية على تجربة انتاج الطائرة ( هــ 300 )، فبدأت بإرسال الغام مفخخة على شكل طرود بريدية بغرض قتل الخبراء الألمان وإثارة الذعر بينهم..وكانت هذه هي المرة الأولي الذي يسجل فيها التاريخ بداية الإرهاب عن طريق ارسال طرود بريدية كان الصهاينة هم أول من استخدم هذه الوسيلة الارهاب عن بعد...
ثم استكملت الصهيونية الخطوة الثانية بتكثيف الضغوط على الحكومة الألمانية التي أصدرت قانونا يسقط الجنسية الألمانية عن الألمان العاملين في مصنع 135، وعلى الألمان العاملين _فيما أعتقد_ في مصنع 333 الخاص بصناعة الصواريخ في حالة بقائهم في مصر والامتناع عن العودة لألمانيا...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر
أنا اكتب ما عايشته واقعا..كي تقرأه الناس خاصة الأجيال الجديدة، ليتعرفوا على مشروع النهضة الذي أنجزته ثورة يوليو وذلك من خلال قراءة تاريخ مدينة..ويتأكد لتلك الأجيال أنه في مقدورهم أن يستعيدوا مشروع النهضة..فالنهضة والثورة تلخصهما كلمة واحدة هي ( الإرادة )، فإذا ما استعادوا الإرادة..ظهر لهم الطريق إلي النهضة وأمن النهضة...
وعندما أحكي قصة مدينة حلوان فهذا ليس حديثا للتسلية، ولا هو تطفل مني على وقت القارئ..ما قصدته تحديدا أن قراءة تاريخ أي مدينة يعني إما أن يكون الحديث عن ماض أو يكون الحديث عن تاريخ والفارق بينهما كبير. فماضي مدينة حلوان الذي سجل بأنها كانت مدينة فرعونية، أو انها كانت عاصمة للأمويين، أو أنها كانت مكان يتثاءب فيه الخديوي إسماعيل ومن بعده أثرياء مصر ومنهم أسرة هذا الأراجوز أبو عيون زرقة وشعر أصفر واللي كان الملك فاروق بيقعدوا على حجره..كل هذا زال ماضي تجمد تحجر ليس فيه روح، أخبار مكتوبة فقط على حجر..أو تضمه أوراق كتاب.. أو تندر يتفاخر به تافه...
أما ما صنعه بناة مصر من العمال والمهندسين تحت قيادتك ظل قائما يحكي تاريخا نبضه تؤكده حركة التطور لأنها حركة حياة ومن يزور مدينة حلوان لن يحتاج لمرشد سياحي..سيتلمس التغييرات التي جرت على ارضها وما زالت تعيش مع الناس وهذا هو التاريخ الحي لم يتجمد ولم يتحجر، جريان نهر مياهه تتدفق ولا تتوقف..حتى ولو كره الكارهون...
والتغييرات التي لحقت بحلوان..هي تمثل سند وثائقي ومصدر معلوماتي لأي باحث يجري توظيفها في رصد التغييرات التي شملت شرائح اجتماعية مختلفة..فعلي سبيل المثال فإن مدينة حلوان شهدت تغيير اجتماعي لشريحتين من الشرائح الاجتماعية الموجودة في مصر، شريحة الأثرياء وأغلبهم من كبار ملاك الأراضي الزراعيين، وشريحة اجتماعية نامية هم العمال...
على أرض حلوان جري صعود اجتماعي لطبقة العمال، وجري أفول اجتماعي ( ولا أقول زوال ) لطبقة الأثرياء. جاءت الطبقة العاملة الصاعدة والمنتجة لتطرد الطبقة الناعسة الطفيلية الغير منتجة من مدينة حلوان..طاردتهم. لم تعد تقبل على أرضها أثرياء يتثاءبون كسلا..فلا مكان في حلوان لغير عامل منتج...
ما أردت التأكيد عليه هو أن قراءة تاريخ أي مدينة..هي قراءة حقيقية للتاريخ..وحدوتة حلوان سبقتها حواديت كثيرة..على سبيل المثال حدوتة مدينة المحلة الكبري ومصانع الغزل والنسيج الكبري التي أنشئها بنك مصر تحت قيادة طلعت حرب..وكيف فتحت مصانع الغزل والنسيج أبواب الرزق أمام آلاف الأسر المصرية..رحل عنا طلعت حرب لكن أثره الوطني ما زال حيا بيننا لأن مصانع الغزل والنسيج ما زالت قائمة ومنتجة..وهذا مثال آخر وفارق آخر بين الماضي المسجل على ورق ويوضع على رف..وبين التاريخ الذي يعيشه الناس كل لحظة...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
هذا الحراك الاجتماعي الذي عاشته مصر..نشأ عنه وعلى المستوي الانساني موقفين...
موقف الطبقة الاجتماعية الـْمُـسْتـَغـِلـِّة التي تنتج بأيدي غيرها، وتحصل وحدها على كامل عائد الانتاج. والتي فاجئها جمال عبد الناصر ومعه ثوار يوليو يقلمون أظافرهم، يهدمون سطوهم وسطوتهم..طبقة اجتماعية عاشت تأكل المال الحرام والجهد الحرام ولن يعفيهم أمام الخالق ما اقترفوه من ذنوب..حتى ولو كانوا يصلون خمسا.. هؤلاء كرهوك...
أما مصر..مصر مجتمع الفقراء..مصر الشعب..مصر أم الدنيا..مصر الفلاحين والعمال والمثقفون باختلاف توجهاتهم..ولا أقول المتعلمين..أعطتك من حبها، ومن ثقتها، ومن احترامها، ما لم تعطيه لأي إنسان ولد على أرضها من قبلك...
ومصر أم الدنيا هي التي لقبتك ( بالريس )..اسما لم تمنحه لأحد من قبلك..واستغرب عندما يتطفل الصعاليك مقلدين...
واختبرت يا والدي الحبيب حبها لك، وخوفها وهلعها عليك، يوم أن حاول القتلة تجار الدين من جوقة حسن البنا أن يغتالوك في الإسكندرية..هؤلاء الآن يمدون أيديهم للأمريكان قتلة العراقيين..وقتلة كل انسان حر على وجه الأرض..هؤلاء التلموديين طلاب السلطة وبأي ثمن..سوف يظلوا يكرهوك..ولهذا لا أمان معهم ولا سلام...
واختبرت ثقتها بك وحبها لك..يوم أن اصطفت مصر من خلفك رجل واحد لرد العدواني الثلاثي في عام 1956..تردد تكبيرة الأزهر الشريف، فكبرت معك الله أكبر ..الله أكبر يا بلادي كبري..وخذي بناصية المغير ودمري...
واختبرت حبها وثقتها بغير حدود..يوم أن أحاطت بك كتل من ملايين البشر يمنعون عنك أذي أعدائك بعد عدوان 5 يونيو 1967. فلأول مرة إن لم يكن في التاريخ العام لكل شعوب الأرض، فعلي الأقل فلأول مرة على أرض مصر يصدر الشعب العربي في مصر نيابة عن أبناء أمته..بإجراء استفتاء فوري بدون مراسيم يقول فيه..أنا الشعب العربي أرفض استقالة ولدي وبطلي وأمام كل العالم أعيد انتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية العربية المتحدة...
لم يكن هناك مجال أن يقال أن كل هذا جري بالتزوير، أو أن يقال كما تقول أفاعي جوقة حسن البنا أن هذا كان من تدبير أجهزة السلطة..عدسات التاريخ كانت ترصد وتسجل وهي لا تعرف التحيز، كانت تؤكد على واقع يؤكد على أن جمال عبد الناصر أصبح جزء طبيعي في كيان ووجدان كل عربي شريف...
حقيقة تبصق في وجوههم..وتظهر ضعفهم وأنهم لم يقدروا ان يتحملوا رؤية الحقيقة تـُخـْتـَبـَرُ في أعقد وأصعب المواقف..فراحوا كعادتهم..عادة الدجالين كتبة الأحجبة وإصدار الفتواي الباطلة إلي حيلتهم الدنيئة يمارسون الكذب..يكذبون كل شيء له صلة بجمال عبد الناصر...
لم يتحمل كارهوك أن يروا بعيون الحقيقة تأييد أمة لرجل..فراحوا يكذبون على أنفسهم وعلى الناس وعلى الله..فمن كان في شوارع مصر يومها كان هو شعبها الذي أحبك..جددوا لك البيعة وطالبوك أن تبقي حيث كنت قائدا ورئيسا..شعبا عربيا أدرك بالوعي الصادق أن من حاول أن يصيبك بالأذى..إنما قصد مصر وقصد أمتها...
والدي الحبيب جمال عبد الناصر...
وأخيرا يا والدي في هذه المرة لم تختبر أنت حب مصر وأمتك...
لأنها كانت المرة الأولي التي تختبر فيها الأمة نفسها بنفسها فتأكدت من حبها لك وثقتها في الراحل العظيم...
حولت وداعك الأخير إلي وداع أسطوري لم يشهده التاريخ البشري لأحد من قبلك...
ولم تكن الملايين التي خرجت في وداعك تملأ شوارع مصر مدنها ونجوعها فحسب...
كان ما يجري في مصر من مراسيم للوداع الاسطوري هو صورة تكررت في مدن وشوارع ونجوع لبنان والعراق وسوريا وكل ركن من أركان الأمة التي استعادت حريتها وكبريائها مع أبو خالد...
يعتصرها الحزن..نعم فنحن بشر...
تجري دموعها أنهارا..نعم فنحن بشر...
لكنها بعد ان جففت دمعها عادت لترفع شعارك " أن ما أخذ بالقوة..لا يسترد بغير القوة "..فأنجزت حرب اكتوبر عام 1973..لتهدي نصرها لروحك الطاهرة.