صفحة 1 من 1

دور المثقف في العمل الوحدوي

مرسل: الخميس يوليو 19, 2012 1:38 pm
بواسطة سعد الخثران
دور المثقف في العمل الوحدوي




أن تاريخ تجارب التوحيد السياسي يكشف بوضوح إن ليس هناك في هذا التاريخ من تجربة واحدة تقريباً كانت نتيجة مسًبق لها أو وعي كان يرمي إلى تحقيقها في الشكل الذي انتهت إليه، لهذا يمكن القول إن الوحدات السياسية الجديدة كانت تحدث للإنسان، والإنسان لم يكن يحدثها في الإطار الذي انتهت فيه. هذا الوضع استمر حتى وحدة الولايات المتحدة، في أواخر القرن الثامن عشر، وحدة إيطاليا،ووحدة ألمانيا في القرن التاسع عشر، في هذه الوحدات برز لأول مرة الوعي الوحدوي المنظَّم والمنظِم الذي يخطط ناجحاً ومقدماً لعملية التوحيد السياسي في حدود جغرافية معينة، هذا التحول" خطير" لم يكن صدفة أو ظاهرة عرضية، بل كان جزءاً من الثورة العلمية الجديدة التي حدثت في القرن السابع عشر، هذا كان يعني، في دوره ظهور دور المثقف المنظَم والمنظِم في تشكيل الاتحادات أو الوحدات السياسية فيما بعد…




التاريخ كان باستمرار يتحول ويتطور نتيجة ضرورة أو جدلية داخلية، وليس نتيجة إرادة واعية، هذا كان يعني إن النتائج التي كانت تترتب على فكر أو دور المثقف كانت هي الأخرى لا تنتج عن إرادة واعية لها، ولكن ابتداء من العقلانية الفرنسية، في القرن الثامن عشر نرى إن الوضع تغير، وأننا أمام منعطف تاريخي جذري من هذه الناحية، يعلن بوضوح عن ولادة دور المثقف في التدخل ليس فقط في صنع الوحدات السياسية، بل في جميع المستويات السياسية والثقافية، في تنظيم المجتمع في أشكال جديدة، وفي صنع التاريخ نفسه، إنني أشير هنا- كمثل عابر، إلى المفكر واحد من مفكري وفلاسفة العقلانية (سياس) في كتابه (ماهي الطبقة الوسطى) الذي يقدم فيه صورة مختصرة عن فلسفة القرن الثامن عشر …


في هذه النشرة كان (سياس) المؤلف الأول لأكثر النشرات السياسية نجاحاً في العصر الحديث "البيان الشيوعي" كان بصرف النظر عن النجاح الذي حققه فيما بعد، دون أي أثر كبير عند صدوره، فلأول مرة في العصر الحديث، وعلى الأرجح عبر التاريخ كله، صدرت نشرة سياسية لمثقف سياسي أخذ يدرسها ويرجع إليها بوعي وحماس رجال الدولة والسياسة، والمواطن العام، وحتى الرأي العام في أوسع معنى ممكن، وذلك كدليل للعمل السياسي، كمنطلق لهذا العمل، وليس فقط كتحليل للواقع ينطوي على تأملات حكيمة، ومحفز في أحسن الأحوال على أفكار جديدة كما كان يحدث في الماضي، هذا كان يشكل في ذاته حادثاً يتميز بأهمية فريدة لا يمكن قياسها…


ماكيافيللي كان، في الواقع، أول فيلسوف أراد تطويع المصادفة أو آلية العمل السياسي بغية سيادة المستقبل، وذلك بمباشرة حملة إعلامية هدفها، إقناع الآخرين أو الجمهور بمبادئ يقول بها ولكن عمله بقى محدوداً جداً…


جميع الفلاسفة كانوا سابقاًً، وفي اتجاهاتهم، يخضعون لواقع يعترفون به وهو إن تعاليمهم، التعاليم الصحيحة لن تحل محل ما يعتبرون تعاليم خاطئة، بل تتعايش معها، إنهم كانوا يقدمون هذه التعاليم لمعاصريهم وللأجيال القادمة، دون إن يحكموا حتى بسيادة مستقبل الفكر الانساني من ناحية عامة، وعندما كانوا يصلون، كفلاسفة سياسيين، إلى نتائج معينة حول النظام السياسي الصحيح، فإنهم كانوا لا يعتقدون للحظة واحدة بأن التعاليم السياسية الصحيحة هي، أو يمكن إن تكون، تعاليم المستقبل..


هذه النشرة كانت تمثل بالتالي منعطفاً تاريخياً جذرياًً في دور الفكر الواعي المنظم كعامل تاريخي القصد منه تحويل العمل السياسي إلى برنامج منسّق يستطيع إن يسود الواقع وينظمه في ضوء مقاصد معينة، قبل هذه النشرة كان دور الأفكار التأمل في الواقع والعمل على إدراكه، ولكنها كانت دون أثر مهم في صنع التحولات السياسية، فهيمنة التقاليد السياسية الاجتماعية العميقة الجذور كانت تعني اعتماد الأنظمة السياسية أو الدولة على جماعات أو طبقات تمارس العمل السياسي كنشاط خاص بها، وترجع إلى تقاليد أو ولاءات سياسية عميقة الجذور تغذي الاستمرارية التاريخية والاستقرار السياسي، ولكن العقلانية الفرنسية كانت تعني انقطاعاً جذرياًً حل فيه العقل محل التقليد، مما كان يعني ظهور الوعي العقلاني المنظم والمنظِم، أي ظهور المثقف، كقوة مهمة جداً في العمل السياسي…


هذا التحول كان يعود إلى عوامل تاريخية عديدة بالإضافة إلى الثورة العلمية التي أشرت إليها- اقتصر هنا على الإشارة العاجلة إلى أحدها وهو إن عصر العقلانية كان العصر الذي أخذت فيه الأفكار التي تصدر عن هذا العقل المنظَم والمنظِم، تصل إلى الجماهير وتتسرب إليها، مما كان يعني ظهور التشكيلات الإيديولوجية كقوة تاريخية مهمة في صنع العمل السياسي…


هنا يجب التنبيه إلى جانب آخر مهم يجب الانتباه إليه عند الكلام عن هذا المنعطف التاريخي المهم في ظهور دور المثقف الحديث الذي يعبر عن هذا العقل، وهو إن الدور لا يعني دراسة الكتب التي تمثله أو الاطلاع على الأفكار التي تقترن به، لأن هذا الوعي كان ينتقل أساسياً وبشكل عام إلى الناس بطرق غير مباشرة، عن طريق تبسيطات، تعميمات، شعارات أو صيغ بسيطة مبسطة، وبشكل خاص عن طريق إسهامها أو حتى مسؤوليتها في خلق مناخ فكري عام يفرض على العمل السياسي التوجه في المسالك معينة نحو صياغة الواقع في صور جديدة..


هذا يعني إن ما درج عليه كثير من المفكرين والمؤرخين في قياس الدور الذي يمارسه المثقف الجديد وهو إحصاء عدد القراء لأعماله الفكرية أو أفكاره في المكتبات العامة، أو في صعوبة أو سهولة هذه الأعمال أو الأفكار، كان قياساً مغلوطاً..


لأن الأثر الذي تمارسه لا يرتبط بعدد هؤلاء القراء، بدرجة صعوبتها أو سهولتها، بل بإسهامها في تشكيل هذا المناخ الفكري الجديد الذي يتحرك فيه العمل السياسي، في توفقها إلى من يبسطها وينقلها في شكل مبسط إلى الناس، وفي التعميمات والصيغ البسيطة والشعارات التي يتم فيها انتقالها بشكل عام أو على صعيد عام..


إن نحن رجعنا –مثلاًً- كما صنع كثيرون –إلى هذا القياس في تقيم دور الأفكار العقلانية الفرنسية في صنع ثورة 1789 لما وجدنا أثراً يذكر له، هذا ينطبق أيضاً بوضوح على كتاب "الرأسمال" وكتب ماركس الأخرى كتب انجلز أو كتب لينين، على كتب جون لوك أو آدم سميث في الليبرالية، كتب داروين في الداروينية، أو كتب فرويد في الفرويدية الخ.. كم هو عدد الذين يقرأوا هذه الكتب أو بعضها بين الذين يعملون بها ويرجعون إليها؟.. ولكن لا يمكن إدراك العقل الحديث، أنماط التفكير والتجارب الفكرية والسياسية الجديدة دون الرجوع إلى هذه الكتب التي لا يمكن ضبط أثرها بالرجوع إلى هذه القياسات الإحصائية، لأن هذا الأثر يمارس ذاته، كما رأينا، ويمتد إلى جميع أبعاد العصر الحديث بطرق أخرى..


عصر التنوير لم يعلن فقط عن ولادة دور المثقف الحديث بل أراد هذا الدور بأن يتحرر في أشكال الفكر اللا علمية السابقة فيكون علمياً. "الفلاسفة" من كوندياك إلى مونتسيكو، من هلفسيوس، إلى هولباخ، من ديريرو إلى فولتير، إلى تورغو وكوندوسه، الخ.. كانوا يدرسون الإنسان من زوايا مختلفة، ولكن جميع دراساتهم، السيكولوجية، الأخلاقية الاجتماعية السياسية، الاقتصادية التاريخية يمكن إن تجمع معاً تحت عنوان أو موضوع واحد وهو الدراسة العلمية للإنسان..


في متابعة هذه الدراسة كان الفلاسفة الذين تعودنا على اعتبارهم ممثلين نموذجين لعصر التنوير، ينشغلون بتحريرها من الافتراضات اللاهوتية والميثافيزيقية، هذا كان يمثل إحدى السمات الأساسية التي تميز فكر ذلك العصر. القصد لم يكن الوصول إلى استنتاج نظام شامل من مبادئ مبينة في ذاتها، لا تحتاج إلى دليل خارج ذاتها، بل إدراك المعطيات الأمبيريقية عن طريق المطابقة بينها في قوانين أمبيريقية يقوم الدليل عليها..


مفكرو وفلاسفة عصر التنوير كانوا ولا شك يختلفون فيما بينهم، ولكن كانت هناك أرضية مشتركة تتشكل من مجموعة من الفرضيات الأساسية يشاركون فيها وينطلقون منها، إنهم كانوا يؤمنون، في خطى ديكارت، بحقيقة موضوعية مستقلة في ذاتها. تقف خارج إرادة الإنسان، ولكن يمكن للإنسان إن يكشف عنها ويدركها، فالطبيعة رتبت أمورها بشكل يدعو إلى تطابق مباشر غير مخطئ بين الأشياء وبين قوانا الإدراكية، الجهل أو المشاعر والمنافع الخاصة التي تعمى أحكامنا، والتي تترتب على تعليم سيء أو تأثير مصالح غريبة عن الإنسان هي التي كانت تحول دون رؤيتنا للواقع ودراسته دون خطأ..


العقلانيون والأمبيريقيون في القرن الثامن عشر كانوا، سواءً بسواءً، وعلى نقيض خصومهم، يقيمون نظرياتهم على التجربة وحدها، هذا التأكيد على الأمبيريقية كان لا يتجه ضد العقلانية الفلسفية ولكن ضد استبدادية الاتجاهات الدينية وتعاليم التقليد. ولكن الفرضية العقلانية الأولى حول الإنسان في ذاته، أو الطبيعة الإنسانية نفسها كطبيعة تنطوي نهائياً على ميزة أساسية موحدة لها وهي العقل كانت لا تنسجم مع هذه الأمبيريقية أو بالأحرى تنحرف بها عن ذاتها.


أشكال الفكر الأخرى من سابقة ولاحقة، كانت تميل بدرجات مختلفة إلى الانطلاق من مفاهيم خارج الواقع الأمبيريقي تحاول بها تفسير هذا الواقع، أو في اعتبارات حول ما يجب إن يكون، وما هو مرغوب به كعمل أو نظام سياسي، وفي ضوئها تحدد مقومات، قواعد أو ميزات هذا العمل، الفكر الاجتماعي السياسي العلمي، الذي كان امتداداً لعقلانية عصر التنوير، ينطلق من واقع معاكس تماماً: من تقرير وصفي، تفسيري لواقع سياسي معين، أو لظواهر واقعية في تقييم معقولية أو ملاءمة الاختيارات السياسية التي تواجهنا. إن مفكراً كبيراً كماكس فابر مثلاًً، قد يختلف عن ماركس، في كونه يرى إن دراسات كهذه تكون حرة من القيم بمعنى أنها لا تحدد ولا تستطيع إن تحدد ما يجب على الناس صنعه (هذا على الرغم من إنه حول، كما صنع أخرون من قبله ومن بعده، من هوبز إلى ياريتو، ما يكشف عنه كاتجاهات تاريخية أو اجتماعية ضرورية إلى فضائل نظرية إن لم تكن أخلاقية) ولكن كلاهما كان ينطلق من الواقع الأمبيريقي، من جدلية، قوانين أو انتظامية الظاهرة التي ينشغل بها، هذا ينطبق طبعاً وإن كان بأشكال مختلفة، على كل عالم اجتماع منذ ظهور علم الاجتماع الحديث وقبل هذا الظهور الحديث في رائده الكبير ابن خلدون وقبل ابن خلدون في إرهاصاته الأولى في أرسطو.


كثير من المؤرخين والمفكرين أشاروا إلى "السطحية" الفلسفية التي تميز العقلانية الفرنسية في بعض جوانبها على الأقل، ولكن هذا وإن افترضنا جدلاً صحته، لا يجب إن يدفعنا إلى تجاهل أو عدم رؤية الأهمية التاريخية التي ميزت هذه الحركة، هذه الأهمية لا تعبر عن ذاتها في نتائج معينة يمكن الإشارة إليها، بل في إسهامها في تشكيل رؤيا جديدة إلى الحياة، عقلية جديدة هي العقلية العلمية، والرجوع إلى هذه العقلية أو الاعتماد عليها في تجديد المجتمع وحتى الإنسان نفسه، فلاسفة عصر التنوير النموذجين كانوا، بالانطلاق من هذا المبدأ، يرون بأن تجديد أوضاع الإنسان تجديداً جذرياًً وبطريقة تحقق سعادته وتكامله يشكل تحولاً يتوفر له، ولكن بشرط إن يحرر نفسه من المفهوم القائل بأن قدره يرتبط بقوى غير طبيعية تعبر عنها سلطات لاهوتية وميتافيزيقية، وبأن يتبع من ناحية أخرى الطريق التي يحددها العقل أو هذه العقلية العلمية.


هذا التحول يعني أنه يكون قادراً على خلق الوسط الاجتماعي السياسي الذي يمكن فيه ازدهار أخلاقية إنسانية حقيققية، وتحقيق أكبر خير ممكن لأكبر عدد ممكن من الناس، إن الفكرة التي أصبحت فيما بعد واسعة الانتشار والقائلة بأن نمو المعرفة العلمية التي تعني تنظيماً أكثر عقلانية للمجتمع السياسي ستدفع حتماً إلى زيادة وتوسيع سعادة الإنسانية وخلق مثل أخلاقية صحيحة، هذه الفكرة كانت من نتاج عصر التنوير..


هذا يعني إن جوانب الخلل التي تواجهنا في هذا المجتمع ليست في طبيعة هذا المجتمع أو في الأعمال السياسية ذاتها، بل في كونها تترتب على انحراف الإرادة أو الوعي عن العقل العلمي في معالجة القضايا التي تواجهنا.


الطريقة الوحيدة في معالجة هذا الخلل هي إذن الرجوع إلى التجربة، تقييم أو إثبات هذه الأعمال والمعتقدات التي ننطلق منها في ضوئها، فنرى إن كانت تنسجم معها، أي الانتظامية أو العلاقات الثابتة التي تكشف عنها، فنقبلها، وإن كانت لا تتطابق معها فنرفضها..


دور المثقف الحديث كان إذن يقترن، منذ بداية ظهوره في العقلانية الفرنسية، بالعقل العلمي ويرجع إليه، هذا الدور كان من مواليد هذا العقل. فكرتان أساسيتان يقوم عليهما العقل الحديث، وتخترقان هذا العقل ابتداء من العقلانية الفرنسية في القرن الثامن عشر حتى عام 1989 م، قوانين أو انتظامية موضوعية يجب على العقل الكشف عنها والعمل معها، وحرية تتحقق في إدراك هذه القوانين والانتظامية، المفهوم العلمي الحديث يرى في العلم عملاً فعالاً يسمح للإنسان، بقدر إدراكه للطبيعة، للمجتمع أو لأية ظاهرة أخرى بأن يتدخل بشكل منظم في موضوعه فيغيره وفق رغباته. (هيجل) كتب بأن العقل يحكم العالم وبالتالي التاريخ، قد يكون ذلك خطأ أو صواباً، فهذا أمر لا أدخل فيه هنا، ولكن ما يمكن توكيده أو يجب توكيده هو إن العقل العلمي هو أداتنا الأساسية في تحرير الإنسان وفي بناء قدرتنا على التدخل في العالم وتحقيق سيادة ما له..


هذا العقل العلمي يخترق، في هاتين القاعدتين جميع أبعاد العقل الحديث الأساسية، من علم التحليل النفسي، إلى علم التاريخ نفسه، في أحد الكتب الأخيرة التي قرأتها حول طبيعة التاريخ والمنهج العلمي في دراسته يكتب المؤلف وهو مؤرخ كبير، بأن دراسة الوقائع التاريخية الفردية شيء، ودراسة العلاقات التي تربط بينها شيء آخر يختلف جداً، لأن ذلك يساعدنا في الكشف عن القوانين أو الانتظامية التي تنظمها ثم يضيف بأن القضايا العلمية لا نجد حلاً لها للتصويت عليها، أو في أصوات أكثرية، بل في القوانين المتأصلة ضمن الظواهر التي ندرسها، عندما نقرر قوانين معينة نخلق علماً معيناً.. ودون قوانين كهذه تكون أهم الآراء دون قيمة..


ولكن عندما يملك المفكر معرفة لقوانين الحركة التاريخية يستطيع إن يتحدى بنجاح معارضة العالم الفكري كله، هذا هو مجد العلم.


إن نحن جردنا العلم من مفهوم القوانين أو الانتظامية التي تنظم موضوعه، تكون النتيجة أمبيريقية صرفة، أي معرفة ليست حقاً معرفة، وهي عندما تكون معرفة تعجز تماماً عن مساعدتنا بأي شكل جدي في معالجة قضايا المرحلة الانتقالية التي نمر فيها، وفي طليعتها القضية الوحدوية، إن أفكار الأكثرية الساحقة من المثقفين العرب حول محور هذه القضية أو الطريق إلى دولة الوحدة دليل واضح على ذلك، هذه الأفكار هي في الواقع، آراء توحي وكأن القصد منها هو التمرد على العقل العلمي وتغذية الجهل به. كل علم يجب إن يشق طريقه عبر غابة من هذه الآراء والأفكار الخاطئة، ولكن هناك مرة أخرى، مقياس لا يخطئ، يذيب كل تحيز، وهو مطابقة التفسير أو الأفكار مع الواقع كما يصنع نفسه، دون هذا المقياس، دون هذا الاختيار النهائي يصبح كل علم مستحيلاً..


المعرفة العلمية الصحيحة في معرفة جامعة وأساسية حول الظاهرة التي ندرسها، وغيابها لا يعني إن الناس لا يعتمدون أفكاراً ومفاهيم معينة حول الظاهرة التي ينشغلون بها، بل إن الفكر يعتمد آنذاك "الآراء" في ذلك، فهذه الأخيرة تتقدم وكانت تاريخياً تتقدم عليها، دور المثقف هو إذن استبدال آراء سائدة حول القضايا التي ننشغل بها بمعرفة علمية تحل محلها، الفكر السياسي لا يبالي في ذاته بهذا التمييز، ولكنه يصبح علمياً عندما يعيه ويعمل على تجاوزه بالتحول عن الآراء إلى هذه المعرفة، الفكر الذي يعالج هذه المشاريع الوحدوية كان منذ بدايته ولا يزال أساسياً فكر آراء وليس فكر معرفة علمية في معناها الصحيح.


وظيفة العقل الموحدة واضحة في العلم، فالأحداث والوقائع الفردية تجمع في إطار العام أو بالأحرى النظام العام الذي يقف وراءها، أي قوانين تنظمها وتكون أكثر تعميماً وقليلة العدد، في هذا الصعيد يكشف العقل العلمي عن ميل إلى الاستيعاب، أي جعل الناس يفكرون بطريقة مماثلة حتى وإن كانت مشاعرهم مختلفة، ولا شك إن المشاعر والمصالح تؤثر في الفكر، ولكن النقطة الأساسية هنا هي إن انتصار الفكر العلمي يعني توحيد الناس بدلاً من تجزئتهم، توحيد الوعي بدلاً من بعثرته، توحيد الذات بدلاً من شرذمتها.


هذه الملاحظات العابرة حول العقل العلمي لا تعني إن العلم يقتصر، كما هو بالنسبة للوضعي، على صياغة قوانين تمثل العلاقات القائمة بين الظواهر الحسية، وتجعلنا قادرين على التنبؤ وسيادة الواقع، لأن العلم يرمي أيضاً إلى إدراك العالم والوسيط الخارجي وإلى عقلنة متزايدة للواقع….


هذه الملاحظات لا تلتقي أيضاً مع المفهوم الوضعي حول تحقيق المعرفة العلمية في شكلها النهائي، فنحن لا نستطيع، مهما تكاملت هذه المعرفة استثناء حدوث تحولات جذرية فيها…


هناك في الواقع هدف أعلى، ولكنه هدف ينحسر باستمرار رغم حدوث أو واقعية التقدم، إن كنا نرى في وضعية (كونت) ممثلاًً للطور الثالث في الفكر الإنساني يجب إن نضيف بأنه يجب تجاوز هذا الطور لأنه يمثل حاجزاً أمام نشاط العقل الخلاق….


عندما نتكلم عن أزمة الفكر الوحدوي، أي فكر ثوري، يجب التمييز بين معنيين يمكن تحديد الأزمة بهما، المعنى الأول يشير إلى مشكلة جزئية تكشف عن فشله في قيادة العمل الوحدوي في معالجة مشكلة معينة، أو عن نكسة تصيبه في إحدى محاولاته. المعنى الثاني، وهو المعنى الذي يمكن إن يحدث فيما بعد تحولاً جذرياًً فيه أو له، يكشف إن النموذج الفكري العام الذي يمثل صلب وقاعدة هذا الفكر هو نموذج مغلوط دلّل باستمرار على عجزه المتكرر في معالجة قضاياه الأساسية معالجة فعالة، أو بأن يدفع أو بأن يسهم إسهاماً فعالاً في دفع الواقع تجاه مقاصده، هذا النوع من الأزمة هو الذي يواجه المثقف الوحدوي حالياً، وهو يعني فيما تعنيه، إن معالجة الأزمة وتجاوزها يفترضان تغيير هذا النموذج، وإحلال نموذج آخر محله، يستطيع به هذا المثقف إن يعالج ذاته ويتجاوزها، هذا لا يعني إن النموذج الجديد أو النظرية العلمية الجديدة التي تعبر عنه يجب إن تكون قادرة على ضبط جميع الجوانب الظاهرة التي تنشغل بها بدقة جامعة، لأنها لا تستطيع دون هذا إن تمارس دورها، كل ما ينتظر من النظرية كي تمارس هذا الدور بفاعلية هو إن توفر لنا، في أوضاع معينة، أكبر درجة ممكنة من الإدراك للواقع أو الظاهرة التي تنشغل بها، ففاعليتها أو صحتها الفاعلة ترتبط بالقدر الذي تستطيع به تنظيم الواقع من زاوية معينة ودفعه نحو المقاصد التي ترتبط بها……


إدراك أخطاء الماضي هو الخطوة الأولى في تصحيح مسيرة العمل الوحدوي، وأساس ذلك هو الإدراك بأن النموذج الفكري السابق كان خاطئاً فاسداً يجب استبداله بآخر يكون علمياً في تحديد طريق الانتقال إلى دولة الوحدة، هذه هي المشكلة الفكرية الأولى التي تواجه المثقف الوحدوي الذي لا يستطيع إن يتجنب أخطاء الماضي دون حل لها، المثقف العربي لم ينتقل بعد، من ناحية عامة، إلى هذا الصعيد…


الفكر الانساني حقق تقدماًَ هائلاً جداً في العلوم الطببيعية، وسجل قدراً مهما من التقدم في العلوم الاجتماعية، وذلك لأن هذه العلوم تعتمد على دقة التفكير من ناحية وعلى التجارب الحسية، من ناحية أخرى، مناهج التفكير كانت تتقدم ببطء ولكن باستمرار، إلى إن وصلت إلى المنهج العلمي الذي توّج نجاحها الضخم في العصر الحديث…


ولكن هذا لا ينطبق على الشعر، الأدب، أو الفن، من ناحية عامة، لأن الفكر في هذه الميادين لا يعتمد على صحة التفكير الموضوعي، بل على حيوية الخيال التي لا تتطلب تمرساً طويلاً في دراسة الوقائع والتجارب الامبيريقية، ولذلك كان لا يمكن لها بلوغ قمم عالية في الماضي…


الفكر الاجتماعي السياسي العربي نشأ في مجتمع لا يزال مجتمعاً تقليدياً، وفي تقليد عريق يسوده الشعر والبلاغة والأدب، وهو لا يزال يعمل بقدر كبير تحت تأثير هذا التقليد، فنراه يصل إلى ما يقول به، في كثير من الأحيان، عن طريق الخيال وليس عن طريق العقل العلمي، ويتراءى له ما حقّقه في الصعيد الأول يمثل ما كان يجب تحقيقه في الصعيد الثاني…


التعقيد الهائل الذي يميز الظواهر الاجتماعية السياسية في تفاعلها، في ديناميكتها، في جدليتها في تحولاتها، قد تذهل وتصعق الفكر الذي يحاول ضبطها موضوعياً في تعميمات علمية تكشف عن النظام العام الذي يقف وراءها وينظمها، ولكنها تشكل محكاً للفكر الذي يرتاح، إن صحّت امكاناته، للتحديات الكبيرة…


إن القدرة على استخراج العام من الخاص والكشف عن تعميمات علمية كهذه من ظواهر معروفة معينة هي أصعب ميزات الفكر الانساني وأكثرها ندرة، ولكن الفكر الكبير هو دائماً فكر لا يخاف أو يتردد أمام ذلك، من هذا النوع الذي يستطيع الكشف عن تعميمات موضوعية أو علمية تساعدنا في إدراك حركة التاريخ والمجتمع ككل، أو في أحد أطوارها، مراحلها، أو ظواهرها الأساسية، هذا هو التحدي الذي يواجه المثقف العربي في دراسة الظاهرة الوحدوية، وهي دراسة يحتاج إليها في خدمة قضيتنا الوحدوية، قضية نضالنا نحو دولة الوحدة ..


الإنسان يجد صعوبة كبرى في التحرر من جمود تراثه في أي صعيد تعودِّ عليه، إن بناء تفكير مستقل يشكل أكثر النشاطات الانسانية صعوبة بلّه، هو أكثر صعوبة بكثير من غيره، فمن الأسهل جداً جداً الاعتماد على صيغ وتشكيلات وأساليب فكرية أو ايديولوجية موجودة بدلاً من التفكير الذي يعني، فيما يعنيه، وعياً يخرج الإنسان من ذاته، ويسلخه عن وسطه فيقف على مسافة ما منهما يحلّلهما ويقيمهما وكأنه لا يشكل جزءاً منهما، هنا نجد سر هيمنة ليس فقط التقليد، بل نماذج فكرية فاسدة، أو طرق اعتباطية في التفكير رغم عجزها الواضح أو فشلها المستمر…


فشل العمل الوحدوي حتى الآن في تحقيق قصده أو تحقيق قفزة سياسية كبيرة نحو هذا القصد دولة الوحدة، يعود فيما يعود إليه إلى هيمنة نماذج وطرق تفكير في هذا النوع تحكمت في إدراكنا للطريق التي يمكن لها إن تقودنا إلى هذه الدولة. المثقف العربي مدعو إلى تصحيح هذه النماذج والطرق بأخرى تتجاوزها وتحل محلها…


المثقف الذي لا يعتمد وعياً علمياً صحيحاً يعبّر عن ذاته بنظرية موضوعية حول الظاهرة التي ينشغل بها، ينطلق تلقائياً آنذاك من مواقف تبشيرية، شطحات أخلاقية، أو في أحسن الأحوال عقلانية ذاتية ما، وبالتالي يصبح فكره عاجزاً عن الإسهام في إدراك طبيعة الظاهرة وجدليتها الخاصة، أو بتطويع الظاهرة لمقاصده، هذا يدفع المثقف في كثير من الأحيان إلى ربط كل شيء بالجملة، العبارة التي يستخدمها فإن هي كانت إيقاعية أو محفزة تكون قادرة على الانتشار، وتقديمه كمثقف مهم أو كبير في صفوف الانتيليجنسيا إلى إن تزول الجدة العابرة لتلك المواقف-الشطحات- أو العقلانية التي كانت تجد أساسها في الإخراج الفرازيولوجي، وليس في أي صياغة موضوعية أو علمية لموضوعها…


هذا يعني من ناحية ثانية، انزلاق أو احتمال انزلاق المثقف فيما يسمى، في الفكر الاجتماعي السياسي الحديث، بالنظرية "الشيطانية" أو " التآمرية" التي تفسر الثورة كنتيجة لعمل تآمري تقوم به بعض الجماعات الصغيرة السرية أو تعيد مساوئ وشرور نظام، وضع، أو سياسة معينة إلى مقاصد أو انحرفات ذاتية تميز مجموعة من القادة، أو قائداً معيناً، فتسلخ ذلك عن الأوضاع الموضوعية التي تفسرها، وتقف عندها وكأنها ظواهر عائمة لا علاقة لها بأوضاع كهذه، لو علم القيصر نيقولا الثاني … لو علم لويس السادس عشر‍… لولا انحرافات ستاين الذاتية‍… لما حدث ما حدث…


هذا واضح جداً في موقف المثقف العربي الذي يسرع في كثير من الأحيان أو حتى أساسياً، إلى إرجاع سلبيات وضعنا إلى انحرفات ذاتية فيسرع إلى الاتهام يضعف الشخصية، الانحطاط الأخلاقي، الانتهازية، الأنانية، العمالة الخيانة، الخ، كتفسير لها، لولا ذلك أو هذا القائد لكان الوضع على غير ما هو عليه، لو كان قادة دولنا القطرية من نوع آخر لما كنا نعاني ما نعانيه الآن من وضع فاسد، من ظلام دامس يلف الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه…


من ناحية ثالثة، يجب التنبيه أيضاً أنه دون هذا الوعي العلمي دون نظرية موضوعية أو علمية تعبر عنه، يتبعثر الكل الوحدوي، أي كل ثوري أو الترابط الجدلي بين جوانبه المختلفة، فيصبح المثقف ضحية آنية تسود الأحداث والوقائع التي يواجهها، وهذا يعني أنه يصبح عاجزاً عن تقدمها، وبدلاً من ذلك يتذيل بذيلها غير قادر على ممارسة أي ضبط لها، الضبط الذي يجب إن يميز العمل الوحدوي، أي عمل ثوري إن أردنا إن يكون فعالاً في تحقيق مقاصده، هذه الآنية تدّمر آنذاك إمكانات هذا العمل وطاقاته، فتخرج الأحداث عن إرادته وتتحول إلى حلقات منفصلة متنافرة يضيع في فوضاها وبلبلتها هذا العمل…


كل العمل الوحدوي يجب، كي يكون فعالاً، إن يتميز باستراتيجية واضحة فعالة ترتبط بمقاصد واضحة ثابتة. فالتغير ومن الضروري إن يتغير، هو التكتيك الذي يجب إن يرتبط بالأوضاع المتغيرة والطارئة، فيتغير معها، ولكن كي يمكن للتكتيك إن يكون فعالاً يجب إن يكون مرتبطاً بالقصد الوحدوي عن طريق الاستراتيجية التي ينطلق منها. لهذا يجب إن لا نرجع إليه أو نحكم عليه بشكل منفصل، في ذاته لأن الإطار العام الذي يعمل فيه، إطار القصد والاستراتيجية هو الذي يحدّد معناه، ولكن كي يصحّ هذا وجب إن تتوفر له نظرية علمية تحدّد ليس فقط القصد بل الاستراتيجية. دون نظرية كهذه تتبعثر العلاقة الجدلية التي يجب إن تربط بين القصد والاستراتيجية والتكتيك فيستحيل النظر إليها كجزء في مجرى عام يتجاوز آنية الأحداث، عندئذٍ يصبح العمل الثوري فريسة هذه الآنية…


الماضي والمستقبل يمثلاًن صعيدين زمانيين، نفصل عادة بينهما بصعيد ثالث هو الحاضر، ولكن أي تفكير موضوعي دقيق حول الموضوع يكشف إن هذا الحاضر غير "موجود" أو هو موجود في أحسن الحالات كلحظة عابرة في مجرى الزمان أو الصيرورة الدائمة، كلحظة تاريخية لأنه، أولاً يزول قبل إن نسجل حقاً وجوده،و لأننا ثانياً، نتجاوزه أثناء وجوده نفسه لأن إنسانيتنا نفسها التي تشكل إطاراً له تعني هذا التجاوز الدائم لذاتها، وبالتالي له في أية آنية تميزه، ولكن في الوقت نفسه ننظر إليه كشيء موجود يتميز بوجود يبدو وكأنه ثابت كي نوفر لوجودنا قاعدة ما ثابتة نسبياً على الأقل، ولهذا نعمل على تحقيق ذلك بالتمسك بأحداث الحاضر، بأحداثها وأقربها إلينا وكأنها قائمة في ذاتها، أو كأن كل حدث يمثل "واقعاً" أو حتى "كلاَّ" يمكن إدراكه والانطلاق منه في ذاته، رغم أنه يشكل لحظة عابرة، أو حلقة في سلسلة مترابطة الأجزاء، هذا الخرق لجدلية ترابط الأحداث كمجرى عام هو ما يسميه الفلاسفة، بـ "الحاضر الغرّار أو الخادع"..


الإنسان يشارك جميع الكائنات الحية في هذا الحاضر الغرار ولكن الفرق بينهما، بين الاول والثانية، هو إن الإنسان يستطيع عن طريق الخيال وحالياً العقل العلمي إن يوسع هذا الحاضر الآني، فينوعه ويإنيه عن طريق مفهوم، تصور تخطيط ما لصيرورة، لجدلية، لحركة ما، الأبعاد التي يمكن إن تعبر عن هذا التوسيع ترتبط إذن بالمعرفة التي تمثل توسيعاً اصطناعياً للذاكرة، للعقل أو الخيال، للماضي والمستقبل، ولكن ما يميز الوعي العلمي عن أشكال الوعي الأخرى هو إن الأول يحاول هذا التوسيع عن طريق الكشف في الأحداث نفسها عن نظام عام ينتقل بها من ماضيها إلى مستقبلها عبر حاضرها، كي يمكن لنا إن نعلو على الأحداث كأحداث أو بكلمة أخرى على أنثيتها الزائلة، يجب إن نكون قادرين على توقع ما سيحدث أو يمكن إن يحدث في المستقبل، مسلّحين بوعي يمكن له إن يساعدنا على توقع النتائج، الاتجاهات، أو الاحتمالات التي يمكن إن يتمخض عنها ديناميك الحاضر في حركة المستقبل، إن كانت أشكال وعينا قاصرة على الحاضر وآنية أحداثه، أو إن كانت تعمل على تجاوز ذلك بتصورات أخلاقية تبشيرية، فإنها تعجز عن تجاوزها واستكشاف حركتها، وماقد يترتب عليها في المستقبل، أشكال كهذه تصبح جوفاء، قصيرة المدى، متقوقعة في آنية الأحداث المباشرة، وتتحول بالتالي إلى فريسة تداهمها، تفاجئها، وتتلاعب بها التطورات المقبلة التي تفرزها الحركة، الصيرورة، أو بكلمة أخرى، القوانين أو الانتظامية التي تحدد اللحظة الحاضرة…


الوعي العلمي هو إذن المخرج من هذه الآنية والتجزيئية التآمرية، التشرذمية وهي الانحرافات القاتلة لإمكانات وطاقات العمل الوحدوي، أي عمل ثوري، فإن كان وعينا، الوعي الذي نعالج فيه الظاهرة التي ننشغل بها، وعياً علمياً، نستطيع آنذاك ضبط الوقائع والأحداث في اتجاه عام يحدد حركتها في المستقبل، ويجردها من الآنية التي تبدو بها ولكن إن لم يكن الوعي من هذا النوع فإنه يصبح فريسة هذه الآنية..


في كتاب "دور النظرية الثورية" كتبت إن لم يعتمد العمل الثوري نظرية موضوعية أو علمية جامعة لموضوعه فإن الأفكار تصبح مريضة بالمعنى الحرفي للاضطراب العقلي لأنها تشاركه آنذاك الانفصال عن الواقع، انقطاع الصلة معه، وتعقب مقاصد أو استخدام وسائل خيالية، الواقع ينتقم دائماً، وبشكل لا يمكن فيه لعمل أو نظام سياسي البقاء، على عكس مايمكن للفرد، إن كان مريضاً بشكل دائم…


والخروج من حالة مرضية كهذه يتم باعتماد العمل الوحدوي، أي عمل ثوري نظرية موضوعية أو علمية يمكن بها لهذا العمل الارتفاع فوق آنية الأحداث والوقائع اليومية إلى صعيد يستطيع إن يتطلع منه بمنظور يكشف عن ترابطها…


هذه الآنية واضحة في جميع المشاريع الوحدوية التي حاولنا تحقيقها…


مشروع الجمهورية العربية المتحدة كان المشروع الوحيد الذي خرج عن هذا المصير وإن كان دون نظرية وحدوية علمية قدمت له أو رافقته، وذلك لأن الوضعية الوحدوية الموضوعية التي لا يمكن دونها-كما تدل تجارب التاريخ الوحدوية- نجاح أي مشروع وحدوي، كانت متوفرة له، لأن حركة التاريخ نفسها كانت قد أفرزتها…


من ناحية رابعة يجب القول أيضاًُ أنه بالنسبة للعمل الوحدوي، أي عمل ثوري لا ينطلق من وعي موضوعي من نظرية علمية حول الظاهرة الوحدوية، يصبح كل شيء ممكنا له فيخسر النفس الطويل الذي يحتاج إليه، ويصبح قصير النفس عاجزاً عن الامتداد مع الأحداث وضبطها، لأنه يكون آنذاك دون أية عقلانية موضوعية يستطيع بها هذا الضبط، النفس القصير يطالب بنتائج مباشرة، ويرغب في رؤية نتائج عملية سريعة، ولكن العمل الوحدوي يعني استراتيجية طويلة الأمد، قد تحتاج إلى أجيال في تحقيقها، والأفكار الكبيرة كانت دائماً تتسرب ببطء وتحتاج إلى وقت طويل في تحقيق هيمنتها، النفس القصير يرى إن كل شيء يمكن إن يحدث إن أراد له إن يحدث، فيبذر طاقاته النفسية والفكرية، ويبعثر الإمكانات المتوفرة له في طرق غير فعالة، وعندما يرى إن النتائج التي يبغيها لا تتحقق يتعرض إلى الانزلاق في أحد المزالق الهدامة التالية: الخروج من المعركة، الانتهازية التي تستغل المعركة، أو الاعتقاد بخلل ذاتي متأصل في الذات القومية نفسها يعقلن فيه هزيمته… هذا النفس القصير كان دائماً وباستمرار يشكل ضعفاً رهيباً في العمل الوحدوي، والمثقف العربي مدعِّو إلى معالجته وتصحيحه، إذ دون ذلك لا يمكن لهذا العمل إن يكون فعالاً، أو إن يستقيم سيره نحو قصده الأعلى، دولة الوحدة، لكن كي يمكن لهذا المثقف تحقيق ذلك يجب إن يبدأ بنفسه فيصحح جذرياًً وعيه الوحدوي…


وأخيراًً يجب التوكيد بأن العمل الوحدوي، أي عمل ثوري، لا يعتمد نظرية علمية أو موضوعية ينطلق منها ويرجع إليها يصبح فريسة تجزيئية تنهك قواه وتقتل فاعليته. غياب نظرية كهذه يعني في أحسن الحالات، السقوط في المنهج التحليلي، أي الفصل بين الأجزاء التي يتشكل منها الكل الوحدوي، "وإدراكها" كموضوعات منفصلة دون ترابطها وتفاعلها الجدلي في هذا الكل. العمل الوحدوي يفرض؟، كي يكون فعالاً في الدفع نحو دولة الواحدة،الانطلاق من هذا الأخير…


ولكن بما إن الدولة الواحدة التي تمثله غير موجودة، فإن عملية التوحيد السياسي نفسها تصبح قاعدة هذا العمل، ولكن بما إن هذه العملية تكشف، كما تدل تجارب التاريخ الوحدوية، عن قوانين أو انتظامية عامة تنظم مجراها عندما تكون ناجحة، فإن الارتباط بهذه القوانين يكون الموقع الوحيد الذي يمكن منه الارتباط بالكل الوحدوي وتجاوز التجزيئية التي تهدد عمله لأنها تعني إن الأحداث يمكن آنذاك إن تفسر في دعم كل هراء، وأكثر السفاسف رداءة فيما يتعلق بالطريق إلى دولة الوحدة…


الناس بشكل عام، يفكرون في ضوء حاجاتهم ورغباتهم وتطلعاتهم اليومية وينشغلون بالأحداث المباشرة التي تواجههم. الفكر العلمي يفكر في ضوء المستقبل البعيد، وهذا يعني إن يواجه صعوبة كبرى في تغليب النتائج التي يصل إليها على هذا الميل العام الذي أشرت إليه والذي يغذّى باستمرار تلك التجزيئية..


العمل الوحدوي كان عاجزاً عن تمثّل العلاقة العضوية التي تربط من زاوية وحدوية بين الأحداث والوقائع التي يواجهها لأنه تجاهل الظاهرة الوحدوية عبر التاريخ، وما يمكن إن تكشف عنه من قوانين يجب عليه الرجوع إليها، المثقف الوحدوي كان طبعاً مسؤولاً يشارك أساسياً في المسؤولية عما حدث….


هذه النتائج السلبية، التي تترتب عل غياب وعي وحدوي علمي يعبر عن ذاته بنظرية وحدوية علمية جامعة تكون نتيجة دراسة علمية للظاهرة الوحدوية نفسها، كانت ترافق أساسياً العمل الوحدوي حتى الآن، وتقف مع عناصر وقوى أخرى طبعاً وراء هزيمة جميع المشاريع الوحدوية التي حاول تحقيقها، المشاريع الجديدة لا تختلف عن المشاريع السابقة، هذا يعني إن دور المثقف العربي سيكون في النتائج التي تترتب عليه، سلبياً وهداماً، فيها، كما كان في سابقتها، وكما كان بشكل خاص في المرحلة الناصرية التي توفرت لنا فيها وضعية وحدوية فعجز هذا المثقف عن إدراكها والعمل معها في الدفع نحو دولة الوحدة . هذا يعني أيضاً إن دور المثقف العربي كان حتى الآن جزئاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل. تصحيح هذا الدور أصبح قضية حياة أو ممات لوجودنا القومي، لأن هذا التصحيح يعني في الوقت نفسه تصحيح قواعد العمل الوحدوي ذاته..


المشاكل والتحديات الكبرى التي تواجه أمتنا يجب إن تجد حلاً لها أو طريقاً تستطيع بها الوصول إلى حل إن نحن أردنا تحرير الإمكانات والمارد والطاقات المتوفرة لهذه الأمة، هذه السياسة الوحدوية التي تنتقل من مشروع وحدوي إلى آخر فتحاول إن تجرب مرة ذلك المشروع وأخرى مشروعاً آخر، الخ … لها حدود في تجربة مشاريع كهذه والفشل فيها…


إن مقابر التاريخ ملأى بسجلات الأمم والحضارات والإمبراطوريات والأنظمة التي تحللت وزالت لأنها كانت عاجزة عن تجديد أو تغيير ذاتها في قوالب حياة جديدة تستطيع بها مواجهة التحديات التي تواجهها، تحديد وصنع هذه القوالب هما من عمل المثقف بشكل عام، ولكن كي يمكن لهذا المثقف القيام بذلك يجب عليه تجديد طريقة تفكيره، تجديد ذاته نفسها....

المثقف العربي لا يدل، وهذا حكم انطباعي أولاً في أكثريته الكبرى أنه يدرك ذلك، أو أنه بالتالي قادر على ذلك، وذلك لأنه لا يدرك إن هناك مشكلة في بنية تفكيره ذاتها، ولهذا أشرت سابقاًً بأنه جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل..

المصدر:

دراسات فكرية، الثقافة العربية


العدد التاسع السنة 16 أيلول 1989.