صفحة 1 من 1

دروس الوحدة .... محمد الخولي

مرسل: الخميس يوليو 19, 2012 1:39 pm
بواسطة سعد الخثران
دروس الوحدة .... محمد الخولي
خمسون عاماً مضت على تجربة الوحدة بين مصر وسورية.. حلّت هذه الذكرى الجليلة لكى تتيح لكل ذى عقل وبصيرة أن يراجع مسيرتها ويستوعب دروسها. ولكى تفهم أجيال الشباب بالذات كيف استطاعت أجيال سبقت أن تحقق هذا الإنجاز الوحدوى، وبحيث تستوعب هذه الأجيال الطالعة إمكانية تفعيل هذا الانتماء العروبى إلى أمة واحدة وثقافة ولغة ومصالح مشتركة أسوة بتجارب معاصرة ومتزامنة: ما بين الاتحاد الأوروبى إلى تجربة منظمة الأمريكتين، إلى تجربة الآسيان فى جنوب شرقى آسيا. وشتان ما بين هذا التفكير الموضوعى والأمين مع النفس والتاريخ بوعى دروس الوحدة.. واستيعاب أخطائها الداخلية وتحدياتها الخارجية.. وبين الإمعان فى التفلسف المغرض مجرداً من موضوعية التحليل.. إلى حد القول بأن الوحدة أضرت مصر(!).. لماذا يامولانا؟.. لأن عبدالناصر انشغل بمشاكل الزعامة عن مشاكل مصر(!). ثم تمضى آفة الفلسفة إلى مداها بالادعاء بأن الوحدة هى التى قادت مصر إلى التحول نحو الاشتراكية والتأميمات وما فى حكمها من إجراءات وتحولات اقتصادية. والمعنى الذى يحوم حوله مثل هذا الادعاء الأجوف هو النيل أساساً من أفكار وتوجهات عبدالناصر شخصياً الذى كان حديث العهد -المسكين- بالسياسة من حيث الخبرة والممارسة على نحو ما يزعمون. وما كنا لنهتم أساساً بمثل هذه المقولات لولا بقية من حرص على تفنيد هذا القدر من التهافت وخلط الأوراق. وبديهى أن وحدة 8591 أضافت إلى القاهرة رصيداً ثميناً من المكانة والمهابة والقدرة التفاوضية على صعيد علاقات مصر مع العالم الخارجى من شرقه الشيوعى إلى غربه الرأسمالى فى ذلك الزمان.. ولو عكف أى باحث محترم على تحليل ملابسات ونتائج رحلة ناصر إلى أمريكا إذ كان رئيساً لدولة الوحدة -الجمهورية العربية المتحدة- لأدرك بيقين موضوعى أيضاً قدر هذه المكانة التى كانت تتمتع بها القاهرة - الناصرية لا بوصفها عاصمة عبدالناصر الفرد بل باعتبارها العاصمة - القلب والمحور والقيادة لأمة تتوسط خارطة العالم، وتضم أكثر من ثلثى احتياطى الدنيا من موارد الطاقة، وتجيش صدورها - فى تلك الفترة العفية - بآمال كبار وأحلام بغير حدود. من هنا كان لابد وأن تشهد زيارة ناصر لنيويورك (سبتمبر 0691) خطاباً جامعاً أصغى إليه العالم وألقاه زعيم سياسى من منطقتنا وباللغة العربية الشريفة من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ولأول مرة فى التاريخ. وما كانت مصر - الوحدوية مشغولة بزعامة الرجل عن خطط التنمية والتعمير والتطور والارتقاء.. ولا أفضت بها -كما زعم المتفلسفون- تلك النزعة الوحدوية إلى تحولات الاشتراكية ونهج التأميم. لقد كانت مصر عبدالناصر، قبل الوحدة المصرية السورية، قد اعتمدت التأميم نهجاً لاسترداد قناة السويس وخوض ملحمة إدارتها وكفاءة تشغيلها على أرفع مستوى عالمى.. ومن ثم جنى عائداتها الطائلة التى مازالت تفيد من مداخيلها السنوية جموع شعبنا بمن فيهم -ولا بأس- شراذم المشككين والمغرضين والمتفلسفين. وفى أوج تجربة الوحدة -عام 9591 بالذات- وقّعت مصر -الإقليم الجنوبى أيامها للجمهورية العربية المتحدة- اتفاق إنشاء السد العالى. وفى آخر سنوات الوحدة بدأت القاهرة مرحلة التحول للمعدل الاجتماعى، تلك التى شهدت إنشاء القطاع العام ركيزة أول وأهم وربما آخر خطة للتنمية القومية فى ربوع الشمال من وادى النيل.. وهى خطة “على صبري” -عليه ألف رحمة ونور- وقد امتدت -كما هو معروف عبر سنوات الستينيات التى حققت- رغم أنف المشككين أعلى معدلات للتنمية التى شهدت بها دوائر البنك الدولى.. ومن المغالطات الرعناء القول بأن عبدالناصر كان ينقصه الوعى أو الفهم بأبعاد الموقف الإقليمى أو الدولى.. بذريعة أن عمره فى السياسة كان قصيراً.. والحق أن عبدالناصر بدأ اشتغاله بالسياسة، بمعنى الشأن الوطنى والقومى العام على مدار السنوات التى سبقت ثورة يوليو 2591.. والزعيم يحدثنا فى “فلسفة الثورة” عما يصفه بأنه طلائع -بمعنى إرهاصات- الوعى العروبى التى نشأ عليها منذ كان يخرج فى مظاهرات تهتف بسقوط وعد بلفور.. وكان ذلك قبل ثورة يوليو بنحو 71 سنة.. ثم يحدثنا عن نضج هذا الوعى العروبى من خلال تحصيله وقراءاته المتنوعة فى الكلية الحربية ثم فى كلية أركان الحرب. ثم جاء اختبار هذا الوعى العروبى على صراط الموت والحياة خلال معارك فلسطين عام 8491.. وبعدها أيضاً انشغل الضابط الشاب بالإعداد تنظيمياً لفعل التحول الثورى على مدى ما يقرب من 5 سنوات قبيل الثورة.. والمعنى من هذا كله أن لم يكن عبدالناصر مستجداً على الوعى السياسى.. وهو الذى استطاع تفعيل هذا الوعى وتحويله بداهة إلى إنجاز حقيقى بدأ مع فجر 32 يوليو، وظل متنامياً مع تحولات الإصلاح الزراعى والتصدى لسياسة الأحلاف الإمبريالية إلى ذرى تحرير قناة السويس وصياغة أول خطة للتصنيع - تصنيع مصر وليس تصنيع جواتيمالا أو باسوتولاند.. وقد أسلم هذا كله إلى ذلك الزخم الجماهيرى الذى لم يشهد له التاريخ العربى الحديث مثيلاً، وقد تجسد فى تجربة الوحدة التى لم تضّر مصر على ما يدعى المرجفون بل هيأت القاهرة صدقاً وفعلاً لقيادة النظام الإقليمى العربى. وما كان عبدالناصر مفتوناً بسحر الزعامة بقدر ما كانت زعامته الباهرة تجسيداً بالمسئولية وبالوعى والشموخ لدور مصر وتضحياتها، ولمكانة القاهرة وتاريخها على صعيد وطن أمتها الكبير. وبفضل هذا الدور جاء التحول الاشتراكى الذى كفل العدل الاجتماعى للملايين ممن كانوا مسحوقين قبل عبدالناصر.. وأصبحوا بفضل الاشتراكية مواطنين ينعمون بكرامة العيش ولو عند الحد الأدنى من مطلب الإنسان.. وهم نفس الفئة من المواطنين الذين يعيشون الآن.. إما مُضربين أو مضروبين وإما محتجّين أو محتاجين.. وإما مسحوقين أو منتحرين والأرقام شاهدة ببلاغة كارثية تخرق عيون المفترين والمتفلسفين. لا عجب أن تحافظ جماهير هذه الأمة على عهدها مع الرجل، وأن تظل ذكراه محفوفة بالمزيج من المحبة والعرفان.. لزعيم اجتهد.. ولم يكن نبياً ولا ملاكاً، ولكنه كان مثقفاً مصرياً عظيماً وعروبياً مخلصاً، يمتلك الإرادة، ويصدر عن رؤية، ولم يعتمد على شيء إلا على جماهير هذه الأمة، خاصة فى لحظات الخطر والحسم. فى كتابه الصادر منذ شهور عن “الإسلام وأزمة العولمة” يسجل المفكر الأمريكى المسلم البروفيسور “أكبر أحمد” (ص 161) هذه الحقيقة الساطعة التى جمعت بين عبدالناصر.. الزعيم والرمز وبين جماهير الناس فى الوطن.. يقول هذا الكتاب الصادر عن مؤسسة “بروكنغز البحثية” المرموقة: “إن كاريزما عبدالناصر كان لها فعل السحر فى نفوس أبناء العالم العربى على مدار عقدى الخمسينيات والستينيات.. ومازال هناك من يرنو إلى ذكرى عبدالناصر بقلوب مفعمة بأشواق الشجن ومشاعر الحنين”.