مفهوم السوق في الاقتصاد السياسي
مرسل: الجمعة يوليو 20, 2012 8:41 pm
يُشكل مفهوم "السوق" في الاقتصاد السياسي عاملا لابد من استحضاره إن أردنا إنجاز مقاربة للواقع الاقتصادي في شموليته وتنوع مؤسساته وتشابك علاقاته.
وفي سبيل درسه والكشف عن القوانين الناظمة لحركته ابتُدعت رؤى نظرية متعددة، كان أشهرها ما طرح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تم تحديد وضعيتين اثنتين تمثلان المعيارين النظريين لقياس طبيعة السوق والقوانين الناظمة لحركته، هما:
- وضعية المنافسة التامة
- وضعية الاحتكار التام
وهما النظريتان اللتان سيتم بناء عليهما –ونقدا لهما– التنظير لوضعيات جديدة بديلة كوضعية سوق المنافسة الاحتكارية، ووضعية الاحتكار العددي.
وغالبا ما كان السوق يُطرح في أدبيات الاقتصاد السياسي كحقل تبادلي، ومؤسسة من بين مؤسسات أخرى تشكل في مجموعها الواقع الاقتصادي، لكنه اليوم أخذ يُطرح بصيغة فاعل مطلق واحد لا شريك له.
فالمنظور النيوليبرالي الراهن يدفع برؤية لا تجعل من السوق عاملا اقتصاديا فقط، ولا فاعلا أو مؤسسة من بين فعاليات ومؤسسات أخرى، بل كيانا له قداسة، يَحْرُمُ التدخل فيه أو حتى توجيهه من قِبَلِ سلطة خارجية عليه، إنه توثين جديد يصنع صنما تخلع عليه حلل القداسة في أعلى صورها.
ونحن هنا، رغم إعطاء الأولوية من الناحية المنهجية لمنظور الاقتصاد السياسي، نستهدف أيضا التوكيد على مسألة أعمق وهي أن الرؤية النيوليبرالية للسوق لها أبعاد وانعكاسات ثقافية ذات أثر عميق في التشكيل النفسي والقيمي للإنسان والمجتمع المعاصرين.
ومن ثم فهي تجاوز الحقل الاقتصادي، من حيث هو حقل سلع مادية، إلى حقل الثقافة وما يرتبط به من أنساق رمزية وقيمية.
ولإيضاح ذلك نبدأ بهذا الاستفهام الأولي: ما هي دلالة الرؤية النيوليبرالية للسوق؟ وما الأوهام التي تستبطنها؟
لنستحضر في البدء الرؤى الكلاسيكية لنظام السوق التي اختصرناها سابقا في وضعيتين اثنتين، فنقول: بالنسبة للنظرية التقليدية المحددة لوضعية "المنافسة التامة" سعى الاقتصاد السياسي الرأسمالي إلى تحديد الشروط الناظمة لها، فانتهى إلى كونها خمسة، هي: الذرية والشفافية وحرية الدخول والسيولة وتجانس المنتوج.
فذرية كيان السوق يُقصد بها أنه مكون من مجموعة كبيرة من الفاعلين (العارضين للسلع والطالبين لها)، لكن هؤلاء الفاعلين هم ذرات مجزأة، لا يمكن لأي ذرة منها أن تتحكم بمفردها في مجرى السوق.
أما الشفافية فتعني أن السوق كيان بلا أسرار، حيث أن كل الفاعلين فيه مكشوفون أمام بعضهم، إذ إن وجود أسرار يعوق الحرية الفعلية للسوق، ويخلخل شرط المنافسة الحقيقية.
أما حرية الدخول فتعني أن السوق ذو أبواب مفتوحة من حق جميع الأفراد الدخول إليه (كطالبين أو عارضين)، وإذا ما ابتُدعت قوانين تمنع الدخول إليه، فإنه ينتفي منه شرط أساس من شروط المنافسة التامة.
أما شرط السيولة فيُقصد به أن الطلب والعرض بينهما تواصل، وفي حالة وجود احتكار أو حاجز يمنع الاختيار الحر للطالب مثلا أو الاتصال الحر للعارض، فإن السوق يفقد شرطا من الشروط المحددة والمؤسسة للحالة التنافسية التامة.
أما خامس الشروط فهو تجانس المنتوج، وهو شرط قد يبدو مغرقا في التنظير، لكنه حاصل مترتب عن القياس النظري، إذ المنتوج يجب أن يكون متجانسا مهما تعدد عارضوه/بائعوه، لأنه لو كان مختلفا سيخلص بالطالبين (المشترين) إلى التمركز حول عارض (بائع) معين، فتختل المنافسة التامة.
أما النظرية الثانية المحددة لوضعية الاحتكار التام، فإن حالة السوق فيها تتميز بأحادية العارض وتعدد الطالب. ويُعد المُنَظر الاقتصادي كورنو أول من حللها، وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
والسوق المنتظم بشروط الوضعية الاحتكارية المطلقة يتميز بوجود عارض واحد (منتج/بائع)، وطالبين متعددين (مشترين)، وبذلك تنعدم المنافسة، وينفتح الباب للعارض ليحدد السعر وفق مصلحته.
لكن موقفه لا يكون حتى في وضعية سوق الاحتكار التام مطلقَ الحرية، إذ لابد أن يعمل في حسابه القدرة الشرائية للطالبين، بل وإمكان استغنائهم عن السلعة (المنتوج)، لأنه حتى إذا كان يستحيل على الطالب/المشتري إيجاد سلعة مماثلة، فإنه لا يستحيل عليه تعويضها بسلعة مقاربة.
لكن نظرية السوق كما تبلورت في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي بدت بافتراضها لهاتين الوضعيتين مغرقة في التنظير، إذ بينها وبين الواقع الفعلي للممارسة الاقتصادية بون شاسع.
لذا اضطر الاقتصاديون إلى تأسيس نظريات بديلة تستنزل مفهوم السوق من سماء التجريد ليطابق الواقع العملي المجسد.
وخلال القرن العشرين تبدلت الوضعية الاقتصادية، وتغير الكثير من خصائصها: فإذا كان السوق الرأسمالي في القرن التاسع عشر شهد وضعيات تجسدت فيها المنافسة التامة، فإنه خلال القرن العشرين ظهرت عوامل جديدة، لم يعد معها السوق مشكلا من ذرات صغيرة، بل من وحدات كبرى لها سلطتها الفعلية.
ولم يعد بإمكان الرؤية الاقتصادية الزعم بأن السوق حر، بل ثمة عوامل وقوانين أخذت تتحكم في عملية الدخول إليه، كما أن تطور تقنية الإشهار (الدعاية)، بما هي آليات لصناعة ذوق المستهلك، يُشكك في مصداقية شعار حرية الطالب وسيولة العرض.
ولتبديل الرؤية النظرية المغرقة في التجريد قصد مناغمتها مع مستجدات الواقع الاقتصادي، ظهرت نظريتان اثنتان تحاولان تحديد ماهية السوق على نحو يقارب بين دلالته ومَاصَدَقِهِ الواقعي، وهما :نظرية "المنافسة الاحتكارية"، ونظرية "الاحتكار العددي".
تقوم نظرية المنافسة الاحتكارية –التي تبلورت مع أبحاث الاقتصادي الأميركي إدوارد شامبرلين وخوان روبنسون على المزاوجة بين النظريتين السابقتين مع تعديل فيهما، حيث أخذت من نظرية المنافسة التامة فكرة وجود تنافس فعلي داخل السوق، وذلك بفعل وجود كثرة من العارضين (البائعين)،
وفي سبيل درسه والكشف عن القوانين الناظمة لحركته ابتُدعت رؤى نظرية متعددة، كان أشهرها ما طرح في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث تم تحديد وضعيتين اثنتين تمثلان المعيارين النظريين لقياس طبيعة السوق والقوانين الناظمة لحركته، هما:
- وضعية المنافسة التامة
- وضعية الاحتكار التام
وهما النظريتان اللتان سيتم بناء عليهما –ونقدا لهما– التنظير لوضعيات جديدة بديلة كوضعية سوق المنافسة الاحتكارية، ووضعية الاحتكار العددي.
وغالبا ما كان السوق يُطرح في أدبيات الاقتصاد السياسي كحقل تبادلي، ومؤسسة من بين مؤسسات أخرى تشكل في مجموعها الواقع الاقتصادي، لكنه اليوم أخذ يُطرح بصيغة فاعل مطلق واحد لا شريك له.
فالمنظور النيوليبرالي الراهن يدفع برؤية لا تجعل من السوق عاملا اقتصاديا فقط، ولا فاعلا أو مؤسسة من بين فعاليات ومؤسسات أخرى، بل كيانا له قداسة، يَحْرُمُ التدخل فيه أو حتى توجيهه من قِبَلِ سلطة خارجية عليه، إنه توثين جديد يصنع صنما تخلع عليه حلل القداسة في أعلى صورها.
ونحن هنا، رغم إعطاء الأولوية من الناحية المنهجية لمنظور الاقتصاد السياسي، نستهدف أيضا التوكيد على مسألة أعمق وهي أن الرؤية النيوليبرالية للسوق لها أبعاد وانعكاسات ثقافية ذات أثر عميق في التشكيل النفسي والقيمي للإنسان والمجتمع المعاصرين.
ومن ثم فهي تجاوز الحقل الاقتصادي، من حيث هو حقل سلع مادية، إلى حقل الثقافة وما يرتبط به من أنساق رمزية وقيمية.
ولإيضاح ذلك نبدأ بهذا الاستفهام الأولي: ما هي دلالة الرؤية النيوليبرالية للسوق؟ وما الأوهام التي تستبطنها؟
لنستحضر في البدء الرؤى الكلاسيكية لنظام السوق التي اختصرناها سابقا في وضعيتين اثنتين، فنقول: بالنسبة للنظرية التقليدية المحددة لوضعية "المنافسة التامة" سعى الاقتصاد السياسي الرأسمالي إلى تحديد الشروط الناظمة لها، فانتهى إلى كونها خمسة، هي: الذرية والشفافية وحرية الدخول والسيولة وتجانس المنتوج.
فذرية كيان السوق يُقصد بها أنه مكون من مجموعة كبيرة من الفاعلين (العارضين للسلع والطالبين لها)، لكن هؤلاء الفاعلين هم ذرات مجزأة، لا يمكن لأي ذرة منها أن تتحكم بمفردها في مجرى السوق.
أما الشفافية فتعني أن السوق كيان بلا أسرار، حيث أن كل الفاعلين فيه مكشوفون أمام بعضهم، إذ إن وجود أسرار يعوق الحرية الفعلية للسوق، ويخلخل شرط المنافسة الحقيقية.
أما حرية الدخول فتعني أن السوق ذو أبواب مفتوحة من حق جميع الأفراد الدخول إليه (كطالبين أو عارضين)، وإذا ما ابتُدعت قوانين تمنع الدخول إليه، فإنه ينتفي منه شرط أساس من شروط المنافسة التامة.
أما شرط السيولة فيُقصد به أن الطلب والعرض بينهما تواصل، وفي حالة وجود احتكار أو حاجز يمنع الاختيار الحر للطالب مثلا أو الاتصال الحر للعارض، فإن السوق يفقد شرطا من الشروط المحددة والمؤسسة للحالة التنافسية التامة.
أما خامس الشروط فهو تجانس المنتوج، وهو شرط قد يبدو مغرقا في التنظير، لكنه حاصل مترتب عن القياس النظري، إذ المنتوج يجب أن يكون متجانسا مهما تعدد عارضوه/بائعوه، لأنه لو كان مختلفا سيخلص بالطالبين (المشترين) إلى التمركز حول عارض (بائع) معين، فتختل المنافسة التامة.
أما النظرية الثانية المحددة لوضعية الاحتكار التام، فإن حالة السوق فيها تتميز بأحادية العارض وتعدد الطالب. ويُعد المُنَظر الاقتصادي كورنو أول من حللها، وذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
والسوق المنتظم بشروط الوضعية الاحتكارية المطلقة يتميز بوجود عارض واحد (منتج/بائع)، وطالبين متعددين (مشترين)، وبذلك تنعدم المنافسة، وينفتح الباب للعارض ليحدد السعر وفق مصلحته.
لكن موقفه لا يكون حتى في وضعية سوق الاحتكار التام مطلقَ الحرية، إذ لابد أن يعمل في حسابه القدرة الشرائية للطالبين، بل وإمكان استغنائهم عن السلعة (المنتوج)، لأنه حتى إذا كان يستحيل على الطالب/المشتري إيجاد سلعة مماثلة، فإنه لا يستحيل عليه تعويضها بسلعة مقاربة.
لكن نظرية السوق كما تبلورت في الفكر الاقتصادي الكلاسيكي بدت بافتراضها لهاتين الوضعيتين مغرقة في التنظير، إذ بينها وبين الواقع الفعلي للممارسة الاقتصادية بون شاسع.
لذا اضطر الاقتصاديون إلى تأسيس نظريات بديلة تستنزل مفهوم السوق من سماء التجريد ليطابق الواقع العملي المجسد.
وخلال القرن العشرين تبدلت الوضعية الاقتصادية، وتغير الكثير من خصائصها: فإذا كان السوق الرأسمالي في القرن التاسع عشر شهد وضعيات تجسدت فيها المنافسة التامة، فإنه خلال القرن العشرين ظهرت عوامل جديدة، لم يعد معها السوق مشكلا من ذرات صغيرة، بل من وحدات كبرى لها سلطتها الفعلية.
ولم يعد بإمكان الرؤية الاقتصادية الزعم بأن السوق حر، بل ثمة عوامل وقوانين أخذت تتحكم في عملية الدخول إليه، كما أن تطور تقنية الإشهار (الدعاية)، بما هي آليات لصناعة ذوق المستهلك، يُشكك في مصداقية شعار حرية الطالب وسيولة العرض.
ولتبديل الرؤية النظرية المغرقة في التجريد قصد مناغمتها مع مستجدات الواقع الاقتصادي، ظهرت نظريتان اثنتان تحاولان تحديد ماهية السوق على نحو يقارب بين دلالته ومَاصَدَقِهِ الواقعي، وهما :نظرية "المنافسة الاحتكارية"، ونظرية "الاحتكار العددي".
تقوم نظرية المنافسة الاحتكارية –التي تبلورت مع أبحاث الاقتصادي الأميركي إدوارد شامبرلين وخوان روبنسون على المزاوجة بين النظريتين السابقتين مع تعديل فيهما، حيث أخذت من نظرية المنافسة التامة فكرة وجود تنافس فعلي داخل السوق، وذلك بفعل وجود كثرة من العارضين (البائعين)،