متطلبات أوروبية
مرسل: الأحد يوليو 22, 2012 6:29 pm
المؤثرات الخارجية في مسيرة الاصلاح التركية
يمكن الإدعاء بأن المكون الفكري فى المسيرة الإصلاحية، التى يتبناها حزب العدالة والتنمية فى تركيا، لم يكن ليتبلور منذ البداية، خلال القرن الثامن عشر، من دون استلهام الرعيل الأول من المثقفين والدارسين الأتراك الليبراليين فى أوروبا لنموذج الحداثة والتنوير والنهضة الأوروبى فى تلك الفترة .
وما كان لمسيرة الإصلاح التركية المعاصرة أن تنطلق أو تتواصل وتستمر من دون تقويض أو إجهاض طيلة ما يربو على عقدين من الزمن ، لولا الدعم والتأييد الأوروبيان لتلك المسيرة ، وهى المساندة الأوروبية التى اكتسبت زخما مهما مع تقبل الأوروبيين، من حيث المبدأ، لفكرة دمج تركيا فى منظومتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية، عبر تدشين الحوار معها، توخيا لهذا المقصد، بدءا من عام 1963.وهو الأمر الذى أسفر عن صوغ عملية متكاملة وممتدة لتأهيل تركيا، سياسيا وثقافيا واقتصاديا، من أجل الانضمام للاتحاد الأوروبى، تتابع دول الاتحاد خلالها وترعى جهود الإصلاح التى من المتعين على أنقرة الاضطلاع بها على كافة الأصعدة والمستويات .
فما من شك فى أن تطلع الأتراك المزمن والممتد نحو التعلق بتلابيب الغرب، والتأسى به، توخيا لاستلهام تجربته الحداثية والحضارية، وهو التوجه الذى ضرب بجذوره فى أعماق التاريخ التركى إلى ما قبل إعلان الجمهورية فى عام 1923 ليطال القرنين الأخيرين من العهد العثمانى، قد حمل فى طياته بعض التأثيرات والمردودات الإيجابية على التطور السياسى للأتراك والدولة التركية فى آن واحد، برغم ما علق بأهداب هذا التطلع من تداعيات سلبية على أصعدة أخرى، إلى الحد الذى أصاب الداخل التركى بالإرباك فى أكثر من موضع .
فمع الأخذ فى الحسبان مساعي قوى شعبية وسياسية، وتوق نخب ثقافية ودوائر فكرية تركية محلية إلى التحديث والعصرنة والديمقراطية، على نحو ما هو سائد ومتبع فى بلدان غرب أوروبا أو الولايات المتحدة ، يشى تاريخ التجربة السياسية التركية، فى حقبتيها الحديثة والمعاصرة، بتعاظم تأثير العامل الخارجى عموما، والأوروبى منه على وجه التحديد ، فى دفع عجلة الإصلاحات التركية الشاملة قدما نحو الأمام .
ضغوطات أوروبية
فمثلما كانت الضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية في خريف عمرها هى أحد أهم العوامل التى أفضت إلى إصدار الباب العالي حزمة من القرارات التى اعتبرت الخطوات الأولى على درب الإصلاح الطويل والعسير ، حيث عرفت تلك القرارات بـ "تنظيمات" عام 1839، والتى فتحت الطريق أمام صدور فرمان عام 1856 ، الذى تضمن عددا من الإصلاحات، فقد عرف الأتراك فى عام 1876 ما يمكن اعتباره أول وثيقة دستورية حديثة أطلق عليها "نظام القانون الأساسي" ، والتى أصدرها السلطان عبد الحميد إثر قبوله الجلوس مع قادة الاتحاديين والليبراليين الأتراك المقربين من أوروبا، والتفاوض معهم حول مسألة إطلاق حملة تغييرات وإصلاحات تحد من صلاحيات السلطان، وتدعم إقامة مزيد من المؤسسات السياسية والمدنية المستقلة.
وفى عام 1908 ، وعندما نجح ضباط حركة "تركيا الفتاة" في تعزيز نفوذهم ومواقعهم في السلطة ، أعادوا مجددا طرح موضوع الدستور الذى تعثر بسبب دخول البلاد في مواجهات مع الطامعين في اقتطاع أجزاء من أراضيها المترامية الأطراف. وما إن تسنى لهم صياغة هذا الدستور الجديد ،حتى هموا بإدخال بعض التعديلات على بنود هذا الدستور أو "القانون الأساسي" ، كيما يكون أكثر حداثة وانفتاحا على أوروبا، التى ظل الاقتداء بها والاندماج فيها حلما لا يفارق مخيلاتهم.
وخلال عملية الانتقال من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية التركية الحديثة، مع تسلم أتاتورك دفة القيادة العسكرية والسياسية، ودخول تركيا حرب الاستقلال والتحرير، ومحاولة رسم سياساتها وبرامجها الداخلية بمعايير جديدة، تستحوذ أوروبا على نصيب الأسد فيها، جاءت المحاولة الثالثة لوضع دستور دائم للبلاد في عام 1921، حيث تم التوصل إلى ما عرف في حينها بـ "دستور التشكيلات الأساسية"،الذى استلهمت غالبية مواده الكثير من التجارب الدستورية التى عرفتها عدد من الدول الأوروبية آنذاك .
وفي عام 1924 ، جاءت المحاولة الأقوى والأكثر جدية بعد إعلان الجمهورية التركية، واختيار مصطفي كمال أتاتورك رئيسا للدولة، وولادة دستور جديد شهد كثيرا من التعديلات والتغييرات، ورافقته عشرات القوانين والتشريعات التي ابتغت لتركيا هوية أوروبية، تولى وجهها قلبا وقالبا نحو الغرب، الذى أضحى بمثابة البوصلة السياسية والاجتماعية والفكرية الجديدة للأتراك، بعد أن تجفف مجارى التواصل والارتباط مع الشرق .
وبعد تأسيس حزب الشعب الجمهورى، كأول حزب سياسى حديث يعمل في ربوع الجمهورية العلمانية الوليدة، توطئة للتأسى بالتجارب السياسية الأوروبية في حينها، قدر للحرب الكونية الثانية أن تشكل نقطة تحول مهمة في مسيرة تطور الدولة التركية محليا وإقليميا. فلقد كان للضغط الغربى المتأثر بقوانين الأمم المتحدة بالغ الأثر في إجبار حكومة حزب الشعب الجمهورى على القبول بإقرار الحرية السياسية والتعددية الحزبية، بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها.
ومع شيوع الفكر الديمقراطى عالميا، وتنامى النقد الذاتى داخل حزب الشعب الجمهورى، وبروز تيار داخله ينادى بالتعددية السياسية، وتغيير تركيا لوجهتها من دول المحور إلى الحلفاء، حيث قطعت علاقاتها مع دول المحور في فبراير 1945 ، وأعلنت الحرب على ألمانيا أيضا يوم 23 من الشهر نفسه، جاءت مكافأة الغرب لتركيا بقبولها عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة .
وقد أعطى توقيع تركيا معاهدة إنشاء الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 قوة دفع مهمة لقوى المعارضة التركية البازغة وقتذاك لنظام الحزب الواحد، والمطالبة بالعروج بتركيا من مستنقع الديمقراطية الانتقائية الشكلية المنقوصة إلى آفاق الديمقراطية الحقيقية التعددية والتنافسية، على غرار ما هو سائد في أوروبا.
فلقد أمد هذا الحدث المهم قوى المعارضة التركية بالحجج القانونية، وحصنها بالأسانيد السياسية التى رسخت أقدامها، وعززت موقفها في مواجهة نظام الحزب الواحد والديمقراطية المقيدة إلى الحد الذى فاقم من ثقة الجماهير فيها، ووسع من قاعدة التأييد الشعبى لها، والانضواء تحت لوائها، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن إطلاق التعددية الحزبية في تركيا عام 1946.
" التقارب مع الأوروبيين"
ففي خطابه الرئاسى في الأول من نوفمبر عام 1945 ، أشار عصمت إينونو، الذي كان يشغل وقتها رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الجمهورى الحاكم في آن ،أنه "قد حان الوقت لإجراء عدالة سياسية رئيسية في نظام الحزب الواحد ،لكى نجعله يتلاءم مع متطلبات العصر".
وغنى عن البيان الإشارة إلى أن المقصود بـ "متطلبات العصر" هو متطلبات التقارب مع الأوروبيين والاستقواء بهم في وقت بالغ الحساسية بالنسبة لتركيا. فقد كان إينونو مدفوعا في موقفه الجرئ هذا برغبة جادة في استجداء الرضا الغربى عن نظامه وبلاده، توطئة لنيل ثقة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بما يتيح له الحصول على دعمها لبلاده، وحمايتها في مواجهة الأطماع السوفيتية المتنامية، عقب الحرب، لانتزاع الوصاية على ميناءى البوسفور والدردنيل، كما في بعض المناطق الجيواستراتيجية الحيوية، والقواعد العسكرية التركية .
ومع تبلور تطلعات تركيا للانضمام إلى النادى الأوروبى في مطلع ستينيات القرن الماضى، بدأت مسيرة الإصلاحات التركية تكتسى مسحة من الشرعية، وتحظى بتأييد محلى ودولى واسع النطاق.وما إن تسنى لحزب العدالة والتنمية الوصول إلى سدة السلطة في عام 2002 ، ونجاحه بعد ذلك في تثبيت أقدامه في مفاصلها، وتمديد بقائه فيها من خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية، والاقتراع الرئاسى في البرلمان، حتى باتت السبل ممهدة أمامه لتسريع وتيرة المسيرة الإصلاحية، وتوسيع نطاقها لتشمل مختلف جوانب الحياة التركية، بما فيها الدستور المثير للجدل الذى وضعه قادة الانقلاب العسكرى الأخير في عام 1980 ، مستندا على دعم أمريكى وأوروبى ،لا يقبل التشكيك لتلك المسيرة،التى ارتأى فيها الأوروبيون فرصة ملائمة لتقليص التداعيات السلبية التى تطال بلدانهم، جراء فجوة التطور السياسى المتعاظمة بينهم وبين الأتراك، فضلا عن تأمين حدودهم الشرقية والجنوبية ضد غزو الأزمات، والمشكلات الشرق أوسطية المعقدة والمزمنة والمتفاقمة التى تدهم القارة العجوز من البوابة التركية، علاوة على تفعيل عملية التأهيل التدريجى والممتد لتركيا من أجل الالتحاق بالنادى الأوروبى في مدى زمنى مفتوح.
في حين التمس الأمريكيون من جانبهم بتلك المسيرة الإصلاحية في تركيا بلورة نموذج فريد للإسلام العلمانى الحداثى الليبرالى المعتدل، يمكن لسائر الدول العربية والإسلامية أن تحذو حذوه وتقتدى به ،وهو الأمر الذى من شأنه أن يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية، كونه يهيئ المناخ الشرق أوسطي لتقبل مشاريع واشنطن المستقبلية في المنطقة، كما يسد الطريق أمام تنامى الأصولية الإسلامية، وانتشار التطرف أو الإرهاب ذى الجذور والمرجعيات الإسلامية .
تحرير العلمانية
وبدوره، اغتنم حزب العدالة والتنمية هذه الفرصة النادرة، فلم يتورع عن تعلية سقف إصلاحاته السياسية وتعديلاته الدستورية، سواء فيما يخص تقليص الدور السياسى للجيش التركى ووقف تدخله السافر في السياسة، أو إعادة النظر في صلاحيات القضاء وأسس تعيين كبار القضاة، وكذا تخفيف حدة القيود المفروضة على ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، بما فيها ارتداء الحجاب، وهو ما يصب في مسعى تحرير العلمانية التركية من أصوليتها الكمالية المتطرفة، التى شوهت التجربة الحداثية التركية، إلى الحد الذى اضطر الاتحاد الأوروبى إلى إدانة "الكمالية"، في بيان له قبل نيف وعقد من الزمن، معتبرا إياها أيديولوجية جامدة وحركة متطرفة، يباعد التمسك بها بين تركيا وحلمها في الانضمام للاتحاد الأوروبى.
وفي مسعى منها لدغدغة مشاعر مؤيديها وراغبى الولوج للفردوس الأوروبى من جهة، علاوة على كبح جماح معارضيها ومناوئيها من جهة أخرى ،عمدت حكومة حزب العدالة والتنمية، خلال الأزمة المحتدمة بينها من جانب، وكل من الجيش والقضاء من جانب آخر، منذ شروع الأولى في تمرير إصلاحاتها المقترحة، عمدت إلى إبراز الدعم الغربى لمسيرتها الإصلاحية، التى لا رجعة عنها.
إذ لم يتورع كبار المسئولين في حكومة أردوغان عن تأكيد أن تلك الإصلاحات، وإن لم يتم الاتفاق عليها والتنسيق بشأنها مسبقا مع الأوروبيين على حد زعمهم، تأتى توخيا للوفاء بمتطلبات الانضمام للاتحاد الأوروبى، وتماشيا مع "معايير البندقية"، التي تقصر الأسانيد التى ترتكز عليها قرارات وأحكام حظر الأحزاب السياسية على حالات محددة ومحدودة، تتمثل فقط في لجوء أى من هذه الأحزاب إلى استخدام العنف أوالإرهاب.
واليوم، يحرص حزب العدالة والتنمية على حشد الدعم الشعبى والسياسى لمشروعه بشأن الدستور الجديد الذى سيعرج بتركيا نحو الجمهورية الثانية، مستندا على اعتبارات عديدة، كان من بينها محاولة إقناع الأوروبيين بأن هذا الدستور سيذلل عقبات عديدة جساما بين تركيا وحلمها الأوروبى .
يمكن الإدعاء بأن المكون الفكري فى المسيرة الإصلاحية، التى يتبناها حزب العدالة والتنمية فى تركيا، لم يكن ليتبلور منذ البداية، خلال القرن الثامن عشر، من دون استلهام الرعيل الأول من المثقفين والدارسين الأتراك الليبراليين فى أوروبا لنموذج الحداثة والتنوير والنهضة الأوروبى فى تلك الفترة .
وما كان لمسيرة الإصلاح التركية المعاصرة أن تنطلق أو تتواصل وتستمر من دون تقويض أو إجهاض طيلة ما يربو على عقدين من الزمن ، لولا الدعم والتأييد الأوروبيان لتلك المسيرة ، وهى المساندة الأوروبية التى اكتسبت زخما مهما مع تقبل الأوروبيين، من حيث المبدأ، لفكرة دمج تركيا فى منظومتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية، عبر تدشين الحوار معها، توخيا لهذا المقصد، بدءا من عام 1963.وهو الأمر الذى أسفر عن صوغ عملية متكاملة وممتدة لتأهيل تركيا، سياسيا وثقافيا واقتصاديا، من أجل الانضمام للاتحاد الأوروبى، تتابع دول الاتحاد خلالها وترعى جهود الإصلاح التى من المتعين على أنقرة الاضطلاع بها على كافة الأصعدة والمستويات .
فما من شك فى أن تطلع الأتراك المزمن والممتد نحو التعلق بتلابيب الغرب، والتأسى به، توخيا لاستلهام تجربته الحداثية والحضارية، وهو التوجه الذى ضرب بجذوره فى أعماق التاريخ التركى إلى ما قبل إعلان الجمهورية فى عام 1923 ليطال القرنين الأخيرين من العهد العثمانى، قد حمل فى طياته بعض التأثيرات والمردودات الإيجابية على التطور السياسى للأتراك والدولة التركية فى آن واحد، برغم ما علق بأهداب هذا التطلع من تداعيات سلبية على أصعدة أخرى، إلى الحد الذى أصاب الداخل التركى بالإرباك فى أكثر من موضع .
فمع الأخذ فى الحسبان مساعي قوى شعبية وسياسية، وتوق نخب ثقافية ودوائر فكرية تركية محلية إلى التحديث والعصرنة والديمقراطية، على نحو ما هو سائد ومتبع فى بلدان غرب أوروبا أو الولايات المتحدة ، يشى تاريخ التجربة السياسية التركية، فى حقبتيها الحديثة والمعاصرة، بتعاظم تأثير العامل الخارجى عموما، والأوروبى منه على وجه التحديد ، فى دفع عجلة الإصلاحات التركية الشاملة قدما نحو الأمام .
ضغوطات أوروبية
فمثلما كانت الضغوط الأوروبية على الدولة العثمانية في خريف عمرها هى أحد أهم العوامل التى أفضت إلى إصدار الباب العالي حزمة من القرارات التى اعتبرت الخطوات الأولى على درب الإصلاح الطويل والعسير ، حيث عرفت تلك القرارات بـ "تنظيمات" عام 1839، والتى فتحت الطريق أمام صدور فرمان عام 1856 ، الذى تضمن عددا من الإصلاحات، فقد عرف الأتراك فى عام 1876 ما يمكن اعتباره أول وثيقة دستورية حديثة أطلق عليها "نظام القانون الأساسي" ، والتى أصدرها السلطان عبد الحميد إثر قبوله الجلوس مع قادة الاتحاديين والليبراليين الأتراك المقربين من أوروبا، والتفاوض معهم حول مسألة إطلاق حملة تغييرات وإصلاحات تحد من صلاحيات السلطان، وتدعم إقامة مزيد من المؤسسات السياسية والمدنية المستقلة.
وفى عام 1908 ، وعندما نجح ضباط حركة "تركيا الفتاة" في تعزيز نفوذهم ومواقعهم في السلطة ، أعادوا مجددا طرح موضوع الدستور الذى تعثر بسبب دخول البلاد في مواجهات مع الطامعين في اقتطاع أجزاء من أراضيها المترامية الأطراف. وما إن تسنى لهم صياغة هذا الدستور الجديد ،حتى هموا بإدخال بعض التعديلات على بنود هذا الدستور أو "القانون الأساسي" ، كيما يكون أكثر حداثة وانفتاحا على أوروبا، التى ظل الاقتداء بها والاندماج فيها حلما لا يفارق مخيلاتهم.
وخلال عملية الانتقال من الإمبراطورية العثمانية إلى الجمهورية التركية الحديثة، مع تسلم أتاتورك دفة القيادة العسكرية والسياسية، ودخول تركيا حرب الاستقلال والتحرير، ومحاولة رسم سياساتها وبرامجها الداخلية بمعايير جديدة، تستحوذ أوروبا على نصيب الأسد فيها، جاءت المحاولة الثالثة لوضع دستور دائم للبلاد في عام 1921، حيث تم التوصل إلى ما عرف في حينها بـ "دستور التشكيلات الأساسية"،الذى استلهمت غالبية مواده الكثير من التجارب الدستورية التى عرفتها عدد من الدول الأوروبية آنذاك .
وفي عام 1924 ، جاءت المحاولة الأقوى والأكثر جدية بعد إعلان الجمهورية التركية، واختيار مصطفي كمال أتاتورك رئيسا للدولة، وولادة دستور جديد شهد كثيرا من التعديلات والتغييرات، ورافقته عشرات القوانين والتشريعات التي ابتغت لتركيا هوية أوروبية، تولى وجهها قلبا وقالبا نحو الغرب، الذى أضحى بمثابة البوصلة السياسية والاجتماعية والفكرية الجديدة للأتراك، بعد أن تجفف مجارى التواصل والارتباط مع الشرق .
وبعد تأسيس حزب الشعب الجمهورى، كأول حزب سياسى حديث يعمل في ربوع الجمهورية العلمانية الوليدة، توطئة للتأسى بالتجارب السياسية الأوروبية في حينها، قدر للحرب الكونية الثانية أن تشكل نقطة تحول مهمة في مسيرة تطور الدولة التركية محليا وإقليميا. فلقد كان للضغط الغربى المتأثر بقوانين الأمم المتحدة بالغ الأثر في إجبار حكومة حزب الشعب الجمهورى على القبول بإقرار الحرية السياسية والتعددية الحزبية، بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها.
ومع شيوع الفكر الديمقراطى عالميا، وتنامى النقد الذاتى داخل حزب الشعب الجمهورى، وبروز تيار داخله ينادى بالتعددية السياسية، وتغيير تركيا لوجهتها من دول المحور إلى الحلفاء، حيث قطعت علاقاتها مع دول المحور في فبراير 1945 ، وأعلنت الحرب على ألمانيا أيضا يوم 23 من الشهر نفسه، جاءت مكافأة الغرب لتركيا بقبولها عضوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة .
وقد أعطى توقيع تركيا معاهدة إنشاء الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945 قوة دفع مهمة لقوى المعارضة التركية البازغة وقتذاك لنظام الحزب الواحد، والمطالبة بالعروج بتركيا من مستنقع الديمقراطية الانتقائية الشكلية المنقوصة إلى آفاق الديمقراطية الحقيقية التعددية والتنافسية، على غرار ما هو سائد في أوروبا.
فلقد أمد هذا الحدث المهم قوى المعارضة التركية بالحجج القانونية، وحصنها بالأسانيد السياسية التى رسخت أقدامها، وعززت موقفها في مواجهة نظام الحزب الواحد والديمقراطية المقيدة إلى الحد الذى فاقم من ثقة الجماهير فيها، ووسع من قاعدة التأييد الشعبى لها، والانضواء تحت لوائها، وهو ما أسفر في نهاية المطاف عن إطلاق التعددية الحزبية في تركيا عام 1946.
" التقارب مع الأوروبيين"
ففي خطابه الرئاسى في الأول من نوفمبر عام 1945 ، أشار عصمت إينونو، الذي كان يشغل وقتها رئيس الجمهورية وزعيم الحزب الجمهورى الحاكم في آن ،أنه "قد حان الوقت لإجراء عدالة سياسية رئيسية في نظام الحزب الواحد ،لكى نجعله يتلاءم مع متطلبات العصر".
وغنى عن البيان الإشارة إلى أن المقصود بـ "متطلبات العصر" هو متطلبات التقارب مع الأوروبيين والاستقواء بهم في وقت بالغ الحساسية بالنسبة لتركيا. فقد كان إينونو مدفوعا في موقفه الجرئ هذا برغبة جادة في استجداء الرضا الغربى عن نظامه وبلاده، توطئة لنيل ثقة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بما يتيح له الحصول على دعمها لبلاده، وحمايتها في مواجهة الأطماع السوفيتية المتنامية، عقب الحرب، لانتزاع الوصاية على ميناءى البوسفور والدردنيل، كما في بعض المناطق الجيواستراتيجية الحيوية، والقواعد العسكرية التركية .
ومع تبلور تطلعات تركيا للانضمام إلى النادى الأوروبى في مطلع ستينيات القرن الماضى، بدأت مسيرة الإصلاحات التركية تكتسى مسحة من الشرعية، وتحظى بتأييد محلى ودولى واسع النطاق.وما إن تسنى لحزب العدالة والتنمية الوصول إلى سدة السلطة في عام 2002 ، ونجاحه بعد ذلك في تثبيت أقدامه في مفاصلها، وتمديد بقائه فيها من خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية، والاقتراع الرئاسى في البرلمان، حتى باتت السبل ممهدة أمامه لتسريع وتيرة المسيرة الإصلاحية، وتوسيع نطاقها لتشمل مختلف جوانب الحياة التركية، بما فيها الدستور المثير للجدل الذى وضعه قادة الانقلاب العسكرى الأخير في عام 1980 ، مستندا على دعم أمريكى وأوروبى ،لا يقبل التشكيك لتلك المسيرة،التى ارتأى فيها الأوروبيون فرصة ملائمة لتقليص التداعيات السلبية التى تطال بلدانهم، جراء فجوة التطور السياسى المتعاظمة بينهم وبين الأتراك، فضلا عن تأمين حدودهم الشرقية والجنوبية ضد غزو الأزمات، والمشكلات الشرق أوسطية المعقدة والمزمنة والمتفاقمة التى تدهم القارة العجوز من البوابة التركية، علاوة على تفعيل عملية التأهيل التدريجى والممتد لتركيا من أجل الالتحاق بالنادى الأوروبى في مدى زمنى مفتوح.
في حين التمس الأمريكيون من جانبهم بتلك المسيرة الإصلاحية في تركيا بلورة نموذج فريد للإسلام العلمانى الحداثى الليبرالى المعتدل، يمكن لسائر الدول العربية والإسلامية أن تحذو حذوه وتقتدى به ،وهو الأمر الذى من شأنه أن يخدم المصالح الاستراتيجية الأمريكية، كونه يهيئ المناخ الشرق أوسطي لتقبل مشاريع واشنطن المستقبلية في المنطقة، كما يسد الطريق أمام تنامى الأصولية الإسلامية، وانتشار التطرف أو الإرهاب ذى الجذور والمرجعيات الإسلامية .
تحرير العلمانية
وبدوره، اغتنم حزب العدالة والتنمية هذه الفرصة النادرة، فلم يتورع عن تعلية سقف إصلاحاته السياسية وتعديلاته الدستورية، سواء فيما يخص تقليص الدور السياسى للجيش التركى ووقف تدخله السافر في السياسة، أو إعادة النظر في صلاحيات القضاء وأسس تعيين كبار القضاة، وكذا تخفيف حدة القيود المفروضة على ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، بما فيها ارتداء الحجاب، وهو ما يصب في مسعى تحرير العلمانية التركية من أصوليتها الكمالية المتطرفة، التى شوهت التجربة الحداثية التركية، إلى الحد الذى اضطر الاتحاد الأوروبى إلى إدانة "الكمالية"، في بيان له قبل نيف وعقد من الزمن، معتبرا إياها أيديولوجية جامدة وحركة متطرفة، يباعد التمسك بها بين تركيا وحلمها في الانضمام للاتحاد الأوروبى.
وفي مسعى منها لدغدغة مشاعر مؤيديها وراغبى الولوج للفردوس الأوروبى من جهة، علاوة على كبح جماح معارضيها ومناوئيها من جهة أخرى ،عمدت حكومة حزب العدالة والتنمية، خلال الأزمة المحتدمة بينها من جانب، وكل من الجيش والقضاء من جانب آخر، منذ شروع الأولى في تمرير إصلاحاتها المقترحة، عمدت إلى إبراز الدعم الغربى لمسيرتها الإصلاحية، التى لا رجعة عنها.
إذ لم يتورع كبار المسئولين في حكومة أردوغان عن تأكيد أن تلك الإصلاحات، وإن لم يتم الاتفاق عليها والتنسيق بشأنها مسبقا مع الأوروبيين على حد زعمهم، تأتى توخيا للوفاء بمتطلبات الانضمام للاتحاد الأوروبى، وتماشيا مع "معايير البندقية"، التي تقصر الأسانيد التى ترتكز عليها قرارات وأحكام حظر الأحزاب السياسية على حالات محددة ومحدودة، تتمثل فقط في لجوء أى من هذه الأحزاب إلى استخدام العنف أوالإرهاب.
واليوم، يحرص حزب العدالة والتنمية على حشد الدعم الشعبى والسياسى لمشروعه بشأن الدستور الجديد الذى سيعرج بتركيا نحو الجمهورية الثانية، مستندا على اعتبارات عديدة، كان من بينها محاولة إقناع الأوروبيين بأن هذا الدستور سيذلل عقبات عديدة جساما بين تركيا وحلمها الأوروبى .