- الاثنين يوليو 23, 2012 9:35 pm
#53205
التعايش في الفترات الانتقال الطويلة في الشرق الأوسط
في عام 2008، صدر كتاب بعنوان "أمريكا والعالم .. حوارات حول مستقبل السياسة الخارجية الامريكية"، وكان الكتاب عبارة عن سلسلة من الحوارات أجراها صحفي شهير هو "ديفيد إجناسيوس" مع مستشارين سابقين للأمن القومي في الولايات المتحدة، هما زيجينيو بريجنسكي، وبرنت سكاوكروفت.وقد اختلفت آراء الطرفين حول العديد من القضايا، لكنهما اتفقا علي أن العالم (وقتها) يتغير بطريقة جذرية، وأن النماذج التقليدية لفهم دور الولايات المتحدة لم تعد تعمل بشكل دقيق، وأن المشكلات التي تتعرض لها في العالم هي نتيجة مباشرة لعدم قدرتها علي التكيف مع التفاعلات المتغيرة، مؤكدين أنها يمكن أن تتعامل بفعالية مع "الواقع الجديد"، بشرط أن تري العالم كما هو، وليس كما ترغب هي في أن يكون عليه.
إننا يمكن أن نجادل هنا فيما إذا كان العالم يتغير وقتها بالصورة التي تحدثا عنها، لكن الواقع هو أن ما قيل في ذلك الحين، وفي أحيان قبله، حول التغيرات الجذرية، قد بدأ يحدث الآن بالفعل، وبصورة تشير إلي أن التغيير لن يتوقف، والأزمات لن تنتهي ببساطة، وأن علينا أن نتعايش مع هذا الوضع لفترة طويلة. فهناك كما يوضح الملف الرئيسي للعدد تفصيلا، وبمستوي رفيع من التحليل، عالم جديد يتشكل، عبر تحولات استراتيجية انتقالية تشير إلي نهاية نظام وبداية نظام عالميين، عبر حالة سخط اجتماعي، وعجز ديمقراطي، وكساد اقتصادي، ونظام مالي يواجه ضغوطا هائلة، ونهاية للقطبية، وعولمة للأقاليم، وتوترات ذات أبعاد عسكرية، وتأثيرات تكنولوجية، مع انعكاسات لوصول سكان العالم إلي 7 مليارات نسمة.وتتمثل المشكلة الحالية -بمنطق الشرق الأوسط- في كيفية فهم ما يجري. وعلي طريقة د. علي جمعة، مفتي الديار المصرية المستنير، الذي يكن احتراما حقيقيا لما يسميه "المنهجية" و "المعرفية"، فإن "الوعي قبل السعي".
البحث عن العوامل الأخري:
وتتمثل بداية الوعي في إعادة مناقشة مفاهيم تحليلية سابقة، في اتجاه أن نكون أقل ثقة في أي شيء يبدو وكأنه يقدم تفسيرا بسيطا أو مؤكدا لما يدور. فلعقود طويلة، بدا مثلا أن مصطلح "النظام" يمثل واحدة من الكلمات السحرية في مجال العلوم السياسية، بتطبيقاته المختلفة في مجالات النظم السياسية والعلاقات الدولية، إذ كان يبدو وكأنه يمثل واحدة من حقائق الطبيعة التي تتيح للجميع تخيل أننا نعيش في واقع علمي، لدرجة يمكن معها فهم الشارع نفسه، بكل ما يبدو عليه من فوضوية، علي أنه -كما كان أحد أساتذة العلوم السياسية يؤكد مرارا- "نظام"، يمكن تحديد عناصره وتفاعلاته وقواعده وحدوده بالطريقة نفسها التي يمكن أن نجزم بها بأن الماء سيتحول إلي بخار عند درجة حرارة 100 مئوية، مع إضافة جملة روتينية يتم ترديدها دون تفكير، هي " بشرط ثبات العوامل الأخري علي ماهي عليه".
فيما بعد، تم إدراك أن "العوامل الأخري" لا تثبت علي ما هي عليها أبدا. ففي كتاب آخر صدر أخيرا (عام 2011)، لماثيو هانكوك ونادين زهاوي، بعنوان " المسيطرون علي لا شيء"، يتم التحذير من أن الانهيارات والأزمات قد تتكرر مرة أخري، أو مرارا، إذا لم يتم فهم " الطبيعة الإنسانية"، أو بصورة أكثر تحديدا، كيف يتصرف الناس، (أو التيارات أو الأحزاب، وغيرهما)، وليس ما نعتقده بشأن الطريقة التي تحكم سلوكهم، أو ناهينا عما نرغب في أن يقوموا به، أو حتي ما نرغب نحن في القيام به، قبل أن نجد أنفسنا نتصرف أحيانا، بعيدا عما نسميه "الرشادة"، أو نشاهد، دون أن نفهم السبب، قيام بعض "أوباش الناس" -حسب تعبيرات الجبرتي- بإحراق المجمع العلمي في ميدان التحرير بمصر. وليس أمامنا -وفقا لمنطق الكتاب- إلا أن نفهم أن ذلك يمكن أن يحدث، وأن نتعلم درسا.
كان الدكتور حامد عبد الله ربيع، أحد أساتذة النظرية السياسية الكبار، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الذي توفي عام 1989، واحدا ممن حاولوا فهم "الطبيعة الإنسانية". وفي هذا الطريق، كان عليه أن يحصل علي 7 شهادات دكتوراه و 6 دبلومات، مع تعلم الإيطالية واللاتينية. وكانت النتيجة هي مارصده أحد تلامذته علي صفحته الخاصة في الويكيبيديا، وهي أنه أصبحت لديه " قدرة غير سيئة علي التكهن السياسي". لكن النتيجة الأهم هي أنه أصبحت لديه آراء شديدة الخصوصية، سيئة للغاية، حول فكرة الديمقراطية كإطار لإدارة التحول السياسي، وفي توجهات الرأي العام، كمصدر للسلطة والشرعية.
إن الدكتور ربيع لم يتقبل ذلك ببساطة، مثلما فعل تشرشل، عندما قال عن الديمقراطية "إنها أسوأ أنواع نظم الحكم، لكن لا يوجد ما هو أفضل منها"، وظل يفكر وكأنه يعيش في روما القديمة، مثل كثير من المفكرين المحافظين. ومع ذلك، قام في نهاية حياته باتخاذ خطوات لإقامة مركز لاستشارات صنع واتخاذ القرارات، ولو كان قد قدر له أن يفعل ذلك، لتابعنا فصلا آخر يتعلق بـ "قوة الواقع"، أو بالعوامل الأخري. وبصورة ما، قد نشهد ذلك في مصر.
في عام 2008، صدر كتاب بعنوان "أمريكا والعالم .. حوارات حول مستقبل السياسة الخارجية الامريكية"، وكان الكتاب عبارة عن سلسلة من الحوارات أجراها صحفي شهير هو "ديفيد إجناسيوس" مع مستشارين سابقين للأمن القومي في الولايات المتحدة، هما زيجينيو بريجنسكي، وبرنت سكاوكروفت.وقد اختلفت آراء الطرفين حول العديد من القضايا، لكنهما اتفقا علي أن العالم (وقتها) يتغير بطريقة جذرية، وأن النماذج التقليدية لفهم دور الولايات المتحدة لم تعد تعمل بشكل دقيق، وأن المشكلات التي تتعرض لها في العالم هي نتيجة مباشرة لعدم قدرتها علي التكيف مع التفاعلات المتغيرة، مؤكدين أنها يمكن أن تتعامل بفعالية مع "الواقع الجديد"، بشرط أن تري العالم كما هو، وليس كما ترغب هي في أن يكون عليه.
إننا يمكن أن نجادل هنا فيما إذا كان العالم يتغير وقتها بالصورة التي تحدثا عنها، لكن الواقع هو أن ما قيل في ذلك الحين، وفي أحيان قبله، حول التغيرات الجذرية، قد بدأ يحدث الآن بالفعل، وبصورة تشير إلي أن التغيير لن يتوقف، والأزمات لن تنتهي ببساطة، وأن علينا أن نتعايش مع هذا الوضع لفترة طويلة. فهناك كما يوضح الملف الرئيسي للعدد تفصيلا، وبمستوي رفيع من التحليل، عالم جديد يتشكل، عبر تحولات استراتيجية انتقالية تشير إلي نهاية نظام وبداية نظام عالميين، عبر حالة سخط اجتماعي، وعجز ديمقراطي، وكساد اقتصادي، ونظام مالي يواجه ضغوطا هائلة، ونهاية للقطبية، وعولمة للأقاليم، وتوترات ذات أبعاد عسكرية، وتأثيرات تكنولوجية، مع انعكاسات لوصول سكان العالم إلي 7 مليارات نسمة.وتتمثل المشكلة الحالية -بمنطق الشرق الأوسط- في كيفية فهم ما يجري. وعلي طريقة د. علي جمعة، مفتي الديار المصرية المستنير، الذي يكن احتراما حقيقيا لما يسميه "المنهجية" و "المعرفية"، فإن "الوعي قبل السعي".
البحث عن العوامل الأخري:
وتتمثل بداية الوعي في إعادة مناقشة مفاهيم تحليلية سابقة، في اتجاه أن نكون أقل ثقة في أي شيء يبدو وكأنه يقدم تفسيرا بسيطا أو مؤكدا لما يدور. فلعقود طويلة، بدا مثلا أن مصطلح "النظام" يمثل واحدة من الكلمات السحرية في مجال العلوم السياسية، بتطبيقاته المختلفة في مجالات النظم السياسية والعلاقات الدولية، إذ كان يبدو وكأنه يمثل واحدة من حقائق الطبيعة التي تتيح للجميع تخيل أننا نعيش في واقع علمي، لدرجة يمكن معها فهم الشارع نفسه، بكل ما يبدو عليه من فوضوية، علي أنه -كما كان أحد أساتذة العلوم السياسية يؤكد مرارا- "نظام"، يمكن تحديد عناصره وتفاعلاته وقواعده وحدوده بالطريقة نفسها التي يمكن أن نجزم بها بأن الماء سيتحول إلي بخار عند درجة حرارة 100 مئوية، مع إضافة جملة روتينية يتم ترديدها دون تفكير، هي " بشرط ثبات العوامل الأخري علي ماهي عليه".
فيما بعد، تم إدراك أن "العوامل الأخري" لا تثبت علي ما هي عليها أبدا. ففي كتاب آخر صدر أخيرا (عام 2011)، لماثيو هانكوك ونادين زهاوي، بعنوان " المسيطرون علي لا شيء"، يتم التحذير من أن الانهيارات والأزمات قد تتكرر مرة أخري، أو مرارا، إذا لم يتم فهم " الطبيعة الإنسانية"، أو بصورة أكثر تحديدا، كيف يتصرف الناس، (أو التيارات أو الأحزاب، وغيرهما)، وليس ما نعتقده بشأن الطريقة التي تحكم سلوكهم، أو ناهينا عما نرغب في أن يقوموا به، أو حتي ما نرغب نحن في القيام به، قبل أن نجد أنفسنا نتصرف أحيانا، بعيدا عما نسميه "الرشادة"، أو نشاهد، دون أن نفهم السبب، قيام بعض "أوباش الناس" -حسب تعبيرات الجبرتي- بإحراق المجمع العلمي في ميدان التحرير بمصر. وليس أمامنا -وفقا لمنطق الكتاب- إلا أن نفهم أن ذلك يمكن أن يحدث، وأن نتعلم درسا.
كان الدكتور حامد عبد الله ربيع، أحد أساتذة النظرية السياسية الكبار، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الذي توفي عام 1989، واحدا ممن حاولوا فهم "الطبيعة الإنسانية". وفي هذا الطريق، كان عليه أن يحصل علي 7 شهادات دكتوراه و 6 دبلومات، مع تعلم الإيطالية واللاتينية. وكانت النتيجة هي مارصده أحد تلامذته علي صفحته الخاصة في الويكيبيديا، وهي أنه أصبحت لديه " قدرة غير سيئة علي التكهن السياسي". لكن النتيجة الأهم هي أنه أصبحت لديه آراء شديدة الخصوصية، سيئة للغاية، حول فكرة الديمقراطية كإطار لإدارة التحول السياسي، وفي توجهات الرأي العام، كمصدر للسلطة والشرعية.
إن الدكتور ربيع لم يتقبل ذلك ببساطة، مثلما فعل تشرشل، عندما قال عن الديمقراطية "إنها أسوأ أنواع نظم الحكم، لكن لا يوجد ما هو أفضل منها"، وظل يفكر وكأنه يعيش في روما القديمة، مثل كثير من المفكرين المحافظين. ومع ذلك، قام في نهاية حياته باتخاذ خطوات لإقامة مركز لاستشارات صنع واتخاذ القرارات، ولو كان قد قدر له أن يفعل ذلك، لتابعنا فصلا آخر يتعلق بـ "قوة الواقع"، أو بالعوامل الأخري. وبصورة ما، قد نشهد ذلك في مصر.