- الثلاثاء يوليو 24, 2012 6:47 pm
#53343
يعتبر حقل التنمية السياسية من الحقول التي حظيت بدراسات عديدة ومتنوعة، خاصة بسبب ارتباطها بحالة التخلف وكيفية الخروج منها، وهي الحالة التي تعاني منها البلدان التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية الغربية. وبرز الاهتمام بصورة متزايدة في قضايا التنمية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت استقلال الكثير من الدول، وما طرحه الاستقلال من تحديات ومواجهة مشاكل بناء الدولة، والتنمية والتغيير، للتغلب على حالة الضعف والتشوه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وبسبب تلك الحالة التي كانت عليها الدول التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية، أطلق عليها تسميات مثل " دول العالم الثالث " و " الدول النامية " و " الدول المتخلفة "، وكانت هذه الدول وأوضاعها ومشاكلها هي مجال وموضوع دراسات التنمية، التي تركزت اهتماماتها بصورة عامة حول مواضيع " النمو " و " التحديث " و " التقدم " ([1] ).
تباينت الرؤى والأساليب والمناهج حول كيفية التخلص من التخلف والتغلب على مظاهره وتبعاته، وبالتالي كيفية الوصول إلى التنمية بشكل عام والتنمية السياسية خاصة، وذلك تبعا للنظريات والمدارس الفكرية التي عالجت قضايا التنمية ومتطلباتها وشروطها. حيث أن هناك نوع من الاتفاق الواسع على مظاهر التخلف في دول العالم الثالث، لكن لا يوجد اتفاق مماثل على أسباب التخلف ونشأته وأسباب استمراره وطرق الخلاص منه ([2] ).
1. نظريات التنمية السياسية
يصنف بعض الأكاديميين والكتاب، مثل علي غربي، وناجي شراب، النظريات التي تشكل مرجعية ومنطلق دراسة التنمية السياسية إلى ثلاث نظريات رئيسية هي؛ نظرية التحديث ومداخلها ومناهجها المتنوعة والتي تنطلق من أفكار علم الاجتماع وعلم السياسة الرأسماليين؛ والنظرية الماركسية المعتمدة على أفكار ماركس ولينين وتطبيقاتها في الدول الاشتراكية؛ ونظرية التبعية التي تم التنظير لها من مفكرين في العالم الثالث، ردا على فشل نظريات ومشاريع التنمية في هذه الدول، وخاصة من مفكري دول أمريكا الجنوبية ([3] ).
ويصنفها نصر محمد عارف على أنها نظريات أوروبية للتنمية السياسية وهي؛ النموذج الليبرالي السياسي الغربي أو ( النظريات السلوكية )؛ والنموذج الاشتراكي المسترشد بالتجارب الاشتراكية؛ ونظرية التبعية أو كما يسميها ( الماركسية الجديدة )، حيث يعتبر أن مدرسة التبعية لا تخرج في مقولاتها عن أفكار ومقولات لينين ([4] ). أما "ريتشارد هيجوت" الأكاديمي البريطاني وأستاذ الاقتصاد السياسي الدولي، فيصنف النظريات إلى نظريتين رئيسيتين هما، نظرية التحديث الغربية؛ والنظرية " الراديكالية "، التي يعتبر أنها تضم نظرية التبعية والنظرية الماركسية ( الجديدة ) ([5] ).
وشكلت هذه النظريات الإطار الفكري لعدد من المناهج والأساليب والاتجاهات الدراسية الفرعية، في تحليل ودراسة مسائل التنمية السياسية. حيث سنعرض لأهم الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها النظريات الرئيسية التي شكلت أساس التنظير في هذا المجال.
1.1. نظرية التحديث:
في أعقاب الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام بدراسة أوضاع الدول حديثة الاستقلال، حيث كانت تعيش في حالة من " التخلف ". واعتبر علماء الاجتماع والسياسة الغربيين أن المجتمع الصناعي في الدول الغربية المتقدمة يشكل نموذجا مثاليا على البلدان النامية أن تسير على خطاه في التنمية والتحديث. وتم النظر إلى عملية التحديث على أنها عملية انتقال نحو الأنماط والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت في أمريكا وأوروبا الغربية، ثم انتقلت إلى بقية القارات ([6] ). حيث أن عملية التحديث تطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم " نقل للنموذج الغربي وذلك من خلال تصور وجود ثنائية: التقليدي – الحديث "، واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي ([7] ).
وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل: تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن
التأثيرات الدينية ([8] ).
انبثقت نظرية التحديث بشكل أساسي من نظرية التطور، التي تهتم بتفسير كيفية تحول المجتمعات غير الصناعية إلى مجتمعات صناعية، وتحدد خصائص كل من الحالتين وتؤكد على أن التحديث يتم في اتجاه واحد ويسير من غير الصناعي إلى الصناعي ([9] ). حيث اهتمت نظرية التطور التي ظهرت في الدول الغربية المتقدمة بدراسة المجتمع وعوامل تغيره وتطوره. وهي تمثل أيضا المرجع الرئيسي لنظريات التنمية السياسية التي استخدمت مفاهيمها ومناهجها وأهدافها، حيث ترى هذه النظرية أن التطور والنمو الاجتماعي يسير في خط صاعد واحد بمراحل متتالية، يجب أن يمر بها كل مجتمع ([10] ). وقد ساد في كتابات التنمية السياسية استخدام المدخل الثنائي، الذي تأسس بناءا على أعمال منظري نظرية التطور في القرن التاسع عشر، حيث يتم مقارنة المتغيرات الخاصة بالنمط المثالي المرتبط بالتقليدية / الحداثة. واعتمد علم السياسة على هذه الأنماط الثنائية كما يقول "جبراييل ألموند" عالم السياسة الأمريكي: إن نظريتنا تؤسس عملية بناء النظرية والتنميط بشكل ثنائي بسيط عبر الاستفادة من أعمال "ماكس فيبر"، و "فرديناند توليز"، و "تالكوت بارسونز" .. وغيرهم من علماء الاجتماع المجددين .. في محاولة لبناء نماذج لأشكال المجتمعات والنظم التقليدية والحديثة ([11] ).
والتقسيم الثنائي للمجتمعات ( تقليدي / حديث ) يتأسس على تصور "فيبر" للمجتمع التقليدي بوصفه مجتمع " ما قبل الصناعة " أو " ما قبل العقلانية " أو " مجتمع ما قبل الدولة "([12]). حيث صاغ "فيبر" نموذجه المثالي للمجتمع الحديث استنادا إلى العقيدة البروتستانتية التي يعتبر أنها أدت إلى تطور الرأسمالية الصناعية الغربية، لأنها عقيدة تحث على التحرر، وبالتالي فان قيمها ومعتقداتها المثالية هي أساس ظهور المجتمع الرأسمالي الحديث([13]).
وقدم "تالكوت بارسونز" عالم الاجتماع الأمريكي، ما يعرف ب " متغيرات النمط " كوسيلة تحليل من خلالها يتم تمييز الأفعال الناتجة عن هذه المتغيرات، ومقارنة أنماط مختلفة من المجتمعات بناءا على أنماط مختلفة من الأفعال، وصنف المجتمعات ومدى انتقالها من التخلف إلى التقدم بناءا على تلك المتغيرات. حيث أن قدرة المجتمع على التكيف معها تمكنه تدريجيا من التخلص من خصائص المجتمع المتخلف وتبني مستويات ثقافية مستندة على خصائص المجتمع المتقدم. وخصائص المجتمع المتقدم مقابل خصائص المجتمع المتخلف تتمثل في خمسة؛ العمومية مقابل الخصوصية؛ الأداء ( الانجاز) مقابل العزو ( النسبة )؛ التخصص مقابل الانتشار؛ المصلحة الجماعية مقابل المصلحة الذاتية؛ والحياد الوجداني مقابل الوجدانية. وهذه المتغيرات عند "بارسونز" تمثل مؤشرات تترجم الخصائص البنائية للنظام الاجتماعي من زاوية الدور المتوقع للفرد الفاعل، وتصبح المتغيرات هذه محددات للسلوك الاجتماعي، أو هي انعكاس للخصائص البنائية للمجتمع، وفي علاقات الأدوار في المجتمع ([14] ).
شهدت نظرية التحديث والجانب المتعلق بقضايا التنمية السياسية، تطورات وتغيرات في مناهج ومداخل التحليل في الدراسات التنموية والعلوم السياسية. ويصنف "روبرت باكنهام" تطور علم السياسة إلى ثلاث مراحل، حسب جوانب التركيز والتحليل، وهي؛ علم السياسة القانوني الشكلي؛ وعلم السياسة السلوكي؛ وعلم السياسة في مرحلة ما بعد السلوكية ([15] ). واستنادا إلى هذا
التقسيم لعلم السياسة، يعتبر ريتشارد هيجوت أن التراث السياسي المهتم بالتنمية السياسية، والذي ظهر خاصة في أمريكا الشمالية، قد شهد ثلاث مراحل:
أ- المرحلة الأولى: امتدت من عام 1954 إلى عام 1964، حيث هيمنت عليها أعمال لجنة السياسة المقارنة التابعة للمجلس الأمريكي للعلوم الاجتماعية، والتي عكست نظرة متفائلة بالنجاحات التي حققتها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وخاصة تأثير أيديولوجيا الليبرالية الأمريكية. وركزت دراسات التنمية السياسية في تلك المرحلة على المتغيرات القانونية والمؤسسية، حيث أن تطور نظرية التحديث في المرحلة الأولى، اعتبر وسيلة من وسائل تسهيل إرساء الديمقراطية الليبرالية داخل الدول الجديدة ([16] ). وقد ركزت مرحلة النزعة القانونية على أهمية دور الدولة والمؤسسات، حيث اقتصر على دراسة الجانب الرسمي والمؤسسات الرسمية الموجودة في أوروبا، وتحليل البناء القانوني للدول، والمحددات القانونية لمؤسساتها ([17] ).
ب- المرحلة الثانية: من عام 1965 إلى عام 1971، وهي المرحلة التي سادت فيها المدرسة السلوكية، والتي ركزت على النظام ومدخلاته وبيئته المحيطة والعوامل المؤثره على نشاطه وقدراته. حيث تراجع التفاؤل الذي ساد في المرحلة الأولى حول عملية التنمية، وفشلت الدول حديثة الاستقلال في تحقيق التحديث والتنمية الموعودة، وتبث عدم صحة الطرح القائل بأن الانتقال من التقليدية إلى الحداثة هي مسألة تقنية. فتم نقد التصور الخطي الصاعد لعملية التحديث، ونظر هنتنجتون إلى التنمية السياسية بوصفها عملية نمو في كفاءة المؤسسات، بحيث تصبح قادرة على التجاوب مع مسائل المشاركة السياسية والتعبئة الاجتماعية. حيث يرادف هنتنجتون بين التنمية السياسية والتحديث، ويربط بين التنمية السياسية وقدرات النظام المؤسسية لتتماشى مع عملية التنمية والتحديث. واعتبر أن التنمية السياسية تمر بعدة مراحل هي مرحلة ترشيد السلطة، ومرحلة التمايز والتخصص الوظيفي ومرحلة المشاركة السياسية. ومثلت تلك النظرة حسب هيجوت، بداية التحول من التركيز على الديمقراطية إلى التركيز على النظام السياسي في دراسات التنمية السياسية. وانعكاسا لازمة التنمية في الدول حديثة الاستقلال وعدم قدرتها على تحقيق التنمية المتوقعة، فقد اعتبرت دراسات التنمية في هذه المرحلة أن عملية التحديث والانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث ينتج عنها مشكلات متعددة، أو أزمات تنموية يحاجه إلى التغلب عليها. وتم النظر إلى التنمية السياسية بوصفها تجسد قدرة النظام السياسي على التعامل أو التكيف مع مشكلات التنمية السياسية مثل: مشكلة الشرعية، ومشكلة الهوية، ومشكلة المشاركة، ومشكلة التغلغل، ومشكلة التوزيع. ويرى هيجوت أن الاهتمام بقدرات النظام السياسي يشكل نوعا من الدفاع عن النظام والنخب الحاكمة وأهميتها في الحفاظ على النظام واستمراريته، حيث أصبح النظام واستقراره غاية وليس وسيلة للوصول إلى مجتمع حديث ([18] ).
تباينت الرؤى والأساليب والمناهج حول كيفية التخلص من التخلف والتغلب على مظاهره وتبعاته، وبالتالي كيفية الوصول إلى التنمية بشكل عام والتنمية السياسية خاصة، وذلك تبعا للنظريات والمدارس الفكرية التي عالجت قضايا التنمية ومتطلباتها وشروطها. حيث أن هناك نوع من الاتفاق الواسع على مظاهر التخلف في دول العالم الثالث، لكن لا يوجد اتفاق مماثل على أسباب التخلف ونشأته وأسباب استمراره وطرق الخلاص منه ([2] ).
1. نظريات التنمية السياسية
يصنف بعض الأكاديميين والكتاب، مثل علي غربي، وناجي شراب، النظريات التي تشكل مرجعية ومنطلق دراسة التنمية السياسية إلى ثلاث نظريات رئيسية هي؛ نظرية التحديث ومداخلها ومناهجها المتنوعة والتي تنطلق من أفكار علم الاجتماع وعلم السياسة الرأسماليين؛ والنظرية الماركسية المعتمدة على أفكار ماركس ولينين وتطبيقاتها في الدول الاشتراكية؛ ونظرية التبعية التي تم التنظير لها من مفكرين في العالم الثالث، ردا على فشل نظريات ومشاريع التنمية في هذه الدول، وخاصة من مفكري دول أمريكا الجنوبية ([3] ).
ويصنفها نصر محمد عارف على أنها نظريات أوروبية للتنمية السياسية وهي؛ النموذج الليبرالي السياسي الغربي أو ( النظريات السلوكية )؛ والنموذج الاشتراكي المسترشد بالتجارب الاشتراكية؛ ونظرية التبعية أو كما يسميها ( الماركسية الجديدة )، حيث يعتبر أن مدرسة التبعية لا تخرج في مقولاتها عن أفكار ومقولات لينين ([4] ). أما "ريتشارد هيجوت" الأكاديمي البريطاني وأستاذ الاقتصاد السياسي الدولي، فيصنف النظريات إلى نظريتين رئيسيتين هما، نظرية التحديث الغربية؛ والنظرية " الراديكالية "، التي يعتبر أنها تضم نظرية التبعية والنظرية الماركسية ( الجديدة ) ([5] ).
وشكلت هذه النظريات الإطار الفكري لعدد من المناهج والأساليب والاتجاهات الدراسية الفرعية، في تحليل ودراسة مسائل التنمية السياسية. حيث سنعرض لأهم الأسس والمنطلقات التي تقوم عليها النظريات الرئيسية التي شكلت أساس التنظير في هذا المجال.
1.1. نظرية التحديث:
في أعقاب الحرب العالمية الثانية تزايد الاهتمام بدراسة أوضاع الدول حديثة الاستقلال، حيث كانت تعيش في حالة من " التخلف ". واعتبر علماء الاجتماع والسياسة الغربيين أن المجتمع الصناعي في الدول الغربية المتقدمة يشكل نموذجا مثاليا على البلدان النامية أن تسير على خطاه في التنمية والتحديث. وتم النظر إلى عملية التحديث على أنها عملية انتقال نحو الأنماط والنظم الاجتماعية والسياسية التي تطورت في أمريكا وأوروبا الغربية، ثم انتقلت إلى بقية القارات ([6] ). حيث أن عملية التحديث تطال في تأثيرها مختلف جوانب المجتمع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. والتحديث في علم اجتماع التنمية يعني حسب اغلب المنظرين لهذا العلم " نقل للنموذج الغربي وذلك من خلال تصور وجود ثنائية: التقليدي – الحديث "، واعتبار الديمقراطية بمفهومها الواسع، خاصية رئيسية للمجتمع الحديث في المجال السياسي ([7] ).
وفي المجال السياسي أيضا هناك من يرى أن عملية التحديث السياسي هي التحولات والتغييرات السياسية التي حدثت في أوروبا وبقية أنحاء العالم منذ النهضة الأوروبية. وهذه التغييرات يشار لها كخصائص لعملية التحديث السياسي، وتشمل: تحقيق مزيد من المساواة وإعطاء فرص للمشاركة في صنع السياسة، وقدرة النظام السياسي على صياغة وتنفيذ السياسات، والتنوع والتخصص في الوظائف السياسية، وعلمانية العملية السياسية وفصلها عن
التأثيرات الدينية ([8] ).
انبثقت نظرية التحديث بشكل أساسي من نظرية التطور، التي تهتم بتفسير كيفية تحول المجتمعات غير الصناعية إلى مجتمعات صناعية، وتحدد خصائص كل من الحالتين وتؤكد على أن التحديث يتم في اتجاه واحد ويسير من غير الصناعي إلى الصناعي ([9] ). حيث اهتمت نظرية التطور التي ظهرت في الدول الغربية المتقدمة بدراسة المجتمع وعوامل تغيره وتطوره. وهي تمثل أيضا المرجع الرئيسي لنظريات التنمية السياسية التي استخدمت مفاهيمها ومناهجها وأهدافها، حيث ترى هذه النظرية أن التطور والنمو الاجتماعي يسير في خط صاعد واحد بمراحل متتالية، يجب أن يمر بها كل مجتمع ([10] ). وقد ساد في كتابات التنمية السياسية استخدام المدخل الثنائي، الذي تأسس بناءا على أعمال منظري نظرية التطور في القرن التاسع عشر، حيث يتم مقارنة المتغيرات الخاصة بالنمط المثالي المرتبط بالتقليدية / الحداثة. واعتمد علم السياسة على هذه الأنماط الثنائية كما يقول "جبراييل ألموند" عالم السياسة الأمريكي: إن نظريتنا تؤسس عملية بناء النظرية والتنميط بشكل ثنائي بسيط عبر الاستفادة من أعمال "ماكس فيبر"، و "فرديناند توليز"، و "تالكوت بارسونز" .. وغيرهم من علماء الاجتماع المجددين .. في محاولة لبناء نماذج لأشكال المجتمعات والنظم التقليدية والحديثة ([11] ).
والتقسيم الثنائي للمجتمعات ( تقليدي / حديث ) يتأسس على تصور "فيبر" للمجتمع التقليدي بوصفه مجتمع " ما قبل الصناعة " أو " ما قبل العقلانية " أو " مجتمع ما قبل الدولة "([12]). حيث صاغ "فيبر" نموذجه المثالي للمجتمع الحديث استنادا إلى العقيدة البروتستانتية التي يعتبر أنها أدت إلى تطور الرأسمالية الصناعية الغربية، لأنها عقيدة تحث على التحرر، وبالتالي فان قيمها ومعتقداتها المثالية هي أساس ظهور المجتمع الرأسمالي الحديث([13]).
وقدم "تالكوت بارسونز" عالم الاجتماع الأمريكي، ما يعرف ب " متغيرات النمط " كوسيلة تحليل من خلالها يتم تمييز الأفعال الناتجة عن هذه المتغيرات، ومقارنة أنماط مختلفة من المجتمعات بناءا على أنماط مختلفة من الأفعال، وصنف المجتمعات ومدى انتقالها من التخلف إلى التقدم بناءا على تلك المتغيرات. حيث أن قدرة المجتمع على التكيف معها تمكنه تدريجيا من التخلص من خصائص المجتمع المتخلف وتبني مستويات ثقافية مستندة على خصائص المجتمع المتقدم. وخصائص المجتمع المتقدم مقابل خصائص المجتمع المتخلف تتمثل في خمسة؛ العمومية مقابل الخصوصية؛ الأداء ( الانجاز) مقابل العزو ( النسبة )؛ التخصص مقابل الانتشار؛ المصلحة الجماعية مقابل المصلحة الذاتية؛ والحياد الوجداني مقابل الوجدانية. وهذه المتغيرات عند "بارسونز" تمثل مؤشرات تترجم الخصائص البنائية للنظام الاجتماعي من زاوية الدور المتوقع للفرد الفاعل، وتصبح المتغيرات هذه محددات للسلوك الاجتماعي، أو هي انعكاس للخصائص البنائية للمجتمع، وفي علاقات الأدوار في المجتمع ([14] ).
شهدت نظرية التحديث والجانب المتعلق بقضايا التنمية السياسية، تطورات وتغيرات في مناهج ومداخل التحليل في الدراسات التنموية والعلوم السياسية. ويصنف "روبرت باكنهام" تطور علم السياسة إلى ثلاث مراحل، حسب جوانب التركيز والتحليل، وهي؛ علم السياسة القانوني الشكلي؛ وعلم السياسة السلوكي؛ وعلم السياسة في مرحلة ما بعد السلوكية ([15] ). واستنادا إلى هذا
التقسيم لعلم السياسة، يعتبر ريتشارد هيجوت أن التراث السياسي المهتم بالتنمية السياسية، والذي ظهر خاصة في أمريكا الشمالية، قد شهد ثلاث مراحل:
أ- المرحلة الأولى: امتدت من عام 1954 إلى عام 1964، حيث هيمنت عليها أعمال لجنة السياسة المقارنة التابعة للمجلس الأمريكي للعلوم الاجتماعية، والتي عكست نظرة متفائلة بالنجاحات التي حققتها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وخاصة تأثير أيديولوجيا الليبرالية الأمريكية. وركزت دراسات التنمية السياسية في تلك المرحلة على المتغيرات القانونية والمؤسسية، حيث أن تطور نظرية التحديث في المرحلة الأولى، اعتبر وسيلة من وسائل تسهيل إرساء الديمقراطية الليبرالية داخل الدول الجديدة ([16] ). وقد ركزت مرحلة النزعة القانونية على أهمية دور الدولة والمؤسسات، حيث اقتصر على دراسة الجانب الرسمي والمؤسسات الرسمية الموجودة في أوروبا، وتحليل البناء القانوني للدول، والمحددات القانونية لمؤسساتها ([17] ).
ب- المرحلة الثانية: من عام 1965 إلى عام 1971، وهي المرحلة التي سادت فيها المدرسة السلوكية، والتي ركزت على النظام ومدخلاته وبيئته المحيطة والعوامل المؤثره على نشاطه وقدراته. حيث تراجع التفاؤل الذي ساد في المرحلة الأولى حول عملية التنمية، وفشلت الدول حديثة الاستقلال في تحقيق التحديث والتنمية الموعودة، وتبث عدم صحة الطرح القائل بأن الانتقال من التقليدية إلى الحداثة هي مسألة تقنية. فتم نقد التصور الخطي الصاعد لعملية التحديث، ونظر هنتنجتون إلى التنمية السياسية بوصفها عملية نمو في كفاءة المؤسسات، بحيث تصبح قادرة على التجاوب مع مسائل المشاركة السياسية والتعبئة الاجتماعية. حيث يرادف هنتنجتون بين التنمية السياسية والتحديث، ويربط بين التنمية السياسية وقدرات النظام المؤسسية لتتماشى مع عملية التنمية والتحديث. واعتبر أن التنمية السياسية تمر بعدة مراحل هي مرحلة ترشيد السلطة، ومرحلة التمايز والتخصص الوظيفي ومرحلة المشاركة السياسية. ومثلت تلك النظرة حسب هيجوت، بداية التحول من التركيز على الديمقراطية إلى التركيز على النظام السياسي في دراسات التنمية السياسية. وانعكاسا لازمة التنمية في الدول حديثة الاستقلال وعدم قدرتها على تحقيق التنمية المتوقعة، فقد اعتبرت دراسات التنمية في هذه المرحلة أن عملية التحديث والانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث ينتج عنها مشكلات متعددة، أو أزمات تنموية يحاجه إلى التغلب عليها. وتم النظر إلى التنمية السياسية بوصفها تجسد قدرة النظام السياسي على التعامل أو التكيف مع مشكلات التنمية السياسية مثل: مشكلة الشرعية، ومشكلة الهوية، ومشكلة المشاركة، ومشكلة التغلغل، ومشكلة التوزيع. ويرى هيجوت أن الاهتمام بقدرات النظام السياسي يشكل نوعا من الدفاع عن النظام والنخب الحاكمة وأهميتها في الحفاظ على النظام واستمراريته، حيث أصبح النظام واستقراره غاية وليس وسيلة للوصول إلى مجتمع حديث ([18] ).