صفحة 1 من 1

التنمية السياسية النظريات والمفهوم(4)

مرسل: الثلاثاء يوليو 24, 2012 6:50 pm
بواسطة عبدالرحمن الزبن
حاولت الأحزاب الشيوعية قيادة الثورة في بلدان العالم الثالث، لكنها اتبعت خطا معاديا للبرجوازية القومية في هذه البلدان، وكان تأثيرها على الحركات القومية بين الحربين العالميتين تأثيرا ضعيفا، باستثناء الصين، التي قدمت تجربة مهمة للرؤية الماركسية للتنمية السياسية في العالم الثالث. وتحققت الثورة الصينية من تحالف المثقفين ممثلين بالحزب الشيوعي والفلاحين، حيث كان دور الطبقة العاملة الصناعية ضئيلا فيها، كما أنها لم تعادي الطبقة البرجوازية. وبعد الحرب العالمية الثانية أيضا دعم الاتحاد السوفيتي الديمقراطيات القومية الناشئة، واعتبر أنها سوف تتطور وتنمو صناعيا مما يمكن من تحقيق الثورة في إطار تحالف العمال والفلاحين. ولقد كان هدف التنمية السياسية لدى الماركسيين واضحا، وهو بناء الدولة الاشتراكية، وهذا يتحقق من خلال قيادة العمال والتحالف مع شعوب الدول المستعمرة المعادية للرأسمالية حليفة الثورة الاشتراكية ([53] ). ويعتبر مهدي عامل أن البرجوازية الوطنية في العالم الثالث والتي سارت بدرب التحرر الوطني والبناء الاقتصادي، قطعت شوطا توقفت عنده بعد فشلها في السير في هذا الطريق إلى نهاياته، فصار هناك تداخل بالضرورة بين القضية الوطنية والقضية الاجتماعية بعد هذا الفشل. وهذا الفشل ناتج عن طبيعة بنية الإنتاج الكولونيالي في دول العالم الثالث، التي هي بنية عاجزة وتتحكم بها العلاقة الكولونيالية. لذا أصبح هناك تداخل في مهام التحرر الوطني لانجاز التحرر من الاستعمار أو من الهيمنة الاستعمارية بأشكالها غير المباشرة، وبين الثورة الاشتراكية، لان الثورتين ثورة واحدة. حيث أن العلاقة الكولونيالية من حيث هي علاقة تبعية بنيوية، هي التي تحدد بالضرورة الثورة التحررية الوطنية ، في آليتها الداخلية كثورة اشتراكية، تقوم بها الطبقة العاملة ([54] ).

3.1. نظرية التبعية:
ظهرت نظرية التبعية بداية في أمريكا اللاتينية في ستينيات القرن العشرين، نتيجة عدم نجاح نموذج نظرية التحديث في تقديم تفسير حقيقي ومقنع لظاهرة التخلف في العالم الثالث، وكذلك نتيجة فشل خطط وعمليات التنمية في تلك البلدان في فترة الخمسينيات والستينيات. واعتبر منظري التبعية أن دراسات التنمية حاولت البرهنة على أن التخلف هو حالة متأصلة، ناتجة من طبيعة البنى الاجتماعية لبلدان العالم الثالث، ولم تنتج عن الاستعمار، بل هي موجودة قبله ([55] ). وتعتبر نظرية التبعية ردا على أسس وطروحات نظرية التحديث، وتنطلق من فرضية أن حالة التخلف وما ينتج عنها من مشاكل وأزمات هي ناتج من نواتج الحقبة الاستعمارية. وتفسر حالة التخلف الاقتصادي والسياسي من منطلق الظروف التاريخية التي مرت بها بلدان العالم الثالث، ووقوعها تحت السيطرة الاستعمارية للنظام الرأسمالي العالمي. كما أنها تعتبر أن هناك علاقة جدلية بين التنمية والتخلف، وبين الحداثة والتقليدية، وبين مختلف الظواهر بشكل عام ([56] ). وبمعنى آخر اعتبرت أن التنمية التي حدثت في العالم الرأسمالي المتقدم كانت على حساب الدول المستعمرة، وان الوجه الأخر لتلك التنمية هي تخلف دول العالم الثالث، ووقوعها في براثن التبعية والسيطرة الرأسمالية.
ظهرت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات دراسات عديدة لنقض الفرضية التي تقول بان التخلف هو حالة متأصلة في دول العالم الثالث. وعملت الدراسات التي قدمها منظرو التبعية مثل "اندريه جندر فرانك" وسمير أمين وغيرهما على تحليل واثبات أن السيطرة الرأسمالية هي المسئولة عن تخلف بلدان العالم الثالث حيث حللت الجوانب التاريخية للتخلف المرتبط بالاستعمار. وكان هذا التركيز على الجوانب التاريخية، إلى جانب الأسلوب الثوري لنظرية التبعية، من أسباب تسميتها بالنظرية الماركسية، أو الماركسية الجديدة، عند البعض، رغم أن رواد هذه المدرسة هم من علماء الاقتصاد الراديكاليين من اللجنة الاقتصادية لدول أمريكا اللاتينية ( أكلا) ([57] ). وكان انتشار نظرية التبعية عائد أساسا إلى علماء اقتصاديات التنمية من مفكري العالم الثالث، الذين اهتموا بالنواحي العالمية للاستغلال الاقتصادي، ولا يعود إلى الكتاب الماركسيين الذين اهتموا بظاهرة الامبريالية ([58] ). ويرى يوسف صايغ أن المفكرين الاجتماعيين في أمريكا اللاتينية الذين أصبحوا منظرو التبعية وصاغوا وطوروا مقولاتها، هم مجموعة تضم ماركسيين – محدثين، وبنيويين، ووطنيين تقدميين، أكدوا جميعا، عدا البنيويين، على دور التبعية المفروضة من الدول الرأسمالية، في إنتاج حالة التخلف واستمرارها ([59] ).
ويعف علي غربي التبعية بأنها: " ظرف تاريخي موضوعي تشكل تاريخيا على مدى زمني طويل يمتد إلى الفترة الاستعمارية، وهذا أدى إلى نشوء مجموعة من العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية، تعبر عن شكل من أشكال تقسيم العمل على الصعيد العالمي يتم بمقتضاها توظيف موارد مجتمع معين ( المجتمع التابع والمتخلف) لخدمة مصالح مجتمع آخر أو مجتمعات أخرى ( المجتمعات المتقدمة ) التي تمثل مركز أو قلب النظام الرأسمالي العالمي... إن دول المركز تمارس هيمنتها على الدول التابعة من خلال حكوماتها بإتباع سياسات اقتصادية عسكرية وغيرها... أو من خلال المؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي وغيره والشركات المتعددة الجنسية. حيث تؤدي أوضاع التبعية إلى تعطيل الإرادة الوطنية للدولة التابعة وفقدانها لشروط إعادة تكوين ذاتها، ومن ثم تنميتها المنشودة ( الخروج من حالة التبعية ) " ([60] ). وطبيعة هذه العلاقة تؤدي إلى استمرار وإدامة سيطرة الدول المتقدمة وإبقاء الدول النامية في دائرة التبعية.
"اندريه جندر فرانك" احد رواد هذه النظرية، يعرف التبعية على: أنها وضع أو حالة تتكون من سلسلة كاملة من المراكز الكبرى والتوابع الصغرى تربط معا أجزاء النظام الرأسمالي بكامله من مراكزه إلى المواقع في هوامش وأرياف دول أمريكا اللاتينية. هذه التوابع تعمل كأداة لامتصاص واستنزاف رأس المال والفائض الاقتصادي من التوابع إلى المراكز المحيطة بها ومنها إلى مراكز النظام الرأسمالي. والنمو الذي يتحقق في الدول النامية في إطار تلك العلاقة هو نمو تابع، يفتقر إلى قوة دفع ذاتية، وتنقصه صفة الديمومة ([61] ).
وركزت نظرية التبعية على أن التنمية التي تتم في العالم الثالث هي تنمية تابعة أو تخلف، وهي نتاج توسع الدول الاستعمارية، وربط الاقتصاد المستعمر بحاجاتها. ويصف فرانك العلاقة بعلاقة التابع والمتبوع، أو العلاقة بين المركز والأطراف ( الهوامش ) حيث يحافظ المركز على علاقة التبعية بينه وبين الهامش، وتلك العلاقة تؤدي إلى استنزاف الفائض من الهوامش إلى المركز. وانتقد فرانك أشكال التجارة الدولية ونقل التكنولوجيا ورأس المال من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. وعليه صاغ ما سمي ب " تنمية التخلف " حيث اعتبر أن أمريكا اللاتينية كانت متخلفة قبل الاختراق الرأسمالي، لكنها أصبحت أكثر تخلفا بعد هذا الاختراق. وأصبح الارتباط بين التنمية والتخلف ارتباطا سببيا، حيث أن التنمية التي حدثت في الغرب الصناعي تمت على حساب تخلف بلدان العالم الثالث، وهذا شكل ردا على القول بعدم وجود علاقة بين التنمية ( في الغرب ) والتخلف ( في العالم الثالث ) ([62] ).
المسألة الأساسية التي تطرحها نظرية التبعية هي التحليل الكلي لعملية تطور المجتمع، وتطرح رؤية نظرية تاريخية تظهر خصوصية المجتمعات التابعة وخصوصية تطورها. وهي بذلك تتبنى فكرة النسق العالمي كمنطلق من خلاله تكشف موقع الدول المتخلفة داخله، إضافة إلى اهتمامها بالبناء الاجتماعي لهذه الدول، كبناء تابع ومتخلف ومحكوم بنمط من تقسيم العمل الدولي. كما حللت نتائج التنمية الرأسمالية والتوسع الامبريالي وآثارها الاجتماعية والطرق التي من خلالها تتشكل الأبنية الاستغلالية الجديدة التي تعيق نمو الدول المتخلفة. ويعتبر الإسهام الأساسي لنظرية التبعية في إظهار أن تخلف دول العالم الثالث مرتبط بعملية التوسع الاستعماري والهيمنة الرأسمالية المعاصرة، وان التخلف ليس حالة متأصلة في طبيعة المجتمعات النامية. وهذا يشير إلى أن العامل الحاسم في إنتاج التخلف هو العامل الخارجي، وذلك يمثل نظرة أحادية الاتجاه، اعتمادا على القناعة بان التخلف هو نتيجة منطقية لتطور الرأسمالية الغربية. مع الإشارة إلى أن هناك بعض منظري التبعية قالوا بوجود دور مهم للقوى المحلية في إنتاج التخلف ([63] ).
تميزت نظرية التبعية بتنوع مشارب وخلفيات منظريها وكتابها، بحيث لا يوجد لديهم التزام باتجاه فكري واحد، بل نرى تعدد في المداخل والاتجاهات. وقد نتج عن ذلك تقديم تحليلات مختلفة لأسباب التخلف والتبعية والطريقة التي تتجلى بها والآثار التي تتركها. وقد قسم البعض نظرية التبعية إلى اتجاهين نظريين رئيسيين هما؛ التبعية البنيوية وعلاقات المركز – الهامش؛ وتحليل أساليب الإنتاج. وركز الاتجاه الأول على خصائص وأوضاع التشكيلات الاجتماعية الطرفية، وأسباب ونتائج الاستعمار في العالم الثالث. حيث أن الدول الصناعية تمنع تصنيع الدول المتخلفة التي تمدها بالمواد الأولية، نتيجة ارتباط الاقتصاد المتخلف بالاقتصاد المتقدم في إطار علاقات المركز – الهامش الناتج عن تغلغل الرأسمالية في العالم الثالث ([64] ). ويركز بعض منظري هذا الاتجاه على علاقات التبادل غير المتكافئة وتحويل الفائض من الأطراف إلى المراكز بطرق مختلفة مما يعطل إمكانية تراكم رأس المال وتحقيق تنمية مستقلة. وهنا يتم تفسير التخلف أو " الرأسمالية التابعة " على أنها نتاج الهيمنة الرأسمالية كنظام عالمي يتضمن علاقات عالمية للتبادل، وهو تبادل غير متكافئ يذهب لصالح المركز ([65] ).
ويرى سمير أمين أن التوسع الرأسمالي أدى إلى نشوء التبعية، التي لا يمكن فهمها دون معرفة النظام الرأسمالي المهيمن على اقتصاديات الدول النامية. وهذه الدول تعتمد سياسات تنموية ترسخ الإنتاج الرأسمالي التابع، حيث تمثل البرجوازية الوطنية والمحلية في الأطراف امتدادا للبرجوازية العالمية وأداة لتنفيذ سياساتها. ويرى أمين أيضا أن تلك الدول تمتاز بهيمنة الرأسمالية الزراعية في الاقتصاد الوطني، مع نمو دور البرجوازية الكمبرادورية التجارية المرتبطة بالرأسمال الأجنبي. إضافة إلى نمو القطاع البيروقراطي الحكومي بخصوصيات لا توجد إلا في الدول الطرفية. ويرى أن تغيير هذا الواقع المتخلف لا يتم إلا بالحل الاشتراكي ([66] ).
أما منظري الاتجاه الثاني فقد اعتبروا أن التركيز على العامل الخارجي للتبعية أهمل العوامل المحلية في إنتاج واستمرار التبعية. ودرسوا كيفية تعايش أنماط إنتاج غير رأسمالية مع نمط الإنتاج الرأسمالي في دول العالم الثالث، وذلك يؤدي إلى تعدد أساليب الإنتاج وتعايشها جنبا إلى جنب، وهي أشكال في اغلبها غير رأسمالية رغم انخراطها في السوق والتبادل السلعي. ويعتبر هذا الاتجاه أن علاقات وأساليب الإنتاج السائدة في الدول المتخلفة هي ما قبل رأسمالية لذا فهي تنتج التخلف ومسئولة عن استمراره. وهذا يقود إلى تأكيد أن العوامل الداخلية مسئولة أساسا عن التخلف، حيث تتمفصل أنماط الإنتاج المختلفة وتتعايش معا، وان سيطرة النمط الرأسمالي لا يعني زوال الأنماط الأخرى ([67] ).
واهتم بعض منظري التبعية مثل " فرانك" و " كاردوز"، بالجانب السياسي بالتركيز على دور الدولة في المجتمعات الطرفية والتابعة. حيث يرى "فرانك" أن الدولة تمثل وظيفة إعادة إنتاج التبعية ونمط الإنتاج التابع والحفاظ على مصالح الاحتكارات الدولية، وتمثل مصالح الطبقات المحلية المسيطرة، وتمثل أداة في يد رأسمالية المركز وهي خاضعة مباشرة للنظام الرأسمالي العالمي، وهي دائما ذات طابع تسلطي. فيما يرى " كاردوز" أن وظائف الدولة في العالم الثالث تشبه وظائف الدولة في المركز. فهي تقوم بوظائف اقتصادية وأيديولوجية، وتمثل مصالح البرجوازية المحلية، وتتأثر بالبنية الطبقية المحلية، وتأخذ أشكالا متنوعة بما فيها الشكل الديمقراطي ([68] ).
تعرضت نظرية التبعية لانتقادات مختلفة أيضا، ورأى البعض أنها ذات نظرة أحادية في التركيز على العوامل الخارجية للتخلف والمبالغة في دورها وإهمال العوامل الداخلية الاجتماعية والثقافية، التي تساعد وتمكن العوامل الخارجية في استمرار وإعادة إنتاج التبعية والتخلف. كما أن هناك نقد للثنائيات التي طرحتها مثل المركز – الأطراف، أو الأفلاك – التوابع، والتي لا تختلف عن ثنائيات نظرية التحديث ([69] ). ويعتقد بعض الكتاب أن الهيمنة الخارجية لا يمكن أن تتحقق إذا لم تجد سندا لها من الأطراف المحلية التي تستفيد من هذا الواقع، لذا فان إنهاء حالة التبعية يستدعي تغييرا في الأبنية الاجتماعية الداخلية، مع الانتباه إلى أن ذلك سيؤدي إلى الدخول في صراع مع النظام الرأسمالي المهيمن. كما أن جزء من منظري التبعية يرون بان إنهاء حالة التخلف والتبعية يحتاج إلى عمل ثوري جذري يؤدي إلى تغيير بنيوي راديكالي، لضمان نجاح التنمية خارج إطار علاقة التبعية، من خلال إنهاء حكم البرجوازية المحلية في الدول المتخلفة ([70] ).
كما يرى آخرون بان نظرية التبعية لم تنجح في تقديم برنامج عملي للتخلص من حالة التبعية والتخلف، إضافة إلى أنها وقعت بنفس نواقص النظريات الأخرى بتقديم تعميمات واسعة وقانون عام تريد تطبيقه على كل المجتمعات في العالم الثالث، مع عدم مراعاة الفوارق بين هذه المجتمعات وخصوصياتها المتنوعة والمميزة. كما يوجه لها انتقاد في تركيز تحليلها على الجوانب الاقتصادية لعلاقات التبعية ومظاهر التخلف، وعدم إعطاء العوامل غير الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، الأهمية المطلوبة ([71] ).

4.1. نظرية التنمية في مرحلة ما بعد الحداثة
من الاستعراض السابق لنظريات التنمية السياسية نرى أنه لا يوجد إجماع أو رؤية متفق عليها لمفهوم التنمية السياسية، ووسائلها وآلياتها، وأهدافها وغاياتها النهائية. وهذا ناتج من الخلفيات والرؤى الأيديولوجية التي حمل بها موضوع التنمية، واختلاف منطلقات وبواعث هذه الأيديولوجيات. كما أن التنمية بصورتها ومقاصدها المتنوعة التي وضعت منذ بدأ الاهتمام بهذا الحقل، ارتباطا بالتوجه إلى التأثير على الدول حديثة الاستقلال، لم تحقق الغايات والأهداف الكبرى التي وعدت بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتحديث والتطور. بل إن غالبية الدول في العالم الثالث، حتى التي اتبعت ما سمى بالتنمية المستقلة، أو التنمية المتمحورة حول الذات، وسياسة إحلال الواردات، وغيرها من النماذج التنموية، لم تنجح في تحقيق تنمية مستقرة، ولا في الخروج من إطار التخلف. كما سقطت في أزمات ومشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، أدت في النتيجة إلى تزايد اعتمادها على الدول الصناعية المتقدمة، وتعميق تبعيتها وخضوعها لشروط ومطالب وتدخلات المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها الدول الرأسمالية الكبرى.
وقد شهد حقل التنمية أيضا تغيرات وتطورات وتحويرات عديدة، حيث اهتم بداية في الجانب الاقتصادي، وكيفية تحقيق التطور والتنمية وتحسين معدلات النمو والدخل ومستوى المعيشة وغيرها من المؤشرات الاقتصادية. ثم جرت عملية تجاوز حصره في الاقتصاد وأضيف له مفهوم الشمول في مرحلة لاحقة، ليعنى بجوانب حياة المجتمع المتعددة، مع عدم اختلاف مضمون التنمية الهادفة إلى تعميم النموذج الغربي الحداثي، وما يستبطنه من أهداف الهيمنة وتكريس التبعية. وبعدها ظهر مفهوم التنمية المستقلة الذي جاء ردا على المفهوم الغربي الحداثي، في محاولة الخروج من إسار الهيمنة والتبعية ([72] ). وقد شاب مفهوم التنمية أيضا الكثير من الالتباس والغموض والمعاني الواسعة الفضفاضة، سواء للأهداف والغايات، أو كثرة المداخل والمناهج والاقترابات المستخدمة في دراسته. وعليه كان مفهوم التنمية السياسية أيضا غامض وغير ثابت، فهل المقصود بها مجرد التغيير من حالة إلى حالة، أم أنها محددة بهدف معين؟ وإذا كان هناك هدف وغاية للتنمية السياسية، هل هناك اتفاق على هذا الهدف، وهل هو محدد بصورة واضحة؟ وحتى لو تم تحديد الهدف، فهل هناك توافق على الظروف والعوامل التي تعبر عن الوصول إلى الغاية؟ ([73] ). وهل تتوقف التنمية إذا تم الوصول إلى تلك الأهداف، ولا نصبح بحاجة إليها؟. أم أن التنمية هي عملية مستمرة ومتواصلة تنبع من استمرارية التطور والتغير في المجتمع البشري وبيئته وظروفه، وتعقد البنى والعلاقات وتشابكها، وتنوع وتغير الحاجات والمطالب الإنسانية؟.