صفحة 1 من 1

التنمية السياسية النظريات والمفهوم (5)

مرسل: الثلاثاء يوليو 24, 2012 6:51 pm
بواسطة عبدالرحمن الزبن
على الرغم من الانتقادات والمآخذ على نظريات التنمية ونواقصها، إلا أنها بقيت تسيطر على حقل دراسات التنمية بكل فروعها، مع محاولاتها للتأقلم مع المتغيرات وتطوير أساليب ومقاربات جديدة للتأثير في عملية التغير والبناء السياسي في العالم الثالث. ونظر للتنمية على أنها عملية تغيير في جوهرها، تشمل المجتمع والدولة بالمناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها. وقد تنوعت الأفكار والاتجاهات حول أهداف ووسائل وغايات هذا التغيير، فهل الهدف هو التحديث أم التغريب أم المركسة أم الأسلمة؟ وهل يتم التغيير من خلال تعزيز النظام القائم وزيادة قدراته، عن طريق الإصلاح والتعديل المتدرج طويل المدى، أم من خلال عمل ثوري جذري؟ وهل التغيير يتم بأدوات اقتصادية، أم سياسية، ام ثقافية؟ كل تلك الرؤى تتمركز حول هدف أساسي هو إحداث التغيير في المجتمع، بما يتلاءم مع منطلقات ومسلمات وبواعث تلك الرؤى والنظريات ([74] ).
لكن هذا الوضع تغير بصورة جذرية في بدايات العقد التاسع من القرن العشرين، على ضوء التحولات العميقة التي حصلت في النظام الدولي، بعد انهيار دول المعسكر الاشتراكي، وانهيار النموذج الاشتراكي للتنمية والاقتصاد والمجتمع القائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، والدور المحوري للدولة في المجتمع بجميع جوانبه. وأدى ذلك أيضا إلى القول بانتصار النموذج الرأسمالي، خاصة مع تحول البلدان الاشتراكية السابقة إلى اقتصاد السوق والملكية الخاصة، ومعها غالبية دول العالم الثالث، التي تخلت عن القطاع العام وسارت في نهج الخصخصة والانفتاح الاقتصادي، وإعادة الهيكلة والإصلاحات المختلفة المقدمة كوصفة للخروج من أزمات ومشاكل هذه الدول، من جانب المؤسسات المالية والنقدية الدولية. حيث كانت بعض بلدان العالم الثالث قد استطاعت تحقيق بعض الانجازات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها ترافقت مع حكم تسلطي أو فردي، غيًب دور المواطنين، والحياة الديمقراطية، ودور المؤسسات القادرة على ضمان الحفاظ على الانجازات وتطويرها. تلك الانجازات التي ضاعت بغياب الزعيم الأوحد والقائد الفرد، وعادت تلك الدول للوقوع مرة أخرى في شباك التبعية، وتنفيذ سياسات أدت إلى تزايد المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

5.1. متغيرات ومعطيات حقل التنمية في ظل النظام العالمي الجديد
شهدت البيئة الدولية تطورات عميقة أدت إلى تغيير مكونات وأطراف النظام الدولي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد انهيار دول المعسكر الاشتراكي والقطب العالمي الثاني، الاتحاد السوفيتي. ونتج عن ذلك ظهور ما سمي " بالنظام العالمي الجديد " على المستوى الواقعي، وحركة " ما بعد الحداثة " على المستوى الفكري والثقافي والعلمي، مما أدى إلى ضرورة تحول حقل التنمية، ليتجاوز ما كان يعرف بالنسق الحداثي أو التنموي أو السلوكي، وظهور ما بعد الحداثي والسلوكي ([75] ). وشهدت نظرية التنمية تحولا على صعيد الأطر النظرية والموضوعات والنماذج المعرفية، حيث جرى التركيز على الاقتصاد بدلا من الثقافة كمدخل للتغيير، وتجدد الاهتمام بالمجتمع المدني وأعيد إحياءه، بعد أن كانت الدعوة لإيجاد ثقافة مدنية وعلمانية، إضافة إلى الاهتمام بقضايا التعددية بدلا من التركيز على الدولة ودورها المركزي، حيث أصبح السوق هو الآلية التي تحقق النمو والتوازن ([76] ).
كما تم نقد طابع التعميم وصلاحية نظريات التنمية على المستوى العالمي، واحتواء تلك النظريات على مسلمات ونماذج وأحكام، تدعي صلاحيتها وإمكانية تطبيقها على كل المجتمعات، دون الأخذ بالاعتبار الظروف المختلفة، ومميزات وخصائص كل مجتمع، وثقافته وقيمه. حيث أن سياق التنمية وبيئتها في العالم الثالث، يختلف عن التجربة الأوروبية وتجربة الولايات المتحدة الأمريكية. رغم أن بعض مؤسسي المدرسة السلوكية مثل جبراييل الموند، يرفضون فكر ما بعد الحداثة ويدعون للتمسك بالحداثة والسلوكية، ويعتبر الموند أن الأزمة هي سياسية، وليست أزمة فكرية في نظرية التنمية ([77] ). ويرجع الدكتور نصر عارف أسباب ظهور فكر ما بعد الحداثة وتجاوز المنظور التنموي السابق إلى عدة أسباب منها: انتهاء الحرب الباردة والصراع الإيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية، حيث كانت بدايات ظهور دراسات التنمية مرتبطة بالتنافس والصراع على الدول حديثة الاستقلال بين الطرفين، وارتباطها أيضا بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة واهتمامها بالعالم الثالث. كما كان هناك عدم رضا عن مقاربات التنمية من جانب مفكري العالم الثالث، لتحيزها وعدم ملائمتها لظروف العالم الثالث، عدا عن فشل التجارب التنموية في كثير من هذه الدول ([78] ).
ومع تشكل النظام العالمي الجديد وبداية مرحلة العولمة، كظاهرة جديدة تشكل نمط سياسي اقتصادي وثقافي للنموذج الغربي، الذي يتجاوز الحدود والسيادة والدول، وتأثيراتها على المجتمعات الأخرى، فقد تأثرت نظرية التنمية بمكوناتها وموضوعاتها وقضاياها واليات العمل التنموي عامة. حيث تم تبني مفاهيم ومضامين جديدة في الخطاب التنموي، ارتباطا بالتغييرات السياسية والاقتصادية على الصعيد العالمي، مثل التنمية المستديمة التي تركز على تلبية حاجة الأجيال الحالية دون المس بفرص الأجيال القادمة على تحقيق احتياجاتها، وتحقيق الحفاظ على البيئة، وعدم هدر المصادر واستنزافها. كما برزت حقول جديدة استحوذت على اهتمام العلوم السياسية، مثل المجتمع المدني في مواجهة الدولة، ودوره في التنمية وتحقيق الديمقراطية ([79] ). هذا إضافة إلى تزايد تأثير المؤسسات الدولية التي تقدم المعونات لدول العالم الثالث، وتأثير هذه المؤسسات وفلسفتها القائمة على اقتصاد السوق ودوره الرئيسي في تحقيق التنمية، وبرامج الإصلاح وإعادة الهيكلة لتوفير بيئة مؤاتية لجعل السوق أكثر فاعلية، حيث ترى أن الاقتصاد يجب أن يكون من مهام القطاع الخاص وليس من مسؤوليات الدولة. حيث كانت دول العالم الثالث قد تبنت استراتيجيات التنمية المعتمدة على الدولة التي تقوم بالتخطيط والتنفيذ والسيطرة على الموارد وتخصيصها وتوزيعها. لكن حصل تغير على تلك السياسات، حيث أصبحت مهمة الدولة ميسر ومنظم للخدمات بدلا من تقديمها ([80] ). وبصورة عامة صار التركيز على التنمية الاقتصادية كمحور ضروري لتحقيق التنمية بشكل عام، وأصبحت المتغيرات السياسية تابعة للمتغير الاقتصادي، والإصلاح الهيكلي والخصخصة تشكل أساس التحول الديمقراطي والمشاركة والتعددية. كما أن مفهوم العالم الثالث قد تراجع وانتهى تقريبا، حيث أصبح الحديث عن عالم واحد بعد انتشار نموذج ونمط الإنتاج الرأسمالي وتبنيه من دول العالم المختلفة ([81] ).
وتبنى البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أيضا مفهوما جديدا للتنمية يركز على جوانب أكثر اتساعا وشمولا من الجانب الاقتصادي للتنمية، وهو ما عرف بالتنمية البشرية، التي تركز على البشر كهدف للتنمية، مع انه يعتبر أن النمو الاقتصادي وزيادة الدخل هو وسيلة ضرورية لتحقيق الجوانب المختلفة للتنمية البشرية. وهنا تعرف التنمية البشرية على أنها عملية زيادة خيارات البشر وزيادة قدراتهم وإمكانياتهم، بتوفير فرص أوسع أمامهم للتمتع بحياة طويلة وصحية، والحصول على المعرفة والتعليم، والوصول إلى الموارد الضرورية للعيش بمستوى حياة كريمة، وضمان التمتع بالحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية،وضمان احترام حقوق الإنسان. ولقياس التنمية البشرية، ركز التقرير على ثلاث عناصر ضرورية لحياة البشر وهي: حياة صحية مديدة، تقاس من خلال عمر الإنسان المتوقع عند الولادة، والمعرفة التي تقاس بالإلمام بالقراءة والكتابة ونسبة الالتحاق بالتعليم بمراحله المختلفة، ومستوى المعيشة اللائق، الذي يقاس بالناتج المحلي الإجمالي للفرد ([82] ). وفي التقارير السنوية اللاحقة كان التركيز يتم على العوامل المهمة والأبعاد الضرورية للتنمية البشرية، مثل تمويل التنمية، والبعد العالمي للتنمية، ودور المواطنين وأهمية مشاركتهم في العمليات التي تؤثر في حياتهم. كما ناقشت تقارير أخرى مواضيع الفروقات الجنسانية بين الرجل والمرأة في التنمية البشرية، وتم وضع مقياس خاص لقياس الفجوة في استفادة الجنسين من ثمار التنمية. إضافة إلى الاهتمام بتمكين النساء ومشاركتهن في الحياة الاقتصادية والسياسية، ونقاش تأثير العولمة والتكنولوجيا والتعاون الدولي والتجارة والأمن، وأهمية الديمقراطية والتنوع الثقافي، وحقوق الإنسان والنمو الاقتصادي في الوصول إلى معدلات مرتفعة للتنمية البشرية ([83] ).
كما أن الأمم المتحدة تعتبر أن تحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز تنمية البشر ترتبط بالحكم الرشيد، حيث أن التنمية البشرية لا تصبح عملية متواصلة ومستديمة بدون إيجاد الحكم الرشيد أو الحكم الجيد. وترى الأمم المتحدة أن إدارة الحكم كممارسة للسلطة السياسية والاقتصادية والإدارية في تسيير المجتمع على كافة المستويات، يشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي من خلالها يقوم الأفراد والجماعات بالدفاع عن مصالحهم وممارسة حقوقهم والتزاماتهم. والحكم هنا يشمل الدولة التي تهيئ البيئة السياسية والقانونية المناسبة، والقطاع الخاص الذي يوفر التشغيل والدخل، والمجتمع المدني الذي يشكل إطارا للتفاعل السياسي والاجتماعي بين الناس والدولة، ووسيط للمشاركة وإيصال المطالب والتعبير عن المصالح. وترى أن الحكم الجيد يتصف بسمات معينة، حيث يقوم على المشاركة في صنع القرار من خلال مؤسسات تمثل مصالح الناس، وسيادة القانون وتنفيذه بعدالة، والشفافية في عمل مؤسسات الحكم المختلفة بحيث تتوفر المعلومات الكافية لفهم عملها. كما أن من سماته الاستجابة، بحيث تسعى المؤسسات لخدمة جميع الأطراف ومصالحهم، إضافة إلى الإنصاف وإتاحة فرص متساوية للناس جميعا بتحسين حياتهم. وضرورة أن تتصف مؤسسات الحكم بالفاعلية والكفاءة بحيث تكون نتائج أعمالها قادرة على تلبية المطالب والاحتياجات، باستخدام الموارد المتاحة بكفاءة عالية. كما أن الحكم الجيد يقوم على التوازن بين المصالح المتعددة، ويسعى لبناء توافق لتحقيق مصالح مختلف الأطراف، إضافة إلى ضرورة أن تخضع أطراف الحكم وصناع القرار فيها إلى المساءلة الداخلية والخارجية. ومن المهم أيضا أن يكون لدى أطراف الحكم رؤية طويلة الأمد للحكم الرشيد والتنمية المستدامة وشروطها واحتياجاتها والبيئة المحيطة بها ([84] ).