منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#53460
اكتشف الرئيس المصري محمد مرسي بعد تسلمه السلطة أن مصر لا تحكمها محددات الزيت والسكر اللذين كان يوزعهما «الإخوان» للحصول على أصوات الناخبين في قرى مصر الفقيرة، بل لا بد لمصر أن تتعامل مع حقائق الزيت والماء، في إطار جغرافيا سياسية تحكم محددات السياسة الخارجية لمصر بعد الثورة. وجد الرئيس مرسي أن الواقع يفرض عليه أن يتعامل مع دول الزيت، أي دول الخليج النفطية ممثلة بأكبر دولة فيها وهي المملكة العربية السعودية، ومع دول الماء ممثلة بدول حوض النيل. ففي دول الزيت وحدها يعمل أكثر من ثلاثة ملايين عامل مصري يرتبط بهم في داخل البلاد ما يقرب من سبعة أو عشرة ملايين آخرين ممن يعتمدون على تحويلاتهم المالية. إذن وبشكل عملي لا يمكن لرئيس مصري عاقل أيا كان توجهه الآيديولوجي أن يتجاهل كتلة سكانية داخل مصر وخارجها قوامها عشرة ملايين نسمة ترتبط مصالحهم اليومية وبشكل مباشر بدول الخليج العربية وإلا خسر دعما شعبيا لا يستهان به.

أما دول الماء المتمثلة في دول حوض النيل، وعلى رأسها إثيوبيا المتحكمة في مجرى النهر الذي يمثل شريان الحياة بالنسبة لمصر، فهي دول لا يمكن تجاهلها. وقد فشلت سياسة مصر الخارجية في رؤيتها لدول حوض النيل وتطوير سياسة خارجية مقبولة تجاهها.

وكانت سياسة مصر الخارجية تجاه هذه الدول التي كثيرا ما طالبت بإعادة النظر في اتفاق المياه القديم سياسة فاشلة بامتياز، تعتمد على الرشوة أحيانا، وعلى القدرة على التخريب أحيانا أخرى. وتجلى هذا الفشل بوضوح في آخر أيام الرئيس السابق مبارك. ربما لهذا جاءت أولى زيارات الرئيس مرسي إلى المملكة العربية السعودية أولا، ثم تلاها بزيارته لإثيوبيا، وهما زيارتان قد تسهمان في رسم ملامح جديدة لسياسة خارجية واقعية تحركها المصالح (issue areas) ولا تحركها آيديولوجية «الإخوان المسلمين» أو أي آيديولوجية أخرى.

كان أمرا مذهلا بالنسبة لي أن بلدا مثل مصر غير قادر على صياغة استراتيجية سياسة خارجية بكل ما فيه من عقول. وكان أفضل ما تسمعه في مصر في أي حوار عن السياسة الخارجية هو نظرية الدوائر الثلاث التي رسمتها الدولة الناصرية، والتي تقول بأن السياسة الخارجية المصرية تتحرك في ثلاث دوائر: الدائرة العربية والدائرة الإسلامية والدائرة الأفريقية.. هذا ما قاله عبد الناصر، رغم أن أساس ممارسته للسياسة الخارجية كان مختلفا تماما عن الدوائر المعلنة. كان المعلن هو الدوائر الثلاث، وكان المعلن أيضا هو سياسة عدم الانحياز، لكن لم تكن سياسة مصر هي سياسة الدوائر، ولا كنا غير منحازين، إذ كانت مصر جزءا لا يتجزأ من استراتيجية الاتحاد السوفياتي القديم في الشرق الأوسط.

نظرية الدوائر الثلاث بكل أسف أصبحت بمثابة سجن لأي حوار مصري في السياسة الخارجية. ويبدو أن أولى خطوات الرئيس مرسي قد تأخذ مصر إلى شيء من الواقعية السياسية التي تتعامل مع القضايا، ثم من بعدها قد تتطور نظرية أو استراتيجية حاكمة للسياسة الخارجية تهدم معبد الوهم الذي بني من الدوائر الثلاث. نظرية الدوائر الثلاث إذا تم إلقاؤها في سلة المهملات فقد يكون ذلك هو البداية لتفكير جديد في السياسة الخارجية المصرية التي تحكمها مصالح الدول الناضجة لا الدول الثورية المراهقة.

أفريقيا مهمة، ولكن ليس بنظرتنا الحالية إليها، إذ يتحدث المصريون عن علاقتهم بأفريقيا وكأنهم ليسوا من أفريقيا. وكانت تروى نوادر في ذلك عندما ذهب أحد السفراء المصريين إلى دولة أفريقية وقال لمضيفه إن هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها السفير المصري دولة أفريقية، فرد المضيف «أمال حضرتك منين؟.. من أوروبا؟». الرؤية المصرية لأفريقيا لا تختلف عن رؤية المصريين للعالم العربي. حالة الالتباس هذه في الهوية والوجود الجغرافي مقابل وهم الانفصال تجعلنا غير قادرين على صياغة تصور للسياسة الخارجية تحكمه الحقائق، ونجنح دائما إلى سياسات فاشلة لأنها في الأغلب الأعم كانت محكومة بالأوهام.

عندما قرر الرئيس مرسي أن تكون أولى زياراته للمملكة العربية السعودية تحدث مجتمع القاهرة عن أن الزيارة هي مؤشر لسياسة خارجية تحكمها الآيديولوجية الإسلامية. تناسى مجتمع القاهرة الحالم أن السعودية وبغض النظر عن أنها دولة شقيقة هي دولة لها أطول حدود مع مصر، وأساسية في رؤيتنا للبحر الأحمر وأي بحيرة كانت: عربية أم غير ذلك.. وأنها الدولة التي يعيش فيها أكبر تجمع للمصريين خارج مصر.. فإن لم تكن شقيقة فالسعودية تبقى أهم دولة بالنسبة لأي رئيس مصري عاقل بدافع المصالح لا بدافع العروبة فقط.

لكن حجم علاقتنا بالسعودية ليس بحجم علاقتنا مع تونس التي جاء رئيسها الثائر إلى مصر زائرا، وليس بحجم علاقتنا مع المغرب أو عمان، مع أنها جميعا دول عربية. فحكاية ضم الدول العربية دونما تفرقة مبنية أيضا على المصالح في سلة الدائرة العربية. فهذا نوع من الكسل الفكري في ما يخص التفكير في سياسة خارجية ناضجة لا تحكمها مراهقات الثورات والفورات.

العالم الإسلامي أو الدائرة الإسلامية مهمة أيضا، لكن الرئيس مرسي تحدث عن حاضنة الإسلام السني المعتدل وراعيته، وقال إن السعودية هي الحاضنة ومصر هي الراعية. إذن نحن نتحدث عن أكثر من فضاء إسلامي في تصورنا للسياسة الخارجية وليس فضاء واحدا، فهناك الفضاء السني الذي يمثل الفضاء الآيديولوجي الذي يريد الرئيس أن يتحرك فيه، وهذه رؤية لا بأس بها إذا ما قدمت بشكل يعكس تصورا استراتيجيا وتمت قراءة تبعاتها قبل أن يتبناها المصريون كرؤية حاكمة لسياساتنا الخارجية.

مجتمعات السياسة الخارجية في مصر قليلة، وشلل مغلقة، لا تسمح بالتفكير في تصور عام للسياسة الخارجية المصرية يعكس رؤية عميقة. ولغياب أي حوار جاد كانت مصر تتبنى سياسة خارجية تحكمها مجموعة كلاشيهات يروج لها إعلاميا ولا تحكمها محددات الواقع. كيف نرى إيران مثلا في ما يخص رؤيتنا للعالم الإسلامي؟.. وكيف نراها من منظور الدائرة العربية وهي الدولة التي تحتل جزرا عربية من الشقيقة الإمارات؟

كتبت ذات يوم وفي عهد مبارك مقالا قلت فيه إن مصر دولة خليجية، وكان الهدف من المقال تحفيز التفكير نحو تصورات جديدة للسياسة الخارجية المصرية. يومها قلت إن لدينا في دول الخليج أعدادا بشرية تصل إلى ثلاثة ملايين، وهي أعداد أكبر من تعداد سكان بعض الدول الخليجية، كما أن لنا حدودا مع السعودية عبر البحر الأحمر هي أطول حدود مع دول مجلس التعاون، وقضايا كثيرة عددتها في ذلك المقال، وهي قضايا حقيقية لأي عاقل تعلم شيئا عن السياسة الخارجية ولو في جامعة درجة ثالثة، وكل ما جاءني من ردود يومها أساء فهم المقال، وشن حملة طويلة عريضة قيل فيها يومها كيف لي إن أجرؤ وأصف واحدة من أعرق الحضارات بأنها دولة خليجية!!

بالطبع هذا كلام لا يعول عليه لأن من يقوله لا يفهم المقصد، لكن الفضاء الآيديولوجي في مصر ملوث بدعوى النقاء الوطني والنقاء الإسلامي، مما يجعل أي حوار عاقل حول تصورات جديدة للسياسة الخارجية أمرا مستحيلا. وحتى تنتقل مصر من مراهقة الوطنية والتخوين والتكفير إلى رشد الدولة بما يليق بالحضارة المدعاة ستبقى السياسة الخارجية المصرية باليومية، أي أن نمارس السياسة ثم نحاول أن نفهم في ما بعد لماذا خطونا هذه الخطوات!

زيارات مرسي بدايات طيبة لإمكانية تصور سياسة خارجية مبنية على المصالح لا على الأوهام، ولكن هذا يتطلب أن يكون مدعوما بتفكير عميق. وأكثر ما تحتاج إليه مصر بعد الثورة ليس المال أو الدعم وإنما الأفكار الجادة، وهي سلعة نادرة في عالمنا المراهق.