منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#53481
منذ انتهاء الحرب الباردة بانتصار الديمقراطية الغربية على الشيوعية اصبحت الديمقراطية في نموذجها الغربي هي الآيديولوجية السياسية المهيمنة في العالم. وبعد تحول معظم الدول الشيوعية السابقة الى الديمقراطية اخذت غالبية الدول النامية تتجه بخطوات متباينة في السرعة ومتفاوتة في الدرجة نحو تطبيق النموذج الغربي للديمقراطية. وان ظاهرة التحول الديمقراطي المعاصر في الدول النامية هي مسألة مهمة وتاريخية بسبب سرعة انتشارها الواسع والظروف الدولية والمحلية التي تحيط بها، ولكونها تجربة سياسية جديدة في الغالبية العظمى من الدول النامية. فعدد قليل جدا من هذه الدول مثل الهند قد عاشت ديمقراطيات مستقرة منذ نشأتها، ومجموعة قليلة منها فقط مثل فنزويلا وماليزيا ولبنان، قد عرفت فترات مختلفة من انظمة الحكم الديمقراطية. وفي ما عدا ذلك فلقد بقيت غالبية الدول النامية في السابق بعيدة عن التجربة الديمقراطية. ولهذا فإن عملية الدمقرطة الحالية في دول الجنوب تستوجب دراسات نقدية عديدة لفهم ابعادها الحقيقية وادراك التحديات التي يمكن ان تواجهها، ولقد رأيت في هذا المقال اثارة بعض التساؤلات حول نقطة الانطلاق في عملية التحول الديمقراطي في الدول النامية وحول الطرح النظري لعملية الدمقرطة في هذه الدول. فلقد جاء التوجه الديمقراطي الجديد في دول الجنوب ضمن سياق حركة عالمية جديدة للديمقراطية، وتطور بشكل خاص نتيجة امرين او دافعين اثنين:

ثلاث إشكاليات 1 ـ تأثير ضغط المنظمات الدولية والدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية التي اصبحت تدفع بالدول النامية لتبني النموذج الديمقراطي الغربي في حياتها السياسية مستخدمة جميع وسائل الضغط السياسية والاقتصادية والاعلامية الممكنة.

2 ـ مطالبة الاحزاب والجماعات وبعض الزعامات السياسية في الدول النامية بتطبيق الديمقراطية في دولها، وذلك اما سعيا للوصول للسلطة او تمشيا مع الحركة الديمقراطية العالمية او اعتقادا منها بقدرة الديمقراطية على معالجة جميع او غالبية مشاكل دول الجنوب. وتواجه عملية الدمقرطة في دول الجنوب كما اعتقد ثلاث اشكاليات مهمة ينبغي مناقشتها بسبب اهميتها وارتباطها بجوهر الحوار الخاص بمسألة الديمقراطية الجديدة في الدول النامية بما لها وما عليها: اولاً، ارتباط التحول الديمقراطي الجديد بحركة عالمية للديمقراطية والنظر لهذه الحركة كما فعل ـ يوكوهاما ـ من منظور الديمقراطية الغربية وجعلها مرحلة تاريخية؟ تأتي في نهاية التطور الحتمي للتاريخ الانساني، ولكن ربط الحركة الديمقراطية المعاصرة في دول الجنوب بالرأسمالية الديمقراطية الغربية والنظر إليها ضمن سياق التطور التاريخي للمجتمعات البشرية يخلق مأزقا فلسفيا كبيرا للداعين بنقل تجربة الديمقراطية الغربية الى الدول النامية في الوقت الحاضر. فإذا كانت الديمقراطية هي فعلا مرحلة تاريخية فهذا يعني ان لها اسسها ومستلزماتها الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بها والتي ينبغي توفرها قبل تطور المؤسسات الديمقراطية. فكيف نقول من ناحية بأن الديمقراطية هي مرحلة تاريخية؟ وكيف ندعو من ناحية أخرى الى سرعة انشاء مؤسساتها في الدول النامية قبل توفر قاعدتها الاقتصادية والاجتماعية التي تطورت في اوروبا خلال عدة قرون؟

ثانياً، تأتي الاشكالية الثانية من ارتباط التحول الديمقراطي المعاصر في الدول النامية ارتباطا كليا في بعض الحالات وارتباطا جزئيا في حالات أخرى بالضغوط التي تمارسها المنظمات الدولية والحكومات الغربية، وان التطبيق الديمقراطي في الدول النامية بسبب الضغوط الدولية يعطي للديمقراطية ـ وبصرف النظر عن حسن اهدافها ـ نزعة امبريالية. وعندما تتصف الديمقراطية المفروضة من الخارج بهذه النزعة فإنها تفقد كما اعتقد الكثير من بريقها الساحر الجذاب، ويمكن لها ان تأتي بنتائج سلبية كبيرة على الدول النامية التي تطبقها. ولقد سبق لحركات واحزاب وطنية كثيرة ـ اشتراكية وغير اشتراكية ـ في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية ان تبنت في الخمسينات والستينات والسبعينات الميلادية مواقف سياسية معارضة لعملية تصدير الديمقراطية الاميركية الى دولها بالرغم من ان الآيديولوجيات والاطروحات السياسية للكثير من هذه الحركات لم تكن تتعارض مع الاهداف الاساسية للديمقراطية الغربية نفسها. ان ارتباط الدعوة المعاصرة لتطبيق الديمقراطية في الدول النامية من قبل بعض المفكرين السياسيين وبعض التيارات والحركات السياسية بالحركة العالمية الفكرية والسياسية للديمقراطية هي مسألة يمكن فهمها وتبريرها وقبول بعض مضامينها، ولكن ممارسة ضغوط بعض المنظمات الدولية والحكومات الغربية على الدول النامية بهدف دفعها نحو تطبيق الديمقراطية الغربية وانشاء مؤسساتها هي مسألة أخرى لا يمكن قبولها او تبريرها. فتطبيق النموذج الغربي للديمقراطية في دول الجنوب ينبغي ان يكون خيارا محليا وطنيا تتخذه القيادات والنخب السياسية الوطنية المدعومة بشعوبها وذلك في ضوء الخصوصيات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية لهذه الدول. ولا ينبغي لهذا التحول التاريخي الحاسم في حياة الدول النامية ان ينتج عن قرار سياسي واقتصادي تتخذه الدول الغربية.

رومانسية الكتابات ثالثاً: تتمثل الاشكالية الثالثة الخاصة بعملية التحول الديمقراطي في الدول النامية برومانسية الكتابات الديمقراطية المعاصرة في دول الجنوب، فهذه الادبيات ـ ومن ضمنها الكتابات السياسية العربية ـ تعكس فكرا حديث العهد بالديمقراطية بسبب انشغاله في السابق في الطرح القومي والتنظير الاشتراكي الثوري. وكما كان الفكر القومي العربي فكرا رومانسيا بعيدا عن واقع السياسة العربية فإن الاطروحات الديمقراطية التي يقدمها حاليا الكتاب العرب تتجه اليوم نحو رومانسية جديدة من شأنها ان تفسد الخطاب السياسي العربي للديمقراطية وتخرجه عن اطاره المفيد.

ان اشكالية الطرح النظري للديمقراطية في دول الجنوب هي اهم اشكاليات التجول الديمقراطي في هذه الدول لأنها تساهم في بناء فكر ديمقراطي رومانسي من شأنه ان يضع عملية البناء الديمقراطي في الدول النامية في مسار غير صحيح. ولقد نتج عن هذه الرومانسية وعلاقة الحب الجديدة بين مفكري الدول النامية وبين الديمقراطية وجود قصور واضح في ادبيات الديمقراطية المعاصرة التي يصوغها هؤلاء المفكرون الذين اصبحوا يكتبون عن الديمقراطية بوصفها ايديولوجية مثالية غير قابلة للنقد وليس بوصفها نظام حكم او وسيلة لتحقيق اهداف الحكم.

فالادبيات السياسية الديمقراطية المعاصرة في دول الجنوب تتجاهل اولا الاعتبارات التاريخية والخصوصية الحضارية للدول النامية كما ترفض التمييز، ثانيا بين الديمقراطية بوصفها اهدافاً محددة تتمثل في الحرية والمساواة والعدالة والاخوة الانسانية وبين الديمقراطية وفق النظرة الغربية التي تدعي بأن النموذج الغربي للديمقراطية هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن تحقيق اهداف الديمقراطية، وذلك على الرغم من ان النظرية الديمقراطية الغربية نفسها تميز ـ كما سوف اوضح في مقالات لاحقة ـ بين الاهداف النبيلة للديمقراطية والنموذج الديمقراطي الغربي. وبعض الدراسات النقدية للديمقراطيات الغربية لا تعتقد بأن النموذج الغربي للديمقراطية هو دائما وبالضرورة افضل وسيلة لتحقيق الاهداف الديمقراطية.

ويعتقد المتحمسون للديمقراطية الغربية في الدول النامية ثالثا بأن الديمقراطية في نموذجها الغربي ستكون بمثابة الحل السحري لجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات النامية. وحقيقة الامر المعروفة من تجارب الديمقراطية العديدة في العالم ان الديمقراطية يمكن ان تعالج بعض المشاكل السياسية القائمة، ولكنها يمكن بالمقابل ان تخلق مشاكل سياسية جديدة. وبما ان الديمقراطية تحل مشاكل سياسية وتخلق مشاكل اخرى فإن عملية التحول الديمقراطي في دول الجنوب ينبغي ان تكون عملية مبنية ـ بحسب المرحلة التاريخية التي تعيشها الدولة ـ على الموازنة والتفضيل بين المشاكل السياسية التي يمكن للتطبيق الديمقراطي ان يعالجها وبين تلك التي يمكن لهذا التطبيق ان يخلقها.

الديمقراطية والتنمية .. نتائج متناقضة وفي ما يتعلق بالاعتقاد بأن النموذج الديمقراطي الغربي هو النموذج الافضل لمعالجة مشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية فإن فيه تجاهلا واضحا للجدل الفكري المتعلق بعلاقة الديمقراطية بالتنمية، حيث تقدم الدراسات الميدانية في هذا الموضوع نتائج متناقضة. فهناك دراسات تفيد بوجود علاقة ايجابية بين الديمقراطية والتنمية وهناك دراسات أخرى تبين ان هذه العلاقة هي علاقة سلبية، بينما تؤكد دراسات ثالثة ان نجاح برامج التنمية او فشلها في الدول النامية لا يعتمد في المقام الاول على ديمقراطية او لا ديمقراطية النظام السياسي ولكن على مؤشرات اخرى ترتبط بالظروف والامكانات البشرية والمالية والتقنية والادارية.

ومجمل القول هو ان الديمقراطية لن تكون بمثابة الحل السحري لمشاكل الدول النامية السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومن شأن فشل الديمقراطيات الجديدة في معالجة هذه المشاكل ان يؤدي الى خيبات أمل سياسية كبيرة بالديمقراطية. وتتجاهل الكتابات الديمقراطية في دول الجنوب رابعا واخيرا وجود كم هائل من الادبيات السياسية التي تعالج ازمة الديمقراطية الغربية نفسها والمشاكل التي تواجهها، والتي من شأن اثارتها ومناقشتها وادراكها تجنب بعض مشاكل وسلبيات وثغرات الديمقراطية، وتعزيز بعض البدائل السياسية المتاحة محليا في دول الجنوب مثل الشورى في الدول الاسلامية، كما انه من شأن الالمام بشكل الديمقراطية الغربية ان يساعد على الاقل في تقليل حجم التوقعات التي قد تبنيها شعوب الدول النامية على الديمقراطية وتقلل بالتالي من خيبات أمل الجماهير المتوقع ظهورها في حال فشل الديمقراطيات الجديدة في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في دول الجنوب.