تحولات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط
مرسل: السبت سبتمبر 29, 2012 11:27 pm
خطاب أوباما..
تحولات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط
عمر كوش
يرسم الخطاب، الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما يوم الخميس في 19 من الشهر الجاري، ملامح جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تكشف عن توجه جديد للإدارة الأمريكية في التعامل من الآن فصاعداً مع مطالب وتطلعات الشعوب، واعترافها بأخطاء وقعت فيها حين سكتت عن قمع الشعوب على حساب القيم الأساسية وحقوق الإنسان. ويكتسي الخطاب أهميته من كونه جاء متسقاً مع التحولات والتغيرات الرئيسية والمهمة التي حصلت في المنطقة وحملتها موجة الثورات والحركات الاحتجاجية في البلدان العربية، مع أنه يصّب في سياق محاولة استثمار مرحلة ما بعد انهيار الأنظمة القمعية في تونس ومصر واهتزاز أنظمة أخرى، والالتفاف على ما أنجزته تضحيات الشعوب العربية.
ملامح التغير
تتجسد أبرز ملامح التغير التي حملها خطاب أوباما في الإعلان عن التحول من دعم الإدارة الأمريكية للأنظمة العربية المستبدة إلى دعم ما تحمله حركات وثورات التغيير والإصلاحات في المنطقة العربية التي بدأت في تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسواها. وعليه اعتبر أن على ''السياسة الأمريكية في المنطقة الترويج للإصلاح ودعم التحول، مع البدء بمصر وتونس اللتين تواجهان تحديات كبيرة'' إضافة إلى الوعد بأنّ الولايات المتحدة ستقوم، أيضاً، بدعم الدول التي لم يصل التغيير لها حتى الآن، والبدء بالدعم الاقتصادي العاجل لمصر، من خلال تخصيص مبلغ ملياري دولار، فضلاً عن مساعدات أخرى سينظر فيها الكونجرس الأمريكي لتأسيس صندوق استثماري لدعم الاستثمارات في كل من مصر وتونس.
ويمكن القول إن الخطاب جاء مفعماً بالوعود حول دعم التغيير والإصلاح، ودعم اقتصاديات الأنظمة الجديدة في مصر وتونس، مع التبشير باقتراب نهاية نظام معمر القذافي، ودعوة الرئيس بشار الأسد إلى الاختيار ما بين قيادة الإصلاح والتغيير أو التنحي عن الحكم، بعد أن وضعت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون شروطاً، طالبت الأسد تنفيذها كي يعمّ الاستقرار بلاده، وتتلخص في التخلي عن دعم حركة ''حماس'' و ''حزب الله''، وفك تحالفه مع إيران، والسعي الجاد إلى السلام مع إسرائيل. وطالب أوباما البحرين بالشروع بالحوار مع المعارضة والإفراج عن المعتقلين. وهو كلام يرسم نظرياً ملامح تغيير في توجهات السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، لكنها مجرد ملامح تحتاج إلى خطوات عملية كي تتحول إلى فعل واقعي. والتساؤل الذي يطرح نفسه عن ماهية الأنظمة العربية الموجه إليها دعوات التغيير، وعن الشعوب التي وجه أوباما خطابه إليها، حيث الانتقائية لم تغب عن متن الخطاب، ورسمت بعض الحدود التي قلصت من حدود التأثير والجدوى.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي سعى إلى إظهار أن الولايات المتحدة غيّرت، بفعل إدارته ورؤيته، مواقفها من قضايا الشعوب وتطلعاتهم المشروعة نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، من خلال تخليها عن دعم نظم رسمية، كانت حليفة لها، والانحياز إلى خيارات الشعوب العربية، لكنه ابتعد عن انتقاد الأنظمة الصديقة والحليفة في المنطقة. وكلنا يعلم أنه وقبل نحو عامين توجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بخطابه الشهير إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، تحدث فيه مطولاً عن الديمقراطية وتشجيعها في دول الشرق الأوسط، وكان خطاباً حالماً في ذلك الوقت، لكن اليوم الأمر اختلف كثيراً مع موجة الاحتجاجات والثورات العربية، وقد اختار أوباما التوجه بخطابه إلى شعوب وأنظمة بلدان الشرق الأوسط، من مقر وزارة الخارجية الأمريكية، وذلك بعد أن اختلف المشهد تماماً في بعض دول المنطقة، وحاول فيه تقديم ملامح سياسة تحاول الالتفاف وتتعايش، أو تتماشى، مع موجات الرياح التي هبّت على المنطقة منذ ستة أشهر وأثّرت في تركيبتها بشكل عميق وجذري، وبدا صاحب الخطاب وكأنه يحاول التوفيق بين المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة والمبادئ التي أعلن عنها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لذلك جاءت وعوده بدعم النظم الجديدة في مصر وتونس، كي يساعدها على تجاوز الأزمات الكثيرة التي خلفتها الأنظمة التي تهاوت، وكي لا تخرج عن كنف ما تريده الإدارة الأمريكية، وتنفذ برامج أمريكية في الاقتصاد والسياسة وسواها، وربط مصالحها أكثر بمصالح الولايات المتحدة، وكأن الأمر يجب ألا يختلف عن سابقه.
ولا شك في أن ملامح التغير في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، سيكون لها صداه في الداخل الأمريكي وحساباته، وبالتحديد بين أوساط الكتل الناخبة الأمريكية ناخبة، وخاصة تلك التي تؤمن بدور الولايات المتحدة بنشر القيم الأمريكية في العالم. غير أن الموقف الأمريكي من إسرائيل لم يتغير بتاتاً، حيث لم يخرج خطاب الرئيس أوباما من حرصه على أمن إسرائيل والانحياز إلى سياساتها، وإبقائها متفوقة على كل محيطها، مع التذكير بالقيم المشتركة بين الدولتين، والتأكيد على الالتزام الراسخ بأمن إسرائيل، لذلك ندد أوباما بـ ''الحركات الرمزية الهادفة لعزلها في الأمم المتحدة''، مع وقوفه ضد أي تحرك للاعتراف بالدولة الفلسطينية في المنظمة الدولية.
القضية الفلسطينية
لم يأت خطاب الرئيس أوباما بجديد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، على الرغم من أن أنه أقرّ بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة وديمقراطية في حدود عام 1967، لكنه طالبهم بالاعتراف بيهودية الدولة، رافضاً ممارسة أي ضغط ضد إسرائيل، الأمر الذي يحول كلامه إلى مجرد شعار غير قابل للتطبيق على أرض الواقع. وكلنا يعلم ما حصل خلال السنتين الماضيتين، حيث اصطدمت جهود أوباما وإدارته برفض إسرائيل المطلق للبحث في مسألة المستوطنات، واضطر موفده الشخصي إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل إلى الاستقالة من مهمته، بسبب غطرسة الطرف الإسرائيلي. لذلك لم يجد سوى الاستمرار في طرح مسألة ضرورة أن يقدم الإسرائيليون والفلسطينيون على تحقيق السلام، مع تأكيده على عدم إمكانية فرضه من جانب أي طرف خارجي بما في ذلك الولايات المتحدة.
وهناك من يعتبر أن الرئيس باراك أوباما قد ذهب أبعد من غيره من الرؤساء الأمريكيين في تعيين حدود الدولة الفلسطينية في خطابه الأخير، حيث يبدو أن تعيين هذه الحدود في خطاب لرئيس أمريكي موجه إلى منطقة الشرق الأوسط، يعكس تصور الإدارة لطبيعة الحل النهائي للمسألة الفلسطينية. وهي المرة الأولى التي يحدد فيها رئيس أمريكي بوضوح تصورا يفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 مع بعض التبادل في الأراضي خاضع للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن لقاء الرئيس أوباما مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو في البيت الأبيض، بعد يومين من إلقاء الخطاب، أظهر ضعف تصور الرئيس الأمريكي وهشاشة طرحه، حيث رفض نتانياهو بالمطلق هذه الحدود، بل ورفض أي حديث عن الحل النهائي، وبالتالي فإن الرئيس أوباما، مهما كانت نياته، لم يتمكن من الدفاع وتسويق تصوره حول الدولة الفلسطينية، وهو يعلم حجم التأثير الذي يمارسه اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وحجم التمويل الذي يقدمه اللوبي لحملته الانتخابية. وقد ربط العديد من المحللين الأمريكيين، بعد الخطاب وبعد لقاء نتانياهو، ما بين استمرار دعم اللوبي الموالي لإسرائيل لترشيح أوباما لولاية رئاسية ثانية وبين التخلي عن تصوره للحل النهائي كثمن له، ما يعني عدم إمكانية ممارسة أي ضغط على بنيامين نتانياهو من أجل تمرير أوباما تصوره. وهي معادلة تجمع الدعم والتأييد اليهودي مقابل الدعم غير الملتبس للسياسة الإسرائيلية وممارساتها على الأرض.
وبالفعل، لم يصمد تصور الرئيس لحدود الدولة الفلسطينية أوباما أكثر من بضعة أيام، حيث تراجع عنه، في كلمته التي ألقاها أمام اللجنة الأمريكية للشؤون العامة لإسرائيل ''إيباك''، بالقول إن دعوته لإقامة الدولة الفلسطينية على أساس حدود عام 1967 تأخذ في الاعتبار ما أسماه ''الواقع السكاني الجديد''، أي الاستيطان الإسرائيلي. وعارض بشدة المسعى الفلسطيني للحصول على اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية من جانب واحد في أيلول (سبتمبر)، كما أدان اتفاق المصالحة ما بين حركتي ''فتح'' و''حماس''، مع دعوة إسرائيل ''لاتخاذ خيارات صعبة'' من أجل السلام، حسب تعبيره.
ومع اعتراف العديد من الدول في أمريكا اللاتينية بالدولة الفلسطينية، صار المطلب الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة يلقى مزيداً من التأييد في مختلف حكومات العالم، خصوصاً تلك الحليفة المقربة للولايات المتحدة في داخل أوروبا وخارجها، حيث لمّحت أكثر من حكومة أوروبية إلى رغبتها في الاعتراف بهذه الدولة. ويبدو أن الرئيس أوباما حاول اتخاذ مواقف وسياسات جديدة ومختلفة من موجة التغيرات والتحولات العربية كغطاء لاستمرار الدعم غير المحدود لإسرائيل، ولم يضعها في سياق السعي الجدي لإيجاد تسوية دائمة قابلة للاستمرار في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي يمكن القول إن مرحلة الاحتجاجات والثورات العربية ليست كافية كي تحدث اختراقا نحو التقدم باتجاه حل عادل للقضية الفلسطينية، مع أنه كان يمكن لهذه المرحلة أن تشكل مناسبة لتدخل الولايات المتحدة، بوصفها وسيطاً نزيهاً، لكن الإدارة الأمريكية فوّتت هذه الفرصة، لتضاف إلى فرص كثيرة ضائعة.
حيثيات الخطاب
يستند الخطاب إلى حيثيات عديدة، وليس مصادفة أنه بدأ بالإشارة إلى أهمية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني، أم على مستوى التاريخ والجغرافيا السياسية. ولا يخرج النفط ومصادر الطاقة عموماً عن حسابات أوباما وإدارته، إضافة إلى تأمين سلامة تدفق الإمدادات وحرية التجارة والتنمية والاستثمار.
وليس خطاب أوباما الذي ألقاه الأسبوع الماضي هو الأول الموجه للعالم العربي والإسلامي، لكنه مثله مثل خطاب القاهرة وجاكرتا لم يخل من الكلمات الرنانة والبلاغة الرصينة. وبعث من خلاله أوباما رسائل عديدة، وفي اتجاهات مختلفة، تباينت في صراحتها ووضوحها، وهو يملك قدرة كبيرة على العمل والتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي، وعلى ضبط التحفظات والحساسيات لدى كل من روسيا والصين، حيث يتلقى المسؤولون في هاتين الدولتين رسائله بإمعان، ويأخذونها على محمل الجد والأهمية.
ومن المهم رؤية المقاربة الجديدة التي يحملها الخطاب، ومعرفة الملامح التي تؤسس لتعامل مختلف عن السياسات السابقة، والأخذ في الاعتبار أن أوباما، أياً كانت سماته وصفاته الشخصية وطريقة تفكيره وأسلوب عمله، فإنه لن يجلب التغيير الذي ننتظره حيال القضايا العربية. وما يشغل باله وتفكيره ـــ قبل أي شيء آخر ـــ هو متطلبات ترشيحه لولاية رئاسية ثانية، ورعاية وضمان المصالح القومية للولايات المتحدة، والحفاظ على تحالفاته الداخلية، وعدم تعريض نفسه لصدامات مع القوى الفاعلة داخل حزبه وداخل المؤسسات الأمريكية، وعدم الاصطدام مع مراكز القوى السياسية واللوبيات الضاغطة والقوية، وفي طليعتها قوى اللوبي الإسرائيلي الحريصة على ضمان تفوق وأمن ووجود إسرائيل.
أخيراً، لا بد من التأكيد على أن خطاب أوباما يمكن النظر إليه بوصفه نصاً سياسياً جديداً، يقدم رؤية جديدة للعالم ولقضاياه ولدور الولايات المتحدة فيه، ويتضمن مراجعة نقدية للسياسة التي اتبعتها الإدارات الأمريكية السابقة في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر لا يرتبط بالأقوال فقط، إنما يرتبط أكثر بالأفعال وبما تحمله الأشهر المقبلة من مبادرات ومواقف.
تحولات السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط
عمر كوش
يرسم الخطاب، الذي ألقاه الرئيس الأمريكي باراك أوباما يوم الخميس في 19 من الشهر الجاري، ملامح جديدة في السياسة الخارجية الأمريكية حيال منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تكشف عن توجه جديد للإدارة الأمريكية في التعامل من الآن فصاعداً مع مطالب وتطلعات الشعوب، واعترافها بأخطاء وقعت فيها حين سكتت عن قمع الشعوب على حساب القيم الأساسية وحقوق الإنسان. ويكتسي الخطاب أهميته من كونه جاء متسقاً مع التحولات والتغيرات الرئيسية والمهمة التي حصلت في المنطقة وحملتها موجة الثورات والحركات الاحتجاجية في البلدان العربية، مع أنه يصّب في سياق محاولة استثمار مرحلة ما بعد انهيار الأنظمة القمعية في تونس ومصر واهتزاز أنظمة أخرى، والالتفاف على ما أنجزته تضحيات الشعوب العربية.
ملامح التغير
تتجسد أبرز ملامح التغير التي حملها خطاب أوباما في الإعلان عن التحول من دعم الإدارة الأمريكية للأنظمة العربية المستبدة إلى دعم ما تحمله حركات وثورات التغيير والإصلاحات في المنطقة العربية التي بدأت في تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسواها. وعليه اعتبر أن على ''السياسة الأمريكية في المنطقة الترويج للإصلاح ودعم التحول، مع البدء بمصر وتونس اللتين تواجهان تحديات كبيرة'' إضافة إلى الوعد بأنّ الولايات المتحدة ستقوم، أيضاً، بدعم الدول التي لم يصل التغيير لها حتى الآن، والبدء بالدعم الاقتصادي العاجل لمصر، من خلال تخصيص مبلغ ملياري دولار، فضلاً عن مساعدات أخرى سينظر فيها الكونجرس الأمريكي لتأسيس صندوق استثماري لدعم الاستثمارات في كل من مصر وتونس.
ويمكن القول إن الخطاب جاء مفعماً بالوعود حول دعم التغيير والإصلاح، ودعم اقتصاديات الأنظمة الجديدة في مصر وتونس، مع التبشير باقتراب نهاية نظام معمر القذافي، ودعوة الرئيس بشار الأسد إلى الاختيار ما بين قيادة الإصلاح والتغيير أو التنحي عن الحكم، بعد أن وضعت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون شروطاً، طالبت الأسد تنفيذها كي يعمّ الاستقرار بلاده، وتتلخص في التخلي عن دعم حركة ''حماس'' و ''حزب الله''، وفك تحالفه مع إيران، والسعي الجاد إلى السلام مع إسرائيل. وطالب أوباما البحرين بالشروع بالحوار مع المعارضة والإفراج عن المعتقلين. وهو كلام يرسم نظرياً ملامح تغيير في توجهات السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، لكنها مجرد ملامح تحتاج إلى خطوات عملية كي تتحول إلى فعل واقعي. والتساؤل الذي يطرح نفسه عن ماهية الأنظمة العربية الموجه إليها دعوات التغيير، وعن الشعوب التي وجه أوباما خطابه إليها، حيث الانتقائية لم تغب عن متن الخطاب، ورسمت بعض الحدود التي قلصت من حدود التأثير والجدوى.
ويبدو أن الرئيس الأمريكي سعى إلى إظهار أن الولايات المتحدة غيّرت، بفعل إدارته ورؤيته، مواقفها من قضايا الشعوب وتطلعاتهم المشروعة نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، من خلال تخليها عن دعم نظم رسمية، كانت حليفة لها، والانحياز إلى خيارات الشعوب العربية، لكنه ابتعد عن انتقاد الأنظمة الصديقة والحليفة في المنطقة. وكلنا يعلم أنه وقبل نحو عامين توجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بخطابه الشهير إلى العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، تحدث فيه مطولاً عن الديمقراطية وتشجيعها في دول الشرق الأوسط، وكان خطاباً حالماً في ذلك الوقت، لكن اليوم الأمر اختلف كثيراً مع موجة الاحتجاجات والثورات العربية، وقد اختار أوباما التوجه بخطابه إلى شعوب وأنظمة بلدان الشرق الأوسط، من مقر وزارة الخارجية الأمريكية، وذلك بعد أن اختلف المشهد تماماً في بعض دول المنطقة، وحاول فيه تقديم ملامح سياسة تحاول الالتفاف وتتعايش، أو تتماشى، مع موجات الرياح التي هبّت على المنطقة منذ ستة أشهر وأثّرت في تركيبتها بشكل عميق وجذري، وبدا صاحب الخطاب وكأنه يحاول التوفيق بين المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة والمبادئ التي أعلن عنها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، لذلك جاءت وعوده بدعم النظم الجديدة في مصر وتونس، كي يساعدها على تجاوز الأزمات الكثيرة التي خلفتها الأنظمة التي تهاوت، وكي لا تخرج عن كنف ما تريده الإدارة الأمريكية، وتنفذ برامج أمريكية في الاقتصاد والسياسة وسواها، وربط مصالحها أكثر بمصالح الولايات المتحدة، وكأن الأمر يجب ألا يختلف عن سابقه.
ولا شك في أن ملامح التغير في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، سيكون لها صداه في الداخل الأمريكي وحساباته، وبالتحديد بين أوساط الكتل الناخبة الأمريكية ناخبة، وخاصة تلك التي تؤمن بدور الولايات المتحدة بنشر القيم الأمريكية في العالم. غير أن الموقف الأمريكي من إسرائيل لم يتغير بتاتاً، حيث لم يخرج خطاب الرئيس أوباما من حرصه على أمن إسرائيل والانحياز إلى سياساتها، وإبقائها متفوقة على كل محيطها، مع التذكير بالقيم المشتركة بين الدولتين، والتأكيد على الالتزام الراسخ بأمن إسرائيل، لذلك ندد أوباما بـ ''الحركات الرمزية الهادفة لعزلها في الأمم المتحدة''، مع وقوفه ضد أي تحرك للاعتراف بالدولة الفلسطينية في المنظمة الدولية.
القضية الفلسطينية
لم يأت خطاب الرئيس أوباما بجديد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، على الرغم من أن أنه أقرّ بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة وديمقراطية في حدود عام 1967، لكنه طالبهم بالاعتراف بيهودية الدولة، رافضاً ممارسة أي ضغط ضد إسرائيل، الأمر الذي يحول كلامه إلى مجرد شعار غير قابل للتطبيق على أرض الواقع. وكلنا يعلم ما حصل خلال السنتين الماضيتين، حيث اصطدمت جهود أوباما وإدارته برفض إسرائيل المطلق للبحث في مسألة المستوطنات، واضطر موفده الشخصي إلى الشرق الأوسط جورج ميتشيل إلى الاستقالة من مهمته، بسبب غطرسة الطرف الإسرائيلي. لذلك لم يجد سوى الاستمرار في طرح مسألة ضرورة أن يقدم الإسرائيليون والفلسطينيون على تحقيق السلام، مع تأكيده على عدم إمكانية فرضه من جانب أي طرف خارجي بما في ذلك الولايات المتحدة.
وهناك من يعتبر أن الرئيس باراك أوباما قد ذهب أبعد من غيره من الرؤساء الأمريكيين في تعيين حدود الدولة الفلسطينية في خطابه الأخير، حيث يبدو أن تعيين هذه الحدود في خطاب لرئيس أمريكي موجه إلى منطقة الشرق الأوسط، يعكس تصور الإدارة لطبيعة الحل النهائي للمسألة الفلسطينية. وهي المرة الأولى التي يحدد فيها رئيس أمريكي بوضوح تصورا يفضي إلى إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 مع بعض التبادل في الأراضي خاضع للمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن لقاء الرئيس أوباما مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو في البيت الأبيض، بعد يومين من إلقاء الخطاب، أظهر ضعف تصور الرئيس الأمريكي وهشاشة طرحه، حيث رفض نتانياهو بالمطلق هذه الحدود، بل ورفض أي حديث عن الحل النهائي، وبالتالي فإن الرئيس أوباما، مهما كانت نياته، لم يتمكن من الدفاع وتسويق تصوره حول الدولة الفلسطينية، وهو يعلم حجم التأثير الذي يمارسه اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وحجم التمويل الذي يقدمه اللوبي لحملته الانتخابية. وقد ربط العديد من المحللين الأمريكيين، بعد الخطاب وبعد لقاء نتانياهو، ما بين استمرار دعم اللوبي الموالي لإسرائيل لترشيح أوباما لولاية رئاسية ثانية وبين التخلي عن تصوره للحل النهائي كثمن له، ما يعني عدم إمكانية ممارسة أي ضغط على بنيامين نتانياهو من أجل تمرير أوباما تصوره. وهي معادلة تجمع الدعم والتأييد اليهودي مقابل الدعم غير الملتبس للسياسة الإسرائيلية وممارساتها على الأرض.
وبالفعل، لم يصمد تصور الرئيس لحدود الدولة الفلسطينية أوباما أكثر من بضعة أيام، حيث تراجع عنه، في كلمته التي ألقاها أمام اللجنة الأمريكية للشؤون العامة لإسرائيل ''إيباك''، بالقول إن دعوته لإقامة الدولة الفلسطينية على أساس حدود عام 1967 تأخذ في الاعتبار ما أسماه ''الواقع السكاني الجديد''، أي الاستيطان الإسرائيلي. وعارض بشدة المسعى الفلسطيني للحصول على اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية من جانب واحد في أيلول (سبتمبر)، كما أدان اتفاق المصالحة ما بين حركتي ''فتح'' و''حماس''، مع دعوة إسرائيل ''لاتخاذ خيارات صعبة'' من أجل السلام، حسب تعبيره.
ومع اعتراف العديد من الدول في أمريكا اللاتينية بالدولة الفلسطينية، صار المطلب الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة يلقى مزيداً من التأييد في مختلف حكومات العالم، خصوصاً تلك الحليفة المقربة للولايات المتحدة في داخل أوروبا وخارجها، حيث لمّحت أكثر من حكومة أوروبية إلى رغبتها في الاعتراف بهذه الدولة. ويبدو أن الرئيس أوباما حاول اتخاذ مواقف وسياسات جديدة ومختلفة من موجة التغيرات والتحولات العربية كغطاء لاستمرار الدعم غير المحدود لإسرائيل، ولم يضعها في سياق السعي الجدي لإيجاد تسوية دائمة قابلة للاستمرار في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي يمكن القول إن مرحلة الاحتجاجات والثورات العربية ليست كافية كي تحدث اختراقا نحو التقدم باتجاه حل عادل للقضية الفلسطينية، مع أنه كان يمكن لهذه المرحلة أن تشكل مناسبة لتدخل الولايات المتحدة، بوصفها وسيطاً نزيهاً، لكن الإدارة الأمريكية فوّتت هذه الفرصة، لتضاف إلى فرص كثيرة ضائعة.
حيثيات الخطاب
يستند الخطاب إلى حيثيات عديدة، وليس مصادفة أنه بدأ بالإشارة إلى أهمية منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني، أم على مستوى التاريخ والجغرافيا السياسية. ولا يخرج النفط ومصادر الطاقة عموماً عن حسابات أوباما وإدارته، إضافة إلى تأمين سلامة تدفق الإمدادات وحرية التجارة والتنمية والاستثمار.
وليس خطاب أوباما الذي ألقاه الأسبوع الماضي هو الأول الموجه للعالم العربي والإسلامي، لكنه مثله مثل خطاب القاهرة وجاكرتا لم يخل من الكلمات الرنانة والبلاغة الرصينة. وبعث من خلاله أوباما رسائل عديدة، وفي اتجاهات مختلفة، تباينت في صراحتها ووضوحها، وهو يملك قدرة كبيرة على العمل والتنسيق مع دول الاتحاد الأوروبي، وعلى ضبط التحفظات والحساسيات لدى كل من روسيا والصين، حيث يتلقى المسؤولون في هاتين الدولتين رسائله بإمعان، ويأخذونها على محمل الجد والأهمية.
ومن المهم رؤية المقاربة الجديدة التي يحملها الخطاب، ومعرفة الملامح التي تؤسس لتعامل مختلف عن السياسات السابقة، والأخذ في الاعتبار أن أوباما، أياً كانت سماته وصفاته الشخصية وطريقة تفكيره وأسلوب عمله، فإنه لن يجلب التغيير الذي ننتظره حيال القضايا العربية. وما يشغل باله وتفكيره ـــ قبل أي شيء آخر ـــ هو متطلبات ترشيحه لولاية رئاسية ثانية، ورعاية وضمان المصالح القومية للولايات المتحدة، والحفاظ على تحالفاته الداخلية، وعدم تعريض نفسه لصدامات مع القوى الفاعلة داخل حزبه وداخل المؤسسات الأمريكية، وعدم الاصطدام مع مراكز القوى السياسية واللوبيات الضاغطة والقوية، وفي طليعتها قوى اللوبي الإسرائيلي الحريصة على ضمان تفوق وأمن ووجود إسرائيل.
أخيراً، لا بد من التأكيد على أن خطاب أوباما يمكن النظر إليه بوصفه نصاً سياسياً جديداً، يقدم رؤية جديدة للعالم ولقضاياه ولدور الولايات المتحدة فيه، ويتضمن مراجعة نقدية للسياسة التي اتبعتها الإدارات الأمريكية السابقة في منطقة الشرق الأوسط، وهو أمر لا يرتبط بالأقوال فقط، إنما يرتبط أكثر بالأفعال وبما تحمله الأشهر المقبلة من مبادرات ومواقف.