صفحة من التاريخ الدبلوماسي للحركة الوطنية المغربية
مرسل: الاثنين أكتوبر 01, 2012 5:28 pm
اقترن اسم المرحوم المهدي بنونة، الذي وافاه الأجل يوم الثلاثاء الماضي، (23 مارس)، بتأسيس وكالة المغرب العربي للأنباء في 1959، التي تميزت بأنها كانت مستقلة عن الحكومة. وقبل ذلك قام في وقت مبكر بدور متميز على صعيد الدبلوماسية المتعددة الأطراف، حينما أوفده حزبه، (الإصلاح الوطني، في شمال المغرب، الذي كان مشمولا بالحكم الإسباني، والمتحالف مع حزب الاستقلال) في يونيو 1947 إلى نيويورك لتأسيس أول مكتب للحركة الوطنية المغربية في الأمم المتحدة، وهي بعد حديثة النشأة.
وكانت تلك التجربة، الأولى من نوعها، منعطفا تكونت فيها اختيارات واضحة للحركة الوطنية المغربية، التي قررت تدويل النزاع مع كل من فرنسا وإسبانيا، مستعينة بالأقطار العربية المستقلة، وخصوصا مصر التي لم يكن لها بعد اهتمام بارز قبل ذلك بالسياسة العربية.
كانت البداية في مضمار التدويل بمؤتمر انعقد في العاصمة المصرية، لأحزاب المغرب العربي فيما بين 15 و22 فبراير 1947. وضم ذلكم المؤتمر الأحزاب الوطنية في الأقطار الثلاثة، وعنه انبثق «مكتب المغرب العربي». خطب في المؤتمر عبد الرحمن عزام، الأمين العام للجامعة العربية، واعتبر ذلك تأكيدا لنوايا الجامعة التي سبق للأمين العام أن عبر عنها بمناسبة أنشطة سياسية لـ«رابطة الدفاع عن مراكش».
وفي الحين بدأ التزام الجامعة العربية بقضايا التحرر في شمال أفريقيا. وتحول مكتب المغرب العربي إلى سفارة لثلاث دول. وأنجزت الأحزاب المعنية عملا مشتركا بعد أسابيع من تكوين جبهتها الموحدة، هو تدبير نزول الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بمصر.
وهكذا استثمر الوطنيون المغاربة جيدا منبر المشرق العربي، حيث وجدوا الصدى الملائم لتحركاتهم في مواجهة الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وتبين من أول وهلة أن غرضهم كان هو استعمال ذلك المنبر من أجل تدويل قضيتهم. وكانت الحلقة التي يتطلعون إليها هي هيئة الأمم المتحدة.
وفي هذا السياق أقدم الوطنيون على اقتحام المجال الدولي بفتح حزب الإصلاح الوطني لمكتب إعلامي في نيويورك في أبريل 1947. وبموافقة قيادة الحزب جعل المهدي بنونة المكتب إطارا للتعريف بقضايا مجموع أقطار المغرب العربي. بل إن مساهمة رئيس المكتب المهدي بنونة شملت القضية الفلسطينية ومختلف القضايا العربية التي كانت متداولة، مصداقا لتشابك القضايا العربية.
وبالخروج بالعمل الوطني من الإطار الثنائي، ومن المجال العربي، إلى المجال الدولي الفسيح، حدث لأول مرة إدراك الملابسات التي تكتنف طرح القضية الوطنية في المستوى الدولي.
ففي الأمم المتحدة إذ ذاك، وهي مؤلفة من خمسين دولة، كانت تتبلور الاستقطابات التي ظهرت بعيد الحرب العالمية الثانية، من جراء ظهور مصطلح «الستار الحديدي» الذي أطلقه تشرشل، وانقسام المنتصرين في الحرب إلى معسكرين غربي وشرقي، في إطار «حرب باردة». وكل ذلك كان شيئا حديث العهد.
وكان على المهدي بنونة، أن يتحرك في المنتظم الدولي وكأنه يسير في وسط حقل ألغام، وكان عليه أن يكون لنفسه خبرة خاصة بكيفية التحرك في المجال الدولي. وكما نستفيد من التقارير اليومية التي كان يوافي بها قيادة حزبه، وهي منشورة بكاملها، فإنه كان يطرح بوضوح الإشكالية المتمثلة في أن المصلحة تقتضي التقرب مع المعسكر الديمقراطي، ولكن في نفس الوقت عدم التفريط في الدعم المرجو من المعسكر الشرقي. كما بدا له أنه لا بد من تأليب الولايات المتحدة ذات الحساسية الديمقراطية، ضد السياسة القمعية والاستغلالية التي تسلكها كل من فرنسا وإسبانيا في المغرب. وعلى صعيد آخر، عمل على استثمار التقرب من دول أميركا اللاتينية. أي أن تلك التجربة كانت مخاضا صعبا وتمرينا دقيقا منة خلاله تم وضع اليد على مفاتيح السياسة الدولية.
بموازاة ذلك، الإشكالية العويصة المتمثلة في أن الدول العربية السبع الممثلة في الأمم المتحدة كانت منشغلة بقضية فلسطين التي كانت تشهد تطورات سريعة وحاسمة في دورتي 1947/1948. كما أن الشكوى المصرية ببريطانيا بشأن معاهدة 1936 كانت هي شغلها الشاغل في صيف وخريف 1947. وطالما سمع المهدي النصح بتأجيل موضوعه ريثما تفرغ الدول العربية من القضيتين. وقد تحدث المهدي عن تلك الملابسات المحيطة بتلك الإشكالية في كتاب «المغرب، السنوات الحرجة» الذي نشرته «الشرق الأوسط» سنة 1989، وهو مستمد من سلسلة أحاديث ماراثونية معه نشرها طلحة جبريل على صفحات الجريدة قبل ذلك.
وهكذا فإن الاحتكاك بتلك الحقائق ساهم في صنع رؤية الحركة الاستقلالية المغربية لنفسها وللعالم في فترة من تاريخ العالم مليئة بالتقلبات المفاجئة. فكل حركة أو فكرة أو مبادرة كان لها طعم الشيء الذي لم يسبق له مثيل. كان عالم ما بعد الحرب يتكون، وكان على الحركة الاستقلالية المغربية أن تتحرك فيه بلا اندهاش. وقد نشر النص الكامل لمذكرات المهدي بنونة من نيويورك في مجلة «شؤون مغربية» من مايو 1996 إلى نوفمبر 1997.
وسواء في أوراق مكتب نيويورك المشار إليها أو في السنوات الحرجة، نجد مسألتين جابهتا المهدي في تلك الفترة. الأولى أن الزعيم المصري أحمد حسين، رئيس حزب مصر الفتاة، وهو من معارف المهدي في فترة القاهرة، قد نصحه بأن يعمل على تقديم القضية المغربية كملف مستقل. بينما نصحه واصف كمال وهو من معارفه في فترة فلسطين التي درس فيها المهدي ضمن البعثة التطوانية في نابلس، بأن تقدم القضية ضمن القضايا العربية. ولكنه اقترح على حزبه أن يبادر إلى تقديم القضية المغربية مستقلة، وقد تم إقراره على ذلك، لاعتبارين وهما أن القضية المغربية لا تجد نفس الصدود الذي تلقاه القضية الفلسطينية، التي تختلف بشأنها مقاربات الدول العربية.
والمسألة الثانية التي جابهته هي أنه وجد أن الإدارة الأميركية رغم إبدائها الاهتمام بمطلب الوطنيين المغاربة، فهي لا تريد أن تحرج الحليفة فرنسا العضو في الحلف الأطلسي فتقوي الشيوعيين الفرنسيين، بينما كان المهدي يحذر مخاطبيه الأميركيين من أن مجاملة فرنسا يمكن أن ترمي بالمغاربة في أحضان الشيوعية. أي أن ورقة الشيوعية كانت تلعب في اتجاهين متناقضين.
وأنجز المهدي مذكرة عن السياسة الفرنسية في المغرب قدمها في أكتوبر 1947، وأخر إلى شهر نوفمبر تقديم مذكرة ضد السياسة الإسبانية، مستفيدا من جو العزلة المضروبة على نظام فرانكو، ومستعملا لمصلحته النقمة التي كانت تحذو وفد الجمهوريين الإسبانيين في نيويورك دون تبني مواقفهم.
وكان من العرب من راوده على مهادنة إسبانيا، مراعاة لكتلة أميركا اللاتينية، وتعرض لضغط في هذا الاتجاه إلى حد حجب مساندة الوفود العربية عنه لدى اعتزامه تنظيم ندوة صحافية عن المذكرتين. ولم يجد التفهم والدعم إلا من الأمير فيصل بن عبد العزيز (المرحوم الملك فيصل) الذي احتضن طلبه بشأن الندوة، ومنحه العضوية في الوفد السعودي حينما انتهى أجل الجواز الذي كان يحمله.
وكتب المهدي في إحدى مذكراته إلى قيادته: كل يوم يزداد احتقاري لهذه الهيئة، وأزداد إيمانا بأن الحلول يجب أن تكون في عين المكان.
خامره ذلك في غمرة المناورات الرائجة بشأن قرار تقسيم فلسطين، الذي كان له وقع مؤلم على وجدان الفلسطيني الهوى المهدي بنونة الذي فتح عينيه على الدنيا في نابلس.
وكانت تلك التجربة، الأولى من نوعها، منعطفا تكونت فيها اختيارات واضحة للحركة الوطنية المغربية، التي قررت تدويل النزاع مع كل من فرنسا وإسبانيا، مستعينة بالأقطار العربية المستقلة، وخصوصا مصر التي لم يكن لها بعد اهتمام بارز قبل ذلك بالسياسة العربية.
كانت البداية في مضمار التدويل بمؤتمر انعقد في العاصمة المصرية، لأحزاب المغرب العربي فيما بين 15 و22 فبراير 1947. وضم ذلكم المؤتمر الأحزاب الوطنية في الأقطار الثلاثة، وعنه انبثق «مكتب المغرب العربي». خطب في المؤتمر عبد الرحمن عزام، الأمين العام للجامعة العربية، واعتبر ذلك تأكيدا لنوايا الجامعة التي سبق للأمين العام أن عبر عنها بمناسبة أنشطة سياسية لـ«رابطة الدفاع عن مراكش».
وفي الحين بدأ التزام الجامعة العربية بقضايا التحرر في شمال أفريقيا. وتحول مكتب المغرب العربي إلى سفارة لثلاث دول. وأنجزت الأحزاب المعنية عملا مشتركا بعد أسابيع من تكوين جبهتها الموحدة، هو تدبير نزول الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي بمصر.
وهكذا استثمر الوطنيون المغاربة جيدا منبر المشرق العربي، حيث وجدوا الصدى الملائم لتحركاتهم في مواجهة الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وتبين من أول وهلة أن غرضهم كان هو استعمال ذلك المنبر من أجل تدويل قضيتهم. وكانت الحلقة التي يتطلعون إليها هي هيئة الأمم المتحدة.
وفي هذا السياق أقدم الوطنيون على اقتحام المجال الدولي بفتح حزب الإصلاح الوطني لمكتب إعلامي في نيويورك في أبريل 1947. وبموافقة قيادة الحزب جعل المهدي بنونة المكتب إطارا للتعريف بقضايا مجموع أقطار المغرب العربي. بل إن مساهمة رئيس المكتب المهدي بنونة شملت القضية الفلسطينية ومختلف القضايا العربية التي كانت متداولة، مصداقا لتشابك القضايا العربية.
وبالخروج بالعمل الوطني من الإطار الثنائي، ومن المجال العربي، إلى المجال الدولي الفسيح، حدث لأول مرة إدراك الملابسات التي تكتنف طرح القضية الوطنية في المستوى الدولي.
ففي الأمم المتحدة إذ ذاك، وهي مؤلفة من خمسين دولة، كانت تتبلور الاستقطابات التي ظهرت بعيد الحرب العالمية الثانية، من جراء ظهور مصطلح «الستار الحديدي» الذي أطلقه تشرشل، وانقسام المنتصرين في الحرب إلى معسكرين غربي وشرقي، في إطار «حرب باردة». وكل ذلك كان شيئا حديث العهد.
وكان على المهدي بنونة، أن يتحرك في المنتظم الدولي وكأنه يسير في وسط حقل ألغام، وكان عليه أن يكون لنفسه خبرة خاصة بكيفية التحرك في المجال الدولي. وكما نستفيد من التقارير اليومية التي كان يوافي بها قيادة حزبه، وهي منشورة بكاملها، فإنه كان يطرح بوضوح الإشكالية المتمثلة في أن المصلحة تقتضي التقرب مع المعسكر الديمقراطي، ولكن في نفس الوقت عدم التفريط في الدعم المرجو من المعسكر الشرقي. كما بدا له أنه لا بد من تأليب الولايات المتحدة ذات الحساسية الديمقراطية، ضد السياسة القمعية والاستغلالية التي تسلكها كل من فرنسا وإسبانيا في المغرب. وعلى صعيد آخر، عمل على استثمار التقرب من دول أميركا اللاتينية. أي أن تلك التجربة كانت مخاضا صعبا وتمرينا دقيقا منة خلاله تم وضع اليد على مفاتيح السياسة الدولية.
بموازاة ذلك، الإشكالية العويصة المتمثلة في أن الدول العربية السبع الممثلة في الأمم المتحدة كانت منشغلة بقضية فلسطين التي كانت تشهد تطورات سريعة وحاسمة في دورتي 1947/1948. كما أن الشكوى المصرية ببريطانيا بشأن معاهدة 1936 كانت هي شغلها الشاغل في صيف وخريف 1947. وطالما سمع المهدي النصح بتأجيل موضوعه ريثما تفرغ الدول العربية من القضيتين. وقد تحدث المهدي عن تلك الملابسات المحيطة بتلك الإشكالية في كتاب «المغرب، السنوات الحرجة» الذي نشرته «الشرق الأوسط» سنة 1989، وهو مستمد من سلسلة أحاديث ماراثونية معه نشرها طلحة جبريل على صفحات الجريدة قبل ذلك.
وهكذا فإن الاحتكاك بتلك الحقائق ساهم في صنع رؤية الحركة الاستقلالية المغربية لنفسها وللعالم في فترة من تاريخ العالم مليئة بالتقلبات المفاجئة. فكل حركة أو فكرة أو مبادرة كان لها طعم الشيء الذي لم يسبق له مثيل. كان عالم ما بعد الحرب يتكون، وكان على الحركة الاستقلالية المغربية أن تتحرك فيه بلا اندهاش. وقد نشر النص الكامل لمذكرات المهدي بنونة من نيويورك في مجلة «شؤون مغربية» من مايو 1996 إلى نوفمبر 1997.
وسواء في أوراق مكتب نيويورك المشار إليها أو في السنوات الحرجة، نجد مسألتين جابهتا المهدي في تلك الفترة. الأولى أن الزعيم المصري أحمد حسين، رئيس حزب مصر الفتاة، وهو من معارف المهدي في فترة القاهرة، قد نصحه بأن يعمل على تقديم القضية المغربية كملف مستقل. بينما نصحه واصف كمال وهو من معارفه في فترة فلسطين التي درس فيها المهدي ضمن البعثة التطوانية في نابلس، بأن تقدم القضية ضمن القضايا العربية. ولكنه اقترح على حزبه أن يبادر إلى تقديم القضية المغربية مستقلة، وقد تم إقراره على ذلك، لاعتبارين وهما أن القضية المغربية لا تجد نفس الصدود الذي تلقاه القضية الفلسطينية، التي تختلف بشأنها مقاربات الدول العربية.
والمسألة الثانية التي جابهته هي أنه وجد أن الإدارة الأميركية رغم إبدائها الاهتمام بمطلب الوطنيين المغاربة، فهي لا تريد أن تحرج الحليفة فرنسا العضو في الحلف الأطلسي فتقوي الشيوعيين الفرنسيين، بينما كان المهدي يحذر مخاطبيه الأميركيين من أن مجاملة فرنسا يمكن أن ترمي بالمغاربة في أحضان الشيوعية. أي أن ورقة الشيوعية كانت تلعب في اتجاهين متناقضين.
وأنجز المهدي مذكرة عن السياسة الفرنسية في المغرب قدمها في أكتوبر 1947، وأخر إلى شهر نوفمبر تقديم مذكرة ضد السياسة الإسبانية، مستفيدا من جو العزلة المضروبة على نظام فرانكو، ومستعملا لمصلحته النقمة التي كانت تحذو وفد الجمهوريين الإسبانيين في نيويورك دون تبني مواقفهم.
وكان من العرب من راوده على مهادنة إسبانيا، مراعاة لكتلة أميركا اللاتينية، وتعرض لضغط في هذا الاتجاه إلى حد حجب مساندة الوفود العربية عنه لدى اعتزامه تنظيم ندوة صحافية عن المذكرتين. ولم يجد التفهم والدعم إلا من الأمير فيصل بن عبد العزيز (المرحوم الملك فيصل) الذي احتضن طلبه بشأن الندوة، ومنحه العضوية في الوفد السعودي حينما انتهى أجل الجواز الذي كان يحمله.
وكتب المهدي في إحدى مذكراته إلى قيادته: كل يوم يزداد احتقاري لهذه الهيئة، وأزداد إيمانا بأن الحلول يجب أن تكون في عين المكان.
خامره ذلك في غمرة المناورات الرائجة بشأن قرار تقسيم فلسطين، الذي كان له وقع مؤلم على وجدان الفلسطيني الهوى المهدي بنونة الذي فتح عينيه على الدنيا في نابلس.