البعد السياسي للعولمة وتداعياته في التاريخ المعاصر
مرسل: الجمعة أكتوبر 05, 2012 12:16 pm
البعد السياسي للعولمة وتداعياته في التاريخ المعاصر
الدكتور جيلالي بوبكر
*البريد الإلكتروني: boubakerdjilali @ yahoo.fr
البعد السياسي للعولمة وتداعياته في التاريخ المعاصر
1- أبعاد العولمة السياسية:
* يرتبط المظهر السياسي للعولمة بالمظهر الثقافي وبغيره مما هو سائد في حياة الإنسان ككل، كما يشمل الحياة السياسية في بلدان القوى الكبرى وفي سائر بلدان العالم الأخرى، يشمل الأوضاع السياسية في بلدان القوى المهيمنة من حيث السياسة الداخلية والخارجية التي تنتهجها والتوجّهات والمبادئ التي تقوم عليها تلك السياسة، أما من حيث دول العالم الأخرى وشعوبها فيشمل أساليب ووسائل نقل وتوصيل سياسة القوى العظمى إليها، هذه السياسة التي ارتبطت بالتوجه الليبرالي وتمثلت في النهج الليبرالي الديمقراطي القائم على الحرية السياسية في الرأي والتعبير والاقتراع المباشر والتعددية الحزبية والتداول على السلطة وغيرها، وهي مبادئ مستمدة من مبادئ النظام الاقتصادي الفيزيوقراطي الطبيعي، الذي يبني الاقتصاد على قوانين الطبيعة البشرية وعلى رأسها قانون الحرية في الإنتاج والمنافسة، وفي السوق وما فيه من عرض وطلب وفي التبادل، وتطور الحياة الاقتصادية بفعل توجهها الحر أدّى إلى التمسك بمبدأ الحرية في الحياة السياسية وفي نظام الحكم وفي إدارة شؤون المجتمع بعيدا عن التوجيه السياسي من الدولة أو من الأخلاق أو من الدين أو من أيّ مصدر آخر، وارتبطت الحياة السياسية في البلدان المتقدمة وفي البلدان التي تسير في اتجاهها بالديمقراطية، وحشد لها أنصارها في الغرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من التأييد والمزيد من التكثيف في دعمها، خاصة في وجه النظم السياسية المناوئة لها وفي نظريات وفلسفات هذه النظم السياسية، وازداد الدعم وتكثّف التأييد بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفييتي، واختيار العديد من البلدان في إفريقيا وآسيا وفي أوربا الشرقية - وكان تنظيمها الاقتصادي اشتراكيا يطمح في الوصول إلى الشيوعية وكانت سياستها تقوم دور الدولة الأحادي ذات الحزب الواحد – الليبرالية السياسية، وبعد هذا الاختيار عرفت تحولات بارزة في حياتها السياسية والاقتصادية، الأمر الذي جعل التمسك بالديمقراطية يقوى ويشتد، وبما أنّ السياسة كفكر نظري هي وراء أي عمل وفي أي مستوى يهمّ توجه العولمة في الدول الكبرى أو في غيرها، ولكونها ممارسة فهي ترتبط بكل ما هو عملي له صلة بتنظيم حياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، فمن منطلق الديمقراطية كآلية لضبط الحياة السياسية في الدول، فإنّ التوجه السياسي نحو العولمة دعّم العمل من أجل توسيع دائرة الحريات السياسية، والخروج من النظم والثقافات العبودية والاستبدادية إلى التحرر التام، وتكريس الحرية الفردية وإطلاق مواهبها وتحريرها من كل ما يُعيقها، لتنطلق نحو الإنتاج والإبداع والتحضر، كما دعّم فكرة أنّ العولمة حتمية سياسية محايدة لا ترتبط بأيّة إيديولوجية غربية أو شرقية، مهامها تمكين دول العالم وشعوبها من تحقيق الاندماج والتكامل والتوحّد والتكتل في سبيل مجتمع إنساني غير مفرّق، ولا تحكمه ظاهرة اختلاف الألوان والأجناس واللغات والثقافات والجغرافيا وغيرها، وهذا في غياب المنظور الإيديولوجي الإمبريالي الذي يقول بعظمة الرأسمالية وتفوّقها المادي التكنولوجي الذي صنع الاستعمار بمختلف أشكاله بدعوى تعمير البلدان وتحرير الشعوب ونقل الحضارة والمدنية، ففي المرحلة الراهنة تجاوزت الشعوب مرحلة الاستعمار، وأصبح من حق أيّة دولة الاستفادة من منتجات التقدم العلمي والتقني ومن التحولات والتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجارية في الدول الكبرى الني تفرض نموذجها السياسي على كل شعوب العالم، وتعاقب كل من يعارض هذا النموذج أو يخرج عنه، فالعولمة السياسية تخص كل الجوانب المتعلقة بالنظام السياسي العالمي الذي يعكس النموذج السياسي الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الغرب الأوربي، ويعكس وسائل ومناهج تعميمه بالإضافة إلى تجاوب شعوب العالم معه وأثره عليها، ومن آثار العولمة في بعدها السياسي تقليص وانحسار دور الدولة الوطنية والقومية ناهيك عما سببته من حروب لم تعد على شعوب العالم إلاّ بالخراب والدمار.
* إنّ النظام السياسي العالمي الذي تفرضه العولمة يرتبط بمبادئ وقيّم الليبرالية السياسية، وبالديمقراطية كآلية في تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي إدارة دواليب السياسة والحكم والسلطة في الدولة الحديثة والمعاصرة، ويمثل التنظيم السياسي الليبرالي في مبادئه وفلسفته وفي آلياته وممارساته الذي يحكم دول المركز وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل على تعميمه على مختلف بلدان العالم، خاصة في عصر الاستقطاب لإيقاف المد الاشتراكي والشيوعي الذي كان يغزو العالم وينتشر ويشكل خطرا على الرأسمالية، ويؤدي إلى انحسارها وإلى التضييق عليها، يمثل هذا التنظيم وسياسته وفلسفته المنفذ الأول والأساسي للعولمة من الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية نحو لعالم أجمع، وفي جو الاستقطاب الثنائي انقسم الأطراف إلى مؤيد لليمين الرأسمالي وإلى مؤيد لليسار الاشتراكي وإلى مؤيد للحياد، هذا الأخير لا الانحياز إلى الغرب يُغنيه ولا الانحياز إلى الشرق يغنيه عن التخلص من التخلف والانحطاط، ويدفع عنه الظلم ويمكنه من عوامل النهضة والتنمية، لكن رغم ذلك فدول العالم في تبعية سياسية واقتصادية لغير ها، بعضها للغرب وبعضها للشرق، لأنّ ذلك حتمية وضرورة لا مفرّ منها، وسواء كانت التبعية للغرب أو للشرق فإنّ أغلب الدول التنمية فيها عاطلة ونظام الحكم مستبد وعلاقة الحاكم بالمحكوم عدائية خاصة في دول العالم الثالث ودول العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، حيث الديكتاتورية والاستبداد ونظام الحكم المطلق والسلطة الأحادية وسياسة الانقلابات والمعارضة السرّية وسياسة الإرهاب البوليسي والتعذيب والتهديد والسجون السرية ومحاكم التفتيش الخاصة وغيرها، وتؤيد ذلك وتدعمه القوى الكبرى في القطب الذي ينحاز إليه النظام السياسي الاستبدادي، لأنّ الذي يعنيها في هذا البلد أو ذاك مصالحها لا غير ولا تهمّها ظروف وأوضاع الشعوب المقهورة، وبقي الوضع على هذا الحال، حرب باردة ، تسابق نحو التسلح، حروب ونزاعات أهلية ودولية سببها الاستقطاب والمصالح والبحث عن مناطق النفوذ وعن النفط وعن غيره، شعوب تحت ظلم الاحتلال الأجنبي وأخرى تحت وطأة الفقر وكل صنوف الحرمان، وغيرها تحت قهر الحكام المستبدين، عالم من دون أمن وغير مستقر، عالم متعس مليء الحروب، لا المعسكر الغربي نجح في التغلب على مشكلاته، ولا المعسكر الشرقي تمكّن من التخلص من مشكلاته، وتدريجيا أخذت منظومة القطب الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي تتجه إلى الانهيار لتفسح المجال للقطب لليبرالي ليحتل الساحة في العالم بمفرده وينتهي عهد الاستقطاب، وتكون في ظله الدولة الوطنية هي وسياستها وقطاعها العام تسير "وفقا متطلبات تدفق رأس المال من الدول الصناعية إلى الدول النامية. ومن ثم فإنّ العديد من الخدمات التي تضمن مسيرة رأس المال هذه تقع على الوظيفة الاقتصادية للسلطة في الدول النامية التي انتقل إليها رأس المال، وذلك من حيث مسايرة القوانين والقواعد المحلية لمقتضيات الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية. يؤكد هذا ما يذهب إليه "فريد هلداي" من أن السلطة تخضع لمشيئة رأس المال، وليس بإمكانها القيام بأي شيء لمجابهته داخل النظام القائم، فالعمل المحلي يجب أن يخضع لانسياب رأس المال الدولي ولمقتضيات المنافسة العالمية".
* يظهر أن النظام العالمي الجديد التي تتبناه القوى الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم المعاصر والذي أفرز أزمات عميقة على كل مستويات الحياة، ويظهر"أن الممارسات الاقتصادية القائمة بالفعل من أجل إدارة الأزمة التي نحن بصددها ههنا تناقض في كثير من الأحيان مقولات وصفة الفكر الوحيدة المعتبرة تناقضا حادا. فالعولمة المدعو إليها لا تزال مبتورة، بل يتفاقم هذا الطابع كلما تتخذ إجراءات أكثر قسوة في مجال هجرة العمل على صعيد عالمي...وكذلك فإن الادعاء بأن النظام الجديد المزعوم قائم على تدعيم الميول الأممية البعيدة عن القومية المتطرفة يظل كلاما على ورق، إذ أن القوى العظمى تلجأ إلى استخدام قوتها أكثر مما كان عليه الأمر سابقا وذلك في جميع المجالات من العسكري"حرب الخليج مثال لهذا الاتجاه" إلى الاقتصادي"استغلال المادة رقم301 للقانون الأمريكي في العلاقات التجارية". ارتبط النظام العالمي الجديد في نشأته وانتشاره بوعي تاريخي وظروف سياسية واقتصادية وتحولات فكرية وإيديولوجية، كان للمعسكر الشرقي وللغرب الأوربي وللولايات المتحدة وللعالم الثالث وبالدرجة الأولى العالم العربي والإسلامي، لاستحواذه على الطاقة ولتوسطه جغرافيا بين شرق العالم وغربه ولكونه إسلاميا وفي صراع مع دولة إسرائيل المحتلة الابن المدلل لأمريكا والغرب الأوربي وينال مجاملة العديد من دول العالم الأخرى التي تتقرب من أمريكا وتجاملها لنيل رضاها على أشلاء المقهورين في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي غيره، كما ازداد نفوذ المركز والنظام العالمي الجديد في المنطقة العربية وازدادت قوته بامتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لمناطق نفوذ عديدة في العالم والإمساك بزمام الأمور فيها، وتأثيرها الكبير على الأنظمة السياسية لا على الشعوب "كحالة دولة العدو الإسرائيلي، أو كحالة تركيا الخاضعة للقرار الأطلسي، أو بريطانيا التي تخضع بالكامل للإدارة الأمريكية، زد على ذلك الشركات، ووسائل الإعلام المهيمنة على التوجيه فيها، كل ذلك حفز الولايات المتحدة على طرح ما أسمته "النظام العالمي الجديد"، ومن ثم "العولمة". ولعل تردي الأوضاع العربية وتراجع التضامن، وتردي الأوضاع في مواقع كثيرة في العالم كان ذلك الدافع للولايات المتحدة الأمريكية كي تطرح مشروعها، ذلك لمشروع الذي يصل إلى درجة التعصب للنموذج الغربي، وتعميمه، وفرض سيطرته وهيمنته، مع السعي إلى اختراق خصوصيات الغير، وطمس القسمات التي تتشكل منها شخصيات الأمم والشعوب الأخرى، وخاصة المستضعفة منها، وهو- أي النموذج الغربي المدعوم بالتفوق المادي والثقافي- يُسخّر من أجل هذا كل إنجازاته العلمية والتقنية، وقدراته الاقتصادية، وإمكاناته الإعلامية، بل وقوته العسكرية إذا اقتضى الأمر، ليفرض تصوراته الخاصة عن السلام والأمن والحرية وحقوق الإنسان، وغير ذلك منم المفاهيم التي عند كل أمة".
* لكنّ الحديث عن الأمن والسلام والعدالة والحرية وحقوق الإنسان في إطار النظام العالمي الجديد، وفي سياق سياسة الولايات المتحدة الخارجية التي تفرضها على العالم باسم الشرعية الدولية، وتمررها عبر جسور هيئة الأمم المتحدة وقنواتها المختلفة السياسية الاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها، "بل الموجود لا شرعية ولا دولية ولكنّها تصرفات دول قوية تعلن عن رغبتها في الهيمنة والسيطرة على العالم شعوب ودول وموارد لا نقول هيمنة أمريكية فقط ولكنها هيمنة وسيطرة قوى الشمال الغنية ممثلة في مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى التي تأسست عام 1975م حيث تسخر الشرعية الدولية في غير ما شرعت له، وتوظيفها لتحقيق أهداف ورعاية مبادئ لم تدر بخلد من صاغوا ميثاق الأمم المتحدة، حيث يجري حاليا استخدام الأمم المتحدة كأداة رئيسية في إعادة صياغة العالم بلون واحد وتمهيده لاستقبال قواعد سلوك جديدة، فهي تصدر قرارات خطيرة مناهضة تماما لأهداف ومبادئ الأمم المتحدة يتفق عليها وتصاغ خارج مقر المنظمة، أي خارج إطار الشرعية الدولية نحن نعيش الآن مرحلة انتقالية، فالميثاق القائم لا يتناسب مع الواقع الراهن وخصوصا ما يتعلق منها بالأمن والسلم الدوليين والتنمية، بإيجاز شديد أن النظام العالمي الراهن، ليس سو اغتصاب الولايات المتحدة- مؤيدة من الغرب- الشرعية الدولية لتحقيق سياساتها وأهدافها في العالم كافة لفرض الهيمنة والسيطرة على العالم".
* وفي عصر القطب الواحد تغيّرت الموازين في العالم في جميع المجالات، خاصة في ميزان القوّة السياسي والاقتصادي والعسكري، ومالت كفّة القوّة في الميزان بشكل كامل في صالح المعسكر الغربي ولحسابه، على حساب دول المعسكر الشرقي الكبرى والدول الضعيفة الفقيرة التابعة لها، في هذا الجو ازداد نفوذ النهج السياسي الليبرالي خارج الغرب الأوربي، وازداد التمسك به في غياب بديل عن النهج الاشتراكي الشيوعي، وأصبح النموذج السياسي الديمقراطي الأمريكي هو الوحيد الذي تدعو إليه الجهات النافذة في المركز، وفي الوقت نفسه صار النهج الاقتصادي الحر هو النموذج الوحيد التي تتبناه مختلف دول العالم كآلية للتحرر من التخلف والوصول إلى التنمية، خاصة البلدان التي انهار اقتصادها مع انهيار سياستها الاشتراكية وخروجها من العهد السابق ضعيفة منهكة لا تنتج وتعيش على الاستيراد، فاضطرت إلى تغيير نظامها السياسي والاقتصادي وحتى منظومتها العسكرية وفق توجّه العولمة المتضمن شروط وإملاءات القوى العظمى المهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وصارت سياسة الأمركة المتغربة والمتصهينة هي وراء كل النظم والتدابير والإجراءات والممارسات التي تفرضها العولمة في العالم، من دون النظر إلى مخلّفاتها على شعوب العالم المقهورة، بل تعمل بدون هوادة للقضاء على مقومات الدولة الوطنية والقومية، خاصة الدولة التاريخية التراثية، وتحرص على تهميش وضرب أيّة فعّالية للمنظمات والأحزاب السياسية الوطنية والإقليمية والدولية ماعدا تلك التي تعمل في صالح العولمة، وتعمل على الطعن في سيادة الدولة الوطنية بهدف إنقاصها، خاصة إذا كانت دولة معارضة للعولمة والأمركة المتصهينة، فتقوم بتقييد سلطتها في الداخل والخارج بهدف السيطرة عليها واحتوائها سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا، وكثيرا ما يتم اللّجوء إلى القوّة العسكرية والمخابراتية لإضعاف الدول المشاكسة أو لإسقاط أنظمتها.
* التفكير في الحرب، إشعال نار الحرب، الاستعداد للحرب، الدخول في الحرب والمشاركة فيها، انتظار الحرب، حروب أهلية، حروب باردة، نزاعات طائفية دينية وعرقية وسياسية، هذا ما يتميز به المشهد السياسي والأمني والعسكري في العالم المعاصر، "هو فعلا مشهد يثير الرثاء: حروب في كل مكان، مؤامرات، اقتتال بين الإخوة، مديونية خانقة حتى بالنسبة لدول ذات ثروات أو غنية، انفصالات، انقلابات...لكن المؤسف هو أنّ لهذه الصورة سندها ومرتكزها في الواقع. فشلاّل الدماء والدموع والأحزان في كل مكان من هذه الكرة، هو من جهة بضاعة إعلامية ثمينة، ولكنه من جهة ثانية انعكاس لوضع بشري جديد أصبح فيه العنف إعلاميا وعموميا في الوقت نفسه. فالذي حصل هو أن التوازن التقليدي بين النوازع العدوانية في النفس البشرية، التي تزكيها أو تشعلها أو تلهب أوراها مكاسب اقتصادية أو سيطرة سياسية أو استتباع إيديولوجي، وبين الكوابح الحضارية ضد استشراء العنف والوحشية التي تختزلها القيم الدينية والمنظومات الأخلاقية، قد اختل نهائيا لصاح الغرائز والدوافع البهيمية، وذلك مع خسوف قوة المنظومات الفكرية التقليدية أو تضاؤل تأثيرها تحت تأثير ثقافة أخرى هي ثقافة النجاعة والمردودية والفعالية المرتبطة بالتقدم التقني".
* أصبحت العولمة في ظل الأوضاع الراهنة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والإعلامية تجسد بشدة وبقوة الأمركة، لأن الولايات المتحدة الأمريكية صارت القوة الوحيدة التي تمتلك من القدرات مالا تمتلكه أيّة دولة أخرى، ولها اليد الطولى المسيطرة على العالم من كافة جوانب حياته، وتهمش مهام وصلاحيات الدول الكبرى التي تنافسها على زعامة العالم وقيادته، وتعمل على إضعاف بقية دول العالم الأخرى لتبقى في تبعية لها، وتسعى جاهدة "إلى تحقيق أسبقيات تؤهلها إلى ذلك لعل أهمها: حشد تحالف دولي مؤيد لها على جانب إعادة صياغة دور الأمم المتحدة لتصبح أداة لتحقيق أهداف الولايات المتحدة الأمريكية مع العمل على عزل أو حصار القوى الأخرى التي تهدف إلى إيجاد مكان لها على قمة النظام العالمي...يرى فريق من الباحثين إلى أن الإستراتيجية الأمريكية - فيما بعد حرب الخليج الثالثة – لا زالت تتبلور حتى الآن ولم تصل إلى نهايات محددة يمكن التعرف عليها كاملة ولكن أسس الإستراتيجية سوف تظل على الإستراتيجية الشاملة والتي تظم في طياتها المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية ولا تقتصر على الإستراتيجية العسكرية غير الإستراتيجية الأمريكية على التأكيد على الحفاظ على حقوق الإنسان باستخدام الوسائل المتعددة في هذا المجال إلى جانب اتخاذ حقوق الإنسان كذريعة للتدخل العسكري في بعض المناطق ذات الأهمية الحيوية للولايات المتحدة...ولعل أبرز الشواهد في هذه الازدواجية هو اقتلاع جذور الإرهاب وخصوصا من مناطق المجال الحيوي للولايات المتحدة". وعند وضع المعطيات في حدودها نجد "أنّ الدولة العظمى التي تعمل حاليا لفرض العولمة أو الترويج لها بمستوياتها كافة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تستخدم في سبيل ذلك سطوتها السياسية وقدرتها العسكرية وتقنيات الاتصال الحديثة. وقد وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار العولمة قدرا لا رد له و"نهاية التاريخ" بعد هزيمة النموذج المقابل الذي حاول الاتحاد السوفييتي تقديمه طيلة نصف قرن. من هنا يفضل نقاد العولمة وأعداؤها تسمية "الأمركة" كتعبير أكثر دقة عن واقع الحال".
* حسب الآليات الإستراتيجية الأمريكية على مختلف المستويات فإن النفوذ الأمريكي يستمر في المستقل إلى فترة طويلة، لأنها إستراتيجية تقوم بالتخطيط على المدى البعيد ضمانا لاستمرار تفوقها العسكري والاقتصادي والثقافي، ومنعا لأيّة قوة تحاول أن تنافسها في امتلاك أسباب التفوق والزعامة في العالم، هو الأمر الذي تعمل له سياستها الخارجية في المناطق الحيوية مثل مشروع تقسيم العراق ومشروع مكافحة الإرهاب في أفغانستان وفي بلدان أخرى، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، "وتحقيق تعاون إقليمي كامل بين دول المنطقة وبينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية وتطبيع الدول العربية علاقتها تماما مع إسرائيل من أجل تذويب التجمعات العربية في تجمعات إقليمية مصالحة وعلاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية طبقا لحجم المصالح الأمريكية ذاتها وليس طبقا للمصالح العربية بالطبع حيث نجحت الإستراتيجية الأمريكية في وجود نظام هيكلي عربي غير فاعل يتم من خلاله تحقيق حد أدنى من التنسيق في المجالات الثقافية والاجتماعية وبعض القضايا السياسية والاقتصادية دون أن يشمل أي تعاون أمني أو عسكري والذي يجب أن يتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية وقد سبقت الإشارة إلى حرص الولايات المتحدة على تفعيل دور إسرائيل في قلب النظام العربي كذلك تفعيل دور دول غرب إفريقيا مع دول الشمال الإفريقي العربي إدارة الاقتصاد العالمي أو بقول أبسط أمركته". اتفقت العولمة مع الأمركة في المجال السياسي وفي غيره على تقوية المسارين معا، مسار الانتشار ومسار الانصهار، انتشار العولمة والأمركة وفرض النموذج الديمقراطي الأمريكي على كافة الشعوب، وكأن الديمقراطية إجراءات وآليات وشكليات يتم الالتزام بها، وانصهار دول الأطراف في العولمة والأمركة، وفي إطار التوجه الديمقراطي العالمي، "وفي جميع الأحوال أصبحت حضارة عصر الصناعة والقوى الفاعلة فيها مؤثرة، بفضل ما أنتجته من فكر وثقافة وعلوم وتكنولوجيا بمصالح العناصر أو الأطراف المنتجة. وحدد هذا الإطار العالمي أو الظرف الكوني الضاغط طبيعة الصراع على الوجود. وبهذا لم يعد مقبولا ولا ممكنا بالنسبة لمجتمع رعوي أو زراعي، تقليدي أو يحيا على نحو ما كان يحيا تقليديا. سيظل إنتاجه المادي والفكري متخلفا وفريسة سهلة. ولم يعد مقبولا بناء هيكل اجتماعي، يشتمل على مؤسسات زخرفية باسم الديمقراطية".
* إنّ سير الدول في النهج الرأسمالي الغربي والأمريكي وإقحام الديمقراطية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية هو ما يراه العديد من المفكرين سبب أزمة الأنظمة فيها، لأن أية محاولة لديمقراطية ناشئة حقيقية تُجهض في المهد لأنها تشكل خطرا على ديمقراطية العولمة المأمولة وتكون مشبوهة ومزيفة، لكن "العبودية هي الفن الذي تجيده الرأسمالية ولا تقبله حتما الديمقراطية، فالديمقراطية والرأسمالية معتقدات مختلفة جدا بشأن التوزيع السليم للسلطة. الأولى تؤمن بتوزيع متساو للسلطة السياسية، بينما تؤمن الثانية بأن، من واجب من هو أصلح اقتصاديا أن يطرد من لا يصلح عن العمل إلى الانقراض الاقتصادي". ففي المبادئ التي تقوم عليها والقيم التي تؤمن بها العولمة والأمركة اختلالات وتناقضات داخلية ومع الواقع، فالعولمة "ليست صفقة يمكن أن يحسب المرء تكاليفها ومكاسبها، وإنما هي نمط حياة. وهي ليست ثمرة اختيار حر للمرء أن يقبله أو يرفضه، بل تكاد تكون قدرا. من المهم بالطبع ومن المفيد أن نحاول فهمه، ولكن لا يبدو أن من الممكن منعه. لابد إذن أن تولد ظاهرة العولمة مشاعر قوية لدى الجميع، من الحماسة الشديدة أو من الكراهية العميقة. وفي مثل هذه المواقف ليس من المجدي محاولة سرد الإيجابيات والسلبيات والمقارنة بينها فلا السلبيات ولا الإيجابيات هي من النوع الذي يسهل جمعه وطرحه، ولا المشاعر النهائية التي تولدها العولمة تتولد من طريق الجمع والطرح". في كل الحالات تعرّضت ومازالت تتعرض الدولة الوطنية والقومية إلى الانحطاط والتخلف، في مرحلة الاستعمار الكلاسيكي، وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، وهي مرحلة الاستقلال الصوري والمزيف والسيادة الكاذبة، وفي المرحلة الراهنة حيث الاستعمار العصري الجديد بأشكال شتى وصنوف عدة، دفع بالشعوب إلى الهجرة نحو داخل بلدانها وإشعال نار الفتن والنزاعات والحروب الأهلية أو الهجرة نحو خارج بلدانها بحثا عن حياة أفضل.
2- التداعيات السياسية للعولمة:
* إنّ سلبيات العولمة الثقافية على الخصوصية الثقافية في أيّة دولة من دول العالم تشكل خطرا كبيرا على الدولة ذاتها من حيث سيادتها وإرادتها السياسية واستقلالها، لكونها تصبح في تبعية للمركز في الوقت الذي يستجمع فيه المركز قوته ويحرص على تبديد الطاقات في الأطراف، كما يقدم طبقا من المفاهيم الآثرة الجذابة مثل حرية الفكر والرأي والتعبير وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والديمقراطية وحماية البيئة والحد من انتشار التسلح ووقف التسلح النووي ونقل العلم والتكنولوجيا وغيرها في إطار النظام العالمي ومن المنظور الغربي، في الوقت الذي تتهتك فيه حرمات الدول وشعوبها بانتهاك حقوقها الطبيعية والثقافية والدينية والسياسية وغيرها، وتتفكك فيها أواصر الوحدة بإثارة الفتن الطائفية والنزاعات العرقية والنعرات القبلية والاختلافات الدينية والمذهبية وإثارة الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد تحت أي مسبب خاصة بين المرأة والرجل واختلاق النزاعات ولو تمويها بالتحفيز على إعداد الأبحاث والدراسات العلمية حول الطائفية والعرقية والمذهبية وحول كل ما من شأنه يفرق ولا يجمع وينفر ولا يبشر ويعسر ولا ييسر على المستوى الديني والسياسي والثقافي والفكري، وإنشاء مراكز ومؤسسات البحث العلمي والدراسات الإستراتيجية لهذا الغرض، ومن أجل محو وحدة الثقافة ووحدة التراب الوطني ووحدة الماضي والمصير المشترك ، وهو مقدمة لمحو أثار سيادة الدولة وإذابة كيانها في المركز، الدولة في ظل العولمة تفتقد صلاحياتها في ممارسة السياسة على شؤون أفرادها، "العولمة..نهاية السياسة، وإذا غابت السياسة أو انتهت، فالبديل الحتمي هو الثورة أو الفوضى..إذا كانت السياسة تدبيرا لشؤون الدولة فإن شؤون الدولة تبتلعها العولمة، إن العولمة تعني أول ما تعني رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية، الاقتصادية منها والإعلامية، لتمارس سلطتها بوسائلها الخاصة ولتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام...الخ. وهكذا تتقلص شؤون الدولة إلى شأن واحد تقريبا هو القيام بدور الدركي لنظام العولمة نفسه. وإذا تقلصت مهام الدولة انحسر مجال السياسة".
* من الأهداف المنشودة من توجّه العولمة في جميع مستوياته هو الوصول بالدولة إلى مرحلة من التفاعل والانفعال الكبيرين مع المركز في نموذجه الفكري والثقافي والإيديولوجي على المستوين السياسي والاقتصادي، بحيث يتمكن النهج الديمقراطي من التغلغل في حياتها السياسية وفي نظام حكمها ولو صوريا وبصفة مشبوهة، لأنّ الأنظمة السياسية في البلدان الأطراف التي تطمح شعوبها إلى تبني الديمقراطية على المنهج الغربي وكما تجري في المركز ومن دون الإخلال بالهوية الثقافية أو المساس بالسيادة الوطنية، نجد الذي يجري هو العكس تماما، المركز يبارك طموح الأطراف في الديمقراطية، لكن ثنائية المركز والأطراف تتكرر في الدولة، فتمثل السلطة المركز، أي المركز المحلي الذي يستولي على مقدّرات البلاد والشعب ويستأثر بالحكم مطلقا، ويمارس الاستبداد بمختلف صوره وبأساليب عديدة، ويكون
في الغالب مؤيدا من المركز العالمي أي من العولمة ومن القائمين عليها، يفرض بقائه بتوظيف الديمقراطية وتزويرها وتوجيهها أو بنظام التوريث في الحكم الملكي المطلق أو بنظام التوريث الرئاسي كآلية جديدة يقوم عليها نقل السلطة، ولا يتغير النظام في المركز في حال أي حركة انقلابية أو غيرها تبقى مجرد سيناريوهات محبوكة لذر الرماد في العيون وللتظليل لا غير أو صراع أجنحة في السلطة بسبب المصالح الشخصية ينتهي دوما لصالح الجناح النافذ في الجيش وفي المركز الأعلى وتمثل غالبية الشعب الأطراف أي الأطراف الدنيا في الدولة، التي لا تنال من المركز سوى القهر والظلم والاستبداد والتخلف والفقر والاستعباد، فعلاقة المركز بالأطراف بموجب العولمة تقوم علاقة القوي الظالم بالضعيف المظلوم، وهي نفسها علاقة المركز بالأطراف في أيّة دولة من دول الأطراف، علاقة سلطة سياسية وعسكرية طاغية متجبرة قاهرة ونظام حكم استبدادي مطلق ثابت في آلياته وصورته لا يتغير بتغير شخصياته بشعب مقهور ومظلوم، لكنّ الأمر يختلف تماما في علاقة المركز الأعلى بشعوبه، علاقة تقوم على احترام القانون وتطبيقه وعلى التقيّد بآليات النهج الديمقراطي وبفلسفته وعلى احترام مبادئ حقوق الإنسان والعدالة والمساواة وحفظ الأمن والاستقرار وتشجيع كل المبادرات التي تطلق العمل الحر والجد والاجتهاد وأداء الواجبات، وتُصدّر العولمة من المركز إلى الأطراف دواعي الفرقة والتشتت وضياع القيّم وأسباب التخلف من فتن وحروب لم يجن منها الإنسان سوى الخراب والدمار. إنّ الاتجاه لتوحيد العالم بدأ مع ظهور هيئة الأمم المتحدة وعلى أرضية تختلف عن أرضية العولمة، تمت فيها مراعاة العديد من القيّم والرغبات والمصالح الأمر الذي أدّى إلى إظهار معايير مشتركة ومبادئ ينبغي مراعاتها في سبيل التقارب الدولي والتوحيد بتوحّد المصالح وعدم الاستمرار في الصراعات والتمادي في الحروب، وأهم هذه المبادئ:السلم العالمي، حقوق الإنسان، الحفاظ على البيئة، نزع أسلحة الدمار الشامل، تطبيق قرارات الشرعية الدولية في النزاعات وقرارات مجلس الأمن، هذا من الناحية النظرية، لكن التطبيق يكون بازدواج في المعايير وخروج عن الشرعية الدولية نظرا لهيمنة الدول الكبرى والمحاباة وضغط المصالح واستعمال حق (الفيتو) وعدم الاكتراث بقرارات الشرعية الدولية. وعدم صمود الدول الضعيفة وحركات المقاومة والتحرر من الاحتلال في وجه الغرب الأوربي والغرب الأمريكي لانحياز القوى العظمى سياسيا واقتصاديا وعسكريا إلى جهات معينة تشترك معها في المصالح، مما كرّس الظلم والاستبداد في العالم، ولم تعد المبادئ التي تأسست لأجلها هيئة الأمم المتحدة سوى شعارات برّاقة لا مكان لها في الواقع.
* العولمة كظاهرة سياسية ليست ذات توجّه واحد فريد، بل هي ذات توجّهين رئيسيين، توجه للمركز يعمل في خط واحد هو توحيد المركز، من خلال الهيمنة على العالم وجعله كتلة واحدة، والقضاء على السيادة الوطنية للدول القومي، وتوظيف كل ما هو متاح من آليات سياسية وقانونية وحقوقية وحتى العسكرية لفرض قرارات المركز في إطار القطبية الأحادية، وتوجه آخر نحو الأطراف يعمل على تشتيتها، ويحرص على هدم أي عمل في اتجاه التكتل الوطني أو الجهوي والإقليمي أو القاري أو غيره يمكن أن يكون قطبا منافسا للقطب الواحد الغرب الأمريكي، ففي ظل العولمة إفريقيا لا تكوّن وحدة ولا أيّة قارة أخرى ولا أيّة جهة من جهات العالم، والعالم العربي لم يسلم من العولمة ولا يكوّن تكتلا سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، "ولا يكون كُلاّ موحدا واحدا أو تجمعا مستقلا بل مجموعة من الطوائف والنحل والملل والأعراف مهدد بالتقسيم إلى شيعي وسني في العراق والخليج، عربي وبربري في المغرب العربي، علوي ودرزي في سوريا، ماروني وسني في لبنانّ، زيدي وشافعي في اليمن، وهابي قديم ووهابي جديد في شبه الجزيرة العربية، إباضي وسني في عمان، مسلم وقبطي في مصر، شمالي وجنوبي في السودان، سلفي أصولي وعلماني حداثي في الجزائر، بدوي وحضري، فلسطيني وأردني في الأردن، قومي وقطري على مدى الساحة العربية. وبالتالي تصبح إسرائيل الدولة الطائفية الكبرى في المنطقة، وتحصل على شرعيتها باسم اليهود ضد لا شرعيتها كاستعمار استيطاني وشوفينية قوميات من مخلفات القرن التاسع عشر." وكانت البلاد العربية والإسلامية وغيرها قد تعرّضت في القرن التاسع عشر للاستعمار الغربي الذي بلغ ذروته ببلوغ الرأسمالية قمّتها، فتمّ احتلال فرنسا للجزائر، واحتلال بريطانيا لأجزاء من شبه القارة الهندية، وتعرّضت بلدان عديدة في إفريقيا وفي آسيا وفي غيرها كما تعرّض الوطن العربي في مجموعه للاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، وعلى الرغم من أعمال التحرر وحركاته التي تخلصت من الاستعمار فإنّ الاتجاه الوطني التحرري تقلّص مداه وتراجع تأثيره بعد قيام الدولة الوطنية في ظل النظام الدولي الحديث والمعاصر، وفي إطار العولمة وهيمنة نفوذ المركز على الأطراف سياسيا، وأصبحت الدول الوطنية خاضعة لإملاءات الخارج وتابعة له ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، وقامت الجبهات الوطنية المتمسكة بخط الحركة الوطنية التحررية بمعارضة الأنظمة والتصدي لها سلميا وبالسلاح أحيانا، فازدادت العولمة سيطرة على الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي وفي غيره، وراحت الأنظمة في هذه الدول تمارس سياسة العولمة المتوحشة والشرسة التي يمارسها المركز تجاه الأطراف، فازدادت قسوة على المعارضة وتنكيلا بزعمائها ومناضليها عامة، ومن جهة أخرى أثّر ذلك سلبا على التزامات الدولة نحو مواطنيها مثل ما وقع في دول الخليج العربي التي أصبحت في ظل العولمة لا تعتمد إلاّ "على سلعة واحدة رئيسية وهي النفط في الناتج المحلي، الذي يشكل 90 بالمائة من عوائد التصدير، وهو أمر خطير في جوانبه الأمنية حيث صارت الخليجية أسيرة للتقلبات في الأسعار، وهو ما حدث في عام 1998 عندما فقدت دول الخليج 40 بالمائة من دخلها من النفط، ودخلت الميزانية الخليجية في عجز، وصار الدخل لا يكاد يغطي مصاريف الدولة اليومية وتجمدت المشروعات، وانتشرت البطالة، وتوقف نشاط القطاع الخاص المعتمد على مشروعات الدولة، واعترفت الدولة بأنها غير قادرة على الوفاء بمستلزمات "دولة الرفاهية" التي أقامتها منذ تفجر الطفرة في السبعينيات".
* تجسدت مظاهر العولمة وظهرت تداعياتها السياسية وغيرها من خلال العديد من المفاهيم والمواقف والممارسات التي حددها ودافع عنها النظام العالمي المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية، ارتبطت هذه المفاهيم والمواقف والممارسات بحماية مصالح الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج بالدرجة الأولى، منها حماية مجال المركز، مجاله الكبير، وحماية الأمن القومي للمجال العظيم، وحماية التوجّه الليبرالي وتعميمه في مختلف أقطار العالم ليُصبح إيديولوجية العصر وثقافته وفلسفته، وليصبح تنظيمه الاقتصادي والسياسي السائد بدون منازع، ولمحاربة المدّ الاشتراكي والشيوعي الذي تنامى وتقوّى بعد الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة اقتصادية وعسكرية، الأمر الذي جعلها تعمل على استرجاع النظام التقليدي القائم على التخطيط الأمريكي، لتستعيد المنظومة اليمينية الكلاسيكية قوّتها وتفرض هيمنتها في مواجهة المنظومة اليسارية التي اتسع نفوذها وازداد خطرها على اليمين الليبرالي المتطرف، توجّه اهتمام الولايات الأمريكية في ظل الظروف الاقتصادية القويّة إلى دعم مشروع بناء الدول الصناعية الغربية بما فيها اليابان التي دمرتها الحرب، وهو مشروع يوفر الاستثمار وإيجاد أسواق تُباع فيها المنتجات الصناعية الأمريكية، وبالتوازي تنتقل الديمقراطية الليبرالية إلى الشعوب التي تستهلك منتجات الغرب الأمريكي الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولم تكن الديمقراطية محايدة وموضوعية بل ينبغي ألاّ تتعارض قيّم الوجهة أو الجهة التي تتبناها مع قيم ومبادئ الديمقراطية الغربية، وبان هذا بوضوح في بلدان العالم الثالث عامة وفي بلدان العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وفي هذا يقول أحد المفكرين المعاصرين ممن لهم صلة مباشرة بالسياسة الأمريكية في العالم: "نستطيع مما سبق أن نفهم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الثالث: نحن نعارض – بمثابرة وإصرار- الديمقراطية إذا كانت نتائجها خارج نطاق سيطرتنا والمشكلة مع الديمقراطيات الحقيقية إنّها عرضة للوقوع فريسة للهرطقة التي تزعم على أنّ الحكومات الاستجابة لمصالح شعوبها بدلا من مصالح المستثمرين الأمريكيين. نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن دراسة عن نظام العلاقات الأمريكية الدولية، مؤداها أنّه بينما تقدم الولايات المتحدة خدمة...للديمقراطية، فإنّ التزامها الحقيقي هولـ"المشروعات الرأسمالية الخاصة". وعندما تتعرض حقوق المستثمرين الأمريكيين للتهديد، فعلى الديمقراطية أن ترحل، ولا بأس أن يحل محلها حكام التعذيب والقتل. دعّمت الولايات المتحدة إعاقة الحكومات البرلمانية، بل وأسقطتها عام 1953 في إيران، وعام 1954 في غواتيمالا، وساند كنيدي عام 1963 انقلابا عسكريا لمنع استعادة الديمقراطية، في عامي 1963 و1965 في الدومينيكان، في البرازيل عام 1964 والشيلي عام 1973، وكثير من المناطق الأخرى. تطابقت سياستنا في كثير من الدول مع ما فعلناه في السلفادور. لم تكن الأساليب طيبة جدّا. لم يكن عمل القوات التي حرّكناها في نيكاراغوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو غواتيمالا، لم يكن عملهم هو القتل العادي، ولكن كان بصفة رئيسية القسوة والتعذيب السادي –تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشراتهن-قطع رؤوس الناس وتعليقها على خوازيق- رطم الأطفال بالحوائط.الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للاستقلال، والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية."
* على الرغم من الممارسات الإجرامية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية في جهات مختلفة من العالم ومع جيرانها في أمريكا الجنوبية، وهي ممارسات مكشوفة ومفضوحة، جرائمها لا تخفى عن أحد، فإنّ الشعار الذي رفعته سياستها مع شعوب أمريكا اللاتينية هو "سياسة الجار الطيب" تقوم على الالتزام معها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التنمية الاقتصادية، وبكل ما من شأنه يحرّك نهضة الاقتصاد ويسمح بتنظيم المجتمع وتطويره، في حين أنّ حقيقة الأمر مغايرة تماما لسياسة الجار الطيب بل سياستها تقوم على استخدام كل أساليب المكر لتمرير مشاريعها وحماية مصالحها وفرض هيمنتها وبسط نفوذها، ولا تعرف التردد والتراجع في ذلك، فهي اتجهت صوب سياسة الجار الطيب فقط لخدمة مصالح المستثمرين الأمريكيين في أمريكا اللاتينية، ولا يهمّها سوى ذلك، والحرص على قمع المعرضة بالتعذيب والقتل والإرهاب، الإرهاب الذي جعلت منه أكبر خطر يهدد الأمن والسلم في العالم، مارسته ولازالت تمارسه على مرأى ومسمع الجميع في العراق وفي أفغانستان وفي باكستان وفي بلدان عديدة وبصور وأشكال مختلفة، وفي هذا يقول صاحب كتاب "ماذا يريد العم سام؟": "أعتقد من وجهة النظر القانونية، أنّ هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية، بأنّهم مجرمو حرب، أو على الأقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب." ذلك لما حدث من جرائم نكراء في السلفادور وفي نيكاراغوا وفي الكثير من دول آسيا وإفريقيا، حيث نالت فيها المعارضة التنكيل والقتل وأبشع صور التعذيب من طرف أنظمة استبدادية نصبتها الولايات المتحدة الأمريكية وأيّدتها، ولما حصل في غواتيمالا التي تحوّلت إلى ساحة قتل وتنكيل بالجثث وغزو بنما وإذكاء الحرب وتطعيمها في جنوب إفريقيا وإشعال نار حرب الخليج الأولى والثانية، والتأييد اللامحدود والدعم المطلق لسياسة الصهاينة في إسرائيل ضد الفلسطينيين، ومازالت السياسة الأمريكية تمارس الإجرام في حق الشعوب بمبررات وذرائع شتى من دون مراعاة مصالح هذه الشعوب أو النظر للشعارات التي تحملها هذه السياسة وأهمّها حماية حقوق الإنسان والحق في الحياة، وأصبحت في منظور العولمة والأمركة المتصهينة القيّم منقلبة على غير ما كانت عليه من ذي قبل، القيّم التي تأسست عليها الحضارات السابقة من أمن وحرية وقوّة وعدل ومساواة وغيرها صارت مقلوبة، تُستخدم لضرب الأمن والاستقرار فصارت الحرب هي الأمن والاستقرار والسلام، ولممارسة الاستبداد في أبشع صوره وفي أقصى مداه فتحولت الحرية إلى استعباد، وفي نسف كل ما من شأنه يضمن العدالة والمساواة فأصبحت العدالة ظلما وقهرا والمساواة حيفا وتمييزا في المجتمع، وفي إقصاء جميع القيّم الأخلاقية والدينية السامية خاصة في المجتمعات التاريخية التراثية والدينية، مثل مجتمعات العالم العربي والإسلامي التي تعيش على الإسلام والثقافة العربية وتراثها عامة، فأصبح التمسك بالتراث وبالقيّم الماضية في وجه العولمة تخلفا وانحطاطا، وتمّ استغلال كافة وسائل الإعلام والاتصال للدعاية والتظليل ولتكريس الوضع القائم لدى المركز ولدى الأطراف وفي العلاقة بينهما، كما ارتبط مستقبل العالم ككل بهذا الوضع المتعفن.
المصدر: شبكة عين الجامعة - من قسم: منتدى علم السياسة Political Forum
الدكتور جيلالي بوبكر
*البريد الإلكتروني: boubakerdjilali @ yahoo.fr
البعد السياسي للعولمة وتداعياته في التاريخ المعاصر
1- أبعاد العولمة السياسية:
* يرتبط المظهر السياسي للعولمة بالمظهر الثقافي وبغيره مما هو سائد في حياة الإنسان ككل، كما يشمل الحياة السياسية في بلدان القوى الكبرى وفي سائر بلدان العالم الأخرى، يشمل الأوضاع السياسية في بلدان القوى المهيمنة من حيث السياسة الداخلية والخارجية التي تنتهجها والتوجّهات والمبادئ التي تقوم عليها تلك السياسة، أما من حيث دول العالم الأخرى وشعوبها فيشمل أساليب ووسائل نقل وتوصيل سياسة القوى العظمى إليها، هذه السياسة التي ارتبطت بالتوجه الليبرالي وتمثلت في النهج الليبرالي الديمقراطي القائم على الحرية السياسية في الرأي والتعبير والاقتراع المباشر والتعددية الحزبية والتداول على السلطة وغيرها، وهي مبادئ مستمدة من مبادئ النظام الاقتصادي الفيزيوقراطي الطبيعي، الذي يبني الاقتصاد على قوانين الطبيعة البشرية وعلى رأسها قانون الحرية في الإنتاج والمنافسة، وفي السوق وما فيه من عرض وطلب وفي التبادل، وتطور الحياة الاقتصادية بفعل توجهها الحر أدّى إلى التمسك بمبدأ الحرية في الحياة السياسية وفي نظام الحكم وفي إدارة شؤون المجتمع بعيدا عن التوجيه السياسي من الدولة أو من الأخلاق أو من الدين أو من أيّ مصدر آخر، وارتبطت الحياة السياسية في البلدان المتقدمة وفي البلدان التي تسير في اتجاهها بالديمقراطية، وحشد لها أنصارها في الغرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من التأييد والمزيد من التكثيف في دعمها، خاصة في وجه النظم السياسية المناوئة لها وفي نظريات وفلسفات هذه النظم السياسية، وازداد الدعم وتكثّف التأييد بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفييتي، واختيار العديد من البلدان في إفريقيا وآسيا وفي أوربا الشرقية - وكان تنظيمها الاقتصادي اشتراكيا يطمح في الوصول إلى الشيوعية وكانت سياستها تقوم دور الدولة الأحادي ذات الحزب الواحد – الليبرالية السياسية، وبعد هذا الاختيار عرفت تحولات بارزة في حياتها السياسية والاقتصادية، الأمر الذي جعل التمسك بالديمقراطية يقوى ويشتد، وبما أنّ السياسة كفكر نظري هي وراء أي عمل وفي أي مستوى يهمّ توجه العولمة في الدول الكبرى أو في غيرها، ولكونها ممارسة فهي ترتبط بكل ما هو عملي له صلة بتنظيم حياة الفرد والجماعة داخل المجتمع، فمن منطلق الديمقراطية كآلية لضبط الحياة السياسية في الدول، فإنّ التوجه السياسي نحو العولمة دعّم العمل من أجل توسيع دائرة الحريات السياسية، والخروج من النظم والثقافات العبودية والاستبدادية إلى التحرر التام، وتكريس الحرية الفردية وإطلاق مواهبها وتحريرها من كل ما يُعيقها، لتنطلق نحو الإنتاج والإبداع والتحضر، كما دعّم فكرة أنّ العولمة حتمية سياسية محايدة لا ترتبط بأيّة إيديولوجية غربية أو شرقية، مهامها تمكين دول العالم وشعوبها من تحقيق الاندماج والتكامل والتوحّد والتكتل في سبيل مجتمع إنساني غير مفرّق، ولا تحكمه ظاهرة اختلاف الألوان والأجناس واللغات والثقافات والجغرافيا وغيرها، وهذا في غياب المنظور الإيديولوجي الإمبريالي الذي يقول بعظمة الرأسمالية وتفوّقها المادي التكنولوجي الذي صنع الاستعمار بمختلف أشكاله بدعوى تعمير البلدان وتحرير الشعوب ونقل الحضارة والمدنية، ففي المرحلة الراهنة تجاوزت الشعوب مرحلة الاستعمار، وأصبح من حق أيّة دولة الاستفادة من منتجات التقدم العلمي والتقني ومن التحولات والتطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الجارية في الدول الكبرى الني تفرض نموذجها السياسي على كل شعوب العالم، وتعاقب كل من يعارض هذا النموذج أو يخرج عنه، فالعولمة السياسية تخص كل الجوانب المتعلقة بالنظام السياسي العالمي الذي يعكس النموذج السياسي الديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الغرب الأوربي، ويعكس وسائل ومناهج تعميمه بالإضافة إلى تجاوب شعوب العالم معه وأثره عليها، ومن آثار العولمة في بعدها السياسي تقليص وانحسار دور الدولة الوطنية والقومية ناهيك عما سببته من حروب لم تعد على شعوب العالم إلاّ بالخراب والدمار.
* إنّ النظام السياسي العالمي الذي تفرضه العولمة يرتبط بمبادئ وقيّم الليبرالية السياسية، وبالديمقراطية كآلية في تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم، وفي إدارة دواليب السياسة والحكم والسلطة في الدولة الحديثة والمعاصرة، ويمثل التنظيم السياسي الليبرالي في مبادئه وفلسفته وفي آلياته وممارساته الذي يحكم دول المركز وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل على تعميمه على مختلف بلدان العالم، خاصة في عصر الاستقطاب لإيقاف المد الاشتراكي والشيوعي الذي كان يغزو العالم وينتشر ويشكل خطرا على الرأسمالية، ويؤدي إلى انحسارها وإلى التضييق عليها، يمثل هذا التنظيم وسياسته وفلسفته المنفذ الأول والأساسي للعولمة من الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية نحو لعالم أجمع، وفي جو الاستقطاب الثنائي انقسم الأطراف إلى مؤيد لليمين الرأسمالي وإلى مؤيد لليسار الاشتراكي وإلى مؤيد للحياد، هذا الأخير لا الانحياز إلى الغرب يُغنيه ولا الانحياز إلى الشرق يغنيه عن التخلص من التخلف والانحطاط، ويدفع عنه الظلم ويمكنه من عوامل النهضة والتنمية، لكن رغم ذلك فدول العالم في تبعية سياسية واقتصادية لغير ها، بعضها للغرب وبعضها للشرق، لأنّ ذلك حتمية وضرورة لا مفرّ منها، وسواء كانت التبعية للغرب أو للشرق فإنّ أغلب الدول التنمية فيها عاطلة ونظام الحكم مستبد وعلاقة الحاكم بالمحكوم عدائية خاصة في دول العالم الثالث ودول العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، حيث الديكتاتورية والاستبداد ونظام الحكم المطلق والسلطة الأحادية وسياسة الانقلابات والمعارضة السرّية وسياسة الإرهاب البوليسي والتعذيب والتهديد والسجون السرية ومحاكم التفتيش الخاصة وغيرها، وتؤيد ذلك وتدعمه القوى الكبرى في القطب الذي ينحاز إليه النظام السياسي الاستبدادي، لأنّ الذي يعنيها في هذا البلد أو ذاك مصالحها لا غير ولا تهمّها ظروف وأوضاع الشعوب المقهورة، وبقي الوضع على هذا الحال، حرب باردة ، تسابق نحو التسلح، حروب ونزاعات أهلية ودولية سببها الاستقطاب والمصالح والبحث عن مناطق النفوذ وعن النفط وعن غيره، شعوب تحت ظلم الاحتلال الأجنبي وأخرى تحت وطأة الفقر وكل صنوف الحرمان، وغيرها تحت قهر الحكام المستبدين، عالم من دون أمن وغير مستقر، عالم متعس مليء الحروب، لا المعسكر الغربي نجح في التغلب على مشكلاته، ولا المعسكر الشرقي تمكّن من التخلص من مشكلاته، وتدريجيا أخذت منظومة القطب الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي تتجه إلى الانهيار لتفسح المجال للقطب لليبرالي ليحتل الساحة في العالم بمفرده وينتهي عهد الاستقطاب، وتكون في ظله الدولة الوطنية هي وسياستها وقطاعها العام تسير "وفقا متطلبات تدفق رأس المال من الدول الصناعية إلى الدول النامية. ومن ثم فإنّ العديد من الخدمات التي تضمن مسيرة رأس المال هذه تقع على الوظيفة الاقتصادية للسلطة في الدول النامية التي انتقل إليها رأس المال، وذلك من حيث مسايرة القوانين والقواعد المحلية لمقتضيات الاقتصاد العالمي والأسواق العالمية. يؤكد هذا ما يذهب إليه "فريد هلداي" من أن السلطة تخضع لمشيئة رأس المال، وليس بإمكانها القيام بأي شيء لمجابهته داخل النظام القائم، فالعمل المحلي يجب أن يخضع لانسياب رأس المال الدولي ولمقتضيات المنافسة العالمية".
* يظهر أن النظام العالمي الجديد التي تتبناه القوى الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم المعاصر والذي أفرز أزمات عميقة على كل مستويات الحياة، ويظهر"أن الممارسات الاقتصادية القائمة بالفعل من أجل إدارة الأزمة التي نحن بصددها ههنا تناقض في كثير من الأحيان مقولات وصفة الفكر الوحيدة المعتبرة تناقضا حادا. فالعولمة المدعو إليها لا تزال مبتورة، بل يتفاقم هذا الطابع كلما تتخذ إجراءات أكثر قسوة في مجال هجرة العمل على صعيد عالمي...وكذلك فإن الادعاء بأن النظام الجديد المزعوم قائم على تدعيم الميول الأممية البعيدة عن القومية المتطرفة يظل كلاما على ورق، إذ أن القوى العظمى تلجأ إلى استخدام قوتها أكثر مما كان عليه الأمر سابقا وذلك في جميع المجالات من العسكري"حرب الخليج مثال لهذا الاتجاه" إلى الاقتصادي"استغلال المادة رقم301 للقانون الأمريكي في العلاقات التجارية". ارتبط النظام العالمي الجديد في نشأته وانتشاره بوعي تاريخي وظروف سياسية واقتصادية وتحولات فكرية وإيديولوجية، كان للمعسكر الشرقي وللغرب الأوربي وللولايات المتحدة وللعالم الثالث وبالدرجة الأولى العالم العربي والإسلامي، لاستحواذه على الطاقة ولتوسطه جغرافيا بين شرق العالم وغربه ولكونه إسلاميا وفي صراع مع دولة إسرائيل المحتلة الابن المدلل لأمريكا والغرب الأوربي وينال مجاملة العديد من دول العالم الأخرى التي تتقرب من أمريكا وتجاملها لنيل رضاها على أشلاء المقهورين في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي غيره، كما ازداد نفوذ المركز والنظام العالمي الجديد في المنطقة العربية وازدادت قوته بامتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لمناطق نفوذ عديدة في العالم والإمساك بزمام الأمور فيها، وتأثيرها الكبير على الأنظمة السياسية لا على الشعوب "كحالة دولة العدو الإسرائيلي، أو كحالة تركيا الخاضعة للقرار الأطلسي، أو بريطانيا التي تخضع بالكامل للإدارة الأمريكية، زد على ذلك الشركات، ووسائل الإعلام المهيمنة على التوجيه فيها، كل ذلك حفز الولايات المتحدة على طرح ما أسمته "النظام العالمي الجديد"، ومن ثم "العولمة". ولعل تردي الأوضاع العربية وتراجع التضامن، وتردي الأوضاع في مواقع كثيرة في العالم كان ذلك الدافع للولايات المتحدة الأمريكية كي تطرح مشروعها، ذلك لمشروع الذي يصل إلى درجة التعصب للنموذج الغربي، وتعميمه، وفرض سيطرته وهيمنته، مع السعي إلى اختراق خصوصيات الغير، وطمس القسمات التي تتشكل منها شخصيات الأمم والشعوب الأخرى، وخاصة المستضعفة منها، وهو- أي النموذج الغربي المدعوم بالتفوق المادي والثقافي- يُسخّر من أجل هذا كل إنجازاته العلمية والتقنية، وقدراته الاقتصادية، وإمكاناته الإعلامية، بل وقوته العسكرية إذا اقتضى الأمر، ليفرض تصوراته الخاصة عن السلام والأمن والحرية وحقوق الإنسان، وغير ذلك منم المفاهيم التي عند كل أمة".
* لكنّ الحديث عن الأمن والسلام والعدالة والحرية وحقوق الإنسان في إطار النظام العالمي الجديد، وفي سياق سياسة الولايات المتحدة الخارجية التي تفرضها على العالم باسم الشرعية الدولية، وتمررها عبر جسور هيئة الأمم المتحدة وقنواتها المختلفة السياسية الاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها، "بل الموجود لا شرعية ولا دولية ولكنّها تصرفات دول قوية تعلن عن رغبتها في الهيمنة والسيطرة على العالم شعوب ودول وموارد لا نقول هيمنة أمريكية فقط ولكنها هيمنة وسيطرة قوى الشمال الغنية ممثلة في مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى التي تأسست عام 1975م حيث تسخر الشرعية الدولية في غير ما شرعت له، وتوظيفها لتحقيق أهداف ورعاية مبادئ لم تدر بخلد من صاغوا ميثاق الأمم المتحدة، حيث يجري حاليا استخدام الأمم المتحدة كأداة رئيسية في إعادة صياغة العالم بلون واحد وتمهيده لاستقبال قواعد سلوك جديدة، فهي تصدر قرارات خطيرة مناهضة تماما لأهداف ومبادئ الأمم المتحدة يتفق عليها وتصاغ خارج مقر المنظمة، أي خارج إطار الشرعية الدولية نحن نعيش الآن مرحلة انتقالية، فالميثاق القائم لا يتناسب مع الواقع الراهن وخصوصا ما يتعلق منها بالأمن والسلم الدوليين والتنمية، بإيجاز شديد أن النظام العالمي الراهن، ليس سو اغتصاب الولايات المتحدة- مؤيدة من الغرب- الشرعية الدولية لتحقيق سياساتها وأهدافها في العالم كافة لفرض الهيمنة والسيطرة على العالم".
* وفي عصر القطب الواحد تغيّرت الموازين في العالم في جميع المجالات، خاصة في ميزان القوّة السياسي والاقتصادي والعسكري، ومالت كفّة القوّة في الميزان بشكل كامل في صالح المعسكر الغربي ولحسابه، على حساب دول المعسكر الشرقي الكبرى والدول الضعيفة الفقيرة التابعة لها، في هذا الجو ازداد نفوذ النهج السياسي الليبرالي خارج الغرب الأوربي، وازداد التمسك به في غياب بديل عن النهج الاشتراكي الشيوعي، وأصبح النموذج السياسي الديمقراطي الأمريكي هو الوحيد الذي تدعو إليه الجهات النافذة في المركز، وفي الوقت نفسه صار النهج الاقتصادي الحر هو النموذج الوحيد التي تتبناه مختلف دول العالم كآلية للتحرر من التخلف والوصول إلى التنمية، خاصة البلدان التي انهار اقتصادها مع انهيار سياستها الاشتراكية وخروجها من العهد السابق ضعيفة منهكة لا تنتج وتعيش على الاستيراد، فاضطرت إلى تغيير نظامها السياسي والاقتصادي وحتى منظومتها العسكرية وفق توجّه العولمة المتضمن شروط وإملاءات القوى العظمى المهيمنة على العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وصارت سياسة الأمركة المتغربة والمتصهينة هي وراء كل النظم والتدابير والإجراءات والممارسات التي تفرضها العولمة في العالم، من دون النظر إلى مخلّفاتها على شعوب العالم المقهورة، بل تعمل بدون هوادة للقضاء على مقومات الدولة الوطنية والقومية، خاصة الدولة التاريخية التراثية، وتحرص على تهميش وضرب أيّة فعّالية للمنظمات والأحزاب السياسية الوطنية والإقليمية والدولية ماعدا تلك التي تعمل في صالح العولمة، وتعمل على الطعن في سيادة الدولة الوطنية بهدف إنقاصها، خاصة إذا كانت دولة معارضة للعولمة والأمركة المتصهينة، فتقوم بتقييد سلطتها في الداخل والخارج بهدف السيطرة عليها واحتوائها سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا، وكثيرا ما يتم اللّجوء إلى القوّة العسكرية والمخابراتية لإضعاف الدول المشاكسة أو لإسقاط أنظمتها.
* التفكير في الحرب، إشعال نار الحرب، الاستعداد للحرب، الدخول في الحرب والمشاركة فيها، انتظار الحرب، حروب أهلية، حروب باردة، نزاعات طائفية دينية وعرقية وسياسية، هذا ما يتميز به المشهد السياسي والأمني والعسكري في العالم المعاصر، "هو فعلا مشهد يثير الرثاء: حروب في كل مكان، مؤامرات، اقتتال بين الإخوة، مديونية خانقة حتى بالنسبة لدول ذات ثروات أو غنية، انفصالات، انقلابات...لكن المؤسف هو أنّ لهذه الصورة سندها ومرتكزها في الواقع. فشلاّل الدماء والدموع والأحزان في كل مكان من هذه الكرة، هو من جهة بضاعة إعلامية ثمينة، ولكنه من جهة ثانية انعكاس لوضع بشري جديد أصبح فيه العنف إعلاميا وعموميا في الوقت نفسه. فالذي حصل هو أن التوازن التقليدي بين النوازع العدوانية في النفس البشرية، التي تزكيها أو تشعلها أو تلهب أوراها مكاسب اقتصادية أو سيطرة سياسية أو استتباع إيديولوجي، وبين الكوابح الحضارية ضد استشراء العنف والوحشية التي تختزلها القيم الدينية والمنظومات الأخلاقية، قد اختل نهائيا لصاح الغرائز والدوافع البهيمية، وذلك مع خسوف قوة المنظومات الفكرية التقليدية أو تضاؤل تأثيرها تحت تأثير ثقافة أخرى هي ثقافة النجاعة والمردودية والفعالية المرتبطة بالتقدم التقني".
* أصبحت العولمة في ظل الأوضاع الراهنة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والإعلامية تجسد بشدة وبقوة الأمركة، لأن الولايات المتحدة الأمريكية صارت القوة الوحيدة التي تمتلك من القدرات مالا تمتلكه أيّة دولة أخرى، ولها اليد الطولى المسيطرة على العالم من كافة جوانب حياته، وتهمش مهام وصلاحيات الدول الكبرى التي تنافسها على زعامة العالم وقيادته، وتعمل على إضعاف بقية دول العالم الأخرى لتبقى في تبعية لها، وتسعى جاهدة "إلى تحقيق أسبقيات تؤهلها إلى ذلك لعل أهمها: حشد تحالف دولي مؤيد لها على جانب إعادة صياغة دور الأمم المتحدة لتصبح أداة لتحقيق أهداف الولايات المتحدة الأمريكية مع العمل على عزل أو حصار القوى الأخرى التي تهدف إلى إيجاد مكان لها على قمة النظام العالمي...يرى فريق من الباحثين إلى أن الإستراتيجية الأمريكية - فيما بعد حرب الخليج الثالثة – لا زالت تتبلور حتى الآن ولم تصل إلى نهايات محددة يمكن التعرف عليها كاملة ولكن أسس الإستراتيجية سوف تظل على الإستراتيجية الشاملة والتي تظم في طياتها المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية ولا تقتصر على الإستراتيجية العسكرية غير الإستراتيجية الأمريكية على التأكيد على الحفاظ على حقوق الإنسان باستخدام الوسائل المتعددة في هذا المجال إلى جانب اتخاذ حقوق الإنسان كذريعة للتدخل العسكري في بعض المناطق ذات الأهمية الحيوية للولايات المتحدة...ولعل أبرز الشواهد في هذه الازدواجية هو اقتلاع جذور الإرهاب وخصوصا من مناطق المجال الحيوي للولايات المتحدة". وعند وضع المعطيات في حدودها نجد "أنّ الدولة العظمى التي تعمل حاليا لفرض العولمة أو الترويج لها بمستوياتها كافة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تستخدم في سبيل ذلك سطوتها السياسية وقدرتها العسكرية وتقنيات الاتصال الحديثة. وقد وصل الأمر بالبعض إلى اعتبار العولمة قدرا لا رد له و"نهاية التاريخ" بعد هزيمة النموذج المقابل الذي حاول الاتحاد السوفييتي تقديمه طيلة نصف قرن. من هنا يفضل نقاد العولمة وأعداؤها تسمية "الأمركة" كتعبير أكثر دقة عن واقع الحال".
* حسب الآليات الإستراتيجية الأمريكية على مختلف المستويات فإن النفوذ الأمريكي يستمر في المستقل إلى فترة طويلة، لأنها إستراتيجية تقوم بالتخطيط على المدى البعيد ضمانا لاستمرار تفوقها العسكري والاقتصادي والثقافي، ومنعا لأيّة قوة تحاول أن تنافسها في امتلاك أسباب التفوق والزعامة في العالم، هو الأمر الذي تعمل له سياستها الخارجية في المناطق الحيوية مثل مشروع تقسيم العراق ومشروع مكافحة الإرهاب في أفغانستان وفي بلدان أخرى، ومشروع الشرق الأوسط الكبير، "وتحقيق تعاون إقليمي كامل بين دول المنطقة وبينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية وتطبيع الدول العربية علاقتها تماما مع إسرائيل من أجل تذويب التجمعات العربية في تجمعات إقليمية مصالحة وعلاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية طبقا لحجم المصالح الأمريكية ذاتها وليس طبقا للمصالح العربية بالطبع حيث نجحت الإستراتيجية الأمريكية في وجود نظام هيكلي عربي غير فاعل يتم من خلاله تحقيق حد أدنى من التنسيق في المجالات الثقافية والاجتماعية وبعض القضايا السياسية والاقتصادية دون أن يشمل أي تعاون أمني أو عسكري والذي يجب أن يتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية وقد سبقت الإشارة إلى حرص الولايات المتحدة على تفعيل دور إسرائيل في قلب النظام العربي كذلك تفعيل دور دول غرب إفريقيا مع دول الشمال الإفريقي العربي إدارة الاقتصاد العالمي أو بقول أبسط أمركته". اتفقت العولمة مع الأمركة في المجال السياسي وفي غيره على تقوية المسارين معا، مسار الانتشار ومسار الانصهار، انتشار العولمة والأمركة وفرض النموذج الديمقراطي الأمريكي على كافة الشعوب، وكأن الديمقراطية إجراءات وآليات وشكليات يتم الالتزام بها، وانصهار دول الأطراف في العولمة والأمركة، وفي إطار التوجه الديمقراطي العالمي، "وفي جميع الأحوال أصبحت حضارة عصر الصناعة والقوى الفاعلة فيها مؤثرة، بفضل ما أنتجته من فكر وثقافة وعلوم وتكنولوجيا بمصالح العناصر أو الأطراف المنتجة. وحدد هذا الإطار العالمي أو الظرف الكوني الضاغط طبيعة الصراع على الوجود. وبهذا لم يعد مقبولا ولا ممكنا بالنسبة لمجتمع رعوي أو زراعي، تقليدي أو يحيا على نحو ما كان يحيا تقليديا. سيظل إنتاجه المادي والفكري متخلفا وفريسة سهلة. ولم يعد مقبولا بناء هيكل اجتماعي، يشتمل على مؤسسات زخرفية باسم الديمقراطية".
* إنّ سير الدول في النهج الرأسمالي الغربي والأمريكي وإقحام الديمقراطية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية هو ما يراه العديد من المفكرين سبب أزمة الأنظمة فيها، لأن أية محاولة لديمقراطية ناشئة حقيقية تُجهض في المهد لأنها تشكل خطرا على ديمقراطية العولمة المأمولة وتكون مشبوهة ومزيفة، لكن "العبودية هي الفن الذي تجيده الرأسمالية ولا تقبله حتما الديمقراطية، فالديمقراطية والرأسمالية معتقدات مختلفة جدا بشأن التوزيع السليم للسلطة. الأولى تؤمن بتوزيع متساو للسلطة السياسية، بينما تؤمن الثانية بأن، من واجب من هو أصلح اقتصاديا أن يطرد من لا يصلح عن العمل إلى الانقراض الاقتصادي". ففي المبادئ التي تقوم عليها والقيم التي تؤمن بها العولمة والأمركة اختلالات وتناقضات داخلية ومع الواقع، فالعولمة "ليست صفقة يمكن أن يحسب المرء تكاليفها ومكاسبها، وإنما هي نمط حياة. وهي ليست ثمرة اختيار حر للمرء أن يقبله أو يرفضه، بل تكاد تكون قدرا. من المهم بالطبع ومن المفيد أن نحاول فهمه، ولكن لا يبدو أن من الممكن منعه. لابد إذن أن تولد ظاهرة العولمة مشاعر قوية لدى الجميع، من الحماسة الشديدة أو من الكراهية العميقة. وفي مثل هذه المواقف ليس من المجدي محاولة سرد الإيجابيات والسلبيات والمقارنة بينها فلا السلبيات ولا الإيجابيات هي من النوع الذي يسهل جمعه وطرحه، ولا المشاعر النهائية التي تولدها العولمة تتولد من طريق الجمع والطرح". في كل الحالات تعرّضت ومازالت تتعرض الدولة الوطنية والقومية إلى الانحطاط والتخلف، في مرحلة الاستعمار الكلاسيكي، وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، وهي مرحلة الاستقلال الصوري والمزيف والسيادة الكاذبة، وفي المرحلة الراهنة حيث الاستعمار العصري الجديد بأشكال شتى وصنوف عدة، دفع بالشعوب إلى الهجرة نحو داخل بلدانها وإشعال نار الفتن والنزاعات والحروب الأهلية أو الهجرة نحو خارج بلدانها بحثا عن حياة أفضل.
2- التداعيات السياسية للعولمة:
* إنّ سلبيات العولمة الثقافية على الخصوصية الثقافية في أيّة دولة من دول العالم تشكل خطرا كبيرا على الدولة ذاتها من حيث سيادتها وإرادتها السياسية واستقلالها، لكونها تصبح في تبعية للمركز في الوقت الذي يستجمع فيه المركز قوته ويحرص على تبديد الطاقات في الأطراف، كما يقدم طبقا من المفاهيم الآثرة الجذابة مثل حرية الفكر والرأي والتعبير وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والديمقراطية وحماية البيئة والحد من انتشار التسلح ووقف التسلح النووي ونقل العلم والتكنولوجيا وغيرها في إطار النظام العالمي ومن المنظور الغربي، في الوقت الذي تتهتك فيه حرمات الدول وشعوبها بانتهاك حقوقها الطبيعية والثقافية والدينية والسياسية وغيرها، وتتفكك فيها أواصر الوحدة بإثارة الفتن الطائفية والنزاعات العرقية والنعرات القبلية والاختلافات الدينية والمذهبية وإثارة الفرقة بين أفراد المجتمع الواحد تحت أي مسبب خاصة بين المرأة والرجل واختلاق النزاعات ولو تمويها بالتحفيز على إعداد الأبحاث والدراسات العلمية حول الطائفية والعرقية والمذهبية وحول كل ما من شأنه يفرق ولا يجمع وينفر ولا يبشر ويعسر ولا ييسر على المستوى الديني والسياسي والثقافي والفكري، وإنشاء مراكز ومؤسسات البحث العلمي والدراسات الإستراتيجية لهذا الغرض، ومن أجل محو وحدة الثقافة ووحدة التراب الوطني ووحدة الماضي والمصير المشترك ، وهو مقدمة لمحو أثار سيادة الدولة وإذابة كيانها في المركز، الدولة في ظل العولمة تفتقد صلاحياتها في ممارسة السياسة على شؤون أفرادها، "العولمة..نهاية السياسة، وإذا غابت السياسة أو انتهت، فالبديل الحتمي هو الثورة أو الفوضى..إذا كانت السياسة تدبيرا لشؤون الدولة فإن شؤون الدولة تبتلعها العولمة، إن العولمة تعني أول ما تعني رفع الحواجز والحدود أمام الشركات والمؤسسات والشبكات الدولية، الاقتصادية منها والإعلامية، لتمارس سلطتها بوسائلها الخاصة ولتحل محل الدولة في ميادين المال والاقتصاد والإعلام...الخ. وهكذا تتقلص شؤون الدولة إلى شأن واحد تقريبا هو القيام بدور الدركي لنظام العولمة نفسه. وإذا تقلصت مهام الدولة انحسر مجال السياسة".
* من الأهداف المنشودة من توجّه العولمة في جميع مستوياته هو الوصول بالدولة إلى مرحلة من التفاعل والانفعال الكبيرين مع المركز في نموذجه الفكري والثقافي والإيديولوجي على المستوين السياسي والاقتصادي، بحيث يتمكن النهج الديمقراطي من التغلغل في حياتها السياسية وفي نظام حكمها ولو صوريا وبصفة مشبوهة، لأنّ الأنظمة السياسية في البلدان الأطراف التي تطمح شعوبها إلى تبني الديمقراطية على المنهج الغربي وكما تجري في المركز ومن دون الإخلال بالهوية الثقافية أو المساس بالسيادة الوطنية، نجد الذي يجري هو العكس تماما، المركز يبارك طموح الأطراف في الديمقراطية، لكن ثنائية المركز والأطراف تتكرر في الدولة، فتمثل السلطة المركز، أي المركز المحلي الذي يستولي على مقدّرات البلاد والشعب ويستأثر بالحكم مطلقا، ويمارس الاستبداد بمختلف صوره وبأساليب عديدة، ويكون
في الغالب مؤيدا من المركز العالمي أي من العولمة ومن القائمين عليها، يفرض بقائه بتوظيف الديمقراطية وتزويرها وتوجيهها أو بنظام التوريث في الحكم الملكي المطلق أو بنظام التوريث الرئاسي كآلية جديدة يقوم عليها نقل السلطة، ولا يتغير النظام في المركز في حال أي حركة انقلابية أو غيرها تبقى مجرد سيناريوهات محبوكة لذر الرماد في العيون وللتظليل لا غير أو صراع أجنحة في السلطة بسبب المصالح الشخصية ينتهي دوما لصالح الجناح النافذ في الجيش وفي المركز الأعلى وتمثل غالبية الشعب الأطراف أي الأطراف الدنيا في الدولة، التي لا تنال من المركز سوى القهر والظلم والاستبداد والتخلف والفقر والاستعباد، فعلاقة المركز بالأطراف بموجب العولمة تقوم علاقة القوي الظالم بالضعيف المظلوم، وهي نفسها علاقة المركز بالأطراف في أيّة دولة من دول الأطراف، علاقة سلطة سياسية وعسكرية طاغية متجبرة قاهرة ونظام حكم استبدادي مطلق ثابت في آلياته وصورته لا يتغير بتغير شخصياته بشعب مقهور ومظلوم، لكنّ الأمر يختلف تماما في علاقة المركز الأعلى بشعوبه، علاقة تقوم على احترام القانون وتطبيقه وعلى التقيّد بآليات النهج الديمقراطي وبفلسفته وعلى احترام مبادئ حقوق الإنسان والعدالة والمساواة وحفظ الأمن والاستقرار وتشجيع كل المبادرات التي تطلق العمل الحر والجد والاجتهاد وأداء الواجبات، وتُصدّر العولمة من المركز إلى الأطراف دواعي الفرقة والتشتت وضياع القيّم وأسباب التخلف من فتن وحروب لم يجن منها الإنسان سوى الخراب والدمار. إنّ الاتجاه لتوحيد العالم بدأ مع ظهور هيئة الأمم المتحدة وعلى أرضية تختلف عن أرضية العولمة، تمت فيها مراعاة العديد من القيّم والرغبات والمصالح الأمر الذي أدّى إلى إظهار معايير مشتركة ومبادئ ينبغي مراعاتها في سبيل التقارب الدولي والتوحيد بتوحّد المصالح وعدم الاستمرار في الصراعات والتمادي في الحروب، وأهم هذه المبادئ:السلم العالمي، حقوق الإنسان، الحفاظ على البيئة، نزع أسلحة الدمار الشامل، تطبيق قرارات الشرعية الدولية في النزاعات وقرارات مجلس الأمن، هذا من الناحية النظرية، لكن التطبيق يكون بازدواج في المعايير وخروج عن الشرعية الدولية نظرا لهيمنة الدول الكبرى والمحاباة وضغط المصالح واستعمال حق (الفيتو) وعدم الاكتراث بقرارات الشرعية الدولية. وعدم صمود الدول الضعيفة وحركات المقاومة والتحرر من الاحتلال في وجه الغرب الأوربي والغرب الأمريكي لانحياز القوى العظمى سياسيا واقتصاديا وعسكريا إلى جهات معينة تشترك معها في المصالح، مما كرّس الظلم والاستبداد في العالم، ولم تعد المبادئ التي تأسست لأجلها هيئة الأمم المتحدة سوى شعارات برّاقة لا مكان لها في الواقع.
* العولمة كظاهرة سياسية ليست ذات توجّه واحد فريد، بل هي ذات توجّهين رئيسيين، توجه للمركز يعمل في خط واحد هو توحيد المركز، من خلال الهيمنة على العالم وجعله كتلة واحدة، والقضاء على السيادة الوطنية للدول القومي، وتوظيف كل ما هو متاح من آليات سياسية وقانونية وحقوقية وحتى العسكرية لفرض قرارات المركز في إطار القطبية الأحادية، وتوجه آخر نحو الأطراف يعمل على تشتيتها، ويحرص على هدم أي عمل في اتجاه التكتل الوطني أو الجهوي والإقليمي أو القاري أو غيره يمكن أن يكون قطبا منافسا للقطب الواحد الغرب الأمريكي، ففي ظل العولمة إفريقيا لا تكوّن وحدة ولا أيّة قارة أخرى ولا أيّة جهة من جهات العالم، والعالم العربي لم يسلم من العولمة ولا يكوّن تكتلا سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، "ولا يكون كُلاّ موحدا واحدا أو تجمعا مستقلا بل مجموعة من الطوائف والنحل والملل والأعراف مهدد بالتقسيم إلى شيعي وسني في العراق والخليج، عربي وبربري في المغرب العربي، علوي ودرزي في سوريا، ماروني وسني في لبنانّ، زيدي وشافعي في اليمن، وهابي قديم ووهابي جديد في شبه الجزيرة العربية، إباضي وسني في عمان، مسلم وقبطي في مصر، شمالي وجنوبي في السودان، سلفي أصولي وعلماني حداثي في الجزائر، بدوي وحضري، فلسطيني وأردني في الأردن، قومي وقطري على مدى الساحة العربية. وبالتالي تصبح إسرائيل الدولة الطائفية الكبرى في المنطقة، وتحصل على شرعيتها باسم اليهود ضد لا شرعيتها كاستعمار استيطاني وشوفينية قوميات من مخلفات القرن التاسع عشر." وكانت البلاد العربية والإسلامية وغيرها قد تعرّضت في القرن التاسع عشر للاستعمار الغربي الذي بلغ ذروته ببلوغ الرأسمالية قمّتها، فتمّ احتلال فرنسا للجزائر، واحتلال بريطانيا لأجزاء من شبه القارة الهندية، وتعرّضت بلدان عديدة في إفريقيا وفي آسيا وفي غيرها كما تعرّض الوطن العربي في مجموعه للاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، وعلى الرغم من أعمال التحرر وحركاته التي تخلصت من الاستعمار فإنّ الاتجاه الوطني التحرري تقلّص مداه وتراجع تأثيره بعد قيام الدولة الوطنية في ظل النظام الدولي الحديث والمعاصر، وفي إطار العولمة وهيمنة نفوذ المركز على الأطراف سياسيا، وأصبحت الدول الوطنية خاضعة لإملاءات الخارج وتابعة له ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، وقامت الجبهات الوطنية المتمسكة بخط الحركة الوطنية التحررية بمعارضة الأنظمة والتصدي لها سلميا وبالسلاح أحيانا، فازدادت العولمة سيطرة على الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي وفي غيره، وراحت الأنظمة في هذه الدول تمارس سياسة العولمة المتوحشة والشرسة التي يمارسها المركز تجاه الأطراف، فازدادت قسوة على المعارضة وتنكيلا بزعمائها ومناضليها عامة، ومن جهة أخرى أثّر ذلك سلبا على التزامات الدولة نحو مواطنيها مثل ما وقع في دول الخليج العربي التي أصبحت في ظل العولمة لا تعتمد إلاّ "على سلعة واحدة رئيسية وهي النفط في الناتج المحلي، الذي يشكل 90 بالمائة من عوائد التصدير، وهو أمر خطير في جوانبه الأمنية حيث صارت الخليجية أسيرة للتقلبات في الأسعار، وهو ما حدث في عام 1998 عندما فقدت دول الخليج 40 بالمائة من دخلها من النفط، ودخلت الميزانية الخليجية في عجز، وصار الدخل لا يكاد يغطي مصاريف الدولة اليومية وتجمدت المشروعات، وانتشرت البطالة، وتوقف نشاط القطاع الخاص المعتمد على مشروعات الدولة، واعترفت الدولة بأنها غير قادرة على الوفاء بمستلزمات "دولة الرفاهية" التي أقامتها منذ تفجر الطفرة في السبعينيات".
* تجسدت مظاهر العولمة وظهرت تداعياتها السياسية وغيرها من خلال العديد من المفاهيم والمواقف والممارسات التي حددها ودافع عنها النظام العالمي المعاصر في الولايات المتحدة الأمريكية، ارتبطت هذه المفاهيم والمواقف والممارسات بحماية مصالح الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية في الداخل والخارج بالدرجة الأولى، منها حماية مجال المركز، مجاله الكبير، وحماية الأمن القومي للمجال العظيم، وحماية التوجّه الليبرالي وتعميمه في مختلف أقطار العالم ليُصبح إيديولوجية العصر وثقافته وفلسفته، وليصبح تنظيمه الاقتصادي والسياسي السائد بدون منازع، ولمحاربة المدّ الاشتراكي والشيوعي الذي تنامى وتقوّى بعد الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة اقتصادية وعسكرية، الأمر الذي جعلها تعمل على استرجاع النظام التقليدي القائم على التخطيط الأمريكي، لتستعيد المنظومة اليمينية الكلاسيكية قوّتها وتفرض هيمنتها في مواجهة المنظومة اليسارية التي اتسع نفوذها وازداد خطرها على اليمين الليبرالي المتطرف، توجّه اهتمام الولايات الأمريكية في ظل الظروف الاقتصادية القويّة إلى دعم مشروع بناء الدول الصناعية الغربية بما فيها اليابان التي دمرتها الحرب، وهو مشروع يوفر الاستثمار وإيجاد أسواق تُباع فيها المنتجات الصناعية الأمريكية، وبالتوازي تنتقل الديمقراطية الليبرالية إلى الشعوب التي تستهلك منتجات الغرب الأمريكي الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولم تكن الديمقراطية محايدة وموضوعية بل ينبغي ألاّ تتعارض قيّم الوجهة أو الجهة التي تتبناها مع قيم ومبادئ الديمقراطية الغربية، وبان هذا بوضوح في بلدان العالم الثالث عامة وفي بلدان العالم العربي والإسلامي بصفة خاصة، وفي هذا يقول أحد المفكرين المعاصرين ممن لهم صلة مباشرة بالسياسة الأمريكية في العالم: "نستطيع مما سبق أن نفهم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الثالث: نحن نعارض – بمثابرة وإصرار- الديمقراطية إذا كانت نتائجها خارج نطاق سيطرتنا والمشكلة مع الديمقراطيات الحقيقية إنّها عرضة للوقوع فريسة للهرطقة التي تزعم على أنّ الحكومات الاستجابة لمصالح شعوبها بدلا من مصالح المستثمرين الأمريكيين. نشر المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن دراسة عن نظام العلاقات الأمريكية الدولية، مؤداها أنّه بينما تقدم الولايات المتحدة خدمة...للديمقراطية، فإنّ التزامها الحقيقي هولـ"المشروعات الرأسمالية الخاصة". وعندما تتعرض حقوق المستثمرين الأمريكيين للتهديد، فعلى الديمقراطية أن ترحل، ولا بأس أن يحل محلها حكام التعذيب والقتل. دعّمت الولايات المتحدة إعاقة الحكومات البرلمانية، بل وأسقطتها عام 1953 في إيران، وعام 1954 في غواتيمالا، وساند كنيدي عام 1963 انقلابا عسكريا لمنع استعادة الديمقراطية، في عامي 1963 و1965 في الدومينيكان، في البرازيل عام 1964 والشيلي عام 1973، وكثير من المناطق الأخرى. تطابقت سياستنا في كثير من الدول مع ما فعلناه في السلفادور. لم تكن الأساليب طيبة جدّا. لم يكن عمل القوات التي حرّكناها في نيكاراغوا، أو عمل وكلائنا الإرهابيين في السلفادور أو غواتيمالا، لم يكن عملهم هو القتل العادي، ولكن كان بصفة رئيسية القسوة والتعذيب السادي –تعليق النساء من أقدامهن بعد قطع أثدائهن وتقشير بشراتهن-قطع رؤوس الناس وتعليقها على خوازيق- رطم الأطفال بالحوائط.الفكرة هي سحق الوطنية التي تدعو للاستقلال، والتي قد تجلب الديمقراطية الحقيقية."
* على الرغم من الممارسات الإجرامية التي قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية في جهات مختلفة من العالم ومع جيرانها في أمريكا الجنوبية، وهي ممارسات مكشوفة ومفضوحة، جرائمها لا تخفى عن أحد، فإنّ الشعار الذي رفعته سياستها مع شعوب أمريكا اللاتينية هو "سياسة الجار الطيب" تقوم على الالتزام معها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التنمية الاقتصادية، وبكل ما من شأنه يحرّك نهضة الاقتصاد ويسمح بتنظيم المجتمع وتطويره، في حين أنّ حقيقة الأمر مغايرة تماما لسياسة الجار الطيب بل سياستها تقوم على استخدام كل أساليب المكر لتمرير مشاريعها وحماية مصالحها وفرض هيمنتها وبسط نفوذها، ولا تعرف التردد والتراجع في ذلك، فهي اتجهت صوب سياسة الجار الطيب فقط لخدمة مصالح المستثمرين الأمريكيين في أمريكا اللاتينية، ولا يهمّها سوى ذلك، والحرص على قمع المعرضة بالتعذيب والقتل والإرهاب، الإرهاب الذي جعلت منه أكبر خطر يهدد الأمن والسلم في العالم، مارسته ولازالت تمارسه على مرأى ومسمع الجميع في العراق وفي أفغانستان وفي باكستان وفي بلدان عديدة وبصور وأشكال مختلفة، وفي هذا يقول صاحب كتاب "ماذا يريد العم سام؟": "أعتقد من وجهة النظر القانونية، أنّ هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية، بأنّهم مجرمو حرب، أو على الأقل متورطون بدرجة خطيرة في جرائم حرب." ذلك لما حدث من جرائم نكراء في السلفادور وفي نيكاراغوا وفي الكثير من دول آسيا وإفريقيا، حيث نالت فيها المعارضة التنكيل والقتل وأبشع صور التعذيب من طرف أنظمة استبدادية نصبتها الولايات المتحدة الأمريكية وأيّدتها، ولما حصل في غواتيمالا التي تحوّلت إلى ساحة قتل وتنكيل بالجثث وغزو بنما وإذكاء الحرب وتطعيمها في جنوب إفريقيا وإشعال نار حرب الخليج الأولى والثانية، والتأييد اللامحدود والدعم المطلق لسياسة الصهاينة في إسرائيل ضد الفلسطينيين، ومازالت السياسة الأمريكية تمارس الإجرام في حق الشعوب بمبررات وذرائع شتى من دون مراعاة مصالح هذه الشعوب أو النظر للشعارات التي تحملها هذه السياسة وأهمّها حماية حقوق الإنسان والحق في الحياة، وأصبحت في منظور العولمة والأمركة المتصهينة القيّم منقلبة على غير ما كانت عليه من ذي قبل، القيّم التي تأسست عليها الحضارات السابقة من أمن وحرية وقوّة وعدل ومساواة وغيرها صارت مقلوبة، تُستخدم لضرب الأمن والاستقرار فصارت الحرب هي الأمن والاستقرار والسلام، ولممارسة الاستبداد في أبشع صوره وفي أقصى مداه فتحولت الحرية إلى استعباد، وفي نسف كل ما من شأنه يضمن العدالة والمساواة فأصبحت العدالة ظلما وقهرا والمساواة حيفا وتمييزا في المجتمع، وفي إقصاء جميع القيّم الأخلاقية والدينية السامية خاصة في المجتمعات التاريخية التراثية والدينية، مثل مجتمعات العالم العربي والإسلامي التي تعيش على الإسلام والثقافة العربية وتراثها عامة، فأصبح التمسك بالتراث وبالقيّم الماضية في وجه العولمة تخلفا وانحطاطا، وتمّ استغلال كافة وسائل الإعلام والاتصال للدعاية والتظليل ولتكريس الوضع القائم لدى المركز ولدى الأطراف وفي العلاقة بينهما، كما ارتبط مستقبل العالم ككل بهذا الوضع المتعفن.
المصدر: شبكة عين الجامعة - من قسم: منتدى علم السياسة Political Forum