صفحة 1 من 1

تـابع : نشأة وتطور علم السياسة العامة

مرسل: الثلاثاء أكتوبر 30, 2012 9:36 am
بواسطة بدران الزومان 1
وبقدر ما أسهمت الأسباب السابقة في تزايد الاهتمام بالسياسات العامة في إطار يتميز بالطابع الفكري والتجريبي، فإن علم السياسة العامة لم يكتسب معناه الاصطلاحي علميا، إلا في مطلع الخمسينات من القرن السابق، على يد عالم الاقتصاد السياسي "هارولد لازويل H.D Lasswel" الذي تناول بالدراسة في كتابه: من ؟ يحصل على ماذا؟ متى؟ وكيف؟ جوهر العمليات التبادلية والتوزيعية المتضمنة في رسم السياسات العامة وتنفيذها، وكتابه مع "دانيال ليرنر D.Lirner" عام 1951م المعنون بـ: "علوم السياسات: التطورات المعاصرة في الهدف والأسلوب"( )، الذي تطرق فيه إلى الإطار التحليلي للسياسات العامة، وهنا يقول "لازويل": «إن هناك اتجاها واضحا في العلوم الاجتماعية يتجاوز الحدود التخصصية لتلك العلوم المختلفة، ولهذا الاتجاه وجهان، ففي الوجه الأول هناك اهتمام وتركيز على احتياجات عملية صنع السياسات من المعلومات، وهو يركز على عملية صنع السياسات وتنفيذها، أما الوجه الثاني والذي يهتم بتطوير محتوى المعلومات وتفسيرها لصانعي السياسات، فإنه يقع خارج نطاق العلوم السياسية»( )، من الحديث السابق لـ"لازويل" نجد أنه يحاول بناء إطار منهجي يقوم بمهمة توحيد معطيات العلوم الاجتماعية كأساس لعلوم صنع السياسات، ويعتبر هدفه وصفيا، ذلك لأن إطاره المنهجي يركز على اصطلاح وسائل صنع وتنفيذ السياسات العامة باستخدام أدوات البحث الاجتماعي.
لكنه لم يحدد الإطار المنهجي لحقل تحليل السياسات العامة، وقد قام بهذه المهمة بعد خمس عشرة عاما الكاتب "يكزيل دورور Yakzil.Douror" الذي يعتبر هو المؤسس الحقيقي والفعلي لها الحقل، ولقد بدأ "دورور" بناء إطاره المنهجي لعلوم صنع السياسات بتوضيح عجز العلوم الاجتماعية، بما فيها الإدارة العامة عن تقديم مرتكزات عملية يمكن الاعتماد عليها في عملية تحليل السياسات العامة.( )
ولقد ارتبط مفهوم السياسة العامة وما يختص بعملية تحليلها ضمن هذا التحول الذي طرحه "لازويل" فيما سبق إلى حد ما وواضح بالعلوم السياسية، وحصريا بما يختص بنظام الحكم في أمريكا خاصة بعد ظهور المدرسة السلوكية في بداية الستينات، وعندما تزايد الاهتمام بدراسة منهج تحليل النظم (Systems Analysis) (*) الذي تحول من تسليط الضوء فقط على الدولة إلى تسليطه نحو الأبعاد المتعددة التي تشكل حقيقة اجتماعية، ونتيجة لهذا التحول أصبحت الجماعات والقوى الاجتماعية هي ركيزة البحث والاهتمام والتحليل.( )
ومع بداية السبعينات زاد الاهتمام أكثر بتحليل مخرجات النظام السياسي، بسبب تفاقم المشكلات الاجتماعية داخل الولايات المتحدة الأمريكية بين السود والبيض، والتورط الأمريكي في حرب الفيتنام حيث ظهرت الحاجة داخل مؤسسات الحكومة الأمريكية إلى تحليل هذه المشكلات ومحاولة صياغة السياسات التي تعالجها( )، لذلك سرعان ما احتلت دراسات تحليل السياسات أهمية كبرى داخل مراكز المعلومات والاستخبارات ومراكز البحوث بدءا من مؤسسة (Rand Corporatin) ومرورا بمعهد (بروكيتزBrokitz) ومركز دراسات الشرق الأدنى، وحتى وزارتي الخارجية والدفاع ولجان الكونغرس المختلفة، وكثيرا ما قام محللو السياسات في هذه المراكز بصياغة سياسات ومواقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العديد من القضايا في الثمانينات، حيث كان التركيز على مشكلات التضخم والبطالة والإنفاق الحكومي ومشاكل التجارة الدولية والشرط الأوسط.( )
وهكذا انتقل حقل السياسات العامة من الوصف إلى التحليل عبر الفترات الزمنية، إلى أن صار محل الدراسة المقارنة في أواخر السبعينات بين مختلف الدول والنظم السياسية، وأصبح حقل السياسة العامة المقارنة حقلا فرعيا متناميا في إطار السياسة المقارنة، ويمكن إرجاع هذا الاهتمام المتزايد بهذا الفرع إلى مجموعة من العوامل:
1. الاعتماد على الحاسب الآلي في تحليل البيانات، مع التركيز على الجوانب القابلة للقياس الكمي
2. تركيز التيار السلوكي في السياسة المقارنة على جانب المدخلات مع إهماله وتجاهله لجانب المخرجات.
3. الإحساس الذي ساد بين العديد من العلماء بأن علم السياسة لم يحقق إحدى أهم وظائفه التقليدية وبالتحديد التعامل مع القضايا الرئيسية التي تواجه العالم، وأن علم السياسة يجب أن يكون على صلة وثيقة بما يجري في أرض الواقع السياسي، وأن يساهم في حل المشكلات والقضايا السياسية، وهذا ما عبد عنه "دافيد استون David.Easton"(*) في حديثه عن الثورة ما بعد السلوكية.
4. وأهم عامل أدى إلى التركيز على السياسة العامة، هو تزايد دور الحكومة في الحياة المجتمعية وفي كافة القطاعات على مستوى كل دول العالم.( )
ومن ثم صارت السياسة العامة المقارنة جزءا أساسيا ومكملا لحقل السياسة المقارنة، ومع منتصف الثمانينات حدثت تحولات مهمة في السياسة العامة المقارنة زادت من أهميتها في دراسة الدول المختلفة وأعطت لحقل السياسة المقارنة دفعا مهما وجديدا.
وخلال مرحلة التسعينات وما بعدها من القرن العشرين، وانتقالا إلى متطلبات القرن الحادي والعشرين وما أحدثه من تغيرات على دور الدولة وارتفاع مستويات التفاعل بين مؤسسات القطاعين الخاص والعام فضلا عن تزايد دور الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية في صياغة الأولويات للسياسات العامة وتحديد مساراتها، وقد ساعد على تبلور هذا الدور التغير في مفهوم السيادة والتسارع المعلوماتي والاتصالي، الذي منح للمنظمات الدولية غير الحكومية مثل منظمات حقوق الإنسان، والقدرة السريعة على التدخل في السياسات العامة الداخلية للدول ومن ثم التأثير في مضامين هذه السياسات، وظهرت بحوث وكتابات جديدة تركز على دور الفاعلين الجدد في السياسات العامة كمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني( )، وهذا كله قد أسهم في بلورة الاتجاهات الحديثة التي ترى أن السياسات العامة ما هي إلا محصلة للتفاعلات الرسمية وغير الرسمية، بين عدد من المؤثرين والفاعلين على المستوى المحلي والمركزي، وأن السياسات العامة في ضوء ذلك تعبر عن إرادة الفاعلين والمؤثرين الذين هم عادة ما يكونون أعضاء في شبكة منظمة تُدعى حاليا باسم "شبكة السياسة Policy Network ".( )
وبتحليل ما سبق يمكن القول أن علم السياسة العامة قد تطور من الوصف إلى التحليل ثم إلى المقارنة ليصبح الآن حقلا شاملا نما مع بدايات تطور الفكر السياسي، ليصل في هذا القرن بمنهجية وأسلوب علمي للتحليل مستقل وكنقطة إلتقاء بين العديد من العلوم الاجتماعية كالاقتصاد والعلوم السياسية، والاجتماع، والإدارة وغيرها، ومع هذا التطور توالت اهتمامات متتابعة بعلم السياسة العامة، تمثلت في الأبحاث والدراسات النظرية والتجريبية في العديد من التخصصات، وكان نتاجها ما نعايشه حاليا من تعدد المحاور والأطروحات العلمية والعملية التي أثرت التوجهات والفكر بالمعارف والتجارب المتصلة بفعاليات وقواعد صنع السياسات العامة وطرق تنفيذها وتقويمها بشكل فعال وكفء.