- الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 6:18 pm
#54759
حتوي أمريكا اللاتينية على أكثر من 20 دولة ، تمتد من " باتاجونيا " إلى " ريو برافو " . استطيع أن أؤكد أن الرفاق سوف يشكروني على عدم محاولتي التعرض بشكل تفصيلي للظروف السياسية والاجتماعية لكل دولة على حدة . أريد أن أتعرض فقط لبعض الاتجاهات الأكثر أهمية في المنطقة .
على نحو ما يعرف الرفاق ، فإن أمريكا اللاتينية منطقة سريعة التغير ، تشهد انفجار نضالات جماهيرية ضخمة ، وتبحث عن بديل للسياسات الفاسدة للبرجوازيات الصغيرة القومية. وتعاني من النتائج المأساوية لخضوع الجماهير للديكتاتوريات العسكرية القمعية . ولعب الاتجاه المراجع دورا حاسما في هذا التضليل ، خاصة في الستينيات وأوائل السبعينيات .
اليوم تبقي أمريكا اللاتينية أكثر المجتمعات استقطابا و اضطرابا سياسيا على ظهر الأرض. منذ عام 2000 ، تمت الإطاحة بعشرة حكومات على الأقل في تداعيات هذه الأزمة ، سواء عبر انقلابات أو انتفاضات جماهيرية فضلا عن الغزو الأمريكي لهاييتي .
في البداية ، من الضروري التعرف على الموضوعات التي تتداولها مراكز الأبحاث من واشنطن ووسائل الإعلام والأحزاب الكبرى في الولايات المتحدة .
الأول هو أن واشنطن فقدت نفوذها في المنطقة التي تعتبرها فناء خلفيا ، والثاني يرتبط بموضوع يسمونه " التحول نحو اليسار "
في أمريكا اللاتينية . هذه الظاهرة الأخيرة ، المرتبطة باليسار البرجوازي الصغير والمراجعين ، تقوم على أساس أنها تبدو وكأنها مجابهة ومواجهة حاسمة مع الإمبريالية ، وأيضا ، وكأنها طريق جديد للاشتراكية .
لكن الأمر ليس كذلك . فلا شك أن هناك أهمية موضوعية عميقة لانتقال السلطة في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية إلى قوى تنتمي بشكل أو بآخر لليسار ، ولها صوت معارض للسياسات الأمريكية .
هناك انزعاج متزايد في الدوائر الأمريكية الحاكمة من التطورات الجارية في المنطقة . في هذا الإطار ، نشرت " الفورين افيرز " في عددها الأخير مقالا بعنوان ( هل تخسر واشنطن أمريكا اللاتينية ؟ ) كتبها " بيتر هاكيم " ، رئيس الحوار بين الأمريكتين ، الممولة من جانب دوائر المال والأعمال ، وتقوم بدور الجماعة الفكرية التي تقدم رؤى استراتيجية للدوائر الحاكمة عن فتح أسواق في المنطقة . وفيها يشجب " بيتر هاكيم " ويدين إدارتي "كلينتون " و " بوش " ، لعدم اكتراثهم بأمريكا اللاتينية ، وهو الأمر الذي سمح بانفلات سطوة أمريكا على المنطقة بعد فترة سارت فيها أمريكا اللاتينية قدما في اتجاه اليمين .
في الحقيقة ، تراجع النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية ، سواء كان نتيجة لأخطاء في السياسة الخارجية أو لقرارات اتخذها هذا السياسي أو ذاك . فأنها ترجع لتغيرات في الاقتصاد العالمي ونتيجة للسياسات الكارثية الأمريكية أو المدعومة من أمريكا خلال الفترة التي يسميها " هاكيم " أن المنطقة خلالها كانت تتجه قدما نحو اليمين .
هذه التغيرات في الاقتصاد العالمي كانت نتيجة للعولمة و نتيجة للهبوط النسبي المتزايد في وضع الرأسمالية الأمريكية إزاء غرب أوروبا
مبدأ ( مونرو ) – الذي يقر برفض السياسة الأمريكية الخارجية لأي قوة خارجية عدا الولايات المتحدة بمد نفوذها إلى نصف الكرة الغربي – أصبح غير قائم . فعلى مدار قرنين ، نجحت الحكومات الأمريكية في وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ . واستخدمت كمبرر للتدخلات الأمريكية في المنطقة ، وطوال القرن العشرين ، لفرض ديكتاتوريات عسكرية ولقمع الحركة الثورية للطبقة العاملة . و طوال تلك الفترة نشأت النظم البرجوازية القومية التابعة للإمبريالية الأمريكية . لكن التغيرات الاقتصادية حطمت هذا المبدأ والعلاقات السابقة .
منافسو الولايات المتحدة يكسبون نفوذا اقتصاديا
في غصون العقد الأخير ، تفوق الاتحاد الأوروبي على الرأسمالية الكوكبية كمصدر رئيسي للاستثمارات الخارجية المباشرة والتجارة في بلدان أمريكا الجنوبية . وإن بقيت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول مع بلدان أمريكا اللاتينية ككل . وتتمتع بعلاقات اقتصادية قوية مع المكسيك في إطار اتفاقية النافتا الموقعة عام 1993 . حيث تذهب ثلثي الصادرات الأمريكية للمنطقة إلى المكسيك ، وتستغل العمالة المكسيكية الرخيصة في إنتاج السلع للسوق الأمريكي .
الأمر الأكثر إزعاجا لواشنطن ، أن الصين تلعب دورا متزايدا جنوب " ريوجراند " . الرئيس الصيني "هوجينتاو" ، ونائبه " زنج كوينفونج " ، قاما برحلتين لأمريكا اللاتينية خلال العامين الماضيين ، ووقعوا اتفاقيات تجارية وأخرى للتعاون العسكري . وأصبحت المنطقة مصدرا هاما للمواد الخام بالنسبة للصناعات الصينية . وتضاعفت واردات الصين من المنطقة ستة مرات خلال السنوات الستة الماضية ومن المتوقع أن تبلغ 100 بليون دولار في نهاية هذا لعقد .
كما تتعهد الصين باستثمار 100 بليون دولار في بناء الطرق والمواني وأعمال البنية الأساسية خلال العقد القادم . وتواصل الصين بناء العديد من المشروعات الكبرى ، خاصة في النفط في فنزويلا ، وفي الغاز الطبيعي في بوليفيا وفي المعادن الأساسية .
عقد الكونجرس الأمريكي جلستا استماع حول ما يعرف بالخطر الصيني أو بالتهديد الصيني البعيد المدى على النفوذ الأمريكي في العالم . أكد خلالهما مساعد وزير الخارجية لشئون نصف الكرة الأرضية الغربي "روجير نوريجا " أن الإدارة الأمريكية منتبهة ويقظة لأية مؤشرات عن تعاون اقتصادي يفضي إلى علاقات سياسية . يمكن أن تؤثر سلبا على مصالحنا الأساسية في المنطقة .
باختصار ، هذه التغيرات في العلاقات الاقتصادية الكوكبية تعني أن الرأسمالية الأمريكية لم تعد تحتكر السيطرة المنفردة على بلدان أمريكا اللاتينية . وأنها قلقة من تنامي العلاقات بين بلدان المنطقة وبين القوى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية ، التي توفر فرصة ومجال لنظم المنطقة لكي تناور بين القوى الدولية المتنافسة ، وتناوئ الانفراد الأمريكي ومحاولات استمرارها في الهيمنة على المنطقة . هذا هو الإطار الأساسي لما يمكن تسميته بالاتجاه نحو اليسار . وهو ما يمكن وصفه بشكل أفضل بأنه اتجاه نحو "اليورو" و " اليوان " .
في نصف الكرة الغربي نفسه ، تواجه الرأسمالية الغربية تحديات ناشئة ومستجدة من البرازيل . التي يبلغ عدد سكانها 180 مليون نسمة وتملك ثروات طبيعية ذات وزن . وأصبحت عاشر أكبر القوى الصناعية في العالم وخامس أكبر الدول المصدرة للسلاح . هذا النمو البرازيلي يؤدي إلى تكرار تصادمها مع الولايات المتحدة حول قضايا التجارة خاصة في قضايا حقوق الملكية الفكرية وحول قضايا الصادرات الزراعية .
تبدو المؤشرات السياسية لهذه التغيرات بوضوح في القرار الذي اتخذه البيت الأبيض مؤخرا برفض السماح لأسبانيا ببيع الطائرة الأسبانية التي تحتوي على تكنولوجيا أمريكية إلى فنزويلا . وهي الصفقة التي وقعتها حكومة شافيز مع وزارة الدفاع الأسبانية . وأعلنت أسبانيا عن تحديها لهذا الموقف بصناعة الطائرات اعتمادا على التكنولوجيا الأوروبية . ومن المتوقع أيضا أن تتخذ أسبانيا موقفا مماثلا إزاء صفقتها الخاصة ببيع قوارب حراسة عسكرية ، ومع البرازيل حول الطائرات العسكرية التي تصنعها من أجل فنزويلا .
أعلنت البرازيل الأسبوع الثاني من مارس ، بعد اجتماع عقد بين " لولا " و " شافيز " والرئيس الأرجنتيني "كيرتشنر " بهدف إقامة صناعة مشتركة للسلاح في إطار اتفاقية التجارة التي تجمع بعض بلدان أمريكا اللاتينية المعروفة باسم "ميركوسور " . الهدف منه إنتاج طائرات عسكرية وأسلحة أخرى تحتاجها بلدان القارة ، لتنافس الأسلحة الأمريكية التي تستوردها بلدان القارة بشكل تقليدي من الولايات المتحدة ، حيث تستهلك القارة سنويا حوالي 3.5 بليون دولار في التسلح .
الاستعدادات العسكرية الأمريكية
تلك هي التحديات الخطيرة للمصالح الأمريكية . وهناك بعض التوقعات بأن تفقد الإمبريالية الأمريكية سيطرتها تماما على فناءها الخلفي ، أمريكا اللاتينية . وسيطرتها على الأسواق والثروات والمواد الخام الإستراتيجية . إلا أن مما لا شك فيه أن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية السابقة على المنطقة تشهد تراجعا كبيرا ، ومن المتوقع إزاء ذلك أن تلجأ الولايات المتحدة للقوة العسكرية للدفاع عن مصالحها . كما هو الحال في كل المناطق الأخرى في العالم .
في السنوات الماضية ، بنت أمريكا شبكة من القواعد العسكرية في المنطقة . ومدت ووسعت عمليات القيادة العسكرية الإقليمية بشكل غير مسبوق .
شهد عام 2002 ، انقلابا فاشلا مدعوما من الولايات المتحدة ضد حكومة شافيز ، وطبقا لبعض التقارير شاركت فيه الولايات المتحدة بشكل مباشر عبر مستشاريها العسكريين واستخدمت سفن الأسطول البحري الأمريكي وطائرات التجسس .
كما شهد عام 2004 ، الإطاحة بـ " أريستيد " وغزو هاييتي بواسطة قوات المارينز الأمريكية .
أمريكا لديها القدرة العسكرية لغزو فنزويلا والسيطرة على ثرواتها البترولية على نحو ما فعلت في العراق .
هناك نزاع بين فنزويلا وكولومبيا منذ أربعة عقود على الحدود يصاحبه تمردات في كولومبيا . في الأثناء، قامت كولومبيا بالحصول على تمويلات أمريكية ضخمة لبناء قواتها العسكرية ( منها 3 بلايين دولار مساعدات عسكرية في السنوات الأخيرة بدعوى مكافحة المخدرات ) فضلا عن مضاعفة حجم القوات العسكرية في كولومبيا لتتجاوز 275 ألف جندي . ومن المحتمل أن تشارك في أي تدخل أمريكي للإطاحة بحكومة شافيز .
هناك نزاع أخر بين بوليفيا وشيلي حول حرية الوصول للأطلنطي ، كذلك بين بيرو وشيلي. هذه النزاعات من الممكن أن تنفجر إلى حرب ، بدعم من قوى خارجية لأي من طرفي النزاع ، وهو الأمر الذي تتزايد إمكانية حدوثه . وهي أيضا نزاعات تهدد واشنطن . ومن الممكن أيضا أن تندفع بلدان المنطقة للتعاون العسكري ضد العدوانية الأمريكية . ومع ذلك ، فإن ذلك لا يجبرنا على الانحياز لشافيز أو أي نظام قومي برجوازي أخر .
فهم طبيعة هذه الأنظمة يستلزم دراسة الآثار المترتبة على تنفيذ السياسات لصالح الحكومة الأمريكية والمؤسسات المالية المسيطرة في أمريكا خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات . وهي سياسات " تحرير الأسواق " المعروفة باسم " إجماع واشنطن " .
هذه السياسات التي أطلق عليها الإصلاحات الاقتصادية ، روجت لدعاوي تحقيق النمو الاقتصادي ، وكانت بمثابة نهاية لسياسات التصنيع للإحلال محل الواردات وبرامج التنمية القومية المرتبطة بالأنظمة القومية في الفترات السابقة على ذلك ، ودمج اقتصاديات هذه البلدان في الرأسمالية العالمية .
في هذا الإطار ، تم خفض التعريفات الجمركية إلى النصف مقارنة بالسبعينيات . ورفع القيود عن الاستثمارات العالمية في معظم البلدان .
وفي التسعينيات فقط ، تم خصخصة المشروعات المملوكة للدولة بأكثر من 178 بليون دولار ، وتسريح مئات الآلاف من العاملين .وعلى ذلك فإن قيمتها أكثر عشرين مرة من قيمة المشروعات التي تم خصخصتها في الاتحاد السوفيتي بعد انهياره .
هذا النمو الاقتصادي الزائف قام على أسس غير مسبوقة ، ولا يمكن أن تتكرر . حيث لا يمكن بيع المشروعات المملوكة للدولة أو المشروعات العامة أكثر من مرة واحدة .
أثمرت هذه السياسات الفقر والاستقطاب الاجتماعي الذي يهدد اليوم هذه المجتمعات . حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن حوالي 213 مليون إنسان ، أي حوالي 40.6 % من سكان أمريكا اللاتينية البالغ عددهم 523 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر .
وطبقا لدراسة صدرت عام 2003 من البنك الدولي ، أن 10% من سكان المنطقة يربحون 48% من إجمالي الدخل العام . بينما 10% منهم لا يحصلون إلا على 1.6 % فقط .
يتزايد عدم المساواه في أمريكا اللاتينية بشكل حاد . ويفوق في تفاوته بلدان شرق أوروبا . على نحو ما تشير إحصاءات منظمة التعاون التنمية الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة ، التي تشير أيضا إلى أن هذا التفاوت يشمل كل مظاهر الحياة ، حيت تم التراجع عن توفير الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة ، والتمكن من الحصول على الأرض أو الممتلكات الاجتماعية الأخرى .
وتقدم فنزويلا مثالا في هذا الشأن فعلى الرغم من الأوضاع المشابهة لها مع كل من الأرجنتين والأورجواي وعدد من البلدان الأخرى ، فأن فنزويلا التي شهدت تضخما عاليا ، أعوام 1996 ، وفيما بين 88 و 1996 ، شهدت فنزويلا تخفيضا في عدد العاملين في الصناعة بنسبة 15% .
في نهاية التسعينيات ، انخفضت الأجور الحقيقية بنسبة 40% عما كانت عليه في الثمانينيات . وانخفضت القدرة الشرائية عام 1994 إلى الثلثين عما كانت عليه عام 1978 . كما انخفض الإنفاق الاجتماعي بنسبة 40% خلال نفس الفترة . ويشمل خفض النفقات على التعليم بنسبة 40% ، و 70 % على الإسكان وتنمية الحضر ، و 37% على الرعاية الصحية .
وبين 1984 و 1995 ، تضاعفت أعداد الفقراء لتصل نسبته إلى ثلثي السكان .
تزايد البؤس الاجتماعي واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء ، بينما أثرى قطاع من الطبقة الحاكمة الفنزويلية والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة من خلال التعامل مع الشركات المتعددة الجنسيات .
تنتسب النقابات العمالية إلى حزب العمل الديموقراطي ، الذي فقد مصداقيته تماما لتعاونه مع الحكومة في التخلي عن المكتسبات السابقة . وحدث تراجعا كبيرا في عضوية النقابات ، نتيجة لفقد العمال وظائفهم ودفعهم ما يسمي بالإصلاح للشوارع والبطالة . و تراجع عدد العمال الأعضاء في النقابات من 26.4% من مجموع قوة العمل عام 1988 ، إلى 13.5 % فقط عام 1995 .
لذلك ، لم تلعب هذه النقابات دورا له شأن في المعارضة أو في الاحتجاجات الاجتماعية .
باختصار ، لم تقدم أي من هذه النظم شيئا للطبقة العاملة . وفي كثير من الأحيان ساروا على نفس السياسات التي سارت عليها النظم القومية اليسارية والنظم الشعبية العسكرية ، مثل " جون بيرون" في الأرجنتين ، و" جتوليو فارجاس " في البرازيل .
بيل فان أوكين
18 مارس 2006
ترجمة: خالد الفيشاوي
على نحو ما يعرف الرفاق ، فإن أمريكا اللاتينية منطقة سريعة التغير ، تشهد انفجار نضالات جماهيرية ضخمة ، وتبحث عن بديل للسياسات الفاسدة للبرجوازيات الصغيرة القومية. وتعاني من النتائج المأساوية لخضوع الجماهير للديكتاتوريات العسكرية القمعية . ولعب الاتجاه المراجع دورا حاسما في هذا التضليل ، خاصة في الستينيات وأوائل السبعينيات .
اليوم تبقي أمريكا اللاتينية أكثر المجتمعات استقطابا و اضطرابا سياسيا على ظهر الأرض. منذ عام 2000 ، تمت الإطاحة بعشرة حكومات على الأقل في تداعيات هذه الأزمة ، سواء عبر انقلابات أو انتفاضات جماهيرية فضلا عن الغزو الأمريكي لهاييتي .
في البداية ، من الضروري التعرف على الموضوعات التي تتداولها مراكز الأبحاث من واشنطن ووسائل الإعلام والأحزاب الكبرى في الولايات المتحدة .
الأول هو أن واشنطن فقدت نفوذها في المنطقة التي تعتبرها فناء خلفيا ، والثاني يرتبط بموضوع يسمونه " التحول نحو اليسار "
في أمريكا اللاتينية . هذه الظاهرة الأخيرة ، المرتبطة باليسار البرجوازي الصغير والمراجعين ، تقوم على أساس أنها تبدو وكأنها مجابهة ومواجهة حاسمة مع الإمبريالية ، وأيضا ، وكأنها طريق جديد للاشتراكية .
لكن الأمر ليس كذلك . فلا شك أن هناك أهمية موضوعية عميقة لانتقال السلطة في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية إلى قوى تنتمي بشكل أو بآخر لليسار ، ولها صوت معارض للسياسات الأمريكية .
هناك انزعاج متزايد في الدوائر الأمريكية الحاكمة من التطورات الجارية في المنطقة . في هذا الإطار ، نشرت " الفورين افيرز " في عددها الأخير مقالا بعنوان ( هل تخسر واشنطن أمريكا اللاتينية ؟ ) كتبها " بيتر هاكيم " ، رئيس الحوار بين الأمريكتين ، الممولة من جانب دوائر المال والأعمال ، وتقوم بدور الجماعة الفكرية التي تقدم رؤى استراتيجية للدوائر الحاكمة عن فتح أسواق في المنطقة . وفيها يشجب " بيتر هاكيم " ويدين إدارتي "كلينتون " و " بوش " ، لعدم اكتراثهم بأمريكا اللاتينية ، وهو الأمر الذي سمح بانفلات سطوة أمريكا على المنطقة بعد فترة سارت فيها أمريكا اللاتينية قدما في اتجاه اليمين .
في الحقيقة ، تراجع النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية ، سواء كان نتيجة لأخطاء في السياسة الخارجية أو لقرارات اتخذها هذا السياسي أو ذاك . فأنها ترجع لتغيرات في الاقتصاد العالمي ونتيجة للسياسات الكارثية الأمريكية أو المدعومة من أمريكا خلال الفترة التي يسميها " هاكيم " أن المنطقة خلالها كانت تتجه قدما نحو اليمين .
هذه التغيرات في الاقتصاد العالمي كانت نتيجة للعولمة و نتيجة للهبوط النسبي المتزايد في وضع الرأسمالية الأمريكية إزاء غرب أوروبا
مبدأ ( مونرو ) – الذي يقر برفض السياسة الأمريكية الخارجية لأي قوة خارجية عدا الولايات المتحدة بمد نفوذها إلى نصف الكرة الغربي – أصبح غير قائم . فعلى مدار قرنين ، نجحت الحكومات الأمريكية في وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ . واستخدمت كمبرر للتدخلات الأمريكية في المنطقة ، وطوال القرن العشرين ، لفرض ديكتاتوريات عسكرية ولقمع الحركة الثورية للطبقة العاملة . و طوال تلك الفترة نشأت النظم البرجوازية القومية التابعة للإمبريالية الأمريكية . لكن التغيرات الاقتصادية حطمت هذا المبدأ والعلاقات السابقة .
منافسو الولايات المتحدة يكسبون نفوذا اقتصاديا
في غصون العقد الأخير ، تفوق الاتحاد الأوروبي على الرأسمالية الكوكبية كمصدر رئيسي للاستثمارات الخارجية المباشرة والتجارة في بلدان أمريكا الجنوبية . وإن بقيت الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول مع بلدان أمريكا اللاتينية ككل . وتتمتع بعلاقات اقتصادية قوية مع المكسيك في إطار اتفاقية النافتا الموقعة عام 1993 . حيث تذهب ثلثي الصادرات الأمريكية للمنطقة إلى المكسيك ، وتستغل العمالة المكسيكية الرخيصة في إنتاج السلع للسوق الأمريكي .
الأمر الأكثر إزعاجا لواشنطن ، أن الصين تلعب دورا متزايدا جنوب " ريوجراند " . الرئيس الصيني "هوجينتاو" ، ونائبه " زنج كوينفونج " ، قاما برحلتين لأمريكا اللاتينية خلال العامين الماضيين ، ووقعوا اتفاقيات تجارية وأخرى للتعاون العسكري . وأصبحت المنطقة مصدرا هاما للمواد الخام بالنسبة للصناعات الصينية . وتضاعفت واردات الصين من المنطقة ستة مرات خلال السنوات الستة الماضية ومن المتوقع أن تبلغ 100 بليون دولار في نهاية هذا لعقد .
كما تتعهد الصين باستثمار 100 بليون دولار في بناء الطرق والمواني وأعمال البنية الأساسية خلال العقد القادم . وتواصل الصين بناء العديد من المشروعات الكبرى ، خاصة في النفط في فنزويلا ، وفي الغاز الطبيعي في بوليفيا وفي المعادن الأساسية .
عقد الكونجرس الأمريكي جلستا استماع حول ما يعرف بالخطر الصيني أو بالتهديد الصيني البعيد المدى على النفوذ الأمريكي في العالم . أكد خلالهما مساعد وزير الخارجية لشئون نصف الكرة الأرضية الغربي "روجير نوريجا " أن الإدارة الأمريكية منتبهة ويقظة لأية مؤشرات عن تعاون اقتصادي يفضي إلى علاقات سياسية . يمكن أن تؤثر سلبا على مصالحنا الأساسية في المنطقة .
باختصار ، هذه التغيرات في العلاقات الاقتصادية الكوكبية تعني أن الرأسمالية الأمريكية لم تعد تحتكر السيطرة المنفردة على بلدان أمريكا اللاتينية . وأنها قلقة من تنامي العلاقات بين بلدان المنطقة وبين القوى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية ، التي توفر فرصة ومجال لنظم المنطقة لكي تناور بين القوى الدولية المتنافسة ، وتناوئ الانفراد الأمريكي ومحاولات استمرارها في الهيمنة على المنطقة . هذا هو الإطار الأساسي لما يمكن تسميته بالاتجاه نحو اليسار . وهو ما يمكن وصفه بشكل أفضل بأنه اتجاه نحو "اليورو" و " اليوان " .
في نصف الكرة الغربي نفسه ، تواجه الرأسمالية الغربية تحديات ناشئة ومستجدة من البرازيل . التي يبلغ عدد سكانها 180 مليون نسمة وتملك ثروات طبيعية ذات وزن . وأصبحت عاشر أكبر القوى الصناعية في العالم وخامس أكبر الدول المصدرة للسلاح . هذا النمو البرازيلي يؤدي إلى تكرار تصادمها مع الولايات المتحدة حول قضايا التجارة خاصة في قضايا حقوق الملكية الفكرية وحول قضايا الصادرات الزراعية .
تبدو المؤشرات السياسية لهذه التغيرات بوضوح في القرار الذي اتخذه البيت الأبيض مؤخرا برفض السماح لأسبانيا ببيع الطائرة الأسبانية التي تحتوي على تكنولوجيا أمريكية إلى فنزويلا . وهي الصفقة التي وقعتها حكومة شافيز مع وزارة الدفاع الأسبانية . وأعلنت أسبانيا عن تحديها لهذا الموقف بصناعة الطائرات اعتمادا على التكنولوجيا الأوروبية . ومن المتوقع أيضا أن تتخذ أسبانيا موقفا مماثلا إزاء صفقتها الخاصة ببيع قوارب حراسة عسكرية ، ومع البرازيل حول الطائرات العسكرية التي تصنعها من أجل فنزويلا .
أعلنت البرازيل الأسبوع الثاني من مارس ، بعد اجتماع عقد بين " لولا " و " شافيز " والرئيس الأرجنتيني "كيرتشنر " بهدف إقامة صناعة مشتركة للسلاح في إطار اتفاقية التجارة التي تجمع بعض بلدان أمريكا اللاتينية المعروفة باسم "ميركوسور " . الهدف منه إنتاج طائرات عسكرية وأسلحة أخرى تحتاجها بلدان القارة ، لتنافس الأسلحة الأمريكية التي تستوردها بلدان القارة بشكل تقليدي من الولايات المتحدة ، حيث تستهلك القارة سنويا حوالي 3.5 بليون دولار في التسلح .
الاستعدادات العسكرية الأمريكية
تلك هي التحديات الخطيرة للمصالح الأمريكية . وهناك بعض التوقعات بأن تفقد الإمبريالية الأمريكية سيطرتها تماما على فناءها الخلفي ، أمريكا اللاتينية . وسيطرتها على الأسواق والثروات والمواد الخام الإستراتيجية . إلا أن مما لا شك فيه أن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية السابقة على المنطقة تشهد تراجعا كبيرا ، ومن المتوقع إزاء ذلك أن تلجأ الولايات المتحدة للقوة العسكرية للدفاع عن مصالحها . كما هو الحال في كل المناطق الأخرى في العالم .
في السنوات الماضية ، بنت أمريكا شبكة من القواعد العسكرية في المنطقة . ومدت ووسعت عمليات القيادة العسكرية الإقليمية بشكل غير مسبوق .
شهد عام 2002 ، انقلابا فاشلا مدعوما من الولايات المتحدة ضد حكومة شافيز ، وطبقا لبعض التقارير شاركت فيه الولايات المتحدة بشكل مباشر عبر مستشاريها العسكريين واستخدمت سفن الأسطول البحري الأمريكي وطائرات التجسس .
كما شهد عام 2004 ، الإطاحة بـ " أريستيد " وغزو هاييتي بواسطة قوات المارينز الأمريكية .
أمريكا لديها القدرة العسكرية لغزو فنزويلا والسيطرة على ثرواتها البترولية على نحو ما فعلت في العراق .
هناك نزاع بين فنزويلا وكولومبيا منذ أربعة عقود على الحدود يصاحبه تمردات في كولومبيا . في الأثناء، قامت كولومبيا بالحصول على تمويلات أمريكية ضخمة لبناء قواتها العسكرية ( منها 3 بلايين دولار مساعدات عسكرية في السنوات الأخيرة بدعوى مكافحة المخدرات ) فضلا عن مضاعفة حجم القوات العسكرية في كولومبيا لتتجاوز 275 ألف جندي . ومن المحتمل أن تشارك في أي تدخل أمريكي للإطاحة بحكومة شافيز .
هناك نزاع أخر بين بوليفيا وشيلي حول حرية الوصول للأطلنطي ، كذلك بين بيرو وشيلي. هذه النزاعات من الممكن أن تنفجر إلى حرب ، بدعم من قوى خارجية لأي من طرفي النزاع ، وهو الأمر الذي تتزايد إمكانية حدوثه . وهي أيضا نزاعات تهدد واشنطن . ومن الممكن أيضا أن تندفع بلدان المنطقة للتعاون العسكري ضد العدوانية الأمريكية . ومع ذلك ، فإن ذلك لا يجبرنا على الانحياز لشافيز أو أي نظام قومي برجوازي أخر .
فهم طبيعة هذه الأنظمة يستلزم دراسة الآثار المترتبة على تنفيذ السياسات لصالح الحكومة الأمريكية والمؤسسات المالية المسيطرة في أمريكا خلال سنوات الثمانينيات والتسعينيات . وهي سياسات " تحرير الأسواق " المعروفة باسم " إجماع واشنطن " .
هذه السياسات التي أطلق عليها الإصلاحات الاقتصادية ، روجت لدعاوي تحقيق النمو الاقتصادي ، وكانت بمثابة نهاية لسياسات التصنيع للإحلال محل الواردات وبرامج التنمية القومية المرتبطة بالأنظمة القومية في الفترات السابقة على ذلك ، ودمج اقتصاديات هذه البلدان في الرأسمالية العالمية .
في هذا الإطار ، تم خفض التعريفات الجمركية إلى النصف مقارنة بالسبعينيات . ورفع القيود عن الاستثمارات العالمية في معظم البلدان .
وفي التسعينيات فقط ، تم خصخصة المشروعات المملوكة للدولة بأكثر من 178 بليون دولار ، وتسريح مئات الآلاف من العاملين .وعلى ذلك فإن قيمتها أكثر عشرين مرة من قيمة المشروعات التي تم خصخصتها في الاتحاد السوفيتي بعد انهياره .
هذا النمو الاقتصادي الزائف قام على أسس غير مسبوقة ، ولا يمكن أن تتكرر . حيث لا يمكن بيع المشروعات المملوكة للدولة أو المشروعات العامة أكثر من مرة واحدة .
أثمرت هذه السياسات الفقر والاستقطاب الاجتماعي الذي يهدد اليوم هذه المجتمعات . حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن حوالي 213 مليون إنسان ، أي حوالي 40.6 % من سكان أمريكا اللاتينية البالغ عددهم 523 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر .
وطبقا لدراسة صدرت عام 2003 من البنك الدولي ، أن 10% من سكان المنطقة يربحون 48% من إجمالي الدخل العام . بينما 10% منهم لا يحصلون إلا على 1.6 % فقط .
يتزايد عدم المساواه في أمريكا اللاتينية بشكل حاد . ويفوق في تفاوته بلدان شرق أوروبا . على نحو ما تشير إحصاءات منظمة التعاون التنمية الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة ، التي تشير أيضا إلى أن هذا التفاوت يشمل كل مظاهر الحياة ، حيت تم التراجع عن توفير الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة ، والتمكن من الحصول على الأرض أو الممتلكات الاجتماعية الأخرى .
وتقدم فنزويلا مثالا في هذا الشأن فعلى الرغم من الأوضاع المشابهة لها مع كل من الأرجنتين والأورجواي وعدد من البلدان الأخرى ، فأن فنزويلا التي شهدت تضخما عاليا ، أعوام 1996 ، وفيما بين 88 و 1996 ، شهدت فنزويلا تخفيضا في عدد العاملين في الصناعة بنسبة 15% .
في نهاية التسعينيات ، انخفضت الأجور الحقيقية بنسبة 40% عما كانت عليه في الثمانينيات . وانخفضت القدرة الشرائية عام 1994 إلى الثلثين عما كانت عليه عام 1978 . كما انخفض الإنفاق الاجتماعي بنسبة 40% خلال نفس الفترة . ويشمل خفض النفقات على التعليم بنسبة 40% ، و 70 % على الإسكان وتنمية الحضر ، و 37% على الرعاية الصحية .
وبين 1984 و 1995 ، تضاعفت أعداد الفقراء لتصل نسبته إلى ثلثي السكان .
تزايد البؤس الاجتماعي واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء ، بينما أثرى قطاع من الطبقة الحاكمة الفنزويلية والشرائح العليا من الطبقة المتوسطة من خلال التعامل مع الشركات المتعددة الجنسيات .
تنتسب النقابات العمالية إلى حزب العمل الديموقراطي ، الذي فقد مصداقيته تماما لتعاونه مع الحكومة في التخلي عن المكتسبات السابقة . وحدث تراجعا كبيرا في عضوية النقابات ، نتيجة لفقد العمال وظائفهم ودفعهم ما يسمي بالإصلاح للشوارع والبطالة . و تراجع عدد العمال الأعضاء في النقابات من 26.4% من مجموع قوة العمل عام 1988 ، إلى 13.5 % فقط عام 1995 .
لذلك ، لم تلعب هذه النقابات دورا له شأن في المعارضة أو في الاحتجاجات الاجتماعية .
باختصار ، لم تقدم أي من هذه النظم شيئا للطبقة العاملة . وفي كثير من الأحيان ساروا على نفس السياسات التي سارت عليها النظم القومية اليسارية والنظم الشعبية العسكرية ، مثل " جون بيرون" في الأرجنتين ، و" جتوليو فارجاس " في البرازيل .
بيل فان أوكين
18 مارس 2006
ترجمة: خالد الفيشاوي