منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By فيصل الزامل ١٠١
#54851
لماذا لست مسيحيا .....برتراند راسل

ملاحظة في المقدمة :
لقد قام راسل بإلقاء المحاضرة في السابع من مارس للعام 1927 وذلك إبان حضوره لأحد مؤتمرات المنظمة العلمانية البريطانية National Secular Society في لندن . وتمت طباعتها في منشور بنفس السنة .
ترجمة للعربية
الزميل زمكان


نبذة عن الكاتب :
اللورد برتراند راسل ( 1872 – 1970 ) عالم رياضيات , ومنطقي إنجليزي . وأحد المناضلين الإنسانيين في الغرب . رفض التجنيد في الحرب العالمية الأولى وحرض المواطنين الإنجليز على العصيان وقد دخل السجن نتيجة لذلك . كما قام برتراند راسل بكتابة عدد من المقالات مندداً بسياسة الإتحاد السوفييتي القمعية عام 1921 . وناضل برتراند راسل من أجل حقوق المرأة في بريطانيا , خصوصاً حق التصويت والترشيح والمشاركة السياسية , وكذلك حق المرأة في الحرية الجنسية بلا زواج . كما تم سجنه للمرة الثانية في منتصف الستينات وهو في التسعينات من العمر أثر تشكيله لمحكمة حملت إسمه وشاركه فيها مجموعة من المثقفين أمثال كين كوتس و جان بول سارتر وسيمون ديبفوار وجيمس بولدوين وغيرهم , وكان هدف هذه المحكمة إدانة الاجتياح الأمريكي لدولة فييتنام . وألّف برتراند راسل قرابة السبعين كتاباً في الفلسفة والرياضيات والسياسة والأخلاق والاجتماعيات , واعتبرت كتبه العلمية ثورة في المنهج التحليلي والمنطقي . وقد حاز راسل على جائزة نوبل في الأدب عام 1950 .





لماذا لست مسيحياً ؟

كما أخبركم رئيس المؤتمر , فإن المادة التي سأقدمها لكم في هذه المحاضرة هي "لماذا لست مسيحياً ؟ " . ولربما في مستهل هذه المحاضرة سأحاول أن أوضح معنى كلمة "مسيحي" . وهي المفردة التي يتم استخدامها بسطحية كبيرة لدى شريحة عظمى من الناس . البعض يظن أن كلمة مسيحي تعني "الشخص الذي يسعى لحياة أفضل" , وبهذا المنطق , سيكون المسيحي حاضراً في كل الأديان والمذاهب . ولكنني لا أعتقد أن هذا هو المراد من كلمة مسيحي , لأنها تعني عند معتنقيها أن غير المسيحيين كالبوذيين والكونفوشيوسيين والمسلمين , هم ممّن لا يسعون إلى حياة أفضل . إنني لا أقصد بالمسيحي الشخص الذي يعيش تحت تنويراته الخاصة والذاتية . إنه يتعين عليكم أن تؤمنوا بأشياء محددة قبل أن تملكون الحق في إسباغ المسيحية على أنفسكم . فكلمة مسيحي لا تملك نفس الصخب الذي كانت تملكه على أيام القديس أوغسطين وتوما الإكويني . ففي تلك الأيام , إذا صرح أحدهم بمسيحيته , فإنه يعني بها ما بداخله من إيمان . إنك ملزم بقبول جميع الشعائر والفروض التي تتألف منها منظومة الفكر المسيحي وبدقة , وفي كل مذهب منها ستكون متشدداً ومتيقناً من معتقداتك .


من هو المسيحي ؟

في هذه الأيام صار الأمر مختلفاً , ثمة غموض يكتنفنا ونحن نتحدث عن المسيحية . وأرى أن هناك شيئين ضروريين يجب أن يتوفرا لدى كل شخص يدّعي أنه مسيحي الآن . الشيء الأول هو أن تتعصب – فطرياً - لمقولة أن الله موجود وأن ثمة أبدية . فإذا لم تؤمن بالله والأبدية , فإنك لن تكون مسيحياً البتة . وخلاف هذا , وكما يتضمن الإسم "مسيحي" , فإنه يتعين عليك أن تؤمن بأشياء معينة بحيال المسيح . إن المسلمين , على سبيل المثال , يؤمنون بالله والأبدية , ولكن لا يمكن أن يسبغوا على أنفسهم صفة المسيحية . إنه يتعين عليك , ولو بشكل طفيف جداً , أن تؤمن بأن المسيح هو أكثر الرجال حكمة على مر التاريخ , في حال لم تؤمن بألوهيته طبعاً . فإذا لم تؤمن بألوهيته , أو حكمته المطلقة على الأقل , فإنك لست بمسيحي ولا تملك الحق في إسباغ هذه الصفة على ذاتك . وبالطبع , هناك منطق آخر , يمكن أن تقرأونه في بعض الكتب الجغرافية , وهو أن تعداد العالم في ذلك الوقت ( أي العصور الوسطى ) كان مقسماً آنذاك إلى طوائف شتى , مسيحيون ومسلمون وبوذيون وبعض أتباع الشعوذات وهلم جرا . وبهذا المنطق سنكون جميعنا مسيحيين أيضاً , فكتب الجغرافيا تعتبرنا كذلك , وهو منطق جغرافي أفترض أنه يمكننا جميعاً أن نتجاهله . إنني حين أقول بلا مسيحيتي فإنني أحدثكم عن أمرين مختلفين : الأول هو .. لماذا لا أؤمن بالله والأبدية . وثانياً .. لماذا لا أجد المسيح أفضل الحكماء , مع أنني أجده على درجة عالية من الأخلاق الدينية .

وبسبب الجهود الناجحة للملحدين في الماضي في تعريف المسيحية , فإنني لن أخاف من أي تعريف مسيحي بهذا الاعتبار . وكما قلت مسبقاً , في الماضي كانت كلمة مسيحي لها رنين قوي . فعلى سبيل المثال , كان المسيحي القديم يؤمن بالجحيم , إنه يؤمن بنار أبدية كانت تشكل إيماناً أساسياً وجوهرياً لدى كل مسيحي حتى أوقات قريبة جداً . وفي هذا البلد ( يقصد بريطانيا ) وكما تعلمون , أصبح الإيمان بالنار الأبدية شيئاً غير أساسي في المعتقد المسيحي , بعد القرار الصادر من مجلس الملكة . وبعد هذا القرار كان مطران كانتربوري ومطران يورك قد أعلنا معارضتهما لهذا القرار الملكي . ولكن في بلدنا يتم تحريك الدين عبر القرارات البرلمانية , ولهذا فقد كان المجلس الملكي قادراً على أن يسيطر على المسيحية , وأن يتم إلغاء الإيمان بالنار كجزء أساسي من معتقدات المسيحيين . إذاً , سوف لن أصر على اعتبار المسيحي رجلاً يؤمن بالنار .


وجود الله

إذا أردنا أن نقترب من السؤال المتعلق بوجود الله فسنجده سؤالاً ضخماً وخطيراً . وإذا كنت أنوي معالجة الأمر بشكلٍ صحيح , فيجب أن تسمحوا لي بمعالجته بإيجاز واقتضاب . إنكم تعلمون أن الكنيسة الكاثوليكية قد وضعت الله كمرتكز إيماني تقوم على أساسه المسيحية , وهذا الإيمان لا يتم التطرق له بالوسائل المنطقية . إن هذه العقيدة تثير الفضول , ورغم هذا تظل عقيدة الكاثوليك الرئيسية . لقد اضطروا إلى أن ينشئوها , لأنه في وقت من الأوقات كان المفكرون المتحررون يدخلون في جدالات شتى كان سببها البحت هو الله ومحاولة هؤلاء المتحررين نفي وجوده , وهم – أي المتحررون – يعرفون في أعماقهم أن الله موجود في الإيمان فحسب , ولقد طالت مدة هذه الحوارات وامتدت لوقتٍ ليس بقصير , وشعرت الكنيسة الكاثوليكية أن الوقت قد حان لإيقاف هذا الجدل . ولهذا فقد أقرّت الكنسية أن إثبات وجود الله يتم عبر أسباب جدلية , وهي الأسباب التي ظنّوها قادرة على إثبات وجود الله , وهناك عدد كبير من هذه الفرضيات , ولكنني هنا سأستعرض القليل منها .


الجدال حول المسبب الأول

لربما كانت قضية المسبب الأول هي أسهل وأكثر النظريات قابلية للفهم . وهي تعني أن كل شيء نراه في هذا العالم له سببه , وعندما تذهب إلى أبعد حلقات هذه السببية ستجد المسبب الأول وهو ما يسمى ب"الله" . إن هذه الفرضية , باعتقادي , لا تحمل مصداقية قوية هذه الأيام , لأنه , وفي المقام الأول , السبب ليس واضحاً كما يتصوره البعض . إن الفلاسفة ورجال العلم خاضوا في هذه السببية , وهي ليست بالصلاحية المرجوة منها والتي كانت تؤتي أكلها في الماضي . ولكن , وبمعزل عن كل هذا , سنجد أن فرضية السببية ليست على مستوى عالٍ من المصداقية . لربما قلت أنني حين كنت شاباً , كنت أجادل بخصوص هذه الأسئلة بكل ما أوتي عقلي من طاقة , ولقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول , حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية , وذلك بعد قراءتي لسيرة حياة جون ستيوارت ميل , حيث قال فيها : " لقد علمني والدي إجابة السؤال عمّن خلقني . وبعدها مباشرة طرحت سؤالاً أبعد من هذا , من خلق الإله ؟ " . إن هذه الجملة القصيرة , علمتني , إلى الآن , كيف أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط . فإذا كان لكل شيء مسبب , فيجب أن يكون لله مسبب أيضاً . وإذا كان كل شيء بلا مسبب , فسيكون العالم هو الله ! لهذا وجدت أنه لا مصداقية في هذه الفرضية . إنها تماماً مثل الفرضية الهندوكية , والتي تقول أن العالم رقد على ظهر فيل , وأن الفيل رقد على ظهر سلحفاة , ثم حين يُقال , وماذا عن السلحفاة ؟ يبادر الهندي بالإجابة : " دعنا نغير الموضوع ! ". إن السببية ليست بأفضل حالاً من السلحفائية . إننا لا ندرك السبب الذي من أجله جاء العالم بلا سبب , وكذلك في الضفة المقابلة , لا نستطيع إدراك لماذا كانت السببية غائبة وغير موجودة على الدوام . إنه لا يوجد أي داعٍ لنفترض من خلاله أن العالم له بداية . إن فكرة وجود بداية لكل شيء سببها فقر مخيلتنا عن هذا العالم . ولهذا , على الأرجح , لن أهدر مزيداً من وقتي وأنا أجادل عن السبب الأول .


الجدال حول القانون الطبيعي

هناك أيضاً جدل شائع يدور حول القانون الطبيعي . لقد كان هذا الجدل هو الموضوع المفضل لدى المجادلين طيلة القرن الثامن عشر , تحت تأثير نظريات السير إسحاق نيوتن وآراءه عن نشوء الكون . لاحظ الناس أن الكواكب تدور حول الشمس وفقاً لقانون الجاذبية , وظنوّا أن الله أعطى الضوء الأخضر لهذه الكواكب كي تتحرك وفق هذه الآلية . لقد كان هذا , بالتأكيد , تفسيراً ملائماً ومبسطاً أراحهم من المتاعب التي سيخوضونها – مستقبلاً – في محاولة فهم وشرح القوانين المابعد جاذبية . وفي هذه الأيام , نحن نشرح قانون الجاذبية بأسلوب أكثر تعقيداً عبر آينشتاين ومقولاته . سوف لن أعطيكم محاضرة عن آراء آينشتاين بهذا الخصوص لأن هذا يستلزم وقتاً أطول , ولكن بصفة عامة , لا نحتاج من الآن فصاعداً أن نلجأ لدراسة القوانين الطبيعية وفقاً للميكانيكا النيوتنية , والتي عبرها , ولأسباب لا يستوعبها الجميع , كان نيوتن يفترض أن الطبيعة تسير بشكل تماثلي وتجانسي . لقد اكتشفنا الآن أن كل ما كنا ندعوه بالقوانين الطبيعية ليست سوى قناعات بشرية . كذلك كان ثمة أشياء كبرى نعتقدها قوانين طبيعية وسرعان ما تلاشت . وعلى الطرف الآخر , عندما نتطرق إلى أية معلومة تتعلق بالذرة وحركتها , سنجد أنها – أي المعلومة – أقل تماسكاً من أن تكون قانوناً , وحال القوانين التي نصل إليها , تكون ليست بأكثر من كشف لبعض الفرص النظرية . وهناك , كما تعرفون , قانوناً ينص على أنكم لو رميتم نردين فستحصلون على الرقم ستة مرتين بمعدل مرة واحدة في كل ستة وثلاثين رمية , ونحن لا نستطيع اعتبار هذا دليلاً عن أن رمي النرد هو شيء تم التحكم به من قبل الرامي . وعلى النقيض , إذا كانت رقمي ستة يأتيان في كل مرة نرمي بها النردين , فسنقول حينها أنه بالفعل كان هناك ثمة تصميم من قبل الرامي عن عمد . إن قوانين الطبيعة هي على هذا النحو في معظمها . إنها معدلات إحصائية تنبثق عنها قوانين الصدفة , وهذا مايجعل من مسألة القانون الطبيعي أقل إدهاشاً لنا مما كنا نتخيله عنها في السابق . وبعيداً عن هذا ,ووفقاً للحالة العلمية المؤقتة والقابلة للتغير من الغد , فإن فكرة القانون الطبيعي تنطوي على مانح لهذا القانون , وهذا يكشف الخلط والاضطراب بين القانون الطبيعي والقانون البشري . إن القوانين البشرية تأمركم بالتصرف بطريقة معينة , أو بأي طريقة تودون أن تتخذوها , أو كيف تودون أن تتخلوا عنها , ولكن القوانين الطبيعية ليست بهذا الحال , فهي تصف لكم كيفية تصرف الأشياء , وتصف لكم الظروف التي على أثرها تعرفون مالذي يحدث . إنكم لا تقوون على الجدال عمّن يأمر هذه الأشياء بالتصرف بطريقتها , لأنه حتى وإن افترضتم وجود الآمر فإنكم لا تلبثون أن ترتطموا بسؤال آخر : لماذا قضى الله هذه القوانين ولم يقض غيرها ؟ وإذا قلتم ببساطة أنه فعل ذلك بمحض مشيئته المزاجية والتي هي بدون سبب , فإنكم وقتها ستصادفون أن هذا الشيء ليست بالموضوع الطبيعي , وسيتم إيقاف قطار القانون الطبيعي . وإذا قلتم كما يقول الأرثوكسيون منكم , أن الله في كل القوانين التي اقتضاها دون غيرها لأسبابه التي يحتفظ بها - فإن السبب بهذه الحالة – سيكون خلق الكون بأجمل حلة . مع أنكم لن تفكروا بتاتاً بالنظر إليها , إذا كان ثمة سببٍ للقوانين التي قضاها الله , فإن الله سيكون مادة للقانون الطبيعي , وهذا يعني أنه لا مبرر لافتراضكم أن الله وسيط بين الطبيعة وقوانينها . إن لديكم حقاً تصوراً سابقاً وخارجاً عن الإرادة الإلهية , إن الله لا يخدم أغراضكم , لأنه ليس المانح النهائي للقوانين . وباختصار , فإن هذه الجلبة عن القوانين الطبيعية لم تعن بعد الآن أي شيء كانت تعنيه في السابق . إنني أسافر عبر الزمن لأستعرض تاريخ هذه المجادلات , وأجد أنها تقوم بتغيير شخصية الله بمرور الوقت , لقد كان هناك ثمة جدالات فكرية تخوض بهذا المجال , وخلقت من ورائها سفسطات وتصورات خاطئة . وحين نتقدم بالزمان إلى الأزمنة الحديثة فإن هذه الجدالات تذبل وتفقد احترامها , وتسبب التشويش والمزيد من الغموض .


الجدال حول التصميم

الخطوة التالية من استعراضي للفرضيات لابد أن توصلني إلى جدلية التصميم . إنكم تدركون جميعاً أن فرضية التصميم تقتضي أن كل شيء في هذا العالم تم تصميمه من أجل أن نعيش وفقاً له , ولو أن العالم اختلف قليلاً عن صورته الحالية لما استطعنا أن نعيش فيه . هذه هي جدلية التصميم , إنها تكتسي بحلة من الفضول , ولنفترض فرضاً , أن ثمة أرانب تملك ذيولاً بيضاء كي يسهل علينا اصطيادها , لا أعرف كيف ستتصرف الأرانب وفق هذا النظام ؟ إنه أمر يبعث على السخرية . لابد أنكم تعرفون نكتة فولتير , وهو أن الأنف موجود من أجل الرؤية ! إن هذا النوع من الآراء لم يتحول فقط إلى علامة من علامات القرن الثامن عشر , لأنه منذ مجيء داروين بدأنا نفهم بشكل أوضح لماذا تتكيف الكائنات الحية مع بيئاتها . وهذا يعني أن البيئة ليست هي من تكيف نفسها من أجل الكائنات , لأن الكائن هو من يكيف نفسه وينمو مرتبطاً بظروف بيئته , وهذه هي قاعدة التكيف البيئي , ولا يوجد أي دليل على التصميم فيها .

عندما تلقون نظرة إلى فرضية التصميم , ستجدونها الأكثر جذباً لانتباه الناس حيث يؤمنون بها وتكسو عيونهم وتشرح لهم هذا العالم , وبكل تفاصيل هذه الفرضية , بكل زللها وخللها , ستجدونها الأكثر صموداً وشمولية بين الناس لآلاف السنين . إنني بصدق لا أؤمن بهذا . وإذا كنتم متأكدين من أن الله يحيط بهذا الكون ويبدعه ويحاول تجميله لملايين السنين , فلماذا لم ينجب أفضل من جماعة كوكو كلاكس كان , أو الفاشيون , أو السير وينستون تشرتشل ؟ حقاً إنني لا أشعر بأي جمال في هذا , خصوصاً حين يتقدم أحدهم ويقول لي : " أنظر أي كائن رائع هو أنا , أنا أفضل كائن في الوجود على الإطلاق " . حقاً إنني لا أجد أي شيء مبهر عن جمال هذه الأشياء , فضلاً عن ذلك , إذا قبلتم بالقوانين العلمية المعهودة , فيجب أن تدركوا أن الحياة على سطح هذا الكوكب هي عرضة للموت بشكل حتمي . إن الحياة ومضة في قعرٍ سحيق , أو طور من أطوار الاضمحلال في النظام الشمسي , وفي نقطة معينة وسط هذا الاضمحلال , تملكون أن تتكيفوا مع الحرارة , وهي التي تناسب نمو البرتوبلازما وقتياً , ثم لا تلبث أن تزول وتموت , هذه هي الحياة القصيرة التي ننعم بها داخل النظام الشمسي . تستطيعون أن تلاحظوا في القمر صورة الأرض الميتة , والجامدة , والخاوية من أي شيء .

إن هذه الآراء محبطة للكثيرين , والناس إذ يخبرونكم أنهم لن يملكوا القدرة على العيش من بعد , فلا تصدقونهم , إن هذا بلا منطق , فلا أحد سيقلق على مصير الأرض لملايين السنين نتيجة لذلك . حتى وإن تصوّروا أنهم يقلقون كثيراً حيال هذا الأمر , إنهم حقاً يخادعون أنفسهم , إنهم يقلقون عن أشياء دنيوية وطبيعية , وقد لا تكون إلا هضماً عسيراً للحقائق . حقاً إنه لايوجد شخص واحد أعلن قلقه واستياءه من مصير الحياة لملايين السنين . وعلى الرغم من أن نظرتنا ستكون بائسة حيال الموت بعد أن ندرك حتميته , وفي بعض الأحيان , حين أتأمل وأستبصر في أحوال الناس وشؤونهم , فإنني أراها تعزية وسلواناً لهم . إن القصد من حديثي ليس إسباغ البؤس على الحياة , وإنما تنويه – فقط – من أجل لفت الأنظار إلى مواضيع أخرى متوارية عنا .


الجدال حول الأخلاق الدينية

والآن سوف نصل إلى خطوة أبعد وهي ما سأسميها التطور الفكري لمجادلات الدينيين , وهو ما يفضي بنا إلى الجدال حول وجود الله بالنهاية . إنكم لتعلمون حقاً , أنه في الأيام الخوالي كانت النقاشات عن وجود الله تتمحور حول ثلاثة أشراط فكرية , وكلها قد تم تنظيمها والتطرق لها من قِبل إيمانويل كانط في كتاب ( نقد العقل المحض ) . وقد خلص إلى ابتكار جدليته الخاصة عن الأخلاق , وقد اقتنع بها أشد القناعة . لقد كان كالعديد من الناس , ففيما يخص المسائل الفكرية كان متشككاً , ولكن فيما يخص الأخلاق فهو مؤمن ضمنياً بالمآثر التي تشرّبها وآمن بها في بداية حياته . وهذا يوضح ما شدد عليه المحللون النفسيون من أن التأثير الرهيب لنشأتنا في الطفولة يمتد إلى المستقبل البعيد .

إن كانط , وكما أقول , قد ابتكر جدلية أخلاقية جديدة تتعلق بوجود الله . وكانت جدليته متشكلة على هيئة صور عديدة من الأفكار التي كانت سائدة بشكل واسع إبان القرن الثامن عشر , وقد كانت على صيغٍٍ شتى . فهناك صيغة تقول أنه لاوجود للخير والشر مادام الله غير موجود , وأنا هنا لست معنياً بالتحقيق عما إذا كان هنالك ثمة اختلاف بين الخير والشر أم لا , فهذا سؤال آخر , ولكنني معني بطرح السؤال الآتي : إذا كنتم واثقون من وجود الاختلاف بين الخير والشر , فإنكم ستكونون عالقين في موقف وهو : هل هذا متوقف على كينونة الله ؟ فإذا كان هذا متعلقاً بها , فهذا يعني أن الله لا يكترث بالاختلاف بين الخير والشر , ويعني أنه لا يوجد أي فحوى حقيقية عن طيبة الله . وإذا كنتم ستتخذون نفس موقف اللاهوتيين , أن الله طيب , فعليكم أن تعترفوا أن الخير والشر يملكان نفس المعنى وأنهما مستقلان عن كينونة الله , لأن كينونة الله طيبة حسب تصوركم وأيضاً كما خلقها . كما أنكم مجبرون حينئذٍ أن تقولوا أنه ليس بواسطة الله يأتي الخير والشر إلى الوجود , بل يكونان في جوهر منطقهما سابقين على وجود الله . وبالطبع – إذا كنتم ترضون بهذا – ستستطيعون أن تقولوا أن ثمة كائن متعال يقوم بإملاء أوامره على الإله الذي صنع هذا العالم . أو أن تتخذوا نفس موقف اللا أدريين – وهو الموقف الذي لطالما وجدته معقولاً – وهو أن هذا العالم قد تمت صناعته من قبل الشر في اللحظة التي كان الله فيها غافلاً . هناك آراء من الممكن أن تقال دائماً حيال هذا الأمر , وأنا لست معنياً بدحضها .


الجدال حول العدالة والظلم

هناك أيضاً قضية مثيرة لفضولنا فيما يتعلق بإشكالية الأخلاق , وهي أن البعض يقولون بأن وجود الله ضروري من أجل تحقيق العدالة في هذا العالم . في الحقيقة , هناك جزء من هذا الكون نعرف فيه يقيناً أنه يوجد قدر كبير من الظلم و الكثير من المعاناة . وإذا كنتم ترغبون في إحقاق العدالة فعلاً , فإنكم ملزمون بالتفكير في المستقبل وتحديث طرق المعيشة هنا في كوكب الأرض , وكما يقولون عن ضرورة الله , أو كما يقولون عن وجوب افتراض الجنة والنار من أجل تحفيز الناس على تحقيق العدل في الأمد البعيد , فإنني أرى هذا مثيراً للتساؤل , فإنكم لو حللتم الموضوع بنظرة موضوعية , فستقولون : " بالنهاية .. نحن لا نعي غير هذا العالم . ولا نفقه شيئاً عن بقية الكون . وحتى الآن , مادام أن ثمة شخص قادر على الجدال حول كافة الإمكانيات والاحتمالات , فإنه سيقول أن هذا العالم الصغير هو عينة كافية , وأنه إذا وُجد الظلم هنا , فلسوف يوجد في أي مكان بالكون " . ولنفترض أن أحدهم حصل على صندوق برتقال وقام بفتحه , ووجد أن البرتقالات العليا في الصندوق كانت فاسدة , فإنه لن يجادل , وربما سيقول أن البقية فاسدة , هذا ما سيقوله الشخص الذي يفكر بعلمية لأن هذه البرتقالات عينة الصندوق وتحتل الموقع الأعلى منه . وهذا ينطبق على الكون , إننا هنا نجد قدراً عالياً من الظلم , وهذا سبب أكثر من كافٍ كي نقول أن العدالة لا تحكم شيئاً من هذا العالم . وهذا ما يرد على ادعاءات الألوهيين . وبالتأكيد , لقد كانت النقاشات التي تحدثت بها إليكم هي ليست في الواقع من يتحكم بالناس ويدفعهم للإيمان بالله . إن مايجعل الناس يؤمنون بالله ليس المسائل الفكرية على الإطلاق . إن أغلبية المؤمنين بالله قد تم تلقينهم أن يفعلوا ذلك منذ سن مبكرة , وهذا هو السبب الرئيسي وراء إيمانهم .

وأعتقد أن السبب الثاني الرئيسي وراء إيمان البشر بالله هو أمنية الإنسان بالسلامة , إنه الشعور بأن لك أخاً أكبر يقوم برعايتك وحراستك . وهذا يلعب دوراً هائلاً في التأثير على رغبة الناس في إيمانهم بالله .[/size]