بكه ولو كره الكافرون
مرسل: الجمعة نوفمبر 09, 2012 4:26 pm
بكه ولو كره الكافرون
في تعليق له على «سِفْر المزامير» ينقل اللاهوتي القس «جورج بوش» عن المفسِّر «روزِنْمولر» قوله: «إن الجزء الأول من المزمور (الرابع والثمانين) لا يمكن إيضاحه بمثالٍ (ولا يُسأْ فهم مقصدنا) خيرٍ من أولئك الذين يحجون إلى مكة» . وهو هنا يعرِّض بالمسلمين كما سترى؛ فما هي الحقيقة التي يخشى أن ينصرف إليها كلامه؟
يقول المزمور الرابع والثمانون وَفْقاً لترجمة «فاندايك» العربية الشهيرة:
«طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبِّحونك (سلاه)، طوبى لأناس عِزُّهم بك، طُرُق بيتك في قلوبهم، عابـرين في وادي البكاء يصيِّـرونه ينبوعاً، أيضاً ببـركاتٍ يُغطُّون مــــــورة، يذهبــون من قـــــوة الى قوة يُـرَون قــدَّام الله في صهـيـون». (مزامير 84)
إن غموض المعنى في هذا المزمور يوحي بأن تحـريفاً قد حصـل من قِبَــل المترجمــين، وهــو ما يجعــــل الرجــوع إلـــى الأصـل العبــراني أمــــراً لا مندوحة عنه. يقول النص العبراني:
«آشري يوشفي فيتخا عود يهلِّلوخا؛ آشري آدام عوز لو باخ، مسيلوت بِلفافام، عوفري بعِمق هبكا مِعيان يشيتوهو، جم براخوت يَعطه موره، يِلخو مِحايل إل حايل، يرائيه إل إلوهيم بصيون».
يتحدث النص هنا عن بَركةٍ تنال صنفين من الناس:
أحدهما: «يوشفي فيتخا»؛ أي: «ساكنو بيتك» (أي: بيت الرب) ويصفهم النص بأنهم يسبِّحون الرب أبداً فهم في عبادة دائبة.
والصنف الآخر: «عوفري بعِمق هبكا»؛ أي: «عابرو وادي البُكاء»، وهم الذين يأتون من كل فج عميق وقد امتلأت قلوبهم بالشوق إلى بيـت اللــه: «طُرُق بيتـك في قلوبهــم».
وهذان الصنفان اللذان أشير إليهما في سفر المزامير ورد ذِكْرهما في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يقول - تعالى - في سورة الحج:
{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْـحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
يعلِّق الشيخ السعدي قائلاً: «يخبر - تعالى - عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومَنْع الناس من الإيمان، والصد أيضاً عن المسجد الحرام، الذي ليس مُلْكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه».
فـ «العاكف» (أي: المقيم) في الآية الكريمة يقابله «ساكنو بيتك» في نص المزامير، و«الباد» (أي: الطارئ على البيت) يقــابله: «عـــابرو وادي البكــاء». لكــنَّ وادياً باسم «البكاء» لم يُعهَد بمكة حتـى يقال بأن النص إشارة إلى وفود الحجيج. فأين يقع «وادي البكاء» إذن؟
لقد تخرَّص شارحو العهد القديم أيما تخرُّص عند تفسيرهم لوادي البكاء؛ فقال البعض بأنه سمي كذلك لكثرة بكاء الحجيج أثناء عبورهم إلى القدس، مع أن القدس «أورشليم» غير مذكورة في نص المزمور. وقال آخرون هو اسم لشجرة «البكاء» التي ربما كانت تملأ الوادي؛ إلا أن عالم الآثار «الإسكندر ماكاليستر» يؤكد عدم وجود مثل هذه الشجرة في أرض فلسطين؛ لذا أقر البعض بأن الكلمة العبرية (ب ـ ك ـ ا) أكثر الكلمات صعوبة في سفر المزامير.
وبالرجوع إلى النص العبراني نجد أن «وادي البكاء» ترجمة لـ «عِمق هـ ــ بكا». فأما «عمق» فتعني: «وادي»، وأما الهاء فهــي أداة التعـــريف في العبرانيـة. لكـــن الذي لا يسـلَّم لشُرَّاح العهد القديم، هو أن: «بكا» في هذا الموضع هـو البكاء؛ فالكلمـة هنا علَم علــى موضـع يدعى: «بكا» لا يعرفه الشرَّاح، أو لا يريدون معرفته. يقول تفسير The New Interpreter’s Bible لِـمَا يسمى بالكتاب المقدس: «بكا» يؤخذ عادة على أنه اسم علم مكانه مجهول، لكن يظهر أنه بقعة جرداء، إليها يجلب الحجاج غوثاً». ولهذا اكتفت جُلُّ النُّسخ الإنجليزية بكتابة الاسم كما هو Baca. انظر كيف تبيَّن لهم الحق ثم انظر أنَّى يؤفكون!
إن الترجمة الصحيحة لـ «عِمِق هـ ــ بكا»، هي: «وادي بكة» الذي فيه بيت الله الحرام. قال - تعالى -: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97]. ولولا خشية الإطالة لأوردت أقوال المخالفين من اليهود والنصارى وردَدْت عليها، لكن المقام هنا يتطلب الإيجاز.
ثم يضيف النص العبري قائلاً: «مِعيان يشيتوهو»، وقد ترجمته النسخ العربية بـ: «يجعلونه ينابيع ماء» ونحوه. أما النسَخ الإنجليزية فتباينت في ذلك كثيراً؛ فمنها ما وافق النُّسخ العربية ومنها ما ترجمه بـ: «يعُدُّونه عيناً» كنسخة «الجمعية اليهودية للنشر»، ومنها ما ترجمه بـ: «يجدون ماء عين يشربون منه» كـ «النسخة الأمريكية الحديثة». وعلى الرغم من اختلاف هذه النسَخ؛ إلا أنها تتفق في وجود عين أو بئر حول هذا البيت الحرام. وهذا لا يَصْدُق إلا على بئر زمزم التي نبعت من تحت قدمَيْ إسماعيل، عليه السلام.
يستمر النص العبراني قائلاً: «جَم براخوت يَعطه موره» وترجمتها وَفْقَاً لنسخة «فاندايك» العربية: «أيضاً ببركاتٍ يُغطُّون مورة»، وقد أبعد المترجمون النجعة، فجاءت ترجمتهم باهتة لا تناسب السياق. والصحيح أن «براخوت يَعطه موره» تعني: «الشارع (أو المُشرِّع) يمنح البركات» وإليه ذهبت الترجمة السبعونية اليونانية. أما البركات هنا فهي التي أشير إليها في قوله - تعالى -: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
ثم يصف النص بعض أعمال الحجيج بقوله: «يِلخو مِحايل إل حايل»، وتفسيرها: «يذهبون من قوة إلى قوة»؛ كما تزعم نسخة «فاندايك» وغيرها. وكان هذا الجزء من النص هو الذي دفعني إلى دراسته بلغته الأصلية؛ فالنص في ترجمته العربية وأغلب الترجمات الإنجليزية شديد الركاكة كما ترى؛ لا يُدرى المراد منه؛ فلما رجعت إلى النسخة العبرانية وجدت أن الكلمة «حايل» (ح ـ ي ـ ل) قد تُرجِمت مجازاً لا على الحقيقة، وأن الكلمة تقابل في العربية كلمة «حائل»؛ وهو الحاجز بين شيئين، فهو السور والجبل والتل والمرتفع من الأرض. وبَقِيتُ مدة أبحث في المعاجم العبرانية وترجمات العهد القديم إلى أن وجدت بغيتي أخيراً في الترجمة العربية اليسوعية التي ترجمت الفقرة بقولها: «من ذُروة إلى ذُروة يسيرون». ثم زادني يقيناً ما وجدته في الترجمة العربية المشتركة: «ينطلقون من جبل إلى جبل» فأدركت أني لم أكن واهماً وأن الفقرة تشير إلى السعي بين الصفا والمروة.
ثم يختم النص هذه الصورة بقوله: «يرائيه إل إلوهيم بصيون» وتفسيرها حسب ترجمة «فاندايك» «يُرَون قدَّام الله في صهيون».
هنا قد يورد البعض إيراداً وجيهاً؛ وهو: ما مناسبة ذكر «صهيون» في هذا النص إن كان يتحدث عن حجاج بيت الله الحرام بمكة المكرمة؟ والجواب على هذا الإيراد من وجهين:
الوجه الأول: أن متن العهد القديم الذي يسميه أصحابه: «توراة» نالته يد التحريف والتبديل بنص القرآن، بل باعتراف علمائهم، فلا يُستغرب أن تكون كلمة «صهيون» هنا من تبديل النُّسَّاخ.ط
أما الوجه الآخر: فلو سلَّمنا جدلاً بسـلامة النــص العبــراني، فالفــرق بين (صِ ـ ي ـ و ـ ن) أي: (صهيـــون) و (صَ ـ ي ـ و ـ ن) أي: (الأرض القاحلة) هو حركة الحرف الأول، عِلماً بأن هذه الحركات أُلحقَت بالنص العبراني بعد كتابته بأكثر من ألف عام، وكان ذلك بناءً على ما رآه أحبار اليهود المعروفون بالـ «مَسوريِّين»، وفيها من الأغلاط المقصودة وغير المقصودة ما يعترف به أشهر علمائهم من أمثال: «جيمس بار» وغيره. وبناءً عليه لا يُسلَّم لأولئك البُهت بأن الكلمة محرَّكة بالكسر لا الفتح. وبهذا المعنى تُرجم (إشعياء 25: 5): «كحَرٍّ في يَبَسٍ (صَيون) تَخفض ضجيج الأعاجم». وكذا (إشعياء 32: 2): «كسواقي ماءٍ في مكان يابِس (صَيون)». وبه ينبغي أن يترجم نص المزامير السابق هكــــذا: «يُـــــــرون قــــَدام الله بأرض غير ذات زرع».
وليس المراد هنا مجرد النظر إليهم؛ فالله لا تخفى عليه أعمال عباده في حج أو غيره؛ فهو السميع البصير، وإنما المراد به ما بيَّنه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شُعثاً غبراً».
وسأورد هنا النص العربي كما في ترجمة «فاندايك» ثم نص الترجمة التي اعتمدتُ فيها «الأصل» العبراني مع الحرص على منطِقية السياق وجلاء المعاني؛ ليرى القارئ كيف أسهم المترجمون في طمس إشاراتٍ جلية إلى الرسالة الخاتمة.
ترجمة «فاندايك»: «طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبِّحونك؛ طوبى لأناس عِزُّهم بك، طُرُق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء يصيِّرونه ينبوعاً، أيضاً ببركاتٍ يُغطُّون مورة، يذهبون من قوة الى قوة، يُرَون قُدَّام الله في صهيون».
ترجمة الباحث:
«طوبى للعاكفين في بيتك، دأَباً يهلِّلونك
طوبى لأناس عِزُّهم بك، فِجاج بيتك في قلوبهم، البادين بوادي «بَكَّة»
من عينٍ يشربون، ومن بركات المشرِّع ينعمون، من جبلٍ إلى جبلٍ يسعَون
ينظر الله إليهم بأرض غير ذات زرع».
ختاماً أقول لمن أرادوا صرف البشارة عن مكة فما أفلحوا: إن المسلمين الذين تخافون أن «يسيئوا مقصدكم» يعلمون أن «بكة» التي بَكَّت أعناق الجبابرة من قَبْل لا تزال تبكُّ أعناق الذين يلبِسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنَّكَ إذًا لَّـمِنَ الظَّالِـمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُمْتَرِينَ}. [البقرة: 145 - 147].
في تعليق له على «سِفْر المزامير» ينقل اللاهوتي القس «جورج بوش» عن المفسِّر «روزِنْمولر» قوله: «إن الجزء الأول من المزمور (الرابع والثمانين) لا يمكن إيضاحه بمثالٍ (ولا يُسأْ فهم مقصدنا) خيرٍ من أولئك الذين يحجون إلى مكة» . وهو هنا يعرِّض بالمسلمين كما سترى؛ فما هي الحقيقة التي يخشى أن ينصرف إليها كلامه؟
يقول المزمور الرابع والثمانون وَفْقاً لترجمة «فاندايك» العربية الشهيرة:
«طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبِّحونك (سلاه)، طوبى لأناس عِزُّهم بك، طُرُق بيتك في قلوبهم، عابـرين في وادي البكاء يصيِّـرونه ينبوعاً، أيضاً ببـركاتٍ يُغطُّون مــــــورة، يذهبــون من قـــــوة الى قوة يُـرَون قــدَّام الله في صهـيـون». (مزامير 84)
إن غموض المعنى في هذا المزمور يوحي بأن تحـريفاً قد حصـل من قِبَــل المترجمــين، وهــو ما يجعــــل الرجــوع إلـــى الأصـل العبــراني أمــــراً لا مندوحة عنه. يقول النص العبراني:
«آشري يوشفي فيتخا عود يهلِّلوخا؛ آشري آدام عوز لو باخ، مسيلوت بِلفافام، عوفري بعِمق هبكا مِعيان يشيتوهو، جم براخوت يَعطه موره، يِلخو مِحايل إل حايل، يرائيه إل إلوهيم بصيون».
يتحدث النص هنا عن بَركةٍ تنال صنفين من الناس:
أحدهما: «يوشفي فيتخا»؛ أي: «ساكنو بيتك» (أي: بيت الرب) ويصفهم النص بأنهم يسبِّحون الرب أبداً فهم في عبادة دائبة.
والصنف الآخر: «عوفري بعِمق هبكا»؛ أي: «عابرو وادي البُكاء»، وهم الذين يأتون من كل فج عميق وقد امتلأت قلوبهم بالشوق إلى بيـت اللــه: «طُرُق بيتـك في قلوبهــم».
وهذان الصنفان اللذان أشير إليهما في سفر المزامير ورد ذِكْرهما في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يقول - تعالى - في سورة الحج:
{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْـحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
يعلِّق الشيخ السعدي قائلاً: «يخبر - تعالى - عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومَنْع الناس من الإيمان، والصد أيضاً عن المسجد الحرام، الذي ليس مُلْكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه».
فـ «العاكف» (أي: المقيم) في الآية الكريمة يقابله «ساكنو بيتك» في نص المزامير، و«الباد» (أي: الطارئ على البيت) يقــابله: «عـــابرو وادي البكــاء». لكــنَّ وادياً باسم «البكاء» لم يُعهَد بمكة حتـى يقال بأن النص إشارة إلى وفود الحجيج. فأين يقع «وادي البكاء» إذن؟
لقد تخرَّص شارحو العهد القديم أيما تخرُّص عند تفسيرهم لوادي البكاء؛ فقال البعض بأنه سمي كذلك لكثرة بكاء الحجيج أثناء عبورهم إلى القدس، مع أن القدس «أورشليم» غير مذكورة في نص المزمور. وقال آخرون هو اسم لشجرة «البكاء» التي ربما كانت تملأ الوادي؛ إلا أن عالم الآثار «الإسكندر ماكاليستر» يؤكد عدم وجود مثل هذه الشجرة في أرض فلسطين؛ لذا أقر البعض بأن الكلمة العبرية (ب ـ ك ـ ا) أكثر الكلمات صعوبة في سفر المزامير.
وبالرجوع إلى النص العبراني نجد أن «وادي البكاء» ترجمة لـ «عِمق هـ ــ بكا». فأما «عمق» فتعني: «وادي»، وأما الهاء فهــي أداة التعـــريف في العبرانيـة. لكـــن الذي لا يسـلَّم لشُرَّاح العهد القديم، هو أن: «بكا» في هذا الموضع هـو البكاء؛ فالكلمـة هنا علَم علــى موضـع يدعى: «بكا» لا يعرفه الشرَّاح، أو لا يريدون معرفته. يقول تفسير The New Interpreter’s Bible لِـمَا يسمى بالكتاب المقدس: «بكا» يؤخذ عادة على أنه اسم علم مكانه مجهول، لكن يظهر أنه بقعة جرداء، إليها يجلب الحجاج غوثاً». ولهذا اكتفت جُلُّ النُّسخ الإنجليزية بكتابة الاسم كما هو Baca. انظر كيف تبيَّن لهم الحق ثم انظر أنَّى يؤفكون!
إن الترجمة الصحيحة لـ «عِمِق هـ ــ بكا»، هي: «وادي بكة» الذي فيه بيت الله الحرام. قال - تعالى -: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96 - 97]. ولولا خشية الإطالة لأوردت أقوال المخالفين من اليهود والنصارى وردَدْت عليها، لكن المقام هنا يتطلب الإيجاز.
ثم يضيف النص العبري قائلاً: «مِعيان يشيتوهو»، وقد ترجمته النسخ العربية بـ: «يجعلونه ينابيع ماء» ونحوه. أما النسَخ الإنجليزية فتباينت في ذلك كثيراً؛ فمنها ما وافق النُّسخ العربية ومنها ما ترجمه بـ: «يعُدُّونه عيناً» كنسخة «الجمعية اليهودية للنشر»، ومنها ما ترجمه بـ: «يجدون ماء عين يشربون منه» كـ «النسخة الأمريكية الحديثة». وعلى الرغم من اختلاف هذه النسَخ؛ إلا أنها تتفق في وجود عين أو بئر حول هذا البيت الحرام. وهذا لا يَصْدُق إلا على بئر زمزم التي نبعت من تحت قدمَيْ إسماعيل، عليه السلام.
يستمر النص العبراني قائلاً: «جَم براخوت يَعطه موره» وترجمتها وَفْقَاً لنسخة «فاندايك» العربية: «أيضاً ببركاتٍ يُغطُّون مورة»، وقد أبعد المترجمون النجعة، فجاءت ترجمتهم باهتة لا تناسب السياق. والصحيح أن «براخوت يَعطه موره» تعني: «الشارع (أو المُشرِّع) يمنح البركات» وإليه ذهبت الترجمة السبعونية اليونانية. أما البركات هنا فهي التي أشير إليها في قوله - تعالى -: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96].
ثم يصف النص بعض أعمال الحجيج بقوله: «يِلخو مِحايل إل حايل»، وتفسيرها: «يذهبون من قوة إلى قوة»؛ كما تزعم نسخة «فاندايك» وغيرها. وكان هذا الجزء من النص هو الذي دفعني إلى دراسته بلغته الأصلية؛ فالنص في ترجمته العربية وأغلب الترجمات الإنجليزية شديد الركاكة كما ترى؛ لا يُدرى المراد منه؛ فلما رجعت إلى النسخة العبرانية وجدت أن الكلمة «حايل» (ح ـ ي ـ ل) قد تُرجِمت مجازاً لا على الحقيقة، وأن الكلمة تقابل في العربية كلمة «حائل»؛ وهو الحاجز بين شيئين، فهو السور والجبل والتل والمرتفع من الأرض. وبَقِيتُ مدة أبحث في المعاجم العبرانية وترجمات العهد القديم إلى أن وجدت بغيتي أخيراً في الترجمة العربية اليسوعية التي ترجمت الفقرة بقولها: «من ذُروة إلى ذُروة يسيرون». ثم زادني يقيناً ما وجدته في الترجمة العربية المشتركة: «ينطلقون من جبل إلى جبل» فأدركت أني لم أكن واهماً وأن الفقرة تشير إلى السعي بين الصفا والمروة.
ثم يختم النص هذه الصورة بقوله: «يرائيه إل إلوهيم بصيون» وتفسيرها حسب ترجمة «فاندايك» «يُرَون قدَّام الله في صهيون».
هنا قد يورد البعض إيراداً وجيهاً؛ وهو: ما مناسبة ذكر «صهيون» في هذا النص إن كان يتحدث عن حجاج بيت الله الحرام بمكة المكرمة؟ والجواب على هذا الإيراد من وجهين:
الوجه الأول: أن متن العهد القديم الذي يسميه أصحابه: «توراة» نالته يد التحريف والتبديل بنص القرآن، بل باعتراف علمائهم، فلا يُستغرب أن تكون كلمة «صهيون» هنا من تبديل النُّسَّاخ.ط
أما الوجه الآخر: فلو سلَّمنا جدلاً بسـلامة النــص العبــراني، فالفــرق بين (صِ ـ ي ـ و ـ ن) أي: (صهيـــون) و (صَ ـ ي ـ و ـ ن) أي: (الأرض القاحلة) هو حركة الحرف الأول، عِلماً بأن هذه الحركات أُلحقَت بالنص العبراني بعد كتابته بأكثر من ألف عام، وكان ذلك بناءً على ما رآه أحبار اليهود المعروفون بالـ «مَسوريِّين»، وفيها من الأغلاط المقصودة وغير المقصودة ما يعترف به أشهر علمائهم من أمثال: «جيمس بار» وغيره. وبناءً عليه لا يُسلَّم لأولئك البُهت بأن الكلمة محرَّكة بالكسر لا الفتح. وبهذا المعنى تُرجم (إشعياء 25: 5): «كحَرٍّ في يَبَسٍ (صَيون) تَخفض ضجيج الأعاجم». وكذا (إشعياء 32: 2): «كسواقي ماءٍ في مكان يابِس (صَيون)». وبه ينبغي أن يترجم نص المزامير السابق هكــــذا: «يُـــــــرون قــــَدام الله بأرض غير ذات زرع».
وليس المراد هنا مجرد النظر إليهم؛ فالله لا تخفى عليه أعمال عباده في حج أو غيره؛ فهو السميع البصير، وإنما المراد به ما بيَّنه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن الله يباهي بأهل عرفات ملائكة أهل السماء فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء جاؤوني شُعثاً غبراً».
وسأورد هنا النص العربي كما في ترجمة «فاندايك» ثم نص الترجمة التي اعتمدتُ فيها «الأصل» العبراني مع الحرص على منطِقية السياق وجلاء المعاني؛ ليرى القارئ كيف أسهم المترجمون في طمس إشاراتٍ جلية إلى الرسالة الخاتمة.
ترجمة «فاندايك»: «طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبِّحونك؛ طوبى لأناس عِزُّهم بك، طُرُق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء يصيِّرونه ينبوعاً، أيضاً ببركاتٍ يُغطُّون مورة، يذهبون من قوة الى قوة، يُرَون قُدَّام الله في صهيون».
ترجمة الباحث:
«طوبى للعاكفين في بيتك، دأَباً يهلِّلونك
طوبى لأناس عِزُّهم بك، فِجاج بيتك في قلوبهم، البادين بوادي «بَكَّة»
من عينٍ يشربون، ومن بركات المشرِّع ينعمون، من جبلٍ إلى جبلٍ يسعَون
ينظر الله إليهم بأرض غير ذات زرع».
ختاماً أقول لمن أرادوا صرف البشارة عن مكة فما أفلحوا: إن المسلمين الذين تخافون أن «يسيئوا مقصدكم» يعلمون أن «بكة» التي بَكَّت أعناق الجبابرة من قَبْل لا تزال تبكُّ أعناق الذين يلبِسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنَّكَ إذًا لَّـمِنَ الظَّالِـمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْـحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُمْتَرِينَ}. [البقرة: 145 - 147].