صفحة 1 من 1

أمريكا والسياسة الثابتة

مرسل: الجمعة نوفمبر 09, 2012 10:01 pm
بواسطة ناصر العتيبي3
يميل أيديولوجيو اليسار وأيديولوجيو اليمين إلى تقديم الولايات المتحدة على أنها الدولة ذات السياسة الثابتة التي لا تتغير بتبدل حزبها الحاكم، فهي هي سواء كان الحاكم ديموقراطياً أو جمهورياً، والواقع غير ذلك إلى حد بعيد، فلكل من الحزبين سياسته الخارجية والداخلية المختلفة عن الآخر.



وقد دلت التجارب على أن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة يكون بوصول رجل ذي دور تاريخي إلى السلطة، كأن يكون بطل حرب كايزنهاور أو رمز انقلاب تأسيسي جذري كابراهام لينكولن، فعند ذاك يملك الرئيس حرية حركة تجعله فوق الأحزاب أو المصالح المناطقية، وبالتالي قادراً على اتخاذ قرارات عليها طابعه الخاص لا طابع الحزب أو الجماعة التي هو منها.



من ذلك على سبيل المثال الموقف الذي اتخذه الرئيس آيزنهاور في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م بالزام رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك ديفيد بن غوريون بوقف توغل قواته فوراً في الأراضي المصرية والضغط على إيدن البريطاني وغيموليه الفرنسي لإنهاء الحملة العسكرية، بل ملاحقتهما داخل بلديهما إلى حد تصفية حياتهما السياسية. فهو قرار ما كان يمكن أن يُتخذ ويكون نافذاً إلا لأن صاحبه آيزنهاور وليس لكونه جمهورياً أو غير جمهوري.



في ما عدا هذه الحالة الاستثنائية تبقى أهمية كبيرة للحزب وسياسته، وهذا ما نشهده حالياً في فارق واضح بين نهج كل من بيل كلينتون وجوج بوش.



لقد مضى وقت قصير على مجيء الجمهوريين في شخص بوش إلى السلطة، ومع ذلك برز ويبرز بوضوح الاختلاف بين سياسة السلف والخلف.



لقد أعطى الرئيس الأميركي السابق أهمية قصوى للتسوية العربية ـ الإسرائيلية، فظل حتى آخر دقيقة من حكمه منغمساً في جهود كثيفة للوصول إلى سلام في منطقة الشرق الأوسط. وجاء بنفسه ومعه زوجته إلى غزة مفتتحاً المطار الفلسطيني إلى جانب ياسر عرفات، مكرساً بذلك اعترافه بالهوية الفلسطينية السياسية. وقد قضى الأيام الأخيرة في حكمه وهو يعمل على تقريب وجهات النظر اليهودية والفلسطينية، معطياً الانطباع بأن هذه القضية في نظره هي إحدى القضايا الأهم في العالم، وهي الأحق بأن ينهي بها حياته الرئاسية.



بالمقابل نجد الرئيس بوش حريصاً كل الحرص على خفض رتبة القضية الفلسطينية بين مشاغل واشنطن، معتبراً الخلاف العربي ـ الإسرائيلي واحداً من المشاكل السياسية العديدة في الشرق الأوسط، شأنها شأن غيرها من الأزمات المستعصية في المنطقة.



ولعله كان مهتماً بالإيحاء للقريب والبعيد بأن كلينتون كان مُغالياً في تقدير خطورة الموضوع العربي ـ الإسرائيلي، فما هو إلا واحد من العديد من المواضيع المماثلة في العالم ويحسُن عدم تلوينه بالألوان التاريخية والدينية وابقاؤه في إطاره المحدود كنزاع على أراض في بقعة كغيرها. وكل ما يصدر عن واشنطن من فم وزير الخارجية كولن باول لا يتعدى الدعوة إلى وقف العنف، وأين ذلك في كلام الإدارة الأمريكية من اهتمامها الكثير من المشاكل الأقل أهمية في الحقيقة من السلام في الشرق الأوسط كتماثيل بوذا في أفغانستان ومصير الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش.



إن خصوصية التعامل الأمريكي الجمهوري مع قضايا العالم تبرز كذلك بشكل صارخ في طريقة التعاطي مع أزمة طائرة التجسس الأميركية في الصين، فالتعالي هو طابع مُقاربة واشنطن للموضوع رغم جدية الأذى الذي يمكن أن يلحقه بالعلاقات الأمريكية ـ الصينية الشديدة الحساسية. إنها أزمة في جنس تلك التي انفجرت خلال حقبة الحرب الباردة، كإسقاط الاتحاد السوفياتي لطائرة تجسس وأسر طيارها واحتجاز كوريا الشمالية لسفينة تجسس وطاقمها. والفارق أن الأزمة القائمة مع الصين هي بين دولتين متنافستين وليستا عدوتين وتربط بينهما علاقات متشعبة اقتصادياً وسياسياً تتراوح بين التعاون الوثيق والتبادل التجاري المكثف، وبين وصف الصين بالمنافس الاستراتيجي على ما فعل بوش خلال حملته الانتخابية.



إن الغطرسة في لهجة بوش وطريقة تناوله للموضوع ساهمت وتساهم في تعقيد العلاقة مع الصين. فقد سبق أن انتقد بكين بسبب دعمها العسكري للعراق، ولمح ببيع تايوان أنظمة عسكرية متطورة، وأصرَّ على بناء شبكة دفاع صاروخية تعترض عليها الصين.



لقد كان على بوش أن يتحسب لردة الفعل الصينية وقد جاءت مسرعة في التجرؤ عليه بمطالبته بالاعتذار عن وفاة طيار صيني. وفي بلد كالصين كثيراً ما يتحول فرد واحد من مئات الملايين إلى ممثلها جميعاً، فكان على المسؤولين الأميركيين أن يبدوا أسفهم في مثل صارخ على أن واشنطن يمكن، في وجه موقف حازم في نوع ما فعلته الصين، ان تتراجع وأن تجد نفسها مرغمة على إعادة النظر ببعض مسلماتها وتخفيف ميلها إلى اتخاذ المواقف الأحادية حتى لو أدت إلى تغريب حلفائها وأصدقائها.



وقد عدد مراسل جريدة "السفير" في واشنطن هشام ملحم المجالات التي أخطأت فيها إدارة بوش عندما بعثت برسائل متشددة إلى الصين وروسيا، وضربت العراق، وتبنت بعض الطروحات الإسرائيلية، وصبت الماء البارد على محاولات كوريا الجنوبية استئناف الحوار مع كوريا الشمالية، وتخلت عن بروتوكول كيوتو حول البيئة، وأصرت على بناء شبكة دفاع صاروخي، وهي مواقف عارضها حلفاؤها في أوروبا.



وقد أعادت المواجهة الأمريكية ـ "البوشية" مع الصين إلى الأذهان، كما يقول المراسل، أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران خلال عهد الرئيس جيمي كارتر. ولم تسلم مواقف بوش من المزايدات اليمينية عليها، فمجلة "ويكلي ستاندر" وصفت التعامل مع الأزمة بأنه ألحق إهانة وطنية بالشعب الأمريكي وشكل استسلاماً للصين.



والأسئلة التي ترد الآن في الأذهان حول طريقة تعامل بوش مع الأحداث تقول إنه إذا كان الرئيس الأمريكي يقلل من أهمية السلام العربي ـ الإسرائيلي ومن أهمية المواجهة الدبلوماسية والإعلامية مع الصين، فما هي في نظره تُرى الأشياء المهمة التي تتوجه سياسته لمعالجتها؟ وهل يمكن القول إنه كان في هذه المواضيع أدعى للثقة بتوجهاته من كلينتون؟



حتى الآن لم يصدر عن الرئيس الأمريكي ما يُشعر الحكومات والشعوب بصحة الاختيارات التي اتخذها. فالواضح أنه لايزال مشغولاً بمعارضة سياسات سلفه ولم يصل إلى حد النجاح في طرح نهجه وسياساته المختلفة.



فكل ما قاله حتى الآن يندرج تحت كلمة "لا لسياسة كلينتون". أما سياسته هو فلم تبرز بعد بشكل واضح وايجابي ومباشر. لم يأت بعد زمن الحكم على نهجه، وهو الذي تسلّم السلطة في وقت قريب. ولذلك لا بد من إعطائه الوقت الكافي ليقول كلمته ويعمل عمله. بل ربما كان في اتخاذه موضوعي السلام العربي ـ الإسرائيلي، والصين مكاناً للمبارزة مع سلفه شيئاً من الشجاعة المثيرة لإعجاب بعض الأوساط. فهو على الأقل كسب صفة المبارز والشجاع والباحث عن شخصية خاصة وسياسة مستقلة.



غير أن هذا لا يكفي، إذ عليه أن يكون في مستوى التحدي الذي وضع نفسه تحت أضوائه. لقد اختار السلام العربي ـ الإسرائيلي واختار موضوع الصين ساحتين يفترق بهما ويتمايز عن كلينتون. فهل من سبيل آخر أمامه غير النجاح في هذين الموضوعين؟ وهل هو يملك في هذين الموضوعين السياسة السليمة والقدرات الكافية لتحقيق النجاح في أبرز قضيتين عالميتين، لا في رأي كلينتون وحده بل في رأيه هو أيضاً بلا شك، وفي رأي الناس عامة؟



إن الكثيرين من العرب، ولا سيما في بيئة الحكام والقادة، يعتبرون أن الحزب الجمهوري كان تقليدياً الأقرب إلى العرب ووجهات نظرهم، أو بالأحرى كان الأقل انبهاراً بإسرائيل بالمقارنة مع سائر الأميركيين.



كذلك ان نيكسون الجمهوري هو السياسي الأمريكي الأكثر فضلاً والأكثر تفهماً للصين، فهو أول رجل أمريكي من وزن سياسي كبير فتح باب العلاقات الصينية ـ الأمريكية على مصراعيه. بل إنه دخل التاريخ بهذا العمل.



وقد يكون بوش قال في نفسه ناظراً إلى موضوعي السلام في الشرق الأوسط والصين: ها أن هنا موضوعين سبق للجمهوريين أن كان لهم فيهما سجل، وذكر، فليكن منهما منطلقي في السياسة الخارجية.



غير أن هذا شيء، والنجاح في خطوات عملية وسياسات محكمة في الموضوعين شيء آخر.



وحتى الآن لا تزال السلبيات هي الطاغية. والوقائع لم تشهد بعد للرئيس الأمريكي الجديد بالاقتراب من دخول التاريخ من أبوابه العريضة. وقد يكون من الصعوبات التي تقف أمامه أن شخصية سلفه كانت من النوع الكاريزماتي الذي يميل الناس إلى استحسان إيجابياته والتساهل مع سلبياته.



لكن من الأكيد في كل حال أن شعوب العالم، ولا سيما الشعوب العربية والآسيوية تعتبر نفسها مستفيدة من دخول المواضيع التي تهمها في رأس جدول أعمال الرئيس الأمريكي. فلقد كان من المفارقات المفجعة أن لا تنزل مواضيع كموضوع السلام العادل في الشرق الأوسط، وكدور الصين، أكبر أمم العالم، في مكان جدي من اهتمام الدولة الأميركية الأكثر قوة والأكثر مسؤولية من دول العالم.