منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#54886
د. نادر فرجاني*


أبداً لم استحسن تعبير "الربيع العربي". فهذا التعبير المُترجم يوحي بأنّ المنطقة العربية تشهد فصلاً أو موسماً، زاهياً ومبهجاً، ولكنه قد ينقضي قريباً. والحق أنّ الوطن العربي بصدد عملية تاريخيّة طويلة، مركّبة ومعقّدة، تحتمل تسجيل الانتصارات، كما تحتمل التعثّر والتراجع، بل والانكسار. ولكن هذه العملية هي بلا أدنى شك علامة تاريخيّة فارقة للمنطقة، وربما للعالم كله، خاصّة لو نجحت انتفاضات المدّ التحرري العربي في نيل غاياتها في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية.


تمرّ بلدان عربية عديدة بمدٍّ تحرّري كاسح، يستهدف غايات الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع، ويقوم على انتفاضات شعبية مبهرة، غلب عليها اتباع أساليب سلميّة وراقية حضارياً، كان الشبيبة العرب المهمّشين في ظل الحكم التسلّطي، طليعتها، ونوار شهدائها ومصابيها من جراء محاولات قمعها بالعنف الخسيس. وقد اضطرّت أنظمة حكم استبدادية في خضم هذا المدّ الرائع، أو لتفادي اجتياحه لأراضيها، لإجتراح إصلاحات سياسيّة ماكان يمكن مجرّد التفكير فيها قبل انطلاق المدّ التحرّري العربي العظيم، مع الادّعاء بأن هذه الإصلاحات لا علاقة لها بالمدّ التحرري، ما ليس إلاّ اعترافاً مشوب بالإنكار. والأخطر أنّ الاستبداديات العربية لم تأل جهداً لإجهاض ثورات المدّ التحرّري العربي حتى لا تصل لنهاياتها المرغوبة شعبياً من إسقاط الحكم التسلّطي ومحاسبة قياداته على إفسادهم في الأرض، لا سيما تلك المتاخمة لها، وهذا كان سوء حظ اليمن على وجه الخصوص.

لم تشهد المنطقة، بل ربّما لم يشهد العالم أجمع، مثل هذا المدّ التحرّري الكاسح على مستوى منطقة برمّتها منذ عقود، حتى صارت المنطقة تذخر بانتفاضات شعبيّة، سلميّة وملهِمة، تتأسى بها حركات تحرريّة في جميع أنحاء العالم، من أمريكا إلى الصين مروراً بإنجلترا وإسرائيل وزيمبابوي.

وقد بلغ هذا المدّ حال كونه بدايات ثورة شعبيّة بكلّ معنى الكلمة على الحكم التسلّطي - حكم الفساد والاستبداد الذي جثم على صدور العرب طوال عقود الانحطاط والهوان الطويلة - على الأقل في بلدين عربيين في الشمال الإفريقي، تونس ومصر، في مطالع العام 2011 مسقطاً المتسلّط الأكبر في اثنين من أعتى النظم الاستبداديّة العربية وأطولها عمراً (طال عمرها إلى 23 و 32 عاماً متصلة، على الترتيب)، بمعدّل واحد كلّ شهر تقريباً منذ مطلع العام؛ وإن كان بدا بعد بضعة شهور من سقوط الطاغية المخلوع، أنّ تونس تتفوّق على مصر في صلاح ترتيبات التحوّل نحو الحكم الديمقراطي السليم، ويكفي هنا الاستشهاد بانتخاب لجنة تأسيسية لوضع الدستور الجديد قبل إجراء أيّ انتخابات أخرى، وتعيين حقوقيّ وزيراً للداخلية، في تونس، بينما بقي دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم في مصر ملتبساً ومشوباً بريّبة التحيّز للتيارات الإسلامية المتشدّدة، في ظل صفقة غير معلنة، طالما جرى إنكارها.

وحول منتصف العام نفسه كان المدّ التحرّري يكاد يبلغ مكانة الثورة الشعبية هذه في بلدٍ عربيّ ثالث يقع في الوسط بين مصر وتونس جغرافياً، وإن بتكلفة ضخمة، تقارب احتمال تقسيم البلد، نظراً لتعنت المتسلّط فاقد الصلة بالشعب وبالواقع على حدٍّ سواء، والذي استبدّ بالبلد أطول من أربعين عاماً، وما ينطوي عليه التدخّل الأجنبي، الذي استدعاه نزق الطاغية، ودعوة الجامعة العربية، وارتكاب الطاغيه جرائم ضد الإنسانية، من مخاطر.

وفي بلدٍ عربيّ رابع في جنوب غرب الجزيرة العربية، تكرّر المسار المأساوي نفسه، بعد أن استبد الطاغية المعاند، هو وعائلته، بالبلد أطول من ثلاثة عقود استدعت تمرّد الشعب. وهناك كرِّست الطبيعة القبلية واستشراء حمل السلاح احتمالات الحرب الأهليّة، خاصّة بعد أن نجح مجلس التعاون الخليجي، وللعار، بدعمٍ من "الديمقراطيات الغربية" والأمم المتحدة في صفقة سياسية كفلت إفلات الطاغية الذي قامت الثورة لإسقاط نظامه من المساءلة وعقد انتخابات شكليّة ضمنت استمرار نظام الفساد والاستبداد بقيادة الرجل الثاني فيه، ولكن بقيت جذوة الثورة متقدة، وزاد عليها الصراع بين معسكري الطاغية المخلوع وربيبه الرئيس الحالي.

وفي منتصف العام 2011 كذلك، كان نظام حكمٍ تسلّطي آخر في المشرق، من معسكر الممانعة والمقاومة، يستغلّ جيشه لا لدحر المحتلّ الجاثم على أرضه منذ العام 1973، ولكن لإخضاع شعبه الذي تمرّد هو الآخر على طول المعاناة. وقد امتدّ الصراع في سورية بسبب من تعقيدات الموقف الإقليمي والدولي بتكلفةٍ تقدر بآلاف الشهداء وعشرات آلاف المصابين والمعتقلين، ومئات ألوف اللاجئين.

وبسقوط الاستبداديّتين الثالثة (ليبيا) والرابعة (اليمن)، وبانتصار الثورة الشعبيّة في البلدان العربية الأربعة على احتمالات الثورة المضادة بواسطة فلول نظم الحكم التسلّطي الساقطة وأعداء الحريّة في الداخل وفي المحيطين الإقليمي والعالمي، كان يمكن أن تشكّل تونس ومصر وليبيا، "إقليم قاعدة" متصل جغرافياً لقيام نهضة إنسانيّة في الوطن العربي، بحيث يمثّل اليمن امتداداً لهذا الإقليم الخيّر في الجزيرة العربية. ولكن الصورة في نهايات العام 2012 أضحت أشد تعقيداً.

ومع ذلك يبقى الأمل في أنّه إن ما تتالى سقوط أنظمة الحكم التسلّطي في بلدان عربيّة أخرى في المشرق والمغرب العربي كليهما، فسيمهّد هذا التطوّر التاريخي لإقامة نهضة إنسانيّة في عموم الوطن العربي، ارتكازاً على إقليم قاعدة ممتدّ من المحيط في الغرب إلى الخليج في الشرق وبحر العرب في الجنوب، عبر تبلور المشهد المفتتح لمسيرة "الازدهار الإنسانيّ" حسب تقرير "التنمية الإنسانية العربية" الثالث الذي يفضي إلى "إقامة البنى القانونية والمؤسسيّة الكفيلة بإقامة الحكم الديمقراطي الصالح سبيلاً إلى التنمية الإنسانية" [1].

ويقوى هذا الإمكان بامتداد الثورة الشعبية التحررية أو آثارها إلى مشارق الوطن العربي ومغاربه، وليس هذا بالاحتمال البعيد. ومن حسن الطالع أن قامت بين الانتفاضات الشعبية الأربع (تونس، مصر، ليبيا، واليمن)، وبينها وبين إرهاصات انتفاضات شعبيّة في أقطار عربية أخرى (سورية، الجزائر والمغرب، كما الأردن والبحرين)، علاقات تقدير متبادل، ودعم متواتر، ولو عن بعد. فقد اندلعت تظاهرات الشباب في ليبيا واليمن بعد أقلّ من أسبوع من سقوط طاغية مصر في اليوم المشهود 11 شباط/فبراير 2011، وفي المغرب بعد عشرة أيام، ثم في البحرين، وحتّى في السعودية.

وفي الثلث الأخير من مارس 2011 بدأت انتفاضة شعب سورية تتأجّج في درعا في جنوب سورية، وتمتد خارجها إلى أرجاء البلد كافّة، كما تظاهر مئات في شرق السعودية، وانطلقت على "الفايسبوك" مجموعات تطالب بالإصلاح في دولة الإمارات، وقامت مظاهرات في صحار في عُمان أدّت لأن يُعفي "السلطان" جُل وزرائه.

في كل هذا ما يؤذّن باضطراد لانفراط عقد الحكم التسلطي في أرجاء الوطن العربي. ويستند هذا الحكم إلى التقدير، وقت الكتابة، بأنّ السهم قد نفذ، والوقت انقضى، بالنسبة لدولة الحكم التسلّطي في الوطن العربي، أو دولة "الثقب الأسود" حسب مصطلح "تقرير التنمية الإنسانية العربية" الثالث. على الرغم من بعض جيوب المقاومة التي ما فتئت تقاوم المصير المحتوم، ولو بارتكاب فظائع هي جرائم ضد الإنسانية يندى لها جبين أيّ إنسان له في الصدر فؤاد، كما في سورية حيث اطردت الحملة الباغية لسحق "التمرّد" و"المؤامرة" بالعنف المبالغ فيه، حيث كان عدد الشهداء والمصابين والمعتقلين يزداد بمعدلات مخيفة بسبب استعمال أسلحة الجيش، حتّى الثقيلة منها، والقناصة الذين يستهدفون المتظاهرين في الرؤوس والأعناق والصدور، ولا يرد عليها المتسلّط إلا بإقالة حكومة لا حول لها ولا قوة، والوعد بإصلاحات لا تأتي، أو إن أتت لا تستهدف إلاّ أن تجمِّل واقعاً قبيحاً، والتبجّح بدعم "الشعب" له، بينما ينفض عنه أركان نظامه باضطراد، ما يذكر بطاغية ليبيا الذي جمع بين جنون العظمة وإنكار الواقع ما جعل منه ظاهرة كونيّة فريدة، إلى أن قتل طريداً. وتحولت بدايات الثورة الشعبية السورية إلى أزمة دولية تحالفت الدبلوماسية الإقليمية والدولية العلنيّة، والتمويل الخفي الوفير لبعض أطرافها، إلى شبه حربٍ أهلية تحطّم البلد الرائع وتحوّل مئات آلاف من أهلها إلى لاجئين في ظروف مزرية يعاني أشد فظائعها المستضعفون من النساء والأطفال.

والمدهش حقّاً هو أن جميع الطغاة تحت الإسقاط ظلوا يرتكبون جميع الأخطاء التي ارتكبها سابقوهم إلى المصير المحتوم، ابتداءً من الإدعاء بأنّ البلد "ليست تونس"، بعد سقوط جلاّد تونس، أو "ليست تونس أو مصر" بعد سقوط طاغية مصر أيضاً، وكانت القائمة التي يجري التنصّل منها تطول كلما سقط طاغية آخر؛ ثم الإدعاء بأنّ الثوار مُضلّلِين أو مأجورين، ومقاومتهم بالعنف الباطش حتّى القنص المميت بالرصاص الحي في الرأس والعنق والصدر، مع التسويف والمماطلة في تحقيق مطالب المنتفضين حتّى تتصاعد المطالب إلى سقف "الرحيل"، تعبيراً مهذباً عن الخلع. بينما لم يبد أيّ منهم استيعاباً للدرس الواحد الأكيد: أن لا فكاك للمتسلّط متى ما ثار الشعب وصار محصناً ضد التدليس عليه ومحاولات تدجين ثورته [2]

إلاّ أن الموجة الأولى للثورة، حتّى وإن حققت نجاحات مبدئيّة، قد تتعرّض للاختطاف أو الإجهاض، ولو بواسطة من يدعون مناصرتها. والتاريخ يعلّمنا أن الثورات الشعبية تأتي على موجات. وإن انكسرت الموجة الأولى من الثورة الشعبية على شاطئ الاستبداد والفساد، فستلحقها تاليات.

وهكذا قد تفشل موجة ثوريّة من دون إفراغ الإمكان الثوري للشعب، وقد يفضي النجاح الأوليّ للثورة إلى حالة استعصاء ومغالبة. فقد تتعرض الثورة الشعبية، ولو بعد تحقيق انتصارها، للاختطاف أو الإجهاض، لاسيّما إن لم ينته الثوار إلى الإمساك بمقاليد الحكم مباشرةً. وتزيد فرص النجاح في هذه الحالة باستمرار اليقظة الثورية واطراد الفعل الثوري الضاغط على السلطة الانتقالية الحاكمة لضمان نيل غايات الثورة. إلاّ أن دخول حالة الاستعصاء هذه، لا يعني على الإطلاق أن الحراك التحرّري قد انتهى أو خاب من دون طائل.

فيقين الكاتب أن شعوب الوطن العربي هي علي منحنى ثوريّ تحرّري لن يتوقّف حتى نيل غايات المدّ التحرّري العربي في الحريّة والعدل والكرامة الإنسانية.

سمات المد التحرري العربي واحتمالات تطوره

أ‌- مراحل النزوع التحرري

من استقراء التاريخ العربي المعاصر، نقترح أن نميّز بين المراحل السبع التالية في إطار نظريّ أولي لعملية التحرّر في الوطن العربي، وربما في غيرها من بلدان العالم التي ترزح تحت نير الحكم التسلّطي. وليست هذه المراحل بالضرورة منفصلة تشريحياً، بل قد تتداخل حدودها. كما لا يوجد ضمان لأن يجري الانتقال من مرحلة لأخرى بسلاسة ويسر، بل أنّ هناك نقطة انكسار محتملة في وسط السلسلة يمكن، إن قامت، أن تعصف بباقي مراحل العملية التحرريّة وتفتح الباب على مسارات تعسة.

1- المرحلة الأولى: الركود أو الاستقرار القلق، مرحلة ما قبل الحراك التحرري

هي حالة من الاستقرار الشكلي، أشبه بالسكون عند مستوى متدنّ من الرفاه الإنساني. وهو استقرار مفروض على الشعوب بأشكال شتى من ممارسة القوّة، الناعمة (الرشى المالية في بلدان الوفرة، والإعلام المدار)، والعنيفة (أساساً البطش البوليسي).

هي إذاً حالة من الاستقرار تحت القهر المقيّد للحريات والحقوق الأساسية وباللجوء إلى البطش البوليسي عند اللزوم، وتقوم على الإفقار القصدي، من خلال تزاوج السلطة والثروة وسيادة الرأسمالية المنفلتة الاحتكارية، ممّا يؤدّي إلى استشراء البطالة والفقر وسوء توزيع السلطة والثروة، في بلدان الفاقة. بينما تدور في فلك تزاوج السلطة والثروة وتقييد الحقوق والحريات الأساسية وسيادة الرأسمالية المنفلتة الاحتكارية، مؤدياً إلى سوء توزيع السلطة والثروة، في بلدانٍ أخرى تنعم بالوفرة المالية.

ومع ذلك، عادة ما تتبجح أنظمة الحكم التسلّطي بالتفاخر بطول عهد مثل هذا "الاستقرار"، رغم أنّه يعني إضعاف الحيويّة السياسية وإجهاض الإمكان النهضويّ للشعوب، ناهيك عن معاناة أشكالٍ من انتهاك حقوق الإنسان، لا سيّما المدنية والسياسية.

وفي التشكيلة المجتمعيّة السابق الإشارة إليها يكمن جوهر آليّة إنتاج عدم الرضا بين غالبية الشعب تحت الحكم التسلّطي: ألا وهو ظلم التفاوت البّين في توزيع وجهيّ القوة: السلطة والثروة، يضاف إليه في بلدان العوز الإفقار المطرد للغالبيّة الساحقة من الناس، بما يهدّد الحد الأدنى من الوجود الإنساني الكريم لنسبة كبيرة من الشعب، مغذياً مزيجاً أشد سميّة من الفقر والقهر، مقارنة بظلم التفاوت وحده، رافداً لإمكان التململ التمرّدي على الحكم التسلطي.

في الظرف العربي الراهن أضعف مزيج الإفقار/القهر الذي تذيقه أنظمة الحكم التسلّطي للناس، في تقديري، من فعاليّة الدور التغييري المحتمل للفئة الوسطى. ويكاد يقضي على هذا الدور المحتمل سوءات المراكز الحضريّة الرئيسية في البلدان العربية من التكدّس والازدحام والتلوّث، التي تحدّ من فرص نجاح النشاطات الجمعيّة.

وعندي أنّ مسيرة الحرية/ النهضة في الوطن العربي لايمكن، ولا يجب، أن توكل إلى شريحة اجتماعيّة معينة دون غيرها. على العكس، أرى أن كلّ شريحة اجتماعية تضم عناصر فاعلة، خاصّة في أجيال الشباب، وأخرى خاملة، في منظور الحسّ الوطني والرغبة في النضال من أجل الحريّة، والقدرة على تجشّم مشاقه وتحمل تكاليفه.

ومن هنا فإن الطبقة العاملة والوسطى كليهما تعانيان من أزمة حادّة في الدور التغييري تكاد تجهز عليه. ويقوم على هذا الزعم دليلٌ قويّ من الاستقرار الطويل والكئيب لأنظمة الحكم التسلّطي العربية الفاشلة، إلاّ في البقاء في الحكم، عند مستوى منحطّ من الحرية والرفاه الإنساني لجميع البشر تقريباً في هذه البقعة من العالم، من خلال تحطيم البيئة الحاضنة لتبلور قوى التغيير في الطبقة العاملة وفي الفئة الوسطى كليهما. ومن ثم فإن الإمكان التحرّري الأكبر يسكن في نظري تحالفاً ينشأ رأسياً في منظور التقسيم الاجتماعي، بين العناصر الفاعلة في الشرائح الاجتماعية كافة. ويمكن أن يقوم الاستخدام الكفوء لتقانات المعلومات والاتصال الحديثة بدور الرابط عبر التقسيمات الرأسيّة للبنية الاجتماعية في أشكال من التنظيم الشبكيّ غير القاصر على الأشكال الهرميّة التراتبية التقليديّة. وفي حركة "كفاية" مثلاّ في مصر، خاصّة في بداياتها، مثال في تقديري على هذا التحالف عبر الطبقيّ، خاصّة بين الشباب، واستغلال تقانات المعلومات والاتصالات الحديثة كليهما. والتجسيد الأحدث لهذا التصوّر، ولعله الأهم في المنظور المستقبلي، هو حركة شباب 6 نيسان/إبريل، وعلى وجه الخصوص دورها المحوريّ في نجاح إضراب 6 نيسان/إبريل 2008، وبزوغ حيوية سياسيّة جديدة مبشرة بكثير أمل لأجيال الشباب في مصر [3].

وقد أكّدت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر، ثم ليبيا واليمن وسورية، كما في بعض بلدان الخليج والجزيرة العربية، بالإضافة إلى الأردن والمغرب صحّة هذا النموذج وفعاليته.

2- التململ التحرري

تعبِّر هذه المرحلة الثانية عن بدء تبلور الشعور بعدم الرضا الشعبي وتنطوي على وجود إمكانٍ احتجاجيّ، ولو جنينيّ. وعادة يأخذ فعل التململ الشعبيّ أشكال التعبير النقديّ في حدود القنوات المسوح بها من تجمّعات شعبية (المساجد، أو الديوانيات في دول الخليج مثلاً) أو وسائل الإعلام القائمة، وكتابة العرائض والتظلّمات للسلطات الحاكمة في البلدان الأقل انفتاحاً. وقد يتصاعد التعبير عن عدم الرضا لحدّ المناداة بأشكال من الفعل الاحتجاجيّ عبر تقانات المعلوماتية والاتصالات الحديثة وبدء ظهور أشكال جنينيّة من التظاهر والإضراب والاعتصام.

3- الحراك التحرري

وتتضمن هذه المرحلة الثالثة، تبلور أشكال من الفعل الاحتجاجي على الحكم التسلّطي وجرائره، مثل التظاهر والإضراب والاعتصام وإن بدأت جنينية ما تلبث أن تتصاعد ويتسع نطاقها. وفي العصر الراهن تستعمل تقانات المعلوماتية والاتصالات الحديثة في الدعوة إلى اشكال الفعل الاحتجاجي، وضمان التئامها وتواصلها [4].

4- الانتفاضة الشعبية، مرحلة الحسم

وفي هذه المرحلة الرابعة، يتصاعد الفعل الاحتجاجي ويستمرّ، ولو بصورة متقطّعة، عبر فترة ممتدّة من الزمن، مما يستدعي ردّ فعل من السلطات الحاكمة، غالباً قمعيّ ولكن تهوينيّ في الوقت نفسه.

وقد تتأجج الانتفاضة إلى مكانة بداية "ثورة شعبية"، بتصاعدها واتساع نطاقها ما يؤدّي إلى تحقيق بعض أهداف أساسيّة لها، أخذت في التجارب العربية صورة إسقاط الطاغية المتسلّط الأكبر من على سدة الحكم، هروباً أو تخلياً. ولكن قد تفضي هذه المرحلة إلى إنكسار المدّ التحرريّ، ولو إلى حين، بل وتحوّله إلى صنف من الحرب الأهليّة المدمرة، ولو كانت منخفضة الحدّة. وقد أشرنا فيما سبق إلى وقوع ثلاث من الانتفاضات الشعبية، ليببا، اليمن، وسورية، في فخ الاستعصاء هذا.

ومن الغريب أن أساطين الحكم التسلّطي يميلون جميعاً للتصرّف بالطريقة ذاتها (من اتهام قوى الثورة الشعبية بأنّها مأجورة وتعمل لصالح قوى خارجية، ومواجهتها بالقمع المفرط الباطش، أو بالمماطلة المتنطّعة) وكأنهم يتعلمون من بعضهم أو ارتادوا مدرسة واحدة للطغاة، ولكنهم يفشلون جميعاً في تعلم الدرس الأهمّ لمن سبقوهم من الطغاة الساقطين، أنّ الثورات الشعبية تنفخ في الشعوب روحاً مناضلة جديدة وعزيمة لا تلين، وتصهرهم في وحدة صافية ورائقة لا تتطّلع إلا للحرية والعدل والكرامة الإنسانية، ويصعب، من ثمّ، خداعها ولا يجدي معها التسويف أو المماطلة، اللذان يستدعيان عادة رفع سقف مطالب الثورة الشعبية.

5- بداية نجاح الثورة الشعبية بإسقاط رموز النظام الحاكم

تتصاعد نشاطات الانتفاضة الشعبية في هذه المرحلة الخامسة، وتمتدّ في الزمن، مستدعية مشاركة دوائر أوسع من الشعب، ولو بمجرّد المناصرة والدعم، وتصير مؤهّلة، من ثمّ، لوصف الثورة الشعبية. ويسهم عنف الردّ القمعي للسلطة، لا سيما في حال وقوع ضحايا بين المحتجّين، وتجاهل الاحتجاجات ومطالبها المشروعة مع التركيز على قمعها من خلال البطش الأمنيّ والتسويف في تنفيذ الإصلاحات التي يطالب بها المحتجّون، في تأجيج وتيرة الفعل الانتفاضي واتساعه.

وفي الخبرة العربية، تجني الثورة الشعبية أولى ثمارها بإسقاط رأس نظام الحكم التسلّطي، هرباً أو تنحياً عن السلطة. وبهذا يمكن الحديث عن بداية ثورة شعبية تسعى لأن تكتمل بإسقاط نظام الحكم التسلّطي، أي البنى القانونيّة والمؤسسيّة التي قام عليها، وإقامة نسق حكم ديمقراطي صالح يستهدف نقض إرث الحكم التسلّطي ونيل غايات الثورة.

ولكن قد يفضي النجاح الأولي للثورة إلى حالة استعصاء ومغالبة؛ وقد تتعرض الثورة الشعبية، ولو بعد تحقيق انتصارات أوليّة، للاختطاف أو الإجهاض، لاسيّما إن لم ينته الثوار إلى الإمساك بمقاليد الحكم مباشرة. وتزيد فرص النجاح في هذه الحالة باستمرار اليقظة الثورية واطراد الفعل الثوريّ الضاغط على السلطة الانتقالية الحاكمة لضمان نيل غايات الثورة.

إمكان الإصلاح الجاد، الشامل والعميق، بقيادة نظام حكم قائم

لكن قد ينزع نظام حكم قائم إلى بدء عملية منظّمة تستهدف إصلاح منظومة الحكم، لتحقيق غايات الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية، بقيادة السلطة القائمة. وقد يسهم قيام حراك تحرريّ شعبيّ في الإسراع بعملية الإصلاح هذه.

والمثلان الأهم على محاولة هذا الصنف من الإصلاح هما المغرب والأردن اللتان بدأتا عملية إصلاح سياسيّ صوب ملكية دستورية، وإن كانت المغرب تتحرّك بسرعة أعلى وعلى نطاق إصلاح أشمل، لاسيّما على صورة الإصلاح الدستوريّ الذي أكّد على احترام الحقوق والحريات وتقوية السلطة الشعبية والتنفيذية، والانتخابات النزيهة التي عقدت في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 وأفرزت تداولاً واضحاً على السلطة التنفيذية. وكما في حالة الانتفاضة الشعبية، يتعيّن على القوى الحيّة في مثل هذه البلدان العمل على ضمان أن يكون الإصلاح شاملاً، جاداً وعميقاً، حيث تزيد فرص النجاح في هذه الحالة باستمرار اليقظة الثوريّة واطراد الفعل الثوري الضاغط على السلطة الحاكمة.

6- التحوّل نحو الحكم الديمقراطي الصالح

يمرّ نيل غايات المدّ التحرري عادة، في هذه المرحلة السادسة، عبر الخطوات التالية:

• وضع دستور يضمن الحقوق والحريات الأساسية للجميع ويؤسّس للحكم الديمقراطي الصالح عبر انتخابات حرّة ونزيهة، بما في ذلك الاستقلال التام للقضاء وضمانات النزاهة في العمل العام. • انتخاب مجلس تشريعي ورقابي مركزي في انتخابات حرة ونزيهة. • انتخاب مجالس تشريعية ورقابية على المستوى المحلي في انتخابات حرة ونزيهة. • انتخاب المسؤولين التنفيذيين على المستوى المركزي في انتخابات حرة ونزيهة. • انتخاب المسؤولين التنفيذيين على المستوى المحلي في انتخابات حرة ونزيهة,

7- الاستقرار الخير، في ظل الحرية والعدل، ما يؤدي إلى تأسيس مسار النهضة الإنسانية من خلال الحكم الديمقراطي الصالح والإصلاح المجتمعي.

ركزنا فيما سبق على التغيير والإصلاح في البنية القانونية والسياسية للسلطة في البلدان العربية، ونعتبره المدخل الرئيس، إن لم يكن الوحيد، لبداية مسار تاريخي للنهوض في الوطن العربي. غير أنّ هذا لا يعني أن البلدان العربية ستتحوّل إلى مجتمعات متقدّمة فور إنجاز التغيير المرغوب على بنية السلطة، فقد أفسدت أنظمة الحكم التسلّطي، من بين ما أفسدت، جميع مناحي النشاط المجتمعي، في الإنتاج والخدمات العامة، خاصّة تلك المُمكِّنة من اكتساب القدرات البشرية الأساسيّة مثل الصحة والتعليم وشبكات الأمان الاجتماعي، ناهيك عن خنق المجال العام، وتعطيل دوره الحيوي لممارسة الحريات المفتاح للرأي والتعبير والتنظيم، والذي يفترض أن يتسع فسيحاً بإنجاز التغيير تجاه مجتمع الحرية والحكم الديمقراطي الصالح.

والأمل أن إنجاز التحول نحو مجتمع الحريّة والحكم الديمقراطي الصالح سيتيح مناخاً مجتمعياً، وبنية مؤسسيّة، مواتية لنشر توجهات الإصلاح في عموم الجتمعات العربية، مضمون هذه المرحلة السابعة، بما يمكن أن يساعد على القضاء على مثالب الحكم التسلّطي الممتدّ في مجمل المؤسسات المجتمعية.

ويبقى العمل الشعبي الوطنيّ من أجل إصلاح ما أفسده الحكم التسلطي في عموم المجتمعات العربية، مطلوباّ بإلحاح حتّى وإن تعثر مسار التغيير والإصلاح الهادف لتأسيس مجتمع الحرية والحكم الصالح، في منظور تحسين نوعيّة الحياة والإقلال من التعاسة التي يجرّها الحكم التسلطي.

في جميع الأحوال، يتوخّى العمل الشعبيّ الوطني أن تتميّز المؤسسات المجتمعية كافّة، وفي مجال الإنتاج والخدمات خاصة، بالكفاءة ومعايير الحكم الصالح التي تضمّ التمثيل الواسع في الملكيّة والإدارة، والشفافيّة والإفصاح والمساءلة، بما يصون الصالح العام والمسؤولية المجتمعية.

ومن أجل هذه الغاية النبيلة المكملة للتحول نحو مجتمع الحريّة والحكم الصالح، أو لتقليل الشقاء الإنساني، في حال بقاؤه، يتعيّن أن تنشأ قوى شعبية تعمل من أجل التغيير والإصلاح في عموم المجتمعات العربية تحكمها المعايير نفسها، وتمتشق أدوات التغيير، التي ناقشنا فيما سبق. وتقديرنا أن تقانات المعلومات والاتصالات الحديثة يمكن أن تلعب دوراً مهمّاً في قيام وفعاليّة نشاط هذه القوى.



* أستاذ في جامعة القاهرة، رئيس مركز المشكاة، ورئيس فريق تحرير "تقرير التنمية البشرية العربيّ"، الذي صدر عام 2005 عن برنامج التنمية التابعة للأمم المتحدة UNDP.