السياسة العثمانية تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر
مرسل: الأحد نوفمبر 11, 2012 10:07 pm
في فصول الكتابات التاريخية بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 تبرز دائماً مقاومة الشعب الجزائري منذ الوهلة الأولى لوطء أقدام الفرنسيين للبلاد ، وإن كان هذا الأمر واجباً وطنياً ودينياً ولا يستحق عليه الثناء.
ولما كانت الجزائر حينها تحت سلطة الدولة العثمانية وجدنا أنه من الضروري أن نبحث ونعرف : كيف كان رد فعل الدولة العثمانية على اغتصاب عروس البحر المتوسط ؟ وماهي الأساليب التي اعتمدتها لاسترادد الجزائر؟ ولماذا سلّمت بعد ذلك بالاحتلال الفرنسي للجزائر وكفّت عن المطالبة بها، فكانت بذلك الجزائر كبش الفداء في استمرار الرجل المريض عقوداً قليلة من الزمان ؟ ولكن قد نفذت ثروته قبل مماته !
التواجد العثماني بالجزائر
أعلنت الجزائر كمقاطعة للسلطان العثماني منذ 1520ميلادية ، ويعود الفضل لذلك إلى الأخويين التركيين « خير الدين وعروج بربروس » ، وكانا قد غادرا بلادهما للقرصنة في المنطقة الغربية من البحر المتوسط ، وفي تلك الفترة كانت السواحل الجنوبية للمتوسط تحت سيطرة الإسبان والبرتغاليين وأدى هذا الأمر إلى اصطادمهما بالأخوين برباروس . وشهدت منطقة تلمسان عدة معارك بين الطرفيين وانتهت بموت « عروج » في إحدى هذه المعارك وأصبح بذلك خير الدين الحاكم الوحيد للجزائر.
وتيقن هذا الأخير أنه لن يستطيع حكم البلاد بمفرده لذا فالتجأ للدولة العثمانية وأعلن أن الجزائر مقاطعة للسلطان سنة 1520م.
وأرسل له السلطان سليم الأول ألفي عسكري مسلحين مع قوة مدفعية وقدم للذين يذهبون إلى الجزائر متطوعين امتيازات الإنكشارييين ، وتوالت انتصارات خير الدين بالجزائر وكان أعظمها احتلال قلعة « بينون » عام 1529 والتي أنشأها الإسبان على جزيرة صغيرة قرب السواحل الجزائرية.
كما بنى خيرُ الدين كاسرة أمواج توصل أطلال القلعة والجزيرة بالساحل وبذلك أوجد ميناءً حصيناً وأسس أوجاق الجزائر.
وقد أسَرَ هذا النجاح الدولة العثمانية التي قامت باستدعاء خير الدين برباروس من طرف السلطان سليمان القانوني سنة 1533 ، وهناك عهدت إليه ولاية الجزائر ونال رتبة وزير البحرية العثماني.
وفي الأستانة قام خير الدين ببناء عدة سفن عادت به إلى أفريقيا وقد حددت مهمته باحتلال تونس. وتمكن خير الدين من دخول مدينة تونس بسهولة عام 1534م ، ولكنه اصطدم فيما بعد بشارل الخامس إمبراطور هابسبورج وصاحب تاج إسبانيا سنة 1535 والذي احتل قواته مدينة تونس.
أما الجزائر فقد عين لولايتها ابن خير الدين حسن باشا وذلك على إثر وفاة أبيه عام 1546، والملاحظ أنه في هذا العهد وعهد من لحقوه أن الارتباط كان قوياً بالدولة العثمانية ، ولم يكن هذا الحال في الجزائر فحسب بل في معظم بلاد شمال أفريقيا ، وأعني بذلك تونس باحتلالها نهائياً عام 1574 بعد كر وفر مع الإسبان ، وطرابلس الغرب التي فتحت عام 1551 بيد توغرت باشا ، ورغم محاولات الدخول لمراكش كتلك التي حدثت عام 1554 بدخول مدينة فاس ، لكن العثمانين لم يتمكنوا من البقاء هناك.
وهذه الولايات كانت تابعة لسلطة وزير الحربية أو القائد العام للأسطول وكان حينها القائد كلج علي باشا. ولكن بموت هذا الأخير فكر العثمانيون في تأمين وحدة الدولة وذلك بفصل إدارة أوجاق الغرب بتعيين واليين مختلفين حتى تضمن أن لا تكون سلطة كاملة لشمال أفريقيا بيد قائد واحد.
واتخذ بذلك الحكم في الجزائر شكلاً ثالثاً.
عهد الدايات
ويقول الكاتب التركي الدكتور أوجمند كور أن السياسة العثمانية تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر « في عهد الدايات البشاوات أخذت ولاية الجزائر شكلها الأخير وصار يوجد في المركز إلى جانب الولاية ديوان هو عبارة عن مجلس للشورى وكان أهم أعضائه المتألف من خمس موظفين هو المسئول عن الخزينة والناظر لشوون المالية ، ويأتي بعده المكلف بالشؤون البحرية ، و يسمى وزير البحرية . وكان يقوم بمهمة كتابة الديوان أربعة كُتَّاب . أما الشؤون الشرعية فكان ينظر فيها مفتيان أحدهما حنفي والآخر مالكي ، لأن الأتراك حنفيون أما الأهالي فمالكيون .
ثم إن الولاية قسمت إلى ثلاثة ألوية بالإضافة إلى اللواء المركزي ، وكان يوجد على رأس كل واحد من هذه الألوية الشرقية والجنوبية والغربية ما يُسمَّى بالباي ، وكانوا يدفعون الضرائب ، ولكنهم يعدّون مستقلين في إدارة ألويتهم. أما اللواء فقد انقسم إلى قواد ومشايخ وكانوا مستقلين في إدارة ألويتهم . أما اللواء فقد انقسم إلى قواد ومشايخ . وكان الإنكشاريون الذين ملأ قسم كبير منهم المركز موجودين أيضاً في الألوية .
أما أمن البلاد في الداخل فكان تؤمنه القبائل المعفاة من الضرائب والمتمتعة بالامتيازات ، إذ كانت وظيفة هذه القبائل المسماة بالمخزن هي فرض الطاعة على القبائل الأخرى الملزمة بدفع الضرائب ، وقد استفاد الأتراك بمهارة من العداوة التي بين القبائل ؛ ولكي يستطيعوا أن يتابعوا حكم الأهالي فقد انتهجوا سياسة التعامل بالحسنى مع المرابطين الذين يعدون من الأولياء وهم أصحاب النفوذ.
ومن الأمور التي راعاها الأتراك في ولاية الجزائر أنهم كانوا لا يولون مواليد الإنكشاريين من النساء المواطنات المناصب العليا وكانوا يطلقون عليهم أبناء العبيد أي « الكراغلة » وهم يشكلون القوة المدفعية للأوجاق.
وفي أوائل القرن التاسع عشر صارت تبعية ولاية الجزائر للدولة العثمانية عبارة عن تصديق السلطان لتولية الداي كل سنتين أو ثلاث والتحاق سفن الأوجاق بالأسطول العثماني كلما تطلب الأمر ذلك. وغير هذا فقد كان أوجاق الجزائر يجلبون جنوداً أتراكاً من جزر البحر المتوسط ومن الأناضول بما في ذلك الإنكشاريين ، وربح الولاة الحرية لدرجة أنهم يستطيعون توقيع المعاهدات مع الدول الأجنبية مباشرة .
وكانت معظم المعاهدات التي عقدها أوجاق الجزائر تمضى مع دول صغرى فكان يقوم صلح لمدة معينة مقابل ضريبة سنوية تدفع للأوجاق.
العلاقات الفرنسية الجزائرية قبل الاحتلال
حسب الكتب والمراجع التاريخية ، فإن علاقات الصداقة بين فرنسا و الدولة العثمانية قد بدأت منذ السنوات الأولى لخلافة سليمان القانوني،فكانت بالتالي هذه العلاقة تفرض على الجزائر نفس الشيء بما أنها ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية.
ومازاد في توطيد هذه الصداقة هو العدواة المشتركة للإسبان ، قد تم تحالف بين فرنسا وخير الدين بارباروس في حصار قلعة نيس سنة 1543 التابعة للإمبراطور شارل الخامس.
واستغل الفرنسيون هذه الصداقة أيما استغلال فقد تمكنوا من تعيين قنصل لهم في الجزائر عام 1577 .كما حصلوا على إذن من السلطان أيصا بالسماح لهم باصطياد المرجان في السواحل الشرقية للبلاد بشرط أن يدفعوا الضريبة ولا ينشؤا قلعة، ولكن رغم هذا المنع فقد أسسوا مركزاً تجارياً أسموه «الباستيون».
وفي سنة 1604 عم الجزائر قحط ، لكن الفرنسيين قاموا بشراء المحصول الزراعي من الأهالي وباعوه خارج البلاد للأوروبين ، وهذا الأمر كان سبباً في غضب العثمانيين الذين أمروا بهدم الباستيون. وقد أعيد بناؤه ثانية عام 1628 وهدم مرة أخرى بعد تسع سنوات بسسب تردي العلاقات بين الجانبين. ولكن الوالي عام 1640 اضطر لقبول إعادة بناء هذا المركز .
وكان الباستيون يُدار من قبل شركة فرنسية خاصة ، وتم تأسيس عام 1741 شركة رسمية لإدارة أشغاله تعرف باسم «الشركة الملكية لأفريقيا» ، وحققت الشركة أرباحا طائلة ولكن بعد الثورة الفرنسية 1789 استمرت الشركة في عملها باسم «الوكالة الأفريقية» تحت إدارة تجار مرسيليا.
بين المواجهة العسكرية والمعاهدات السلمية
وقعت مواجهة عسكرية بين فرنسا والجزائر في عهد لويس الرابع عشر في النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث قام بإرسال الأسطول الفرنسي للجزائر للحد من القرصنة في البحر المتوسط وضربت المدينة بالمدفعية ثلاث مرات . ولما لم تجد سياسة القوة تم عقد معاهدة صلح مع والي الجزائر في 1689.
ولكن بعد الحملة الفرنسية لمصر بقيادة بونابرت في 1798 أُكره والي الجزائر على إعلان الحرب على فرنسا بعد إنذار شديد من السلطان وقطع علاقاته مع فرنسا. لكن بعد تصالح العثمانيين مع الفرنسيين عادت الجزائر وأبرمت معاهدة صداقة مع فرنسا عام 1801 التي لم تسلم هي الأخرى من تقلبات السياسة. إذ صادف في عهد نابليون أن انتصرت انجلترا على فرنسا في معركة الطرف الأغر وبسطت بذلك نفوذها على البحر الأبيض المتوسط سنة 1805، فاستولى والي الجزائر على مراكز التجارة الفرنسية وأجَّرها للإنجليز وأثار هذا التصرف نابليون فبدأ يخطط للإستلاء على الجزائر فعقد مع امبراطور روسيا معاهدة «تلسيت» 1807 وأمن أوروبا من جهة ، وبدأ بتنفيذ خطته فأمر وزير الحربية بإيفاد ضابط استحكام ليقوم بجمع كل المعلومات عن مدينة الجزائر وما جاورها. وقام الضابط «بوتان» بذلك ليعود في 1808 وقد قدم تقريراً منفصلاً عن الجزائر، لكن الأوضاع لم تمهل نابليون للقيام بما أراد. ولما قامت الملكية من جديد في فرنسا جددت فرنسا علاقاتها مع الجزائر وأعيدت المراكز التجارية للفرنسيين عام 1817.
وهذه القضية - أي قضية المراكز التجارية - كان دائماً سبباً لنشوء الخلاف بين الجانبين الجزائري والفرنسي.
القطيعة والاحتلال
بعد الثورة الفرنسية عام 1789 استطاعت فرنسا أن تضمن ما تحتاجه المقاطعات الجنوبية من قمح وحبوب من الجزائر ذلك لأنها كانت في حالة حرب مع العديد من دول أوروبا، وقد تمت هذه الصفقات بواسطة تاجريين هما «بكري» و«بوشناق» ، وهذان الشخصان هما يهوديان من مدينة «ليفرونة» الإيطالية وقد استقرا في الجزائر بتأسيس شركة للتجارة. وفي عام 1797 طلبت شركة «بكري وبوشناق» ديونها من الحكومة الفرنسية التي لم تقم سوى بدفع قسطين فقط.
وعن هذه النقطة يقول الكاتب التركي «أرجمند كوزان» : «إن كون أوجاق الجزائر دائناً للتجار اليهود جعل الوالي يطلب من الحكومة الفرنسية تصفية حساباتها معها. وفي النهاية دققت الحكومة الفرنسية بواسطة لجنة في ديون اليهوديين ، وأغلقت الحساب بسند مؤرخ في سنة 1819 ، ولكن الحكومة الفرنسية وضعت يدها على قسم من النقود التي ستعطى للتجار اليهود معتمدة على مادة في السند ، ذلك أن التجار اليهود كانت عليهم ديون لفرنسيين كانوا قد التجأوا إلى المحكمة.، وصرحت شركة بكري وبوشناق للوالي حسن باشا المطالب بديون الأوجاق بأنها مفلسة وأنها لا تستطيع أن تدفع دينها إلا بعد أن تحصل على المبلغ الذي صودر في فرنسا. وفي كل مرة يسأل فيها حسين باشا قنصل فرنسا «دوفال» عن سبب عدم استطاعة التجار اليهود أخذ نقودهم كاملة ، كان القنصل الفرنسي يجيب أن ذلك يتطلب إنهاء الدعاوي التي ينظر فيها في المحاكم . ولما لم تنته هذه الدعاوي رغم مرور سنوات كثيرة ابتدأ حسين باشا يشك في نية فرنسا . وزيادة على ذلك ، فقد كان القنصل دوفال شخصاً لا يوثق به.
أرسل حسين باشا ثلاث رسائل إلى الحكومة الفرنسية بشأن دين الشركة منذ 1824، وعندما لم يأت جواب على أي منها غضب غضباً شديداً على فرنسا ، وبعدها بقليل علم حين باشا بأن الباستيون قد تسلح رغم وعد الشرف الذي قطعه دوفال بشأن عدم تحصين المراكز التجارية الفرنسية، فزاد هذا الخبر من غضب الباشا.
وفي 29 أفريل 1827 سأل داي الجزائر القنصلَ دوفال - الذي قَدِم للتهنئة بالعيد - عن سبب عدم رد الحكومة الفرنسية على رسائله وعلى إثر قول القنصل : « إن ملك فرنسا وشعبها لا يحرران لك ورقة، ولا يرسلان رداً حتى على رسائلك المرسلة » نهض من مكانه محتداً وضرب مخاطبه بالمروحة التي كانت بيده مرتين أو ثلاثاً . وتحقير حسين باشا للقنصل دوفال بهذا الشكل جعل فرنسا غير ملتزمة بأي قيد.
أرسلت فرنسا أسطولها الحربي إلى الجزائر بعد شهر ونصف من الحادثة التي اتخذت اسم حادثة المروحة بعد ذلك واتخذتها حجة لإعلان الحرب. وطلب هذا الأسطول الذي رسا أمام الجزائر الترضية من حسين باشا ، وهذا الأخير كان يجد نفسه محقاً فيما حدث له مع القنصل . ودخلت الجزائر بذلك مع فرنسا في حالة حرب منذ 16 جوان / حزيران 1827 وحوصرت مدينة الجزائر بحراً. كما تم إرسال جيش كبير لاحتلال الجزائر عام 1830 . ويذهب المؤرخين لاعتبار هذا الأمر وسيلة من رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك «برنس دو بو لينياك» لإشغال الشعب الفرنسي بها بعد تنفيذه لقرارات الملك شارل العاشر بحل مجلس النواب والتضييق على الصحافة.
كما يرى الدكتور خليل الزركاني أن الدولة العثمانية أو الرجل المريض لم تكن تنوي أن تحشر رأيها في قضية الجزائر لأنها كانت منهكة في إخماد ما يحدث في جزيرة مورا ، وكذا خسارتها في معركة نافارين عام 1827.ودخولها الحرب مع روسا بعد ذلك بقليل ، فهذه الظروف لم تدع لها مجالاً حقيقياً للاهتمام بالقضية الجزائرية.
ولذا فإن الموقف الفعلي للدولة العثمانية هو عدم التدخل في الخلاف الناشب بين فرنسا والجزائر، خاصة بعد كتابة السفير الفرنسي للباب العالي في اسطنبول يدعوه لواجب تدخل الدولة العثمانية لتأديب والي الجزائر، وحيث أن الداي قد زاد في تعدّياته السالفة بتحقير قنصل فرنسا في الجزائر ، فإن جناب ملك فرنسا اضطر لطلب ترضية علنية مهدداً بإعلان الحرب في حالة رفض طلبه ، وحيث أن طلبه رفض وعليه فالحرب محققة.
وقد حاولت الدولة العثمانية إيقاف الحملة الفرنسية ضد الجزائر بإيضاحها عن طريق الباب العالي أن التدابير التي اقترحها السفير الفرنسي لحل النزاع الناشب بين فرنسا والجزائر ليس مناسبا ، كما أنها أرسلت عام 1829 مبعوثاً إلى الجزائر كانت مهمته أن ينبه والي الجزائر حسين باشا أن يظل محايداً في النزاع بين النمسا ومراكش من جهة ، ويسعى لتأمين التفاهم بين فرنسا و والي الجزائر من جهة أخرى ، لكن محاولته باءت بالفشل.
ورغم محاولات الدولة العثمانية لسلوك الطريق الديبلوماسي لكن الحكومة الفرنسية كانت مقتنعة بأنها لن تصل إلى نتيجة ما بحصارها البحري لمدينة الجزائر ، وكانت تخطط لتأديب والي الجزائر بواسطة محمد علي باشا الذي كان يستطيع استعمال جيشه لاحتلال الجزائر بدلاً من استعماله لضم سوريا ، كما كان يسعى. وقد تناهت لأسماع الباب العالي أنباء عن اتفاقية من هذا النوع بين محمد علي والفرنسيين لكنه ردّ أن هذه الرواية لا أساس لها من الصحة وأنه - أي والي مصر - قد صرّح لقنصل فرنسا : «أنتم مسيحيون ، أما نحن والجزائرييون مسلمون ، ونحن ذو أمة وشريعة ودولة واحدة، لا يتلاءم مع ديننا ودينكم ».
جهود العثمانيين لاسترداد الجزائر
أبلغت الدولة العثمانية من خلال السفارة الفرنسية في اسطنبول باحتلال الجزائر ، ولكن حسب الكتب ، فإنها تصرفت ببطء في إعطاء رد فعل بعد أن تواردت أخبار لديها بحدوث انقلاب في فرنسا وتواطؤ فرنسا مع إنجلترا بشأن قضية الجزائر. ولكن من جانب آخر ، لم تصدر اعترضات الدولة العثمانية على احتلال الجزائر.
وقد طلبت الدولة العثمانية من فرنسا أن تعيد الجزائر التي هي ولاية تابعة لها ، وأضافت أن المعاهدات المعقودة بين البلدين ينبغي أن تكون نافذة المفعول ، وقد أجابت فرنسا على مطالب الدولة العثمانية بأن لا حقَّ لها في الجزائر ، ولكن الباب العالي قد أكد حقه في الجزائر في مذكرة بتاريخ 13 ماي / أيار 1831 قدمت للسفير الفرنسي باسطنبول تبين فيها حقوق الدولة العثمانية في الجزائر:«بموجب المواثيق والأحكام المرعية بين الدولة العلية والدول الصديقة منذ القديم ، فإن حقوق الدولة السنية بالجزائر ثابتة في جميع الأزمان للدولة العلية ». وفي نهاية المذكرة كرر الباب العالي طلب استرداد الجزائر: «لما كان استرجاع البلاد المذكورة بكامل حكومتها واستقلالها لجانب الدولة العلية طلباً عالياً، فإن الشرط المذكور في المذكرة التي قدمها السفير المومأ إليه كافٍ في نفس الأمر لتحقيق ذلك ولا حاجة قطعاً لسائر القيود والشروط المختلفة ، باستثناء المواد المتعلقة بشأن القرصنة والناشئة من تكفلها لتلك الشروط في معاهدات الصفاء المعقودة بين الدول ». لكن بقيت هذه المذكرة بدون رد من الحكومة الفرنسية في الوقت الذي ركز الباب العالي اهتمامه أيضا بعصيان محمد علي باشا والي مصر.
وكان من عادة العثمانيين أن تجرى في اليوم الأول من عيد الفطر كل سنة توجيهات الوظائف العالية والتوليات . وفي سنة 1828 كتبت الجزائر في دفتر التوجيهات ولكن اسم الوالي كان شاغراً. وكتب الباب العالي في جريد «تقويم وقايع» في 07 مارس / آذار 1832 : « لما كانت ولاية الجزائر موعوداً بردها لطرف الدولة العلية عندما طلبناها ، فسينظر بمقتضاه عند التنظيم » .
أما عن تحركات الدولة العثمانية في أوروبا لكسب تأييد لهذه القضية فقد طلبت من إنجلترا عام 1834 مساعدتها في استرداد الجزائر ، لكن وزير الخارجية الإنجليزي قد أفصح برأيه بأنه لا يستطيع أن يقول لفرنسا شيئا بشأن قضية استرداد الجزائر. وفي نفس السنة تقابل السفير العثماني مع وزير الخارجية الفرنسي بشأن قضية الجزائر لكنه أجاب أن فرنسا لن تتخلى عن الجزائر .
وهكذا كللت كل المحاولات العثمانية بالفشل ، مع وضوح الموقف الإنجليزي والروسي في استرداد الجزائر من فرنسا.
محاولات استعمال القوة
بعد أن تأكدت الدولة العثمانية من فشل الطرق الديبلوماسية ، خاصة بعد أن رفضت فرنسا المذكرة التي قدمها العثمانيون عام 1835 تثبت حقها في الجزائر ، رأت أن تسلك درباً أخر ، خاصة وأن ما شجعها على إمكانية استعمال القوة هو حسم الخلاف الرئاسي في طرابلس الغرب ، إذ اجتمعت طرابلس الغرب كولاية عادية خاضعة للدولة العثمانية ، وقد أصبحت بذلك قريبة من الجزائر ، وأصبح بذلك الباب العالي قادراً على التدخل الفعلي ، كما يمكنه أن يربط ولاية تونس الفاصلة بين طرابلس الغرب والجزائر. ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل ولم يقدم الباب العالي على التفكير بدعم «أحمد باي» من طرابلس الغرب بالطريق البري للدفاع عن قسنطينة في وجه الزحف الفرنسي القادم لاحتلالها ، خاصة وأن أهل المدينة بعثوا بعريضة للسلطان يخبرون فيها أنهم يحاربون الفرنسين ويشحذونه على توجيه الولاية لأحمد باي ومنحه لقب باشا.
وحسب الكاتب أرجمند كوزان «فإن مجلس الشورى قد أمر بإعطاء أحمد باي رتبة الولاية ، لكنه لم يتوصل إلى قرار بهذا الشأن» .
ورغم دعوة العثمانيين أيضاً لباي تونس «أحمد باشا» لدعم باي قسنطينة ، لكن لم يكن لها أي تأثير عليه ، لأنه ليس مضطراً لمساعدة باي قسنطينة لأنه عدو فرنسا . وما حدث هو أن قسنطينة سقطت في 13 اكتوبر 1837 واحتلت فرنسا الشرق الجزائري.
وفي أول حولية نشرتها الدولة العثمانية سنة 1847 لم تكتب اسم الجزائر في جدول الولايات العثمانية ، وكان اعترافاً باحتلال فرنسا للجزائر.
ويؤكد المؤرخون أن ما حققه الباب العالي من خلال سياسته لإنقاذ الجزائر هو وضعه طرابلس الغرب تحت حكمه مباشرة حتى سنة 1912 ، في حين بسطت فرنسا نفوذها على تونس في 1881.
ولما كانت الجزائر حينها تحت سلطة الدولة العثمانية وجدنا أنه من الضروري أن نبحث ونعرف : كيف كان رد فعل الدولة العثمانية على اغتصاب عروس البحر المتوسط ؟ وماهي الأساليب التي اعتمدتها لاسترادد الجزائر؟ ولماذا سلّمت بعد ذلك بالاحتلال الفرنسي للجزائر وكفّت عن المطالبة بها، فكانت بذلك الجزائر كبش الفداء في استمرار الرجل المريض عقوداً قليلة من الزمان ؟ ولكن قد نفذت ثروته قبل مماته !
التواجد العثماني بالجزائر
أعلنت الجزائر كمقاطعة للسلطان العثماني منذ 1520ميلادية ، ويعود الفضل لذلك إلى الأخويين التركيين « خير الدين وعروج بربروس » ، وكانا قد غادرا بلادهما للقرصنة في المنطقة الغربية من البحر المتوسط ، وفي تلك الفترة كانت السواحل الجنوبية للمتوسط تحت سيطرة الإسبان والبرتغاليين وأدى هذا الأمر إلى اصطادمهما بالأخوين برباروس . وشهدت منطقة تلمسان عدة معارك بين الطرفيين وانتهت بموت « عروج » في إحدى هذه المعارك وأصبح بذلك خير الدين الحاكم الوحيد للجزائر.
وتيقن هذا الأخير أنه لن يستطيع حكم البلاد بمفرده لذا فالتجأ للدولة العثمانية وأعلن أن الجزائر مقاطعة للسلطان سنة 1520م.
وأرسل له السلطان سليم الأول ألفي عسكري مسلحين مع قوة مدفعية وقدم للذين يذهبون إلى الجزائر متطوعين امتيازات الإنكشارييين ، وتوالت انتصارات خير الدين بالجزائر وكان أعظمها احتلال قلعة « بينون » عام 1529 والتي أنشأها الإسبان على جزيرة صغيرة قرب السواحل الجزائرية.
كما بنى خيرُ الدين كاسرة أمواج توصل أطلال القلعة والجزيرة بالساحل وبذلك أوجد ميناءً حصيناً وأسس أوجاق الجزائر.
وقد أسَرَ هذا النجاح الدولة العثمانية التي قامت باستدعاء خير الدين برباروس من طرف السلطان سليمان القانوني سنة 1533 ، وهناك عهدت إليه ولاية الجزائر ونال رتبة وزير البحرية العثماني.
وفي الأستانة قام خير الدين ببناء عدة سفن عادت به إلى أفريقيا وقد حددت مهمته باحتلال تونس. وتمكن خير الدين من دخول مدينة تونس بسهولة عام 1534م ، ولكنه اصطدم فيما بعد بشارل الخامس إمبراطور هابسبورج وصاحب تاج إسبانيا سنة 1535 والذي احتل قواته مدينة تونس.
أما الجزائر فقد عين لولايتها ابن خير الدين حسن باشا وذلك على إثر وفاة أبيه عام 1546، والملاحظ أنه في هذا العهد وعهد من لحقوه أن الارتباط كان قوياً بالدولة العثمانية ، ولم يكن هذا الحال في الجزائر فحسب بل في معظم بلاد شمال أفريقيا ، وأعني بذلك تونس باحتلالها نهائياً عام 1574 بعد كر وفر مع الإسبان ، وطرابلس الغرب التي فتحت عام 1551 بيد توغرت باشا ، ورغم محاولات الدخول لمراكش كتلك التي حدثت عام 1554 بدخول مدينة فاس ، لكن العثمانين لم يتمكنوا من البقاء هناك.
وهذه الولايات كانت تابعة لسلطة وزير الحربية أو القائد العام للأسطول وكان حينها القائد كلج علي باشا. ولكن بموت هذا الأخير فكر العثمانيون في تأمين وحدة الدولة وذلك بفصل إدارة أوجاق الغرب بتعيين واليين مختلفين حتى تضمن أن لا تكون سلطة كاملة لشمال أفريقيا بيد قائد واحد.
واتخذ بذلك الحكم في الجزائر شكلاً ثالثاً.
عهد الدايات
ويقول الكاتب التركي الدكتور أوجمند كور أن السياسة العثمانية تجاه الاحتلال الفرنسي للجزائر « في عهد الدايات البشاوات أخذت ولاية الجزائر شكلها الأخير وصار يوجد في المركز إلى جانب الولاية ديوان هو عبارة عن مجلس للشورى وكان أهم أعضائه المتألف من خمس موظفين هو المسئول عن الخزينة والناظر لشوون المالية ، ويأتي بعده المكلف بالشؤون البحرية ، و يسمى وزير البحرية . وكان يقوم بمهمة كتابة الديوان أربعة كُتَّاب . أما الشؤون الشرعية فكان ينظر فيها مفتيان أحدهما حنفي والآخر مالكي ، لأن الأتراك حنفيون أما الأهالي فمالكيون .
ثم إن الولاية قسمت إلى ثلاثة ألوية بالإضافة إلى اللواء المركزي ، وكان يوجد على رأس كل واحد من هذه الألوية الشرقية والجنوبية والغربية ما يُسمَّى بالباي ، وكانوا يدفعون الضرائب ، ولكنهم يعدّون مستقلين في إدارة ألويتهم. أما اللواء فقد انقسم إلى قواد ومشايخ وكانوا مستقلين في إدارة ألويتهم . أما اللواء فقد انقسم إلى قواد ومشايخ . وكان الإنكشاريون الذين ملأ قسم كبير منهم المركز موجودين أيضاً في الألوية .
أما أمن البلاد في الداخل فكان تؤمنه القبائل المعفاة من الضرائب والمتمتعة بالامتيازات ، إذ كانت وظيفة هذه القبائل المسماة بالمخزن هي فرض الطاعة على القبائل الأخرى الملزمة بدفع الضرائب ، وقد استفاد الأتراك بمهارة من العداوة التي بين القبائل ؛ ولكي يستطيعوا أن يتابعوا حكم الأهالي فقد انتهجوا سياسة التعامل بالحسنى مع المرابطين الذين يعدون من الأولياء وهم أصحاب النفوذ.
ومن الأمور التي راعاها الأتراك في ولاية الجزائر أنهم كانوا لا يولون مواليد الإنكشاريين من النساء المواطنات المناصب العليا وكانوا يطلقون عليهم أبناء العبيد أي « الكراغلة » وهم يشكلون القوة المدفعية للأوجاق.
وفي أوائل القرن التاسع عشر صارت تبعية ولاية الجزائر للدولة العثمانية عبارة عن تصديق السلطان لتولية الداي كل سنتين أو ثلاث والتحاق سفن الأوجاق بالأسطول العثماني كلما تطلب الأمر ذلك. وغير هذا فقد كان أوجاق الجزائر يجلبون جنوداً أتراكاً من جزر البحر المتوسط ومن الأناضول بما في ذلك الإنكشاريين ، وربح الولاة الحرية لدرجة أنهم يستطيعون توقيع المعاهدات مع الدول الأجنبية مباشرة .
وكانت معظم المعاهدات التي عقدها أوجاق الجزائر تمضى مع دول صغرى فكان يقوم صلح لمدة معينة مقابل ضريبة سنوية تدفع للأوجاق.
العلاقات الفرنسية الجزائرية قبل الاحتلال
حسب الكتب والمراجع التاريخية ، فإن علاقات الصداقة بين فرنسا و الدولة العثمانية قد بدأت منذ السنوات الأولى لخلافة سليمان القانوني،فكانت بالتالي هذه العلاقة تفرض على الجزائر نفس الشيء بما أنها ولاية تابعة للإمبراطورية العثمانية.
ومازاد في توطيد هذه الصداقة هو العدواة المشتركة للإسبان ، قد تم تحالف بين فرنسا وخير الدين بارباروس في حصار قلعة نيس سنة 1543 التابعة للإمبراطور شارل الخامس.
واستغل الفرنسيون هذه الصداقة أيما استغلال فقد تمكنوا من تعيين قنصل لهم في الجزائر عام 1577 .كما حصلوا على إذن من السلطان أيصا بالسماح لهم باصطياد المرجان في السواحل الشرقية للبلاد بشرط أن يدفعوا الضريبة ولا ينشؤا قلعة، ولكن رغم هذا المنع فقد أسسوا مركزاً تجارياً أسموه «الباستيون».
وفي سنة 1604 عم الجزائر قحط ، لكن الفرنسيين قاموا بشراء المحصول الزراعي من الأهالي وباعوه خارج البلاد للأوروبين ، وهذا الأمر كان سبباً في غضب العثمانيين الذين أمروا بهدم الباستيون. وقد أعيد بناؤه ثانية عام 1628 وهدم مرة أخرى بعد تسع سنوات بسسب تردي العلاقات بين الجانبين. ولكن الوالي عام 1640 اضطر لقبول إعادة بناء هذا المركز .
وكان الباستيون يُدار من قبل شركة فرنسية خاصة ، وتم تأسيس عام 1741 شركة رسمية لإدارة أشغاله تعرف باسم «الشركة الملكية لأفريقيا» ، وحققت الشركة أرباحا طائلة ولكن بعد الثورة الفرنسية 1789 استمرت الشركة في عملها باسم «الوكالة الأفريقية» تحت إدارة تجار مرسيليا.
بين المواجهة العسكرية والمعاهدات السلمية
وقعت مواجهة عسكرية بين فرنسا والجزائر في عهد لويس الرابع عشر في النصف الثاني من القرن السابع عشر حيث قام بإرسال الأسطول الفرنسي للجزائر للحد من القرصنة في البحر المتوسط وضربت المدينة بالمدفعية ثلاث مرات . ولما لم تجد سياسة القوة تم عقد معاهدة صلح مع والي الجزائر في 1689.
ولكن بعد الحملة الفرنسية لمصر بقيادة بونابرت في 1798 أُكره والي الجزائر على إعلان الحرب على فرنسا بعد إنذار شديد من السلطان وقطع علاقاته مع فرنسا. لكن بعد تصالح العثمانيين مع الفرنسيين عادت الجزائر وأبرمت معاهدة صداقة مع فرنسا عام 1801 التي لم تسلم هي الأخرى من تقلبات السياسة. إذ صادف في عهد نابليون أن انتصرت انجلترا على فرنسا في معركة الطرف الأغر وبسطت بذلك نفوذها على البحر الأبيض المتوسط سنة 1805، فاستولى والي الجزائر على مراكز التجارة الفرنسية وأجَّرها للإنجليز وأثار هذا التصرف نابليون فبدأ يخطط للإستلاء على الجزائر فعقد مع امبراطور روسيا معاهدة «تلسيت» 1807 وأمن أوروبا من جهة ، وبدأ بتنفيذ خطته فأمر وزير الحربية بإيفاد ضابط استحكام ليقوم بجمع كل المعلومات عن مدينة الجزائر وما جاورها. وقام الضابط «بوتان» بذلك ليعود في 1808 وقد قدم تقريراً منفصلاً عن الجزائر، لكن الأوضاع لم تمهل نابليون للقيام بما أراد. ولما قامت الملكية من جديد في فرنسا جددت فرنسا علاقاتها مع الجزائر وأعيدت المراكز التجارية للفرنسيين عام 1817.
وهذه القضية - أي قضية المراكز التجارية - كان دائماً سبباً لنشوء الخلاف بين الجانبين الجزائري والفرنسي.
القطيعة والاحتلال
بعد الثورة الفرنسية عام 1789 استطاعت فرنسا أن تضمن ما تحتاجه المقاطعات الجنوبية من قمح وحبوب من الجزائر ذلك لأنها كانت في حالة حرب مع العديد من دول أوروبا، وقد تمت هذه الصفقات بواسطة تاجريين هما «بكري» و«بوشناق» ، وهذان الشخصان هما يهوديان من مدينة «ليفرونة» الإيطالية وقد استقرا في الجزائر بتأسيس شركة للتجارة. وفي عام 1797 طلبت شركة «بكري وبوشناق» ديونها من الحكومة الفرنسية التي لم تقم سوى بدفع قسطين فقط.
وعن هذه النقطة يقول الكاتب التركي «أرجمند كوزان» : «إن كون أوجاق الجزائر دائناً للتجار اليهود جعل الوالي يطلب من الحكومة الفرنسية تصفية حساباتها معها. وفي النهاية دققت الحكومة الفرنسية بواسطة لجنة في ديون اليهوديين ، وأغلقت الحساب بسند مؤرخ في سنة 1819 ، ولكن الحكومة الفرنسية وضعت يدها على قسم من النقود التي ستعطى للتجار اليهود معتمدة على مادة في السند ، ذلك أن التجار اليهود كانت عليهم ديون لفرنسيين كانوا قد التجأوا إلى المحكمة.، وصرحت شركة بكري وبوشناق للوالي حسن باشا المطالب بديون الأوجاق بأنها مفلسة وأنها لا تستطيع أن تدفع دينها إلا بعد أن تحصل على المبلغ الذي صودر في فرنسا. وفي كل مرة يسأل فيها حسين باشا قنصل فرنسا «دوفال» عن سبب عدم استطاعة التجار اليهود أخذ نقودهم كاملة ، كان القنصل الفرنسي يجيب أن ذلك يتطلب إنهاء الدعاوي التي ينظر فيها في المحاكم . ولما لم تنته هذه الدعاوي رغم مرور سنوات كثيرة ابتدأ حسين باشا يشك في نية فرنسا . وزيادة على ذلك ، فقد كان القنصل دوفال شخصاً لا يوثق به.
أرسل حسين باشا ثلاث رسائل إلى الحكومة الفرنسية بشأن دين الشركة منذ 1824، وعندما لم يأت جواب على أي منها غضب غضباً شديداً على فرنسا ، وبعدها بقليل علم حين باشا بأن الباستيون قد تسلح رغم وعد الشرف الذي قطعه دوفال بشأن عدم تحصين المراكز التجارية الفرنسية، فزاد هذا الخبر من غضب الباشا.
وفي 29 أفريل 1827 سأل داي الجزائر القنصلَ دوفال - الذي قَدِم للتهنئة بالعيد - عن سبب عدم رد الحكومة الفرنسية على رسائله وعلى إثر قول القنصل : « إن ملك فرنسا وشعبها لا يحرران لك ورقة، ولا يرسلان رداً حتى على رسائلك المرسلة » نهض من مكانه محتداً وضرب مخاطبه بالمروحة التي كانت بيده مرتين أو ثلاثاً . وتحقير حسين باشا للقنصل دوفال بهذا الشكل جعل فرنسا غير ملتزمة بأي قيد.
أرسلت فرنسا أسطولها الحربي إلى الجزائر بعد شهر ونصف من الحادثة التي اتخذت اسم حادثة المروحة بعد ذلك واتخذتها حجة لإعلان الحرب. وطلب هذا الأسطول الذي رسا أمام الجزائر الترضية من حسين باشا ، وهذا الأخير كان يجد نفسه محقاً فيما حدث له مع القنصل . ودخلت الجزائر بذلك مع فرنسا في حالة حرب منذ 16 جوان / حزيران 1827 وحوصرت مدينة الجزائر بحراً. كما تم إرسال جيش كبير لاحتلال الجزائر عام 1830 . ويذهب المؤرخين لاعتبار هذا الأمر وسيلة من رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك «برنس دو بو لينياك» لإشغال الشعب الفرنسي بها بعد تنفيذه لقرارات الملك شارل العاشر بحل مجلس النواب والتضييق على الصحافة.
كما يرى الدكتور خليل الزركاني أن الدولة العثمانية أو الرجل المريض لم تكن تنوي أن تحشر رأيها في قضية الجزائر لأنها كانت منهكة في إخماد ما يحدث في جزيرة مورا ، وكذا خسارتها في معركة نافارين عام 1827.ودخولها الحرب مع روسا بعد ذلك بقليل ، فهذه الظروف لم تدع لها مجالاً حقيقياً للاهتمام بالقضية الجزائرية.
ولذا فإن الموقف الفعلي للدولة العثمانية هو عدم التدخل في الخلاف الناشب بين فرنسا والجزائر، خاصة بعد كتابة السفير الفرنسي للباب العالي في اسطنبول يدعوه لواجب تدخل الدولة العثمانية لتأديب والي الجزائر، وحيث أن الداي قد زاد في تعدّياته السالفة بتحقير قنصل فرنسا في الجزائر ، فإن جناب ملك فرنسا اضطر لطلب ترضية علنية مهدداً بإعلان الحرب في حالة رفض طلبه ، وحيث أن طلبه رفض وعليه فالحرب محققة.
وقد حاولت الدولة العثمانية إيقاف الحملة الفرنسية ضد الجزائر بإيضاحها عن طريق الباب العالي أن التدابير التي اقترحها السفير الفرنسي لحل النزاع الناشب بين فرنسا والجزائر ليس مناسبا ، كما أنها أرسلت عام 1829 مبعوثاً إلى الجزائر كانت مهمته أن ينبه والي الجزائر حسين باشا أن يظل محايداً في النزاع بين النمسا ومراكش من جهة ، ويسعى لتأمين التفاهم بين فرنسا و والي الجزائر من جهة أخرى ، لكن محاولته باءت بالفشل.
ورغم محاولات الدولة العثمانية لسلوك الطريق الديبلوماسي لكن الحكومة الفرنسية كانت مقتنعة بأنها لن تصل إلى نتيجة ما بحصارها البحري لمدينة الجزائر ، وكانت تخطط لتأديب والي الجزائر بواسطة محمد علي باشا الذي كان يستطيع استعمال جيشه لاحتلال الجزائر بدلاً من استعماله لضم سوريا ، كما كان يسعى. وقد تناهت لأسماع الباب العالي أنباء عن اتفاقية من هذا النوع بين محمد علي والفرنسيين لكنه ردّ أن هذه الرواية لا أساس لها من الصحة وأنه - أي والي مصر - قد صرّح لقنصل فرنسا : «أنتم مسيحيون ، أما نحن والجزائرييون مسلمون ، ونحن ذو أمة وشريعة ودولة واحدة، لا يتلاءم مع ديننا ودينكم ».
جهود العثمانيين لاسترداد الجزائر
أبلغت الدولة العثمانية من خلال السفارة الفرنسية في اسطنبول باحتلال الجزائر ، ولكن حسب الكتب ، فإنها تصرفت ببطء في إعطاء رد فعل بعد أن تواردت أخبار لديها بحدوث انقلاب في فرنسا وتواطؤ فرنسا مع إنجلترا بشأن قضية الجزائر. ولكن من جانب آخر ، لم تصدر اعترضات الدولة العثمانية على احتلال الجزائر.
وقد طلبت الدولة العثمانية من فرنسا أن تعيد الجزائر التي هي ولاية تابعة لها ، وأضافت أن المعاهدات المعقودة بين البلدين ينبغي أن تكون نافذة المفعول ، وقد أجابت فرنسا على مطالب الدولة العثمانية بأن لا حقَّ لها في الجزائر ، ولكن الباب العالي قد أكد حقه في الجزائر في مذكرة بتاريخ 13 ماي / أيار 1831 قدمت للسفير الفرنسي باسطنبول تبين فيها حقوق الدولة العثمانية في الجزائر:«بموجب المواثيق والأحكام المرعية بين الدولة العلية والدول الصديقة منذ القديم ، فإن حقوق الدولة السنية بالجزائر ثابتة في جميع الأزمان للدولة العلية ». وفي نهاية المذكرة كرر الباب العالي طلب استرداد الجزائر: «لما كان استرجاع البلاد المذكورة بكامل حكومتها واستقلالها لجانب الدولة العلية طلباً عالياً، فإن الشرط المذكور في المذكرة التي قدمها السفير المومأ إليه كافٍ في نفس الأمر لتحقيق ذلك ولا حاجة قطعاً لسائر القيود والشروط المختلفة ، باستثناء المواد المتعلقة بشأن القرصنة والناشئة من تكفلها لتلك الشروط في معاهدات الصفاء المعقودة بين الدول ». لكن بقيت هذه المذكرة بدون رد من الحكومة الفرنسية في الوقت الذي ركز الباب العالي اهتمامه أيضا بعصيان محمد علي باشا والي مصر.
وكان من عادة العثمانيين أن تجرى في اليوم الأول من عيد الفطر كل سنة توجيهات الوظائف العالية والتوليات . وفي سنة 1828 كتبت الجزائر في دفتر التوجيهات ولكن اسم الوالي كان شاغراً. وكتب الباب العالي في جريد «تقويم وقايع» في 07 مارس / آذار 1832 : « لما كانت ولاية الجزائر موعوداً بردها لطرف الدولة العلية عندما طلبناها ، فسينظر بمقتضاه عند التنظيم » .
أما عن تحركات الدولة العثمانية في أوروبا لكسب تأييد لهذه القضية فقد طلبت من إنجلترا عام 1834 مساعدتها في استرداد الجزائر ، لكن وزير الخارجية الإنجليزي قد أفصح برأيه بأنه لا يستطيع أن يقول لفرنسا شيئا بشأن قضية استرداد الجزائر. وفي نفس السنة تقابل السفير العثماني مع وزير الخارجية الفرنسي بشأن قضية الجزائر لكنه أجاب أن فرنسا لن تتخلى عن الجزائر .
وهكذا كللت كل المحاولات العثمانية بالفشل ، مع وضوح الموقف الإنجليزي والروسي في استرداد الجزائر من فرنسا.
محاولات استعمال القوة
بعد أن تأكدت الدولة العثمانية من فشل الطرق الديبلوماسية ، خاصة بعد أن رفضت فرنسا المذكرة التي قدمها العثمانيون عام 1835 تثبت حقها في الجزائر ، رأت أن تسلك درباً أخر ، خاصة وأن ما شجعها على إمكانية استعمال القوة هو حسم الخلاف الرئاسي في طرابلس الغرب ، إذ اجتمعت طرابلس الغرب كولاية عادية خاضعة للدولة العثمانية ، وقد أصبحت بذلك قريبة من الجزائر ، وأصبح بذلك الباب العالي قادراً على التدخل الفعلي ، كما يمكنه أن يربط ولاية تونس الفاصلة بين طرابلس الغرب والجزائر. ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل ولم يقدم الباب العالي على التفكير بدعم «أحمد باي» من طرابلس الغرب بالطريق البري للدفاع عن قسنطينة في وجه الزحف الفرنسي القادم لاحتلالها ، خاصة وأن أهل المدينة بعثوا بعريضة للسلطان يخبرون فيها أنهم يحاربون الفرنسين ويشحذونه على توجيه الولاية لأحمد باي ومنحه لقب باشا.
وحسب الكاتب أرجمند كوزان «فإن مجلس الشورى قد أمر بإعطاء أحمد باي رتبة الولاية ، لكنه لم يتوصل إلى قرار بهذا الشأن» .
ورغم دعوة العثمانيين أيضاً لباي تونس «أحمد باشا» لدعم باي قسنطينة ، لكن لم يكن لها أي تأثير عليه ، لأنه ليس مضطراً لمساعدة باي قسنطينة لأنه عدو فرنسا . وما حدث هو أن قسنطينة سقطت في 13 اكتوبر 1837 واحتلت فرنسا الشرق الجزائري.
وفي أول حولية نشرتها الدولة العثمانية سنة 1847 لم تكتب اسم الجزائر في جدول الولايات العثمانية ، وكان اعترافاً باحتلال فرنسا للجزائر.
ويؤكد المؤرخون أن ما حققه الباب العالي من خلال سياسته لإنقاذ الجزائر هو وضعه طرابلس الغرب تحت حكمه مباشرة حتى سنة 1912 ، في حين بسطت فرنسا نفوذها على تونس في 1881.