الفكر السياسي خلال عصر النهضه
مرسل: الاثنين نوفمبر 12, 2012 9:08 pm
كتب كل من اوغسطين والاكويني عن الممارسات الفعلية لكل من الكنيسة والدولة أو عن مشاكل محددة بين الكنيسة والدولة. وكان هناك خلافات حادة حول التمثيل في كل من الكنيسة والدولة ، حيث زعم جزء من المفكرين بان البابا يجب أن يكون مسئولاً أمام هيئة منتخبة من الأساقفة والكرادلة وليس له الحق في التصرف بمشيئته وهؤلاء الذين ناصروا هذا الرأي أصبحوا يعرفون " بالمجلسيين".
ومع أن الحكام في عدد من دول العصور الوسطى قد كوّنوا جمعيات للنبلاء للحصول على المال والدعم للحرب إلا أن محاولات القضاء على مزاعم البابا أو الملك بامتلاك السيادة لم تكن ناجحة . وتبعا لذلك لم تكن نظريات العصور الوسطى تمثل جذوراً للأفكار الحديثة للديموقراطية الأوربية. وعلى الجانب الآخر أصبح النزاع بين الكنيسة والدولة هاماً جداً لتطور النظرية السياسية . وكان الدعم الفكري الأساسي يتمثل في هيمنة المجال الروحي على الدنيوي . لذا كانت فكرة الفصل بين المجالين تمثل قفزة ضرورية وهامة لفكر العصور الوسطى.
وخلال النزاع بين الكنيسة والدولة بدأ وكأن الكنيسة تقلد عملية علمنة الدولة ، فالبابوية نفسها أصبحت دولة قوية وجيدة التسلح. و أثناء النزاع بين البابا ولويس حاكم بافاريا استطاع لويس أن يحصل على دعم المفكر الإيطالي مارسيليو بادو ( 1280-1343) ، حيث تحدى مارسيليو مزاعم البابوية من خلال افتراض بسيط: المنطق والوحي كانا يمثلان شكلان منفصلان تماماً للحقيقة ، فالمسائل الروحية يمكن معرفتها فقط من خلال الوحي والإيمان بينما يمكن الإجابة على مسائل السياسة العلمانية ( الدنيوية ) من خلال العقل ( المنطق ) فقط. ومع أنه يمكن للدولة أن تنظم شئوناً أخلاقية وكنسية محددة، لأن رجال الكنيسة هم أيضاً رعايا للدولة، إلا أنه لا يمكن للدولة أن تقوم بمهامها إذا تدخلت فيها الكنيسة ، ولذا يجب على الكنيسة أن تقصر اهتمامها على الخلاص والحياة الأبدية في الآخرة. كذلك فإن قانون الكنيسة وقانون الدولة يقفان على أرضيات مختلفة .
فقانون الكنيسة مستمد من الله ومن يخالف هذا القانون الكنسي فهو مسئول أمام الله وليس أمام الدولة ، أما قانون الدولة فهو مستمد من قوة المجتمع واحتياجاته المادية. وبناء عليه يزعم مارسيليو بادو أن الكنيسة لا يمكنها بعد الآن أن تشرعن تدخلها في شئون الدولة ، كما أن الدولة لا يمكنها أن تحكم على من يخالف قوانينها بدخول النار. ولذا فإن قانون وسلطة القوة الدنيوية ( العلمانية ) كافية تماماً للحياة على الأرض .
لقد أرعب التدخل الكنسي في السياسة الإيطالية ليس مارسيليو بادو فقط وإنما أيضا نيقولا ميكافيلي (1469-1527) لكن قلق ميكافيلي كان من تأثير التدخل على إيطاليا وليس على الكنيسة . وبهذا المنظور عكس ميكافيلي علمانية عصر النهضة في زمن كان الشعور الشعبي تجاه سياسة الفاتيكان غير مبال إن لم يكن معادياً .
لقد كان مارسيليو وآخرون من مفكري العصور الوسطى آنذاك يبحثون عن " نموذج طبيعي " للدولة ، وقد وصف كل من مارسيليو وجون سالزبوري الدولة من خلال مقارنتها بجسم الإنسان فالدولة المثالية بالنسبة لهما يمكن فهمها من خلال الطبيعة بنفس طريقة شيشرون وارسطو . وبمجيء ميكافيلي كانت المقارنة بين الدولة والجسم لا تزال قائمة إلا أن مفكري عصر النهضة اعتبروا الدولة مؤسسة اجتماعية ونتاجاً للاتفاق وليس للطبيعة. ومع أن ليس من السهل تحديد معنى " النهضة الأوربية " ، أو الولادة الجديدة للحياة الفكرية والفنية ( حقبة من النشاط العقلي والفني الشديد ) في أوربا الغربية ،
إلا أن هناك إجماعاً حول عدد من الخصائص المشتركة لتلك المرحلة منها :
(1) تأكيد على الفردية ووجهة نظر للأحداث بناء على الفعل الفردي .
(2) رؤية للعالم تنكر المزاعم الخاصة للكنيسة بشأن السلطة الدنيوية أو المعرفة .
(3) تقدير جديد للعلم والأدب الإغريقي واللاتيني .
أما أكثر الحقائق وضوحاً حول ميكافيلي وعصره فهي أن الأحداث السياسية قد تجاوزت حدود أي نظرية سياسية . فقد كانت فترة فوضى وعنف ، وكانت إيطاليا مقسمة إلى خمس وحدات سياسية رئيسة من بينها دولة الفاتيكان مما تسبب في غزو خارجي متكرر. كما أن عادة استخدام الجنود المرتزقة الشائعة آنذاك جعلت الولاء موضوعاً للمزايدات التجارية ، مما جعل السياسة في حالة من التقلب المتواصل . وبعكس المفكرين السابقين كان ميكافيلي مستشاراً لحاكم علماني ( دنيوي ) ودبلوماسي وعندما هزمت جمهورية فلورنسا التي كان يعمل لصالحها في 1512م أضطر للتقاعد القسري والتفرغ للكتابة.
أدت أفكار ميكافيلي إلى إحداث انفصام حاسم مع الفلسفة السياسية الكاثوليكية في العصور الوسطى فقد كان أول مفكر مهم يصر على إنشاء سلطة مركزية قوية وعلمانية بدلاً من التراتيبيات الإقطاعية المعقدة التي استمرت لقرون، كما أعاد في كتاباته تحديد نطاق السياسة من خلال فصلها عن دلالاتها الأخلاقية ، الدينية والقيمية .
كما أن تعريف ميكافيلي للسياسة قد الغى فكرة الحكم المقدس أو الخطة المقدسة. فمن خلال التخلص من رؤية العصور الوسطى باعتباراتها الأخروية ، ورفض التركيبة القروسطية وأفكار المصدر الإلهي للقانون والعدالة وضع ميكافيلي نظرية خالصة للسياسة مستندة على القوة وفضل أن يركز على الاستيلاء على القوة والاحتفاظ بها بغض النظر عن أخلاقية الوسيلة.
وخلال كتاباته لم يهتم ميكافيلي كثيراً باستخدامات القوة وبدلاً من ذلك كان تركيزه على كيفية الاستيلاء على القوة والتمسك بها. لذا كانت القوة بالنسبة له غاية في حد ذاتها ولا تحتاج إلى أية تبريرات ، كما أن القوة تحقق ما لا يمكن أن تحققه الثروة أو الشهرة ، فالقوة تضمن فرصا لا نظير لها لتحقيق الذات ، والقوة تخلق مقدرة متعاظمة لمزيد من التوسع ولذلك فالقوة أساسية لتحقيق الطموح الإنساني . واعتقد ميكافيلي أن الطموح هو المسئول الأول عن الخلافات المستمرة بين الأفراد والدول وأن هناك نضال وخلاف مستمر في مجال سياسي مزدحم وفوضى دولية ، وفي هذا الوضع يصر ميكافيلي على أن الفرد البطل هو الوحيد القادر على إعادة النظام والقضاء على الفوضى .
وفي كتابه " الأمير " الأكثر شهره يحدد ميكافيلي المهام الجسام التي تواجه البطل ، فالأمير يجب أن ينشئ دولة جديدة وليس أقل من ذلك ، بعد أن ثبت لديه عدم جدوى قيم الكنيسة فضلا عن أن الظروف المتدهورة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال عمل جبار بإرادة سياسية. لذا كان إنشاء دولة جديدة يمثل ضرورة حيوية ، إلا أن ميكافيلي يعترف بأن " ليس هناك أصعب ، أو أكثر غموضاً فيما يتعلق بالنجاح ، أو أكثر خطورة للقيام به، من خلق نظام جديد للأشياء .
لذلك أصر على ضرورة فصل السياسة عن الأخلاق ، والقيم والدين ، كما أكد على أنه لا ينبغي أن يقيد استخدام القوة من خلال القيم السائدة ، بل أن طبيعة السياسة تتطلب في الغالب تجاهلاً لكل ما يعتبر جيداً أو سيئاً، لأن الأمير الذي يتقيد بالمبادئ الأخلاقية سيكون في وضع سلبي جداً في النزاعات مع الأمراء الآخرون الذين سيتجاهلون الاعتبارات الأخلاقية من أجل تحقيق طموحهم ، ولذا فإن الظروف المتقلبة للحياة السياسية تتطلب من الأمير أن يتخلى عن مبادئه إذا أراد الحفاظ على سلطته. وعند القيام بالمهمة الحاسمة لإنشاء دولة جديدة يجب على الأمير أن يكون قادراً على التكيف مع الظروف المتغيرة التي لا يحكمها إي قيّم .
بالإضافة إلى ذلك فإن الأمير من خلال تكييف أفعاله مع الظروف السائدة يكون قادراً على توظيف إمكاناته إلى أقصى حد ممكن ، ففرصة الدخول في مهمة بطولية يجب أن تغتنم وبقوة و إلا فإن الحظ يمكن أن يخذل الحاكم الجبان. ولذلك فعلى الأمير أن يعتمد على قدرته الخاصة كلما كان ذلك ممكناً وليس على الحظ لأن الحظ لا يمكن مقاومته . إن المشكلة الكبيرة التي تواجه إنشاء دولة جديدة ، وضرورة التصرف ألا أخلاقي والحاجة إلى العمل الجريء والجسور تتجمع بطريقة ما لتوجب على الأمير أن يكون مستعداً للقتال .
ومن خلال الاعتماد على كل المواد المتاحة للأمير فإن المهمة البطولية يمكن إنجازها. كما أن أهمية إنشاء دولة جديدة تبرر الخطوات الضرورية لإنجاز هذا الهدف وكل الاعتبارات التي تمنع تحقيق ذلك يجب القضاء عليها .
وقد ألهمت رؤية ميكافيلي هذه للأمير كمؤسس لدولة جديدة المفكرين الذين أتوا بعد ذلك من خلال النظر للدولة على أنها كيان مصطنع ، فبينما أكد ميكافيلي على إنشاء الدولة من خلال استخدام القوة ركز منظرو العقد الاجتماعي على أهمية القبول والتراضي. ومع ذلك يظل واضحاً اليوم أن الشئون الدولية يتم العامل معها بالطريقة التي كان ميكافيلي يحبذها .
كذلك يمثل "أمير ميكافيلي" إعادة صياغة لأسطورة البطل السياسي هذه الصياغة الجديدة للبطل السياسي تجذب الانتباه إلى استمرارية الفكر السياسي ، فمن الممكن أن نعود إلى الخلف من أمير ميكافيلي إلى أسطورة افلاطون عن طبقة الجنود ثم إلى الأمام إلى روسو واستغاثته بالمشّرع باعتباره بطلاً سياسياً ، وفوق كل ذلك فإن ميكافيلي كان يعبر عن الرغبة الجارفة لإنشاء عالماً جديداً وجيداً . ويرفض معظم المنظرين اليوم تجاهل ميكافيلي للأخلاق لكنهم يشاركونه رغبته في تحسين أوضاع العالم. ولسوء الحظ لم يتمكن المنظرون المتأخرون من إقناع القادة السياسيين بأن الوسائل السليمة لإنجاز التغيير أكثر فعالية من الوسائل العنيفة التي حبذها ميكافيلي في زمنه .
الخلاصة
قدم ميكافيلي في بداية القرن السادس عشر ما أعتقد البعض أنه نقطة الاهتمام الرئيس لعلم السياسة الحديث أي التركيز على القوة، حيث كان كتابه الشهير "الأمير" يدور حول الحصول على القوة السياسية واستخدامها. وقد عدّ بعض المفكرين ميكافيلي أول فيلسوف حديث لأن دوافعه وتفسيراته لم تكن مرتبطة بالدين بأي شكل. ولم يكن ميكافيلي سيئاً، كما يرى البعض، بل كان واقعياً realist يزعم أنه لكي يحصل "الامير" على أي شيء إيجابي – مثل توحيد إيطاليا وطرد الأجانب الذين أفسدوها – فعليه أن يكون عقلانياً وقاسياً في ممارسة القوة.
وبرغم أن هذا الاقتراب لم يكن مستحسناً من قبل المفكرين السياسيين الأمريكيين الذين تجنبوا في بعض الأحيان "القوة" باعتبارها قذرة ابتداء، إلا أن هذا الاقتراب تجّذر في أوربا وأسهم في بروز التحليل النخبوي لموسكا وباريتو، ومايكل كما تعّرف الأمريكيون بعد ذلك على اقتراب القوة من خلال أعمال عالم العلاقات الدولية الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة هانز مورغنثو الذي أكد على أن "كل السياسة هي صراع من أجل القوة".
ومع أن الحكام في عدد من دول العصور الوسطى قد كوّنوا جمعيات للنبلاء للحصول على المال والدعم للحرب إلا أن محاولات القضاء على مزاعم البابا أو الملك بامتلاك السيادة لم تكن ناجحة . وتبعا لذلك لم تكن نظريات العصور الوسطى تمثل جذوراً للأفكار الحديثة للديموقراطية الأوربية. وعلى الجانب الآخر أصبح النزاع بين الكنيسة والدولة هاماً جداً لتطور النظرية السياسية . وكان الدعم الفكري الأساسي يتمثل في هيمنة المجال الروحي على الدنيوي . لذا كانت فكرة الفصل بين المجالين تمثل قفزة ضرورية وهامة لفكر العصور الوسطى.
وخلال النزاع بين الكنيسة والدولة بدأ وكأن الكنيسة تقلد عملية علمنة الدولة ، فالبابوية نفسها أصبحت دولة قوية وجيدة التسلح. و أثناء النزاع بين البابا ولويس حاكم بافاريا استطاع لويس أن يحصل على دعم المفكر الإيطالي مارسيليو بادو ( 1280-1343) ، حيث تحدى مارسيليو مزاعم البابوية من خلال افتراض بسيط: المنطق والوحي كانا يمثلان شكلان منفصلان تماماً للحقيقة ، فالمسائل الروحية يمكن معرفتها فقط من خلال الوحي والإيمان بينما يمكن الإجابة على مسائل السياسة العلمانية ( الدنيوية ) من خلال العقل ( المنطق ) فقط. ومع أنه يمكن للدولة أن تنظم شئوناً أخلاقية وكنسية محددة، لأن رجال الكنيسة هم أيضاً رعايا للدولة، إلا أنه لا يمكن للدولة أن تقوم بمهامها إذا تدخلت فيها الكنيسة ، ولذا يجب على الكنيسة أن تقصر اهتمامها على الخلاص والحياة الأبدية في الآخرة. كذلك فإن قانون الكنيسة وقانون الدولة يقفان على أرضيات مختلفة .
فقانون الكنيسة مستمد من الله ومن يخالف هذا القانون الكنسي فهو مسئول أمام الله وليس أمام الدولة ، أما قانون الدولة فهو مستمد من قوة المجتمع واحتياجاته المادية. وبناء عليه يزعم مارسيليو بادو أن الكنيسة لا يمكنها بعد الآن أن تشرعن تدخلها في شئون الدولة ، كما أن الدولة لا يمكنها أن تحكم على من يخالف قوانينها بدخول النار. ولذا فإن قانون وسلطة القوة الدنيوية ( العلمانية ) كافية تماماً للحياة على الأرض .
لقد أرعب التدخل الكنسي في السياسة الإيطالية ليس مارسيليو بادو فقط وإنما أيضا نيقولا ميكافيلي (1469-1527) لكن قلق ميكافيلي كان من تأثير التدخل على إيطاليا وليس على الكنيسة . وبهذا المنظور عكس ميكافيلي علمانية عصر النهضة في زمن كان الشعور الشعبي تجاه سياسة الفاتيكان غير مبال إن لم يكن معادياً .
لقد كان مارسيليو وآخرون من مفكري العصور الوسطى آنذاك يبحثون عن " نموذج طبيعي " للدولة ، وقد وصف كل من مارسيليو وجون سالزبوري الدولة من خلال مقارنتها بجسم الإنسان فالدولة المثالية بالنسبة لهما يمكن فهمها من خلال الطبيعة بنفس طريقة شيشرون وارسطو . وبمجيء ميكافيلي كانت المقارنة بين الدولة والجسم لا تزال قائمة إلا أن مفكري عصر النهضة اعتبروا الدولة مؤسسة اجتماعية ونتاجاً للاتفاق وليس للطبيعة. ومع أن ليس من السهل تحديد معنى " النهضة الأوربية " ، أو الولادة الجديدة للحياة الفكرية والفنية ( حقبة من النشاط العقلي والفني الشديد ) في أوربا الغربية ،
إلا أن هناك إجماعاً حول عدد من الخصائص المشتركة لتلك المرحلة منها :
(1) تأكيد على الفردية ووجهة نظر للأحداث بناء على الفعل الفردي .
(2) رؤية للعالم تنكر المزاعم الخاصة للكنيسة بشأن السلطة الدنيوية أو المعرفة .
(3) تقدير جديد للعلم والأدب الإغريقي واللاتيني .
أما أكثر الحقائق وضوحاً حول ميكافيلي وعصره فهي أن الأحداث السياسية قد تجاوزت حدود أي نظرية سياسية . فقد كانت فترة فوضى وعنف ، وكانت إيطاليا مقسمة إلى خمس وحدات سياسية رئيسة من بينها دولة الفاتيكان مما تسبب في غزو خارجي متكرر. كما أن عادة استخدام الجنود المرتزقة الشائعة آنذاك جعلت الولاء موضوعاً للمزايدات التجارية ، مما جعل السياسة في حالة من التقلب المتواصل . وبعكس المفكرين السابقين كان ميكافيلي مستشاراً لحاكم علماني ( دنيوي ) ودبلوماسي وعندما هزمت جمهورية فلورنسا التي كان يعمل لصالحها في 1512م أضطر للتقاعد القسري والتفرغ للكتابة.
أدت أفكار ميكافيلي إلى إحداث انفصام حاسم مع الفلسفة السياسية الكاثوليكية في العصور الوسطى فقد كان أول مفكر مهم يصر على إنشاء سلطة مركزية قوية وعلمانية بدلاً من التراتيبيات الإقطاعية المعقدة التي استمرت لقرون، كما أعاد في كتاباته تحديد نطاق السياسة من خلال فصلها عن دلالاتها الأخلاقية ، الدينية والقيمية .
كما أن تعريف ميكافيلي للسياسة قد الغى فكرة الحكم المقدس أو الخطة المقدسة. فمن خلال التخلص من رؤية العصور الوسطى باعتباراتها الأخروية ، ورفض التركيبة القروسطية وأفكار المصدر الإلهي للقانون والعدالة وضع ميكافيلي نظرية خالصة للسياسة مستندة على القوة وفضل أن يركز على الاستيلاء على القوة والاحتفاظ بها بغض النظر عن أخلاقية الوسيلة.
وخلال كتاباته لم يهتم ميكافيلي كثيراً باستخدامات القوة وبدلاً من ذلك كان تركيزه على كيفية الاستيلاء على القوة والتمسك بها. لذا كانت القوة بالنسبة له غاية في حد ذاتها ولا تحتاج إلى أية تبريرات ، كما أن القوة تحقق ما لا يمكن أن تحققه الثروة أو الشهرة ، فالقوة تضمن فرصا لا نظير لها لتحقيق الذات ، والقوة تخلق مقدرة متعاظمة لمزيد من التوسع ولذلك فالقوة أساسية لتحقيق الطموح الإنساني . واعتقد ميكافيلي أن الطموح هو المسئول الأول عن الخلافات المستمرة بين الأفراد والدول وأن هناك نضال وخلاف مستمر في مجال سياسي مزدحم وفوضى دولية ، وفي هذا الوضع يصر ميكافيلي على أن الفرد البطل هو الوحيد القادر على إعادة النظام والقضاء على الفوضى .
وفي كتابه " الأمير " الأكثر شهره يحدد ميكافيلي المهام الجسام التي تواجه البطل ، فالأمير يجب أن ينشئ دولة جديدة وليس أقل من ذلك ، بعد أن ثبت لديه عدم جدوى قيم الكنيسة فضلا عن أن الظروف المتدهورة لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال عمل جبار بإرادة سياسية. لذا كان إنشاء دولة جديدة يمثل ضرورة حيوية ، إلا أن ميكافيلي يعترف بأن " ليس هناك أصعب ، أو أكثر غموضاً فيما يتعلق بالنجاح ، أو أكثر خطورة للقيام به، من خلق نظام جديد للأشياء .
لذلك أصر على ضرورة فصل السياسة عن الأخلاق ، والقيم والدين ، كما أكد على أنه لا ينبغي أن يقيد استخدام القوة من خلال القيم السائدة ، بل أن طبيعة السياسة تتطلب في الغالب تجاهلاً لكل ما يعتبر جيداً أو سيئاً، لأن الأمير الذي يتقيد بالمبادئ الأخلاقية سيكون في وضع سلبي جداً في النزاعات مع الأمراء الآخرون الذين سيتجاهلون الاعتبارات الأخلاقية من أجل تحقيق طموحهم ، ولذا فإن الظروف المتقلبة للحياة السياسية تتطلب من الأمير أن يتخلى عن مبادئه إذا أراد الحفاظ على سلطته. وعند القيام بالمهمة الحاسمة لإنشاء دولة جديدة يجب على الأمير أن يكون قادراً على التكيف مع الظروف المتغيرة التي لا يحكمها إي قيّم .
بالإضافة إلى ذلك فإن الأمير من خلال تكييف أفعاله مع الظروف السائدة يكون قادراً على توظيف إمكاناته إلى أقصى حد ممكن ، ففرصة الدخول في مهمة بطولية يجب أن تغتنم وبقوة و إلا فإن الحظ يمكن أن يخذل الحاكم الجبان. ولذلك فعلى الأمير أن يعتمد على قدرته الخاصة كلما كان ذلك ممكناً وليس على الحظ لأن الحظ لا يمكن مقاومته . إن المشكلة الكبيرة التي تواجه إنشاء دولة جديدة ، وضرورة التصرف ألا أخلاقي والحاجة إلى العمل الجريء والجسور تتجمع بطريقة ما لتوجب على الأمير أن يكون مستعداً للقتال .
ومن خلال الاعتماد على كل المواد المتاحة للأمير فإن المهمة البطولية يمكن إنجازها. كما أن أهمية إنشاء دولة جديدة تبرر الخطوات الضرورية لإنجاز هذا الهدف وكل الاعتبارات التي تمنع تحقيق ذلك يجب القضاء عليها .
وقد ألهمت رؤية ميكافيلي هذه للأمير كمؤسس لدولة جديدة المفكرين الذين أتوا بعد ذلك من خلال النظر للدولة على أنها كيان مصطنع ، فبينما أكد ميكافيلي على إنشاء الدولة من خلال استخدام القوة ركز منظرو العقد الاجتماعي على أهمية القبول والتراضي. ومع ذلك يظل واضحاً اليوم أن الشئون الدولية يتم العامل معها بالطريقة التي كان ميكافيلي يحبذها .
كذلك يمثل "أمير ميكافيلي" إعادة صياغة لأسطورة البطل السياسي هذه الصياغة الجديدة للبطل السياسي تجذب الانتباه إلى استمرارية الفكر السياسي ، فمن الممكن أن نعود إلى الخلف من أمير ميكافيلي إلى أسطورة افلاطون عن طبقة الجنود ثم إلى الأمام إلى روسو واستغاثته بالمشّرع باعتباره بطلاً سياسياً ، وفوق كل ذلك فإن ميكافيلي كان يعبر عن الرغبة الجارفة لإنشاء عالماً جديداً وجيداً . ويرفض معظم المنظرين اليوم تجاهل ميكافيلي للأخلاق لكنهم يشاركونه رغبته في تحسين أوضاع العالم. ولسوء الحظ لم يتمكن المنظرون المتأخرون من إقناع القادة السياسيين بأن الوسائل السليمة لإنجاز التغيير أكثر فعالية من الوسائل العنيفة التي حبذها ميكافيلي في زمنه .
الخلاصة
قدم ميكافيلي في بداية القرن السادس عشر ما أعتقد البعض أنه نقطة الاهتمام الرئيس لعلم السياسة الحديث أي التركيز على القوة، حيث كان كتابه الشهير "الأمير" يدور حول الحصول على القوة السياسية واستخدامها. وقد عدّ بعض المفكرين ميكافيلي أول فيلسوف حديث لأن دوافعه وتفسيراته لم تكن مرتبطة بالدين بأي شكل. ولم يكن ميكافيلي سيئاً، كما يرى البعض، بل كان واقعياً realist يزعم أنه لكي يحصل "الامير" على أي شيء إيجابي – مثل توحيد إيطاليا وطرد الأجانب الذين أفسدوها – فعليه أن يكون عقلانياً وقاسياً في ممارسة القوة.
وبرغم أن هذا الاقتراب لم يكن مستحسناً من قبل المفكرين السياسيين الأمريكيين الذين تجنبوا في بعض الأحيان "القوة" باعتبارها قذرة ابتداء، إلا أن هذا الاقتراب تجّذر في أوربا وأسهم في بروز التحليل النخبوي لموسكا وباريتو، ومايكل كما تعّرف الأمريكيون بعد ذلك على اقتراب القوة من خلال أعمال عالم العلاقات الدولية الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة هانز مورغنثو الذي أكد على أن "كل السياسة هي صراع من أجل القوة".