منتديات الحوار الجامعية السياسية

شخصيات صنعت التاريخ

المشرف: بدريه القحطاني

By فيصل الزامل ١٠١
#55044
المأمون
المأمون هو عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس , ولد عام 170 هـ[1] و توفي غازيا في 19 رجب عام 218 هـ 10 أغسطس سنة 833م بطرسوس[2], شهد عهده ازدهارا بالنهضة العلمية و الفكرية في العصر العباسي الأول و ذلك لأنه شارك فيها بنفسه[3].
قبل الخلافة
عبدالله المأمون بن هارون الرشيد و لد سنة 170 هـ 786م في اليوم الذي ولي فيه والده الخلافة[4] , وكانت أمه من الفرس " البرامكة " و اسمها مراجل وقد ماتت في نفاسها به.[1] . ولاه والده العهد و هو في الثالث عشرة من عمره بعد أخيه الأمين , و ضمه الى جعفر بن يحيى و ولاه خراسان و ما يتصل بها الى همذان, و منحه بمقتضى الشروط التي عقدها استقلالا يكاد يكون تاما[5] .

توليه الخلافة
فشلت المفاوضات السلمية التي كانت قائمة بين الأمين و المأمون, مما جعل الطرفان يلجئان للحرب , ففي أوائل سنة 195 هـ أمر الأمين بوقف الدعاء للمأمون و أعلن البيعة لابنه موسى و لقبه بالناطق بالحق, و نقش اسمه على السكة و كان هذا بمثابة خلع المأمون , ثم بعث من سرق الكتابين بالكعبة و حرقهما, و أمام هذا الاعلان رأى المأمون أن يستعد للحرب فجهز جيشا كبيرا و حشده على حدود خراسان في منطقة الري, و ولى عليه قائدين من أتباعه المخلصين و هما طاهر بن الحسين , و هرثمة بن أعين الذي يرجع اليهما الفضل في اعداد جيش المأمون اعدادا قويا, أما الأمين فقد اختار علي بن عيسى بن ماهان أحد كبار رجال الدولة الذي كان واليا على خراسان في عهد الرشيد, تقدم بن ماهان نحو الري لقتال طاهر بن الحسين دون أن يستعد له استعدادا كافيا و ذلك لأنه كان يستهين بشأن طاهر لحداثته, و انتهت المعركة بانتصار جيش طاهر بن الحسين و مقتل علي بن عيسى بن ماهان سنة 195 هـ , أرسل الأمين جيوشا أخرى عديدة الى الري و لكن مصيرها كان الهزيمة و قد استنفذت هذه الجيوش موارد الأمين فلم يستطع تحريك جيوشا أخرى و هنا تحولت الحرب من مداخل خراسان الى مداخل العراق[6].
حصار بغداد
و تقدم الجيش الخراساني نحو بغداد, حيث اتفق طاهر بن الحسين و هرثمة بن أعين على أن يقوم الأول بمهاجمة بغداد من الغرب بينما يهاجمها الثاني من ناحية الشرق, و تقدم الجيشان حتى بلغا أرباض بغداد حيث حدثت معارك مختلفة بين قوات الأمين و قوات المأمون و لم يكن جيش الأمين قويا كما لم يكن قواده في حالة معنوية عالية, وحدث أن استمالت قوات المأمون بعض قادة جيش الأمين بالهدايا و الهبات فانضموا اليه واحدا بعد الاخر [7]. غير أن الذين أبلوا في هذا الحصار هم أهل بغداد و بالأخص "جماعة العيارين" أو الفتيان و هي مجموعة من مختلف الطوائف و المذاهب الاسلامية المختلفة و من الأغنياء و الفقراء , إلا أن الغالبية العظمى كانوا من الطبقة الكادحة الفقيرة . و لقد دافع العيارون عن بغداد ببسالة نادرة و ضربوا أمثلة رائعة في الصمود و الشجاعة, وعلى الرغم من مقاومة هذه المجموعة, فقد استطاعت جيوش المأمون أن تضرب حصارا على حول بغداد, فاشتد الجوع بالأهالي لدرجة أن الأمين صرف كل ما لديه من أموال على جنوده و اضطر الى طلب الأمان و التسليم[8]. و فضل الأمين أن يسلم نفسه للقائد هرثمة لكبر سنه من جهة و لقسوة طاهر بن الحسين من جهة أخرى و خرج الأمين و أتباعه عابرين نهر دجلة في سفينة صغيرة لم تلبث بفعل الزحام أو بفعل طاهر أن انقلبت و استطاع الأمين أن يسبح الى الشاطيء و هناك أسره الجنود الخراسانيون و قتلوه بأمر من طاهر و بذلك تنتهي خلافة الأمين, و تولى المأمون الخلافة.
خلافته
اتسمت سياسة المأمون بأنها جمعت بين المواقف المتناقضة التي يصعب التوفيق بينها, فكان يميل الى الفرس تارة ثم الى العلويين تارة أخرى ثم يميل الى أهل السنة و الجماعة تارة ثالثة, فاستطاع بتلك السياسة المرنة أن يجمع بين المواقف المتناقضة و أن يرضي جميع الاحزاب و يتغلب على معظم الصعاب. بويع بالخلافة أثناء وجوده في خراسان و لهذا لم بنتقل الى بغداد مقر الخلافة العباسية, بل ظل مقيما في مدينة مرو بخراسان مدة ست سنوات تقريبا انتقل بعدها الى بغداد سنة 204 هـ و يقال أن سبب ذلك هو أن المأمون كان يخشى أهل بغداد أنصار أخيه و قيل كذلك أن وزيره الفضل بن سهل هو الذي أقنعه بذلك كي يكون مركز الدولة بين الفرس في خراسان[11] أما من جهة سياسة المأمون نحو العلويين فكانت تتسم بالعطف و التسامح و كأنه أراد بذلك أن يتلافى مغبة السياسة القاسية التي سلكها اباؤه العباسيون نحوهم من قبل و يلاحظ أن ميل المأمون الى العلويين يتفق مع ميوله الفارسية, اذ كانت أمه و زوجته فارسيتين و كان الفرس يعتقدون أن العلويين هم وحدهم أحق بالخلافة بسبب صلة النسب التي تربطهم بال علي منذ أن تزوج الحسين بن علي ابنة يزدجرد الثالث ملك الفرس الساساني.لقد قام المأمون في هذا السبيل بحركة سياسية غريبة احتار المؤرخون في تفسيرها و هي أنه في سنة 201 هـ اتى بأمير علوي و هو الامام علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق و هو الامام الثامن عند الامامية الاثني عشرية و بايعه بولاية العهد, ولقبه بالرضا من ال محمد, و زوجه ابنته أم الحبيب و أمر جنوده بطرح السواد شعار العباسيين و لبس الثياب الخضراء شعار العلويين و كتب بذلك الى سائر أنحاء المملكة[12]. و أغلب الظن أن المأمون حينما جعل عليا الرضا خليفة من بعده و اتخذ رايات العلويين الخضر شعارا بدلا من رايات العباسيين السود انما كان مدفوعا في ذلك بشعور ديني و سياسي يرمي الى كسب رضاء العلويين و الخراسانيين على السواء, الا أنه يبدو مع ذلك أن المأمون لم يكن مخلصا تماما في تحويل الخلافة الى العلويين بدليل أنه تراجع عن كل هذه الاجراءات حينما دعت الضرورة الى ذلك[13]. و يروي المؤرخون العراقيون أن العراقيين حينما بلغهم الخبر هاجوا و ثاروا و رفضوا مبايعة علي الرضا و قالوا لا تخرج الخلافة من ولد العباس و خلعوا المأمون و بايعوا عمه ابراهيم بن المهدي خليفة عليهم و لقبوه بلقب المبارك. و تضيف الرواية الى أن أخبار هذه الفتنة في العراق لم تصل الى المأمون و أن الفضل ابن سهل كان يتعمد اخفاءها عنه, و أن القائد هرثمة بن أعين حاول أن يصل الى المأمون بمرو ليطللعه على حقيقة الأحوال بالعراق و لكن الفضل بن سهل دبر له من قتله. و الشخص الوحيد الذي تجرأ على اخبار المأمون بأخبار هذه الفتن هو علي الرضا و لي عهده, عندئذ انتبه المأمون للخطر المحدق به و خرج من مرو الى مدينة طوس ليستمد القوة بالصلاة على ضريح والده هارون الرشيد و في خلال الطريق قتل وزيره الفضل بن سهل و هو في الحمام بمدينة سرخس و حينما بلغ مدينة طوس توفي صهره علي الرضا من جراء اضطراب في الجهاز الهضمي, و هناك في طوس دفن علي الرضا في جوار الرشيد - و لم تلبث أن قامت حول مقامه مدينة جديدة و هي مدينة مشهد التي حلت محل مدينة طوس القديمة و هي تعتبر اليوم من أهم الأماكن الشيعية المقدسة بعد كربلاء[14]. و قرر المأمون بعد ذلك العودة الى بغداد بعد أن زالت الأسباب التي دعت الى غضب أهلها فوصلها سنة 204 هـ حيث أقبل الناس على مبايعته و الترحيب به, و عفا المأمون عن عمه ابراهيم بن المهدي ثم عزل الحسن بن سهل من ولاية العراق بعد مدة قصيرة و أمر الناس بلبس السواد مرة ثانية و بذلك قطع صلته بابن سهل, و بالرغم من تخلص المأمون من بني سهل الا أنه اعتمد على أسرة فارسية أخرى و هي أسرة طاهر بن الحسين الذي ولاه المأمون على خراسان سنة 205 هـ و استمر الحكم في أبنائه من بعده فقامت بذلك في خراسان أول امارة شبه مستقلة عن الدولة العباسية و هي الدولة الطاهرية[15].
الثورات في عهده
يذكر أن أولى الثورات بدأت منذ بدايات عهد المأمون, أثناء اقامته في مرو بخراسان, ذلك أن تحيزه للفرس أثار غضب أهل العراق من بني هاشم و وجوه العرب فأشاعوا بأن بني سهل قد حجبوا الخليفة و استبدوا بالرأي دونه, لهذا كانت أول ثورة قامت ضد المأمون كانت ثورة عربية تزعمها قائد عربي اسمه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني و كان مركزها مدينة الكوفة بالعراق و قد انضم الى هذه الثورة عدد كبير من العلويين الناقمين على بني العباس و نجح أبو السريا في بداية الأمر حيث انتصر على الجيوش التي أرسلها اليه والي العراق و استولى على البصرة و القادسية و ضرب نقودا باسمه, فسار اليه القائد هرثمة بن أعين بطلب من الولي و استطاع أن يقضي على الثورة و قتل قائدها و شرد أتباعها سنة 201 هجرية.[16]
ثورة الأقاليم
ضعفت السلطة المركزية في بغداد نتيجة الفتن و الحروب التي تخللت عصر الأمين و أوائل عصر المأمون مما أدى الى انتقال عدواها الى الأقاليم الاسلامية الاخرى كما شجعت بعض الولاة على التهاون بمصالح الناس و ارهاقهم بكثرة الضرائب و الأعباء المالية المختلفة مما أدى الى جنوحهم للثورة و العصيان. كان أخطر هذه الثورات جميعًا ثورة مصر، ذلك أن الأحوال في مصر كانت مضطربة اذ انتقلت اليها عدوى الخلافات بين الأمين و المأمون ففريق كان يؤيد الأمين و فريق اخر كان يؤيد المأمون و فريق ثالث بزعامة السري بن الحكم و أولاده يعمل لحسابه الخاص و يضرب فريقا باخر بغية الاستقلال بمصر[17], و تصادف في ذلك الوقت أن قامت ثورة في الأندلس ضد أميرها الحكم الأول الأموي و قد عاقبهم الأمير بهدم ديارهم و حرق حيهم و نفيهم من الأندلس فعبر بعضهم الى المغرب أما البعض الاخر فقد واصلوا سيرهم في البحر شرقا حتى وصلوا شواطىء الاسكندرية فنزلوا في أوائل عصر المأمون و كانت الأحوال في مصر مضطربة و انتهز الأندلسيون المهاجرون فرصة هذه الفتن و استولوا على مدينة الاسكندربة بمعاونة أعراب البحيرة و أسسوا فيها امارة أندلسية مستقلة عن الخلافة العباسية دامت أكثر من عشر سنوات و عندما استتب الأمر للخليفة المأمون أرسل قائده عبدالله بن طاهر بن الحسين الى مصر لاعادة الأمور الى نصابها سنة 828 فأرسل الى هؤلاء الأندلسيين يهددهم بالحرب ان لم يدخلوا الطاعة فأجابوه الى طلبه حقنا للدماء ثم اتجهوا في مراكبهم الى جزيرة كريت و كانت تابعة للدولة البيزنطية فاستولوا عليها و هناك أسسوا قاعدة بحرية اسلامية ضد الدولة البيزنطية[18]. غير أن الأوضاع بمصر لم تستقر بعد حملة عبد الله بن طاهر بن الحسين بسبب تعسف الولاة و فداحة الجزية و كثرة الأعباء الملقاة على كاهل المصريين, ففي سنة 216 ه قام الأقباط بثورة خطيرة عمت الساحل المصري كله و استمرت الثورة ثمانية أشهر حتى اضطر الخليفة المأمون و كان في الشام وقتئذ أن يذهب الى مصر بنفسه لتهدئة الحالة, و غضب الخليفة على والي مصر و قتئذ و أنبه بقوله " لم يكن هذا الحدث العظيم الا عن فعلك و فعل عمالك حملتم الناس ما لا يطيقون و كتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر و اضطربت البلاد" ثم أمر بعزله, و حاول المأمون في بادىء الأمر أخذ الثوار باللين فوسط بينه و بين أسقف عرف باسم دنيس و لكن الوساطة لم تأت بالنتيجة المرجوة, فاضطر الى استعمال الشدة و العنف لاخماد تلك الثورة[19]. كذلك قامت القبائل و العشائر العربية في الشام و الجزيرة بثورات مختلفة بقيادة زعيم عربي اسمه نصر بن شبث و كانت هذه الثورات موجهة ضد النفوذ الفارسي لميل المأمون الى جانب الخراسانيين, و قد استطاع القائد عبدالله بن طاهر بن الحسين تهدئة القبائل الثائرة بالحزم و الشدة تارة, و بالاستصلاح تارة أخرى اذ رفع عنهم الكثير من الضرائب.[20]
سياسته الخارجية
كانت سياسة المأمون نحو الامبراطورية الرومانية المقدسة استمرارا لسياسة والده الرشيد التي تقوم على مصادقة هذه الدولة الأوروبية الغربية, و على الرغم من أن وفاة شارلمان حدثت في العام التالي من خلافة المأمون سنة 814م الا أن ذلك لم يحل دون استمرار سياسة التفاهم مع ولده لويس التقي, اذ تشير المصادر الأوروبية الى أن الامبراطور لويس أرسل سفارة الى البلاط العباسي في بغداد في عهد المأمون سنة 831م[21]. أما عن علاقة المأمون بالامبراطورية البيزنطية فكانت سياسة عدائية على غرار سياسة ابائه من قبل, و يشير المؤرخون أن المأمون استغل فرصة الفتنة الداخلية التي تزعمها توماس الصقلبي ضد الامبراطور البيزنطي ميخائيل الثاني 821م و أخذ يمده بالسلاح و المال كي يعينه على فتح القسطنطينية و الاستيلاء على الحكم كما أوعز الى بطريارك القسطنطينية أن يتوج هذا الثائر امبراطورا ليصبغ حركته بصبغة شرعية لكن الدولة البيزنطية كشفت أخبار هذه الاتصالات و انتهى الأمر بهزيمة توماس الصقلبي و قتله على أبواب القسطنطينية سنة 823م. و لم يتردد المأمون في السنوات الأخيرة من حياته من قيادة جيوشه بنفسه و التوغل في أراضي الدولة البيزنطية.[22], اذ قاد حملة من بغداد و سار الى منبج ثم الى طرسوس و منها دخل أراضي الامبراطورية البيزنطية, في تموز من عام 830م ففتح حصن قرة عنوة و أمر بهدمه و اشترى السبي بستة و خمسين ألف دينار ثم خلى سبيلهم و أعطاهم دينارا دينارا, ثم توجه المأمون الى الشام و هناك ورده أن الامبراطور البيزنطي قتل عددا من سكان طرسوس و المصيصة, فأعاد المأمون الكرة على أراضي الروم فسار حتى وصل أنطيفوا فخرج أهلها على الصلح ثم توجه الى مدينة هرقلة فخرج أهلها على صلح أيضا خوفا من قوات المأمون, ثم وجه عدة حملات داخل الأراضي البيزنطية و تم فتح ثلاثين حصنا بقيادة أحد أخوته, أعاد المأمون التوغل في أراضي الروم مرة ثالثة و أغار على مدينة لؤلؤة مدة مائة يوم ثم رحل عنها, واستخلف عليها قائده عجيف بن عنبسة لكن أهل المدينة خدعوه و أسروه فأرسل المأمون كتيبة لانقاذه فتم اخلاء سبيله عبر تفاوض مع الامبراطور تيوفيل[23]. حاول المأمون غزو البيزنطيين عام 833م فدخل أراضيهم بجيشه عن طريق طرسوس غير أن الوفاة أدركته هناك اثر اصابته بالحمى و دفن بطرسوس.[24].
[عدل] فتح جزيرة صقلية
كانت علاقة المأمون بدولة الأغالبة في أفريقية أو المغرب استمرارا لسياسة والده التي تقوم على الاعتراف بحكم هذه الاسرة على أساس الاستقلال الذاتي, مع التبعية للخلافة العباسية, و كان يحكم دولة الأغلبة زيادة الله الأول بن ابراهيم بن الأغلب, الذي بقي حليفا و تابعا مخلصا للمأمون, و قد تمت في عهده الاستيلاء على جزيرة صقلية التابعة للبيزنطيين[25]. ففي سنة 212 ه 827م أمر زيادة الله بغزوها و اسند قيادة الحملة الى قاضي القيروان أسد بن الفرات بن سنان, و كان الجيش الفاتح يتكون من عشرة الاف فارس معظمهم من الفرس الخراسانيين و البقية من الأفارقة و الأندلسيين المقيمين في أفريقية, و أبحروا من ميناء سوسة في أسطول من مائة مركب الى جنوب جزيرة صقلية, حيث نزلوا في مدينة مازرة و غيرها من النواحي المواجهة للساحل التونسي جنوبا و دارت معركة شديدة بين الجيش الاسلامي و البيزنطي انتهت بانتصار الجيش الاسلامي و استشهد أسد بن الفرات بعد أن وطد الحكم الاسلامي في بعض نواحيها, وكتب زيادة الله الى الخليفة المأمون يبشره بفتح صقلية[26].
النهضة العلمية في عهد المأمون
أبدى المأمون اهتمامه بجمع تراث الحضارات القديمة و خاصة الحضارة اليونانية, أرسل بعثات من العلماء الى القسطنطينية و قبرص للبحث عن نفائس الكتب اليونانية و نقلها الى بيت الحكمة في بغداد, كان بيت الحكمة معهد علمي يضم مكتبة لنسخ الكتب و دارا لترجمتها للعربية و كان له مدير و مساعدون و مترجمون و مجلدون للكتب, وقد بلغ من شغف المأمون بالثقافة الاغريقية أن أرسطو ظهر له في المنام مؤكدا له أنه لا يوجد تعارض بين العقل و الدين[27], كذلك شجع المأمون المناظرات الكلامية و البحث العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم و ازالة الخلاف بين العلماء, مما أدى الى قوة نفوذ العلماء في الدولة و كان من أشهرهم أبو عثمان الجاحظ[28]
أصدر المأمون برنامجا منهجيا للدراسات الفلكية في أول المراصد الفلكية التخصصية المقامة ببغداد و دمشق, و أرسل أول بعثة موسعة مكرسة لاجراء التجارب العلمية, و كشفت هذه المساعي عن طريقة العلماء العرب في فهم المتون الكلاسيكية و استيعابها لا كغاية بحد ذاتها, بل كنقطة انطلاق لاجراء أبحاثهم و دراساتهم الخاصة و كانت هذه المشروعات بداية السيرة المهنية لبعض من أهم العلماء و المفكرين الأوائل في الاسلام[29]. أظهر المأمون فضولا صحيا لمعرفة العالم من حوله و ميلا الى البحث و المنهج العلمي فخلال زيارة له الى مصر سنة 832 م حاول تعلم الهيروغليفية القديمة لكنه تمكن من دخول هرم الجيزة الأكبر ليجد القبر الملكي فارغا قد نهبه اللصوص. و قد اهتم المأمون اهتماما عميقا لعمل العلماء ببيت الحكمة فكان يتردد اليه بانتظام للتباحث مباشرة مع الخبراء و المستشارين في اخر ما انتهت اليه البحوث و في مسائل التمويل و سوى ذلك من مسائل ذات صلة و شدد على الاستزادة من دراسة الرياضيات و علم الفلك من عمل[30].
بعثة المأمون في قياس محيط الأرض
محمد بن موسى الخوارزمي وضع نسخة مختصرة عن زيج السند هند بطلب من المأمون و الذي بقي يستخدم قرونا في العالم الاسلامي و أوروبا.
بالرغم من كتيبة العلماء الكبار الذين كانوا تحت تصرف المأمون, لم يكن يحصل الخليفة دوما على الأجوبة التي يريدها, و يروي حبش الحاسب أحد أرفع علماء الفلك لدى الخليفة عنه أنه " عندئذ سأل التراجمة عن معنى كلمة(Stades)و هي وحدات طول يونانية أعطوه ترجمات مختلفة". و لما أعيت خبراءه الاجابة, قرر المأمون ايجاد طول الدرجة الواحدة من الدائرة الكبرى للأرض بالقياس واضعا خطة مفصلة لتجربة علمية لحل المعضلة, ففي توسعة لتجربة الرياضي اليوناني القديم اراتوسينس أرسل المأمون فريقين من علماء الفلك و المساحين و صانعي الالات الى سهل سنجار الصحراوي, بالقرب من الموصل حيث أخذوا القراءات لارتفاع الشمس قبل أن ينقسموا فريقين فريق اتجه الى صوب الشمال و فريق اخر صوب الجنوب الاصلي و مع تحركهم كانوا يسجلون بدقة ما قطعوا من مسافة واضعين في الارض علامات خاصة على الدرب و عندما كانت مجموعة ثانية من القراءات الشمسية تشير أنهم قطعوا درجة على دائرة خط الطول يتوقفون و يعودون أدراجهم للتثبت من المسافة التي قطعوها, ثم تحلل المجموعتان المستقلتان النتائج و تقارن الواحدة بالأخرى لتعطيا رقما نهائيا دقيقا الى حد لافت. كان حساب بحاثة المأمون قريبا جدا مما يعرف اليوم[31].
الرياضيات و علم الفلك
و عندما كان يحصل خطأ ما كان المأمون يسارع الى التدخل و قد استغل ذات مرة زيارة له الى دمشق زمن الحرب لقيادة بعثة لتقصي الحقائق بعدما تبين له أن نتائج المحاولات الأولى لتتبع منازل الشمس و القمر في السماء من مرصد بغداد لم تكن دقيقة, طلب الخليفة من مستشاريه السوريين ايجاد فلكي مؤهل لتحسين نتائج بغداد, يقول حبش الحاسب: "أمره المأمون بتجهيز أصح ما يمكن من الات و مراقبة الأجرام السماوية طوال العام" ثم جمعت الحصيلة الضخمة للقياسات الفلكية و رتبت بأمر من المأمون و نشرت لمن يرغب في تعلم ذلك العلم[32].
و من أهم علماء الفلك الذين عاصروا المأمون هو محمد بن موسى الخوارزمي الذي وضع سنة 825م نسخة مختصرة من عمل السند هند بطلب من المأمون و جداول شهيرة للنجوم عرفت بزيج السند هند ظلت تستخدم قرونا في العالم الاسلامي ثم في أوروربا المسيحية, ساعد نجاح و انتشار زيج الخوارزمي على تكريس جداول النجوم كعنصر أساس من الترسانة العلمية الاسلامية, يشهد بذلك شيوع استخدامه و طول بقائه الملفت, و قد وضع أكثر من 225 جدولا من هذا النوع في العالم الاسلامي في ما بين القرنين الثامن و التاسع عشر.كان هذا الزيج الدقيق يزود مستخدمه بكل ما يحتاج اليه من أدوات لتحديد منازل الشمس و القمر و الكواكب المرئية الخمسة و تعيين الوقت من النهار أو الليل استنادا الى الأرصاد النجمية أو الشمسية, و كانت مفيدة خاصة لضبط أوقات الصلوات الخمس في الاسلام و تحري الهلال لتحديد بداية الشهر القمري عند المسلمين, كما كان في الامكان استخدام الزيج مع بعض الالات الفلكية غالبا لحل المسائل المعقدة في الهندسة الكروية و تعيين الوقت[33]. كما أهدى الخوارزمي كتاب الجبر و المقابلة الى المأمون الذي يتناول حلولا رياضية للقضايا الدينية و العملية حيث يقول الخوارزمي:«" و قد شجعني ما فضل الله به الامام المأمون على أن ألفت من حساب الجبر و المقابلة كتابا مختصرا حاصرا للطيف الحساب, و جليله لما يلزم الناس من الحاجة اليه موارثهم و وصاياهم و في مقاسمتهم و أحكامهم و تجاراتهم و في جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين و كري الأنهار و الهندسة و غير ذلك من وجوهه و فنونه"»[34].
تطور علم الجغرافيا
كان المأمون مسؤولا عن الصالح الديني لمجتمع المسلمين الواسع في امبراطوريته لجأ الخليفة الى علماء بيت الحكمة طلبا للعون على شؤون الدين و الدنيا طلب من هؤلاء الخبراء تحديد المكان الدقيق لبغداد و مكة لمعرفة القبلة الشرعية الصحيحة كما أراد الخليفة صورة دقيقة لطول و عرض العالم الذي يحكمه عند فلكيي بيت الحكمة الاخرين كان كل ذلك يؤول الى حل مسائل أساسية في الهندسة الكروية , و كانوا قد حذقوا بالاستعانة بالقدماء لتحديد نظام الاحداثيات الجغرافية, أي استخدام خطوط الطول و دوائر العرض التخيلية التي تعطي كل نقطة منها موقعا فريدا يمكن تحديده بهذه الدوائر, طبق العلماء العرب بسهولة الرياضيات الكروية على مسائل الجغرافيا من البداية, و كان هؤلاء العلماء قد تعلموا من بطليموس صاحب كتاب 'المجسطي' و كتاب 'جغرافيا' , كان المسح الجيوديزي الذي أمر باجرائه المأمون في برية سنجار الصحراوية قد أعطى طول الدرجة الواحدة من محيط الأرض بوحدات قياس عربية فكان 56 ميلا و الميل العربي 4000 ذراع و الذراع التي وضعها المأمون 120 اصبعا حسب المسعودي في المروج بينما قدمت تصحيحات المسلمين لجداول بطليموس التي تحدد الاحداثيات 8000 مدينة و مكان وما أضافوا اليه من بيانات جديدة أكثر دقة للفلكيين و الجغرافيين على السواء.[35].
كانت المعلومات و التقنيات التي طورها خبراء المأمون و أمثالهم, تستطيع تحديد القبلة بدقة من خط الطول المحلي للدائرة الكبرى للكرة الأرضية, كانت الجغرافيا التي تعرف القبلة بأنها الخط المستقيم الذي يصل المؤمن بمكة, لكن فلكيي و رياضيي بيت الحكمة علموا أن الشكل الكروي للأرض يعني أن القبلة الفعلية كانت في الحقيقة خطا مائلا بزاوية محددة من نقطة الصلاة لا تزال تعرف اليوم باسم السمت, ويستخدم هذا النظام في الحسابات الجغرافية المعاصرة للمسافة و الاتجاه, و بذلك تم و ضع أعظم انجاز للمأمون و هي وضع خريطة للعالم و قد عثر على شاخصات تعود للعصر العباسي تبين المسافة من بغداد حتى فلسطين و جورجيا بالقوقاز, جمع المأمون فريقا من عشرات العلماء لصنع خريطة للعالم صور فيها العالم بأفلاكه و نجومه و بره و بحره و عامره و مساكن الأمم و المدن و هي أفضل مما يقدمه بطليموس و مارينوس, جاء في خريطة المأمون و مسحه وصف ل530 مدينة و بلدة مهمة و خمسة أبحر و 290 نهرا و 200 جبل و مقدارها و ما فيها من معادن و جواهر. كما صحح جغرافيو المأمون تمثيل بطليموس التقليدي للمحيط الهندي كبحر محاط باليابسة و أوضحوا لأول مرة أنه كتلة كروية من الماء تحيط بالعالم المسكون و هو ما فتح الطريق لما يعرف بعصر الاكتشافات الجغرافية بأوروبا[36].
أخلاق المأمون
كان يقول: أنا والله أستلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه، ولو عرف الناس مقدار محبتى للعفو؛ لتقربوا إلى بالذنوب! وقال: إذا أصلح الملك مجلسه، واختار من يجالسه؛ صلح ملكه كله.
و يؤثر عنه أن أهل الكوفة رفعوا مظلمة يشكون فيها عاملا؛ فوقَّع: عينى تراكم، وقلبى يرعاكم، وأنا مولّ عليكم ثقتى ورضاكم. وشغب الجند فرفع ذلك إليه، فوقَّع: لا يعطون على الشغب، ولا يحوجون إلى الطلب. ووقف أحمد بن عروة بين يديه، وقد صرفه على الأهواز، فقال له المأمون: أخربتَ البلاد، وأهلكت العباد فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفتَ بين يديه، وقد قرعك بذنوبك؟ فقال: العفو والصفح. قال: فافعل بغيرك ما تختار أن يفعل بك. قال: قد فعلت, ارجع إلى عملك فوالٍ مستعطِف خير من وال مستأنف. وكتب إلى على بن هشام أحد عماله، وقد شكاه غريم له: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عاريًا، وجارك طاويًا.
هكذا كان المأمون, حتى لقد وصفه الواصفون بأنه من أفضل رجال بنى العباس حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاءً، وقد سمع الحديث عن عدد كبير من المحدّثين، وبرع في الفقه واللغة العربية والتاريخ، وكان حافظًا للقرآن الكريم.
من اقواله
• أنه قال :الناس ثلاثة: فمنهم مثل الغذاء لابد منه على كل حال, ومنهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض, ومنهم كالداء مكروه على كل حال.[1]
وفاته
بينما كان المأمون في أراضي الدولة البيزنطية في اخر غزواته و هو بالبدندون شمال طرسوس أصابته حمى لم تمهله كثيرا و في 18 من رجب سنة 218 هجرية أدركته الوفاة فحمل الى طرسوس و دفن بها, وتولى الخلافة بعده أخوه أبو اسحق محمد المعتصم بالله.