صفحة 1 من 1

العصر الهوليوودي

مرسل: السبت نوفمبر 17, 2012 12:11 am
بواسطة عبدالرحمن العتيبي101
يبدو أن عالمنا الذي نخاله عصر العلم والمعرفة بدأ يتجه إلى التسطيح والتجهيل، وإلى استبطان عالم الأشياء بدل عالم الأفكار، وإلى إثارة الصورة المباشرة السطحية بدل التأمل في الفكرة العميقة المدفونة بين السطور المرقومة في بطون الكتب.
قلِّب ناظريك في أي مجال من مجالات حياتنا العامة تجد «الإثارة» مربطَ الفرس الذي حوله تتحنّث الجماهير، ابتداء من عالم الدين المقدس.. وانتهاء بعالم الفن المدنس.
ففي عالم الدين، بدأت الجماهير تتعلق بالمواضيع المثيرة السهلة فحسب. فـ «الشيخ المثير» الذي تراه الفتيات وهو يلعب كرة القدم ورياضة الحديد ويتحدث إليهن عبر الشاشة عن فارس الأحلام وعن لواعج الهوى وتباريح الغرام بات الأكثر رواجا في هذا العالم الهوليوودي المسعور. والكتب الدينية التراثية ذات النزعة العقلية الهادئة اختفت من رفوف المكتبات، لتحل محلها الكتب ذات الطبيعة الثائرة المثيرة: «روضة المحبين»، و «تحفة العروس»، و «طوق الحمامة» و «تفسير الأحلام» و «الصارم البتار».. والقائمة لا تنتهي. والقاسم الوحيد بين هذه الكتب هو عنصر «الإثارة» والغرابة، أو صبغة الخيال العلمي الهوليوودي التي تطبعها.
وفي عالم السياسة، بدأ السياسي المهرج زيرُ النساء يبرز على حساب السياسي صاحب النضال الذي يحمل على ظهره عقودا من التضحية في سبيل أبناء شعبه. ولك أن تفكر في قائمة تطول من كلينتون وحتى ساركوزي. ولو أن مجتمعاتنا كانت ديمقراطية لسمعنا الأعاجيب عن قصص بعض القادة العرب مع الإثارة والسطحية والمجون والهليوودية.
لقد بدأت جماهير العصر الهوليوودي تتعلق بالسياسي انطلاقا من إعجابها بقصص نضاله وتضحياته الماجنة.. لا بناء على نضال وتضحيات سطّرها في سبيل مجد أمته أو بني جلدته. والسر في تعلق هذه الجماهير بهذا النوع من السياسيين هو أنه يشبه الصورة المُخزنة في اللاوعي وهي صورة أبطال هوليوود الذين بدؤوا يتحكمون في «حاسة الذوق» لدى هذا القطيع البشري التائه الهائج في هذا العصر المسطح الغريب.
وقلْ نفس الشيء عن عالم الفن. فقد اختفت نهائيا الأصوات البلبلية التي كان يسعد بها السمع ويصغي إليها القلب وترتاح لها النفس. وحلت محلها لحوم بشرية تتثنى على شاشات التلفاز كأن أصحابها مجموعة فرّتْ لتوها من مستشفى المجانين. لم يعد اليوم بين ظهرانينا من يستمع إلى الغناء لأجل الغناء، بل أصبح صوت الشهوة الحسية هو الأندى وهو الذي يحدد نجاح الفنان، وأصبحت فنون التلوي على الشاشة هي أسرع وسيلة لجمع المال والشهرة.
إن الثقافة الهوليوودية هي السبب في افتتان الناس بالصورة عن الفكرة، وبالعَرَض عن الجوهر. وقد تمكنت هذه الثقافة من صناعة قطعان بشرية ممسوخة تستعبدها الصورة في عالم كان من المفترض أن يكون عصر علم وعقلانية وتفكر.
إي وربّي، لقد صدق الدكتور عبدالوهاب المسيري حين اعتبر أن أعظم ما نجحت فيه الحضارة الغربية الحديثة هو أنها استطاعت أن تخفي عيوبها عنا. فلقد تدثرت هذه الحضارة بحجاب كثيف من الأجهزة والاكتشافات والسرعة والمصطلحات، مما حولنا إلى كائنات تلهث دون أن تفكر.. كائنات تسابق الزمن لكن لا تدري إلى أين تسير.. كائنات تهش بأنها في «عصر السرعة» لكنها لم تسأل يوما إلى أين ستأخذها هذه السرعة، وما هي طبيعة المهوى السحيق
الذي ستتردى فيه بفعل هذه العقلية الهوليوودية الصاخبة وهذا الزمن السريع.
لكأن العالم كله أصبح مسلسلا هوليووديا. فلنقف ونسأل: إلى أين نسير؟