منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
By عبدالرحمن العتيبي101
#55051
يذكر أبو عثمان الجاحظ في موسوعته الموسومة بالبيان والتبيين، أن السختياني كان يقول: “إن من أصحابي من أرجو دعوته ولا أقبل شهادته ”. وهذه ـ لعمري ـ عبارة كثيفة الدلالة دقيقة التشخيص لحالة من حالات “أمراض التدين” السلبي، التي تحول الأشواق الربانية الجامحة بطبعها، إلى نزعة شعائرية ذاتية “خالية من الدسم”، وقد عانى تاريخ التدين من هذه الظاهرة من قبل، لكن يبدو أنها انتشرت بشكل لافت في العصر الحديث.
كم يوجد بيننا من مؤمن ملتزم بشعائر الدين، وقاف عند حدوده المتوارثة، من صلاة وصوم وحج، واجتناب للكبائر وتورع عن الصغائر، لكنه في الوقت ذاته لا يتمثل روح الإسلام الشاملة، ولا يحترق كي يوصله إلى الآخرين، ولا يقلق إذا ما رأى كرامة أمته تداس، ولا يتمعر له وجه إذا تحرر السلطان من رقابة الدين المنزل.
وتنتهي نزعة التدين الذاتي هذه بصاحبها إلى نوع من عدم الاهتمام بما حوله، معتقدا أن ذلك داخل في باب “الورع”، مما يؤدي به إلى نوع من “عدم الوعي” أو “الغفلة”، ما كان لها أن تكون سمة من سمات المصلين ولا شيمة من شيم المسلمين.
لذلك، لا تفاجئ اليوم إذا وجدت متدينا بهذه الطريقة، يندفع كي يُمكن للتيار العلماني في بيئة إسلامية، دون أن يرى أي تعارض بين “تدينه” وبين تأييده لهذه الأحزاب، التي قد يكون في تضاعيف برنامجها القضاء على حرية التدين والتضييق على المتدينين.
ومن المعروف أن من أكبر الأسباب التي أدت إلى ذبول قوة المسلمين وانحسار سلطانهم عن الأرض، تخليهم عن دينهم وتنكبهم صراط نبيهم، لكن من الطريف أن هذا النوع من التدين ـ الموصوف آنفا ـ كان حاضرا بقوة طيلة الفترة التي كانت فيها الحضارة الإسلامية تسير سيرا حثيثا نحو الهاوية.
ولعل الدكتور محمد إقبال، قد وُفق في فهم ظاهر “التدين السلبي”، هذه عندما عبر عنها بقوله:
طوفتُ في أمة الصحراء أسألها * فإذ بها أمة الصحراء في خور
رأيتهم في سجود لا اتجاه له * وما له في وجوه القوم من أثر
فآثار السجود واضحة في جباه القوم، لكنه سجود لا يحرر صاحبه من الجبن والخور، ولا يصقل الطاقات الكامنة في نفوس المتدينين.
فهم كما وصفهم إقبال مؤمنون بربهم،ساجدون موحدون، لكنه سجود خال من حركية الدين وثوريته، لأن “السجود الإيجابي”، يحول المؤمن إلى طاقة ترفض الخضوع لغير الله تعالى، وتستصغر العظائم في سبيل بناء المجد والتمكين في هذه الأرض تحملا لمسئولية الاستخلاف الملقية على عاتق المؤمن.
إن “السجود” الحق هو ذلك السجود الذي يحول “الدين” إلى حركية وقلق، مستبدين بقلب المؤمن، يمنعانه الراحة والركود والاطمئنان، ويجعلانه يستعير شيئا من ذلك القلق الذي استبد بقلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أخرجهم من جزيرة العرب، رسل إيمان وحضارة وإنسانية، لا تلك التمتمات المتقوقعة المنسحبة من الحياة، والتي لا يجد صاحبها غضاضة في السعي للتمكين للأحزاب المناهضة لحركة التدين.