منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#55064
فى منتصف السبعينيات تردد سؤال عن حدود الاستمرار والتغيير فى السياسة الخارجية المصرية مع تحول الرئيس السادات غربا واعتباره الولايات المتحدة حائزة على 99 % من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط، ثم زيارته القدس وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد التى أسلمت مصر إلى قطيعة كاملة مع حاضنتها العربية بمقتضى القرار الجماعى الصادر عن قمة بغداد فى عام 1978. وبعد بضع سنوات من حكم الرئيس مبارك عاد هذا السؤال يتردد مرة أخرى مع محاولته مد الجسور مع الدول العربية، ونجاح مسعاه بالفعل نتيجة مجموعة مركبة من المتغيرات الإقليمية، أبرزها احتلال إيران شبه جزيرة الفاو وتغير ميزان الحرب مع العراق لصالحها فكان أن اتخذت قمة عمان فى عام 1987 قرارا يترك لكل دولة عربية حرية الرأى فى شأن علاقتها الثنائية مع مصر. وهكذا استؤنفت العلاقات المصرية ــ العربية على التوالى، وكانت آخر دولتين عربيتين لحقتا بقطار المصالحة مع مصر هما ليبيا فى قمة المغرب فى عام 1989 ثم سوريا فى نهاية العام نفسه. وهكذا يمكن القول إن سياسة مبارك مثلت استمرارية لسياسة السادات فيما يخص العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل بينما عبرت عن انقطاع معها فيما يخص العلاقة مع المحيط الإقليمى العربى لكن من دون تأثير يذكر فى تفاعلاته السياسية.



ومع اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 كان لابد لسؤال الاستمرارية والتغيير فى سياسة مصر الخارجية أن يفرض نفسه مجددا بأكثر مما أثير فى حقبتى السادات ومبارك، سواء لأن الثورة بحكم التعريف هى فعل ينطوى على التغيير الجذرى، أو لأن تركيبة النخبة السياسية التى أفرزتها تداعيات ما بعد الثورة تمثل قطيعة مع النخبة المنبثقة عن ثورة يوليو بحكم أيديولوجيتها وطبيعة تكوينها المدنى. فى داخل أروقة الخارجية المصرية ثمة رأى مؤداه أن هناك ثلاثة مصادر أساسية ترشح قطيعة السياسة الخارجية لثورة يناير عن سياسة مبارك الخارجية، وتلك هى أنها سياسة تحكمها القيم والمعايير الأخلاقية، ويقل تأثير العامل الخارجى عليها، وتحكمها الاعتبارات السياسية لا الأمنية، وجميعها مصادر جديرة بالمناقشة.



●●●



تعد قضية العلاقة بين الأخلاق والسياسة الخارجية واحدة من أقدم القضايا التى اشتغل عليها الفكر السياسى، وقد تجددت بقوة بعد نهاية الحرب الباردة مع بروز التحليل الثقافى للتفاعلات الدولية وأعمال صامويل هانتجتون التى ذهبت إلى أن الدول تأتلف وتختلف على أساس اشتراكها أو عدم اشتراكها فى قيم دينية واحدة. وهى تمثل الأساس الذى انبنى عليه مبدأ التدخل الدولى الإنسانى وما فجره من نقاش حول ماهية «الأهداف الإنسانية» الموجبة للتدخل، وهل تقتصر على إغاثة الشعوب المنكوبة بكوارث طبيعية أم تتجاوز ذلك إلى نشر قيم معينة كقيمة الديمقراطية مثلا. يكتسب الحديث عن «أخلاقية السياسة الخارجية المصرية» مشروعيته من وجود رئيس ينتمى إلى جماعة دينية ترشح باسمها وفاز فى الانتخابات، وتمثل الأخلاق مصدرا أساسيا من مصادر شرعيتهما معا. لكن فى الوقت نفسه فإننا نعلم أن السياسة هى لغة المصالح، وأن تلك المصالح قد توافق القيم الأخلاقية التى تعليها الدولة فيكون ذلك هو الوضع المثالى، وقد لا توافقها وهذا يفتح الباب لمشكلة ازدواحية المعايير.



وكمثال على ذلك فإنه يصعب أخلاقيا أو قيميا تبرير أن تكون أول زيارة لرئيس مصر المنتخب هى للمملكة العربية السعودية التى تقف فى المعسكر المضاد للثورات العربية، فهى تأوى الرئيس التونسى زين العابدين بن على، وكان يمكن أن تأوى الرئيس المصرى السابق إن أراد فى حينه، وهى عَرابة المبادرة الخليجية التى سمحت للرئيس اليمنى على عبدالله صالح بأن يظل على رأس الحزب الحاكم محميا هو ورجاله من كل سوء بل ومحتفظا بإخوته غير الأشقاء قادة لأسلحة الجيش ووحداته وبإبنه قائدا للحرس الجمهورى. مثل هذا التصرف إذن يصعب الدفاع عنه أخلاقيا لكن بالتأكيد يمكن الدفاع عنه مصلحيا لاعتبارات تتعلق بالعمالة المصرية فى الخليج والاستثمارات والمساعدات الاقتصادية. الشئ نفسه يمكن أن ينطبق على قبول الاقتراض من صندوق النقد الدولى الذى اجتهد مبرروه فى توفيق أوضاعه مع قناعاتهم الدينية من أول أن الفائدة عليه تمثل مصاريف إدارية وحتى تبريره بأكل الميتة وفق الضرورة مرورا بالتبرير الطريف الخاص بأن وزر القرض على متلقى الفائدة لا على مقدمها. وفى خلفية كل ذلك اقتناع بأن فى القرض مصلحة مؤكدة لمصر، أما أنها مصلحة أم لا فتلك قضية أخرى تخرج عن حدود الموضوع.



●●●



وفيما يخص تضاؤل تأثير العامل الخارجى على سياسة مصر الثورة، فإن المبدأ العام هو أن الدولة التى لا تملك قوت يومها لا يمكن أن تتمتع بسياسة خارجية مستقلة. وإذا أمكن الحديث عن استقلال القرار المصرى بزيارة الرئيس مرسى طهران لحضور قمة عدم الانحياز وإن أرغدت الولايات المتحدة وأزبدت، فإنه يمكن الإشارة فى المقابل إلى توقف الحديث عن إعادة النظر فى ملحق معاهدة السلام، وهو مطلب تسنده السوابق التاريخية ويفرضه الحرص على الأمن القومى المصرى بمعناه الضيق والمباشر. ويمكن الإشارة أيضا إلى تجنب الرئيس مرسى التصعيد مع الصين فى القضية السورية مع ما هو معلوم من دور الصين المحورى فى حماية نظام بشار الأسد بل وإشارة مرسى إلى استقرار النظام والدولة فى الصين.



●●●



وأخيرا نأتى لمسألة صنع السياسة الخارجية المصرية، وما يقال عن أنه أصبح محكوما بالاعتبارات السياسية لا الأمنية نتيجة إبعاد جهاز المخابرات العامة عن رسم أولويات السياسة الخارجية ودوائر تحركها. وفى الواقع فإن العقلية الأمنية لا ترتبط بالضرورة بانتماء أصحابها إلى أى من الأجهزة الأمنية، فمع أن المخابرات العامة قد حُيد دورها بالفعل وصعد فى مقابله دور جماعة الإخوان المسلمين وتحديدا مكتب الإرشاد على مستوى صنع القرار الاقتصادى وأيضا السياسى (حسن مالك وعصام الحداد)، إلا أن التهويل الشديد فى مسألة الخطر الشيعى وترويج مقولة إن ثمة مؤامرة كبرى تستهدف مصر بلد الأزهر فى مذهبها السنى يحمل كثيرا من روائح الماضى ورواسبه، ويحرم مصر جزءا من قوتها الناعمة الممثلة فى وسطيتها وفى قدرتها على أن تمثل بوتقة للتنوع الدينى والتسامح المذهبى.



●●●



لم تتضح بعد ملامح السياسة الخارجية المصرية وطبيعة الدور الإقليمى الذى تريد اتخاذه مصر لنفسها، فبين تأكيد الرئيس المصرى لنظيره التونسى على أن مصر لا تتدخل فى شئون غيرها من الدول ولا تسمح لغيرها بالتدخل فى شئونها، وبين خطابه عن دعم طلاب الحرية والعدالة فى سوريا والتعامل مع نظام بشار الأسد باعتباره فاقد الشرعية، أقول بين هذين الموقفين بون شاسع لكون الأول يفيد الحياد أما الثانى فيفيد التدخل النشط. وعلى صعيد آخر وفى حدود ما هو منظور تبقى عوامل الاستمرار بين السياسة الخارجية للثورة والسياسة الخارجية لمبارك أكثر من عوامل الانقطاع معها.