ليبيا كيف بدأت محنة بني الوليد وكيف ستنتهي ؟
مرسل: الاثنين نوفمبر 26, 2012 8:57 pm
ليبيا.. كيف بدأت محنة بني وليد وكيف ستكون النهاية؟
عام على اختفاء القذافي
في 23/10/2011 بعد مرور ثلاثة أيام على مقتل العقيد معمر القذافي في سرت، وقف المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي المنحل على المنصة التي أعدت له في هذه المناسبة في ميدان التحرير بمدينة بنغازي المجاهدة، ليقرأ علنا على الجماهير التي اكتظ بها الميدان ولكل الليبين وللعالم أجمع إعلان تحرير ليبيا.
عام على مقتل القذافي.. بن وليد تحت الحصار والقصف!
لا أعتقد أن أحداً ممن سمعوا وشاهدوا ذلك البيان، ينسى طعم الخيبة الذي تذوقه بعد انتهاء المستشار عبد الجليل من تلاوة البيان، واختفائه السريع من المنصة أولاً ثم من المشهد كلية.
بعد مرور عام على تلك المناسبة، تبين لليبيين أن قراءة إعلان التحريرلا تعني تماما أن الطريق قد صارت ممهدة أمامهم للمضي قدما وبناء صرح بلادهم “ليبيا” مكسورة الجناحين من جراء الاستبداد الذي غصت به طيلة أربعين حولاً ومن جراء حرب “أهلية” ضارية لاجتثات الاستبداد استمرت لمدة تمتد حوالي عشرة أشهر، ضاق الليبيون من جرائها الويل وتحولت العديد من المدن الليبية إلى خرائب وتحول آلالاف منهم إلى مشردين في بلدهم وفي بلدان المنافي!
لا أحد بمقدوره إنكار حقيقة أن ليبيا رغم إعلان التحرير الهزيل لم تخرج بعد سالمة من وضع عنق الزجاجة، الذي وجدت نفسها مسجونة داخله سياسيا وعسكريا واجتماعيا، وحتى هذه اللحظة مازال مستقبل ليبيا – استنادا لآراء معظم المعلقين السياسيين الغربيين – لم يتبين بعد خيطه الأبيض من خيطه الأسود على لوحة خارطة تضاريس الحاضر الملغومة.
وما يحدث في مدينة بني وليد هذه الأيام، على بعد 160 كليلومترا جنوب شرق العاصمة طرابلس، بعد عام على مقتل القذافي، وإعلان التحرير يعد مؤشراً خطيرًا على الاتجاه الذي من الممكن أن تتركه هذه الأحداث من علامات على بوصلة اختيار التوجه نحو الطريق إلى المستقبل.
كيف خرجت الأمور في بني وليد عن نطاق السيطرة؟
لنعد بشيء من التفصيل بعضا من سيناريو مسيرة حرب التحرير عقب سقوط العاصمة طرابلس في يوم 20 أغسطس/آب عام 2011 ولنتوقف عن قصد عند بعض العلامات التي ستقابلنا على الطريق إلى مدينة بني وليد، التي التجأ إليها الفارون من رجال النظام السابق وفلوله وعلى رأسهم وأبناء القذافي.
يمكننا الاستضاءة، في الأثناء، بما يقوله التاريخ لأن الكثير مما حدث في الماضي البعيد، كانت له انعكاسات كبيرة على ما حدث أثناء الحرب وما يحدث الآن.
مدينة بني وليد جنوب شرق طرابلس عاصمة قبائل ورفلة التي يبلغ تعدادها 54 قبيلة وتعداد هذه القبائل يقرب من المليون نسمة يقيم منهم في بني وليد، استنادا إلى التقارير الإعلامية حوالي 70 آلف نسمة، بينما تتوزع الأكثرية في جميع أنحاء ليبيا، فأينما توجهت في ليبيا لابد أن تجد وتقابل من يعود نسبه إلى قبائل ورفله.
وعقب سقوط طرابلس بدأت عيون قادة الثوار تتجه إلى بني وليد، التي ظلت على ولائها للقذافي ولنظامه، وحين بدأت فعليا قوافل سيارات الثوار المسلحة تتوجه نحو المدينة لتحريرها من أزلام النظام السابق، تعقدت الأمور بسرعة، وارتبكت القيادة السياسية التي كان على رأسها كل من المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي المنحل، والدكتور محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي المنحل أيضاً، كما ارتبكت القيادات العسكرية في آرائها وانبثق رأي من بين السياسيين والعسكريين يطالب بالاحتكام إلى الحكمة وعدم اللجوء إلى استخدام القوة “كفانا قتلا وكفانا تدميرا”. وشهدت الأيام التالية لذلك كثيراً من اللقاءات بين ممثلين للثوار وممثلين عن سكان المدينة، إلا أن اللقاءات لم تقد إلى مفاوضات نهائية وتوقيع اتفاق نهائي يمكن قوات الثوار من دخول المدينة والسيطرة عليها. وحسب ما تبين فيما بعد فإن ممثلي المدينة رفضوا تسليم من طالب الثوار بتسليمهم من أزلام نظام القذافي، ممن ارتكبوا أثناء حكم القذافي أو أثناء وقائع الحرب أو في الفترتين جرائم يعاقب عليها القانون، وسرعان ما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود أمام تصلب الطرفين، ووصل الأمر ببعض المحاربين من المدينة أن أطلقوا النار على سيارات كانت تقل أعضاء الوفد الممثل للثوار في المفاوضات. وحين قرر الثوار دخول المدينة بالقوة، واندلع القتال حرص قادة الثوار أن يكون على رأس القوة الثورية التي ستدخل بني وليد سرايا متكونة من أبناء ورفلة الذين أنضموا إلى الثورة. وواجه الثوار مقاومة عنيفة لدى محاولتهم دخول المدينة والسيطرة عليها وتكبدوا خسائر بشرية كبيرة، مما اضطرهم إلى الانسحاب.
تبين من شدة المقاومة أن القذافي وأبناءه كانوا داخل المدينة، لكن العقيد القذافي حسب الروايات التي ظهرت فيما بعد ترك المدينة هاربا إلى مدينة سرت، وكان يرافقه ابنه المعتصم في حين بقى الابنان الآخران وهما سيف وخميس بالمدينة، وعقب أيام قليلة على ذلك فر سيف ومن معه من المقاتلين ودخل الثوار المدينة، من دون أن تقابلهم مقاومة تذكر وسيطروا على بني وليد.
تلا ذلك فترة قصيرة من الهدوء، حيث تمكن الثوار من أهالي ورفلة من تشكيل كتيبتين تمركزتا في معسكرين بضواحي بني وليد، إلا ان العلاقة بين قادة الكتيبتين اتسمت بالتوتر الناجم من التنافس على السيطرة، ثم سرعان ما تدهورت الأمور في المدينة حين – حسبما تبين من أقوال الثوار وسكان المدينة – حاول بعض افراد الكتيبتين القبض على بعض الأشخاص في المدينة من المطلوبين وتحولت المدينة إلى ساحة حرب، تمكن فيها محاربوها من الهجوم على أفراد كتيبتي الثوار وطردهما من معسكراتهما. النجدات الصغيرة التي أرسل بها قادة الثوار في طرابلس لم تتمكن من دحر المدافعين ورجعت عربات النجدة العسكرية إلى قواعدها في طرابلس محملة بالكثير من الخسائر البشرية.
معمر القذافي
الأمر لم يتوقف عن هذا الحد، بل ازداد سوءا حينما بدأت بني وليد تستقطب ما تبقى من فلول القذافي الهاربة، وبدا تدفق الإشاعات في أنحاء ليبيا المتفرقة بأن بني وليد مازالت ترى على أسطح بناياتها أعلام النظام السابق، ومازالت أحياؤها ودروبها تمتلئ بأزلام القذافي وتحميهم وتقف موقفا معاديا للثورة. وأذكر شخصيا أنني في فترة ما قرأت تقريراً لصحافي من صحيفة التايمز عقب الانتخابات العامة في الأسبوع الأول من شهر يوليو/تموز، حيث نشر الصحافي تقريرا عن زيارة له إلى مدينة بني وليد لاستقصاء آراء سكانها في امكانية تولي الدكتور محمود جبريل رئاسة الوزراء، على اعتبار أنه كان يقود تحالف القوى الوطنية التي فازت بنسبة 39 في المائة من اصوات الناخبين مما يعني حصولها على 80 مقعد من مجموع 200 مقعد، وهي كل مقاعد المؤتمر الوطني العام، وأذكر أن الصحافي قال إنه أثناء زيارته للمدينة التقى بأحد الأشخاص المعروفين والبارزين في نظام القذافي بالمدينة، الأمر الذي يدل على أن الشائعات المتداولة شعبيا لم تكن تخلو من حقيقة، أو كما يقول المثل الشعبي “ما فيش دخان من غير نار”!!
التوتر الذي شهدته الأيام الماضية عسكريا في المنطقة يعود إلى أن بعض الأشخاص من سكان المدينة قاموا بخطف عدة اشخاص على أمل استخدامهم كرهائن والتفاوض مع الثوار باطلاق سراحهم مقابل اطلاق سراح المسجونين من سكان المدينة لدى الثوار، وكان من ضمن المختطفين عمران شعبان الشاب المصراتي والذي تمكن من التعرف على معمر القذافي في سرت والقبض عليه، وظهرت صوره في صفحات التواصل الاجتماعي بالانترنت وهو يقف مفتخرا حاملا مسدسين غنمهما من العقيد القذافي، أحدهما ذهبي والآخر فضي. وقد تعرض الشاب على أيدي خاطفيه إلى تعذيب شديد وبعد مضي فترة تفوق الشهر قام الدكتور محمد يوسف المقريف على رأس وفد بزيارة إلى مدينة بني وليد للمطالبة بإطلاق سراح الرهائن المخطوفين جميعا، لكنه في نهاية الزيارة لم ينجح سوى بالعودة مصحوبا بالمرحوم عمران شعبان، الذي وضع على الفور على طائرة خاصة وأرسل للعلاج بالخارج من جروحه المميتة التي أصيب بها من جراء التعذيب، إلا أنه توفى لدى تلقيه للعلاج وأعيد إلى مدينته مصراته في يوم مشهود واقيمت على جثمانه صلاة الميت وغصت الساحة بالمصلين الذين جاؤوا من جميع أنحاء ليبيا.
كان حادث الوفاة المؤسف الشرارة التي اشعلت نار ما تكتوي به ليبيا في هذه الأيام، واجتمع المؤتمر الوطني العام واصدر قراره رقم 7 والذي أعطى بموجبه لقوات درع ليبيا الصلاحيات الكاملة في القبض على ازلام النظام في مدينة بني وليد، وإحضارهم للعدالة للاقتصاص منهم، وسرعان ما تحركت قوات الثوار ممثلة في كتائب درع ليبيا وفرضت حصارا محكما على المدينة من ثلاثة محاور.
وكما هو متوقع بدأت مفاوضات الصلح القبلية، وجاء شيوخ القبائل من برقة ومن غيرها من المناطق حيث دخلوا في حوار مع شيوخ بني وليد، وتبين أن طريق الصلح مسدود لأن شيوخ قبائل بني وليد – حسب الروايات التي تروى عن مشائخ قبائل برقة دون سند أو دليل رسمي موثق – وافقوا على تسليم المطلوبين للعدالة، لكنهم أصروا على أن يتم تسليمهم للدولة، ونظرا لأن الدولة لم توجد بعد على ارض الواقع وسيادة القانون والقضاء مازالت في حالة غياب، فمن غير المجدي تسليم أي شخص في الوقت الحالي. وفي رواية ثانية – سمعتها شخصيا في لقاء أجرته قناة الجزيرة في برنامج الحصاد المغاربي مع السيد عبد القادر البدري أحد شيوخ برقة، الذين شاركوا في المفاوضات – يقال إن شيوخ بني وليد وافقوا على تسليم المطلوبين، ولكن ليس لقوات درع ليبيا التي تشكل وحداث الثوار من مدينة مصراته النصيب الأكبر فيها، بل يتم تسلميهم إلى لقوات الثوار في برقة التي تقوم فيما بعد بتسليمهم للدولة، ويسمح لقوات من الجيش الوطني الرسمي بدخول مدينة بني وليد. السيد البدري اتهم علنا قوات درع ليبيا بالتصلب وعدم الرغبة في الوصول إلى اتفاق صلح نهائي.
وليس غريبا أن تكون الحكومة الليبية الانتقالية التي يتربع على رأسها الدكتور عبد الرحيم الكيب غائبة عن المشهد بالكامل، وكأن مدينة بني وليد ليست ليبية، وهذا في الحقيقة متوقع من حكومة عرفت بالجبن ووسمت بالفشل وعدم القدرة على الحسم وأتخاذ القرارات.
وانقسم الشارع الليبي بين مؤيد للحصار وبين معارض له، كما أن المناوشات العسكرية الدامية يوميا التي تحدث بين المحاصرين “بكسر الصاد” والمحاصرين “بفتحها” امتدت إلى صفحات التواصل الاجتماعي في الانترنت حتى عطلة الأسبوع الماضي، حين تحولت المناوشات العسكرية إلى معارك شرسة وارتفعت أعداد القتلى والجرحى من الجانبين، ثم راجت الشائعات بإلقاء القبض على موسى ابراهيم القذافي الناطق الرسمي أثناء الحرب باسم نظام القذافي هاربا من المدينة، وقتل خميس معمر القذافي وزاد الأمر سوءا حين خرج الناطق باسم المؤتمر الوطني العام، واعلن على الملأ موت خميس معمر القذافي، والقبض على موسى ابراهيم القذافي، في حين أن الناطق باسم الحكومة خرج أخيرا ورفض تأكيد المعلومات، وقال إن لا شيء لدى الحكومة يؤكد ما قيل وشاع.
غمرت الفرحة أنحاء ليبيا لدى سريان إشاعة القبض على موسى ومقتل خميس، وشهدت شوارع المدن الليبية مظاهر الفرحة والابتهاج، لكن الفرحة سرعان ما أنطفأت حين تأكد أن الخبرين غير صحيحين، وبدلا من ذلك سرت موجة متوقعة من الإحباط في مختلف مناطق ليبيا، وانعكس ذلك في صفحات التواصل الاجتماعي في الانترنت التي ارتفعت درجة حرارة التعليقات والنقاشات إلى أن وصلت إلى مستوى ممقوت من الخروج عن دائرة الأدب واللياقة.
ماذا يقول التاريخ؟
في صيف 1975 وصل النزاع بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يقوده معمر القذافي ذروته، حين تمكن الشق الذي يقوده العقيد من إحباط مؤامرة عسكرية للاطاحة به يقودها الرائد المرحوم عمر المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة والذي تعود جذوره إلى مدينة مصراته، ثالث أكبر المدن الليبية والمعروفة بتاريخها الجهادي ضد الايطاليين وبتمرس أهلها في التجارة والزراعة، وبمجرد تخلص العقيد من معارضيه في مجلس قيادة الثورة وبين صفوف ضباط الجيش، شن حملة هوجاء على مدينة مصراته وطرد شابها من صفوف الجيش ومن المناصب المهمة في الدولة، واعتبرت في الاعلام الرسمي مدينة خائنة، وفي نفس الوقت خلا الجو للعقيد القذافي لتنفيذ مخططه الرامي للسيطرة الكاملة على الجيش ومقدرات البلاد، ووضع كل الخيوط بين قبضتي يديه ولتحقيق ذلك التجأ إلى عقد تحالفات قبلية مع قبيلة ورفلة، على اعتبار أن قبائل القذافة وقبائل ورفلة “إخوة الجد”. التجاء القذافي إلى عقد التحالف مع قبائل ورفلة كان مقصودا بأن قبائل ورفلة من أكبر القبائل الليبية عددا، وهي قبائل معروفة أيضا بتاريخها الجهادي ضد الايطاليين، ولعلمه أيضاً بحالة عدم الوفاق التاريخي بينها وبين قبائل مصراته والذي تعود جذوره إلى ايام الجهاد والاختلاف بين قيادتي القبيلتين والذي انتهى في عام 1920 بهزيمة جيش رمضان السويحلي في بني وليد ومقتله شخصيا.
طفلة ليبية من بني وليد تحتج على تدمير مدينتها
حين اشتعل فتيل الانتفاضة في 17 فبراير/شباط بمدينة بنغازي المجاهدة، اختارت مصراته الوقوف مع الثورة ضد القذافي، في حين أن بني وليد اختارت الوقوف في الضفة المقابلة. ما حدث بعد ذلك لم يعد سرا إذ أن انتصار الثورة ووقوف مدينة مصراته التاريخي ضد جحافل جيش القذافي وآلته العسكرية المدمرة، وتمكنها من دحره وهزيمته بفضل مساعدة قوات حلف الناتو جعلها تخرج من الحرب بنصيب كبير من الغنائم عسكريا وسياسيا، وجعل من قوات كتائبها قوات ضاربة، نتيجة لما دفعته من تضحيات وما اكتسبته من خبرات في المعارك، وما غنمته من أسلحة وانعكست هذه القوة سياسيا، ويتردد في ليبيا أن عدم وصول الدكتور محمود جبريل إلى منصب رئيس الوزراء عقب فوز تحالف القوى الوطنية الذي يقوده في الانتخابات إلى تحالف مصراته مع الإسلاميين ضده لسببين، أولا لأنه اعتبر من أزلام النظام السابق، وثانيا لأنه ورفلي الأصل. أنا شخصيا في حاجة لدليل ملموس لتصديق السبب الثاني، وهو غير متوفر لي، ولا أظن أنه متوفر لغيري، إلا أنه دليل على أن أحداث الأمس البعيد مازالت تطل بوجهها الذميم على مرآة الحاضر.
الاشكالية التاريخية هذه بين المدينتين انعكست أكثر خلال الأزمة في بني وليد، لأن الكثيرين من سكان المدينة المحاصرة يرون أن قوات درع ليبيا التي تحاصرهم لا تمثل ليبيا، بل تقودها قيادات مصراتية تود الثأر لما حدث في الماضي، ويقال أيضاً إن السبب في عدم رغبة مشائخ قبائل بني وليد تسليم المطلوبين للعدالة إلى قوات درع ليبيا ناجم عن تأكدهم من أن هذه القوات، يقودها أعداء تاريخيون لقبائلهم وفي حالة انتظار للانتقام والثأر.
أين تكمن الحقيقة في هذه الغابة من الأقاويل والاشاعات والروايات والعنعنات؟ وكيف الخروج من هذا المأزق العصيب؟
ما تأكد للجميع حتى الآن أن بني وليد ملجأ لكثير من الفارين من أزلام النظام السابق المطلوبين للعدالة، وأن هؤلاء الفارين مسلحون بكافة الأسلحة ومستعدون للقتال حتى الموت، لكنهم لن يموتوا وحدهم، لأن موتهم سيتحقق بعد موت المئات من الضحايا الأبرياء، ذلك أن القنابل لا تفرق بين المجرم والبريء.
المعارك مازالت مشتعلة وتزداد التهابا وحرارة، والحكومة الجديدة التي سيشكلها السيد علي زيدان لتحل محل حكومة الكيب الميتة، لم ينته بعد من تشكيلها، والنواب الذين اختارهم الشعب بالانتخاب الحر النزيه ليكونوا ممثليه في المؤتمر الوطني العام ليس بيدهم شيء، رغم نواياهم الطيبة، لكن تلاميذ المدارس في كل انحاء ليبيا مازالوا يقفون في طوابير الصباح، قبل استئناف اليوم المدرسي ليحيوا علم بلادهم الثلاثي الألوان، ليرددوا بصوت مليء بالصدق والحب والاخلاص كلمات نشيد بلادهم الوطني، لكن سؤالا يبقى كامنا وعصيا في القلب:
هل حقا تحررنا وحررنا الوطن؟
عام على اختفاء القذافي
في 23/10/2011 بعد مرور ثلاثة أيام على مقتل العقيد معمر القذافي في سرت، وقف المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي المنحل على المنصة التي أعدت له في هذه المناسبة في ميدان التحرير بمدينة بنغازي المجاهدة، ليقرأ علنا على الجماهير التي اكتظ بها الميدان ولكل الليبين وللعالم أجمع إعلان تحرير ليبيا.
عام على مقتل القذافي.. بن وليد تحت الحصار والقصف!
لا أعتقد أن أحداً ممن سمعوا وشاهدوا ذلك البيان، ينسى طعم الخيبة الذي تذوقه بعد انتهاء المستشار عبد الجليل من تلاوة البيان، واختفائه السريع من المنصة أولاً ثم من المشهد كلية.
بعد مرور عام على تلك المناسبة، تبين لليبيين أن قراءة إعلان التحريرلا تعني تماما أن الطريق قد صارت ممهدة أمامهم للمضي قدما وبناء صرح بلادهم “ليبيا” مكسورة الجناحين من جراء الاستبداد الذي غصت به طيلة أربعين حولاً ومن جراء حرب “أهلية” ضارية لاجتثات الاستبداد استمرت لمدة تمتد حوالي عشرة أشهر، ضاق الليبيون من جرائها الويل وتحولت العديد من المدن الليبية إلى خرائب وتحول آلالاف منهم إلى مشردين في بلدهم وفي بلدان المنافي!
لا أحد بمقدوره إنكار حقيقة أن ليبيا رغم إعلان التحرير الهزيل لم تخرج بعد سالمة من وضع عنق الزجاجة، الذي وجدت نفسها مسجونة داخله سياسيا وعسكريا واجتماعيا، وحتى هذه اللحظة مازال مستقبل ليبيا – استنادا لآراء معظم المعلقين السياسيين الغربيين – لم يتبين بعد خيطه الأبيض من خيطه الأسود على لوحة خارطة تضاريس الحاضر الملغومة.
وما يحدث في مدينة بني وليد هذه الأيام، على بعد 160 كليلومترا جنوب شرق العاصمة طرابلس، بعد عام على مقتل القذافي، وإعلان التحرير يعد مؤشراً خطيرًا على الاتجاه الذي من الممكن أن تتركه هذه الأحداث من علامات على بوصلة اختيار التوجه نحو الطريق إلى المستقبل.
كيف خرجت الأمور في بني وليد عن نطاق السيطرة؟
لنعد بشيء من التفصيل بعضا من سيناريو مسيرة حرب التحرير عقب سقوط العاصمة طرابلس في يوم 20 أغسطس/آب عام 2011 ولنتوقف عن قصد عند بعض العلامات التي ستقابلنا على الطريق إلى مدينة بني وليد، التي التجأ إليها الفارون من رجال النظام السابق وفلوله وعلى رأسهم وأبناء القذافي.
يمكننا الاستضاءة، في الأثناء، بما يقوله التاريخ لأن الكثير مما حدث في الماضي البعيد، كانت له انعكاسات كبيرة على ما حدث أثناء الحرب وما يحدث الآن.
مدينة بني وليد جنوب شرق طرابلس عاصمة قبائل ورفلة التي يبلغ تعدادها 54 قبيلة وتعداد هذه القبائل يقرب من المليون نسمة يقيم منهم في بني وليد، استنادا إلى التقارير الإعلامية حوالي 70 آلف نسمة، بينما تتوزع الأكثرية في جميع أنحاء ليبيا، فأينما توجهت في ليبيا لابد أن تجد وتقابل من يعود نسبه إلى قبائل ورفله.
وعقب سقوط طرابلس بدأت عيون قادة الثوار تتجه إلى بني وليد، التي ظلت على ولائها للقذافي ولنظامه، وحين بدأت فعليا قوافل سيارات الثوار المسلحة تتوجه نحو المدينة لتحريرها من أزلام النظام السابق، تعقدت الأمور بسرعة، وارتبكت القيادة السياسية التي كان على رأسها كل من المستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي المنحل، والدكتور محمود جبريل رئيس المكتب التنفيذي المنحل أيضاً، كما ارتبكت القيادات العسكرية في آرائها وانبثق رأي من بين السياسيين والعسكريين يطالب بالاحتكام إلى الحكمة وعدم اللجوء إلى استخدام القوة “كفانا قتلا وكفانا تدميرا”. وشهدت الأيام التالية لذلك كثيراً من اللقاءات بين ممثلين للثوار وممثلين عن سكان المدينة، إلا أن اللقاءات لم تقد إلى مفاوضات نهائية وتوقيع اتفاق نهائي يمكن قوات الثوار من دخول المدينة والسيطرة عليها. وحسب ما تبين فيما بعد فإن ممثلي المدينة رفضوا تسليم من طالب الثوار بتسليمهم من أزلام نظام القذافي، ممن ارتكبوا أثناء حكم القذافي أو أثناء وقائع الحرب أو في الفترتين جرائم يعاقب عليها القانون، وسرعان ما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود أمام تصلب الطرفين، ووصل الأمر ببعض المحاربين من المدينة أن أطلقوا النار على سيارات كانت تقل أعضاء الوفد الممثل للثوار في المفاوضات. وحين قرر الثوار دخول المدينة بالقوة، واندلع القتال حرص قادة الثوار أن يكون على رأس القوة الثورية التي ستدخل بني وليد سرايا متكونة من أبناء ورفلة الذين أنضموا إلى الثورة. وواجه الثوار مقاومة عنيفة لدى محاولتهم دخول المدينة والسيطرة عليها وتكبدوا خسائر بشرية كبيرة، مما اضطرهم إلى الانسحاب.
تبين من شدة المقاومة أن القذافي وأبناءه كانوا داخل المدينة، لكن العقيد القذافي حسب الروايات التي ظهرت فيما بعد ترك المدينة هاربا إلى مدينة سرت، وكان يرافقه ابنه المعتصم في حين بقى الابنان الآخران وهما سيف وخميس بالمدينة، وعقب أيام قليلة على ذلك فر سيف ومن معه من المقاتلين ودخل الثوار المدينة، من دون أن تقابلهم مقاومة تذكر وسيطروا على بني وليد.
تلا ذلك فترة قصيرة من الهدوء، حيث تمكن الثوار من أهالي ورفلة من تشكيل كتيبتين تمركزتا في معسكرين بضواحي بني وليد، إلا ان العلاقة بين قادة الكتيبتين اتسمت بالتوتر الناجم من التنافس على السيطرة، ثم سرعان ما تدهورت الأمور في المدينة حين – حسبما تبين من أقوال الثوار وسكان المدينة – حاول بعض افراد الكتيبتين القبض على بعض الأشخاص في المدينة من المطلوبين وتحولت المدينة إلى ساحة حرب، تمكن فيها محاربوها من الهجوم على أفراد كتيبتي الثوار وطردهما من معسكراتهما. النجدات الصغيرة التي أرسل بها قادة الثوار في طرابلس لم تتمكن من دحر المدافعين ورجعت عربات النجدة العسكرية إلى قواعدها في طرابلس محملة بالكثير من الخسائر البشرية.
معمر القذافي
الأمر لم يتوقف عن هذا الحد، بل ازداد سوءا حينما بدأت بني وليد تستقطب ما تبقى من فلول القذافي الهاربة، وبدا تدفق الإشاعات في أنحاء ليبيا المتفرقة بأن بني وليد مازالت ترى على أسطح بناياتها أعلام النظام السابق، ومازالت أحياؤها ودروبها تمتلئ بأزلام القذافي وتحميهم وتقف موقفا معاديا للثورة. وأذكر شخصيا أنني في فترة ما قرأت تقريراً لصحافي من صحيفة التايمز عقب الانتخابات العامة في الأسبوع الأول من شهر يوليو/تموز، حيث نشر الصحافي تقريرا عن زيارة له إلى مدينة بني وليد لاستقصاء آراء سكانها في امكانية تولي الدكتور محمود جبريل رئاسة الوزراء، على اعتبار أنه كان يقود تحالف القوى الوطنية التي فازت بنسبة 39 في المائة من اصوات الناخبين مما يعني حصولها على 80 مقعد من مجموع 200 مقعد، وهي كل مقاعد المؤتمر الوطني العام، وأذكر أن الصحافي قال إنه أثناء زيارته للمدينة التقى بأحد الأشخاص المعروفين والبارزين في نظام القذافي بالمدينة، الأمر الذي يدل على أن الشائعات المتداولة شعبيا لم تكن تخلو من حقيقة، أو كما يقول المثل الشعبي “ما فيش دخان من غير نار”!!
التوتر الذي شهدته الأيام الماضية عسكريا في المنطقة يعود إلى أن بعض الأشخاص من سكان المدينة قاموا بخطف عدة اشخاص على أمل استخدامهم كرهائن والتفاوض مع الثوار باطلاق سراحهم مقابل اطلاق سراح المسجونين من سكان المدينة لدى الثوار، وكان من ضمن المختطفين عمران شعبان الشاب المصراتي والذي تمكن من التعرف على معمر القذافي في سرت والقبض عليه، وظهرت صوره في صفحات التواصل الاجتماعي بالانترنت وهو يقف مفتخرا حاملا مسدسين غنمهما من العقيد القذافي، أحدهما ذهبي والآخر فضي. وقد تعرض الشاب على أيدي خاطفيه إلى تعذيب شديد وبعد مضي فترة تفوق الشهر قام الدكتور محمد يوسف المقريف على رأس وفد بزيارة إلى مدينة بني وليد للمطالبة بإطلاق سراح الرهائن المخطوفين جميعا، لكنه في نهاية الزيارة لم ينجح سوى بالعودة مصحوبا بالمرحوم عمران شعبان، الذي وضع على الفور على طائرة خاصة وأرسل للعلاج بالخارج من جروحه المميتة التي أصيب بها من جراء التعذيب، إلا أنه توفى لدى تلقيه للعلاج وأعيد إلى مدينته مصراته في يوم مشهود واقيمت على جثمانه صلاة الميت وغصت الساحة بالمصلين الذين جاؤوا من جميع أنحاء ليبيا.
كان حادث الوفاة المؤسف الشرارة التي اشعلت نار ما تكتوي به ليبيا في هذه الأيام، واجتمع المؤتمر الوطني العام واصدر قراره رقم 7 والذي أعطى بموجبه لقوات درع ليبيا الصلاحيات الكاملة في القبض على ازلام النظام في مدينة بني وليد، وإحضارهم للعدالة للاقتصاص منهم، وسرعان ما تحركت قوات الثوار ممثلة في كتائب درع ليبيا وفرضت حصارا محكما على المدينة من ثلاثة محاور.
وكما هو متوقع بدأت مفاوضات الصلح القبلية، وجاء شيوخ القبائل من برقة ومن غيرها من المناطق حيث دخلوا في حوار مع شيوخ بني وليد، وتبين أن طريق الصلح مسدود لأن شيوخ قبائل بني وليد – حسب الروايات التي تروى عن مشائخ قبائل برقة دون سند أو دليل رسمي موثق – وافقوا على تسليم المطلوبين للعدالة، لكنهم أصروا على أن يتم تسليمهم للدولة، ونظرا لأن الدولة لم توجد بعد على ارض الواقع وسيادة القانون والقضاء مازالت في حالة غياب، فمن غير المجدي تسليم أي شخص في الوقت الحالي. وفي رواية ثانية – سمعتها شخصيا في لقاء أجرته قناة الجزيرة في برنامج الحصاد المغاربي مع السيد عبد القادر البدري أحد شيوخ برقة، الذين شاركوا في المفاوضات – يقال إن شيوخ بني وليد وافقوا على تسليم المطلوبين، ولكن ليس لقوات درع ليبيا التي تشكل وحداث الثوار من مدينة مصراته النصيب الأكبر فيها، بل يتم تسلميهم إلى لقوات الثوار في برقة التي تقوم فيما بعد بتسليمهم للدولة، ويسمح لقوات من الجيش الوطني الرسمي بدخول مدينة بني وليد. السيد البدري اتهم علنا قوات درع ليبيا بالتصلب وعدم الرغبة في الوصول إلى اتفاق صلح نهائي.
وليس غريبا أن تكون الحكومة الليبية الانتقالية التي يتربع على رأسها الدكتور عبد الرحيم الكيب غائبة عن المشهد بالكامل، وكأن مدينة بني وليد ليست ليبية، وهذا في الحقيقة متوقع من حكومة عرفت بالجبن ووسمت بالفشل وعدم القدرة على الحسم وأتخاذ القرارات.
وانقسم الشارع الليبي بين مؤيد للحصار وبين معارض له، كما أن المناوشات العسكرية الدامية يوميا التي تحدث بين المحاصرين “بكسر الصاد” والمحاصرين “بفتحها” امتدت إلى صفحات التواصل الاجتماعي في الانترنت حتى عطلة الأسبوع الماضي، حين تحولت المناوشات العسكرية إلى معارك شرسة وارتفعت أعداد القتلى والجرحى من الجانبين، ثم راجت الشائعات بإلقاء القبض على موسى ابراهيم القذافي الناطق الرسمي أثناء الحرب باسم نظام القذافي هاربا من المدينة، وقتل خميس معمر القذافي وزاد الأمر سوءا حين خرج الناطق باسم المؤتمر الوطني العام، واعلن على الملأ موت خميس معمر القذافي، والقبض على موسى ابراهيم القذافي، في حين أن الناطق باسم الحكومة خرج أخيرا ورفض تأكيد المعلومات، وقال إن لا شيء لدى الحكومة يؤكد ما قيل وشاع.
غمرت الفرحة أنحاء ليبيا لدى سريان إشاعة القبض على موسى ومقتل خميس، وشهدت شوارع المدن الليبية مظاهر الفرحة والابتهاج، لكن الفرحة سرعان ما أنطفأت حين تأكد أن الخبرين غير صحيحين، وبدلا من ذلك سرت موجة متوقعة من الإحباط في مختلف مناطق ليبيا، وانعكس ذلك في صفحات التواصل الاجتماعي في الانترنت التي ارتفعت درجة حرارة التعليقات والنقاشات إلى أن وصلت إلى مستوى ممقوت من الخروج عن دائرة الأدب واللياقة.
ماذا يقول التاريخ؟
في صيف 1975 وصل النزاع بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي يقوده معمر القذافي ذروته، حين تمكن الشق الذي يقوده العقيد من إحباط مؤامرة عسكرية للاطاحة به يقودها الرائد المرحوم عمر المحيشي عضو مجلس قيادة الثورة والذي تعود جذوره إلى مدينة مصراته، ثالث أكبر المدن الليبية والمعروفة بتاريخها الجهادي ضد الايطاليين وبتمرس أهلها في التجارة والزراعة، وبمجرد تخلص العقيد من معارضيه في مجلس قيادة الثورة وبين صفوف ضباط الجيش، شن حملة هوجاء على مدينة مصراته وطرد شابها من صفوف الجيش ومن المناصب المهمة في الدولة، واعتبرت في الاعلام الرسمي مدينة خائنة، وفي نفس الوقت خلا الجو للعقيد القذافي لتنفيذ مخططه الرامي للسيطرة الكاملة على الجيش ومقدرات البلاد، ووضع كل الخيوط بين قبضتي يديه ولتحقيق ذلك التجأ إلى عقد تحالفات قبلية مع قبيلة ورفلة، على اعتبار أن قبائل القذافة وقبائل ورفلة “إخوة الجد”. التجاء القذافي إلى عقد التحالف مع قبائل ورفلة كان مقصودا بأن قبائل ورفلة من أكبر القبائل الليبية عددا، وهي قبائل معروفة أيضا بتاريخها الجهادي ضد الايطاليين، ولعلمه أيضاً بحالة عدم الوفاق التاريخي بينها وبين قبائل مصراته والذي تعود جذوره إلى ايام الجهاد والاختلاف بين قيادتي القبيلتين والذي انتهى في عام 1920 بهزيمة جيش رمضان السويحلي في بني وليد ومقتله شخصيا.
طفلة ليبية من بني وليد تحتج على تدمير مدينتها
حين اشتعل فتيل الانتفاضة في 17 فبراير/شباط بمدينة بنغازي المجاهدة، اختارت مصراته الوقوف مع الثورة ضد القذافي، في حين أن بني وليد اختارت الوقوف في الضفة المقابلة. ما حدث بعد ذلك لم يعد سرا إذ أن انتصار الثورة ووقوف مدينة مصراته التاريخي ضد جحافل جيش القذافي وآلته العسكرية المدمرة، وتمكنها من دحره وهزيمته بفضل مساعدة قوات حلف الناتو جعلها تخرج من الحرب بنصيب كبير من الغنائم عسكريا وسياسيا، وجعل من قوات كتائبها قوات ضاربة، نتيجة لما دفعته من تضحيات وما اكتسبته من خبرات في المعارك، وما غنمته من أسلحة وانعكست هذه القوة سياسيا، ويتردد في ليبيا أن عدم وصول الدكتور محمود جبريل إلى منصب رئيس الوزراء عقب فوز تحالف القوى الوطنية الذي يقوده في الانتخابات إلى تحالف مصراته مع الإسلاميين ضده لسببين، أولا لأنه اعتبر من أزلام النظام السابق، وثانيا لأنه ورفلي الأصل. أنا شخصيا في حاجة لدليل ملموس لتصديق السبب الثاني، وهو غير متوفر لي، ولا أظن أنه متوفر لغيري، إلا أنه دليل على أن أحداث الأمس البعيد مازالت تطل بوجهها الذميم على مرآة الحاضر.
الاشكالية التاريخية هذه بين المدينتين انعكست أكثر خلال الأزمة في بني وليد، لأن الكثيرين من سكان المدينة المحاصرة يرون أن قوات درع ليبيا التي تحاصرهم لا تمثل ليبيا، بل تقودها قيادات مصراتية تود الثأر لما حدث في الماضي، ويقال أيضاً إن السبب في عدم رغبة مشائخ قبائل بني وليد تسليم المطلوبين للعدالة إلى قوات درع ليبيا ناجم عن تأكدهم من أن هذه القوات، يقودها أعداء تاريخيون لقبائلهم وفي حالة انتظار للانتقام والثأر.
أين تكمن الحقيقة في هذه الغابة من الأقاويل والاشاعات والروايات والعنعنات؟ وكيف الخروج من هذا المأزق العصيب؟
ما تأكد للجميع حتى الآن أن بني وليد ملجأ لكثير من الفارين من أزلام النظام السابق المطلوبين للعدالة، وأن هؤلاء الفارين مسلحون بكافة الأسلحة ومستعدون للقتال حتى الموت، لكنهم لن يموتوا وحدهم، لأن موتهم سيتحقق بعد موت المئات من الضحايا الأبرياء، ذلك أن القنابل لا تفرق بين المجرم والبريء.
المعارك مازالت مشتعلة وتزداد التهابا وحرارة، والحكومة الجديدة التي سيشكلها السيد علي زيدان لتحل محل حكومة الكيب الميتة، لم ينته بعد من تشكيلها، والنواب الذين اختارهم الشعب بالانتخاب الحر النزيه ليكونوا ممثليه في المؤتمر الوطني العام ليس بيدهم شيء، رغم نواياهم الطيبة، لكن تلاميذ المدارس في كل انحاء ليبيا مازالوا يقفون في طوابير الصباح، قبل استئناف اليوم المدرسي ليحيوا علم بلادهم الثلاثي الألوان، ليرددوا بصوت مليء بالصدق والحب والاخلاص كلمات نشيد بلادهم الوطني، لكن سؤالا يبقى كامنا وعصيا في القلب:
هل حقا تحررنا وحررنا الوطن؟