حرب طائفيه ام جهل مركب
مرسل: الاثنين نوفمبر 26, 2012 9:03 pm
حرب طائفية أم جهل مركب!
الأسبوع الأخير من رمضان الماضي (اغسطس/آب 2012) ، وفي أيام يعتبرها المسلمون أيام فرج ورحمة، انعقدت في مكة المكرمة، أعمال القمة الاستثنائية لمؤتمر منظمة العمل الإسلامي، التي يضم في عضويته سبعا وخمسين دولة.
تجمعهم الصلاة وتفرقهم السياسة!
الاستثناء سببه في الاساس ما يحدث في سوريا من قتل للمدنيين بلا هوادة وسفك دماء الابرياء، ولكن المؤتمر طاف بعدد من المشكلات التي تواجه المسلمين في اكثر من مكان.
اللافت هو اقتراح الملك عبد الله بن عبد العزيز، الداعي للمؤتمر وحاضنه في جلسة افتتاح المؤتمر، اقامة مؤسسة للحوار بين المذاهب الاسلامية في الرياض، هذا الاقتراح ينقل العمل الاسلامي من الآنية الى المستقبلية.
تلبيس الاختلاف الفقهي
فلم يعد سرا اليوم تلبيس الاختلاف الفقهي، الذي صاحب المسلمين في معظم تاريخهم المعروف، خلافا سياسيا حادا وغير مبرر حتى في الوطن الواحد، مما سبب شروخا في الجبهة الداخلية تستنزف الطاقات. خلط السياسي المؤقت والقابل للتبدل، والذي تجري فيه وحوله المناورات، بالديني الذي ينتمي الى قواعد ثابتة، هذه الخلط يزيغ الابصار وينشر الفتن.
أوروبا المسيحية عانت من هذا الخلط سنين طويلة، ربما اكثر مما عانى المسلمون، ولعل التذكير برسالة جون لوك هذا الفليسوف الانجليزي الشهير المسماه “رسالة في التسامح” التي سخر فيها من النزاع العبثي في القرن السابع عشر بين البروتستانت والكاثوليك، الذي اهدر من الدماء انهارا، وسخن الجبهات الداخيلة الأوروبية الى درجة الغليان، ثم انتهى الى تعايش بعد ان تأكد الجميع ان الخسارة فادحة.
تلبيس الديني لبوس السياسي استمر في جيوب اوروبية عديدة، لعل اشهرها في زماننا، الصراع السياسي الذي تلبس الديني في مقاطعة شمال ايرلندا، وبعضنا يذكر رجل الدين ايان بيزلي في تلك المنطقة وخطبه النارية المتشددة ضد الآخر المختلف. وقد اختفى كل ذلك بعد التوصل الى حلول سياسية، ولكن المذاهب بقيت على حالها وأهلها اليوم في تناغم، فتصافحت ملكة بريطانيا البروتستانتية منذ اسابيع، مع رئيس الجيش الجمهوري الكاثوليكي السابق!، مما يفيد أن التوظيف السلبي للتنوع يؤجج العامة، ويحقن المجتمع بحقن سامة تؤدي بصفوفه الى التفكك.
التنوع المذهبي في الإسلام حقيقة ثابتة، وهو اجتهاد انساني، في تاريخنا تنوع وافر واجتهادات شتى، بقي من تلك الاجتهادات ما اعتقد الناس انه نافع لهم، واضمحل ما هو غير مفيد، فالاجتهادات التي تعيش بيننا اليوم هي بعض الاجتهادات الاسلامية التي يطلق عليها “مذاهب” أما الأخرى التي ظهرت في وقت ثم اختفت، وكان المقصد منها سياسيا فلم تعد قائمة. حتى تعريف “المذهب” لغة هو الطريق او السبيل التي يسلكها الناس الى الهدف، اما المقصد فهو واحد، ارضاء الله وعمل الصالح في الارض واعمارها. التقريب بين المذاهب الاسلامية ليس فكرة جديدة، فقد اجتهد فيها عدد من العلماء في السابق، وايضا اقيمت لها المؤسسات العاملة على تفعيلها.
اقتراح الملك عبد الله هو “الحوار بين المذاهب” وليس التقريب بين المذاهب الذي دعا إليه البعض في السابق، كما انه يفوق “التسامح” لأن المعنى الدفين للتسامح هو غلبة شيء على آخر، والتسامح معه يعني تأكيد التفوق، وربما ذلك عمل لا توازن فيه.
فكرة الحوار في معناه الأهم هو “تخليص المقدس من المدنس” عن طريق إعمال العقل اولا، وايضا من دون ان يطلب فريق من آخر أن يترك ما لديه للانضمام الى الفريق الآخر، هو اعتراف بالاختلاف الصحي ونقله من مكان شائك (السياسة) الى مكان رحب هو (الفكر واعمال العقل) وهو لا يتطلب الدعوة الى مذهب دون آخر، أو تغليب تصور للتاريخ على آخر، كما لا يتطلب تفسيرات قسرية للتقارب، بل يتطلب الاعتراف بالآخر، وابعاد الشأن السياسي عن الشأن الديني. وفكرة التنوع تعني ان الأصل واحد.
تفعيل العقل
في أجواء العرب الحالية التي تم حقن العامة بشعارات ضد الآخر من اجل الحشد والتأييد حتى مع تغييب العقل، في مثل هذه الاجواء، يسعى العقلاء ويدعون اول ما يدعون الى الحوار، لأن الحوار معرفة وتفهم، كما انه لا يقتصر على الفقهاء، بل العاملين ايضا في العلوم الاجتماعية الحديثة ذات المناهج المقارنة، التي تسبر غور تاريخ المنطقة وتفاعلاتها في اطوارها المختلفة والبناء على الايجابي منها، كما يظهر الحوار مغبة التعصب الأعمى وتزييف التاريخ الذي كتبه البعض من اجل أغراض سياسية. الحوار هو ايضا نزع القشور عن الأصول.
ابتلى العالم الاسلامي ببعض ما ابتلى في عصرنا بالتجهيل والتوظيف السياسي، وكان لذلك ارضيته التي تغذت على اهواء الساسة، وتفسيرات فقهاء الفضائيات وماكينات الأحزاب المؤدلجة. وما دفع حتى الآن من الاثمان باهظ، وقد تدفع اثمان اكثر واعظم تستزف الجهود، ان تركنا الأمور تسير على ما هي عليه. اقتراح الملك عبد الله مبادرة لإنشاء هيئة الحوار التي هي “هيئة مستقلة للتفكير في شؤوننا” واشاعة ما تتوصل اليه للناس كافة للتبصر فيه، مع وجوب الوقوف الصلب امام من يريد أن يتاجر في بضاعة الخلاف النسبي في وجهات النظر، الى تصعيد اختلاف سياسي طاحن عانت منه شعوب اخرى في فترات تاريخية سابقة، انه تقديم الحكمة على الشطط. وتفعيل العقل ضد الجهل.
لم يعد سرا اليوم تلبيس الاختلاف الفقهي، الذي صاحب المسلمين في معظم تاريخهم المعروف، خلافا سياسيا حادا وغير مبرر حتى في الوطن الواحد، مما سبب شروخا في الجبهة الداخلية تستنزف الطاقات
لقد كان من ضمن من حضر الى المؤتمر في مكة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، وقد اقترح الرئيس المصري محمد مرسي في ذلك المؤتمر تكوين ترويكا (رباعية) من دول: السعودية ومصر وتركيا وايضا ايران، من اجل النظر في ايجاد حل للمعضلة السورية التي تعقدت كثيرا، ودخل المجتمع السوري في حرب اهلية طاحنة، كان من جرائها مقتل حوالي ثلاثين الف قتيل، وتشريد ما يقارب المليون مشرد في بلاد الجوار مثل تركيا والاردن ولبنان، وعدد كبير من المعتقلين. كان الاقتراح المصري منخفض القوة ـ كما يقال في العمل الدبلوماسي ـ ولكنه قرئ في طهران على ان مصر ربما يمكن ربحها الى جانب الصف الايراني، وهو صف قليل العدد في العدة والعدد، وان لم يكن ذلك، فعلى الاقل تحييدها. لذلك اعد للرئيس المصري الجديد استقبال حافل في المؤتمر الذي تلا وعقد في نهاية اغسطس 2012، وهو مؤتمر دول عدم الانجياز، وفكرة عدم الانحياز فكرة ان اردنا تصنيفها “علمانية” نشأت من خلال تحالف دول عالم ثالثية بقيادة رجال تاريخيين، هم نهرو من الهند، وعبد الناصر من مصر، وسوكارنو من اندونيسيا، وجوزيف تيتو من يوغسلافيا (التي تفككت لاحقا) ولكن الايرانين ارادوا احياء تلك المجموعة.
لم يكن التجمع في طهران في شهر اغسطس 2012- ناجحا، فقد حضره فقد 29 رئيس دولة من 120 دولة، هي مجموع دول عدم الانحياز التي ارسلت اما وزير خارجيتها، او ما دون ذلك. الجائزة الكبرى التي كانت تتوقعها طهران هي كسب مصر. ولكن المفاجأة وقعت عندما دان محمد مرسي رئيس مصر ما يحدث في سوريا، ادانة واضحة وبأقوى الكلمات، كما تعمد التذكير والصلاة على اصحاب محمد جميعا، في محاولة لازاحة التعصب الطائفي. كلتا الفكرتين لم ترق للمضيف الايراني، فغير وبدل في الخطاب اثناء الترجمة بوضع (البحرين) بدلا من (سوريا) في نص الخطاب، وايضا تجاهل المترجم التنويه التقليدي الذي يذكر فيه الخطاب الاسلامي التنويه بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
اتضح لطهران ان ما راهنت عليه لم يكن الا برقا خلبا، لم تستطع ان تقول للعالم انها ربحت مصر، كما ان خطاب بان كي مون، الذي قرع السياسة الايرانية في عقر دارها، صب الكثير من الماء البارد على توقعات طهران، وانتهي الاجتماع بشكل احتفالي لم تخرج منه طهران بما اعتقدت انه سوف يتحقق.
خط غير ظاهر
لا أريد أن أعمم، فقد كان هناك خط غير ظاهر في السياسة الايرانية، منذ قيام ثورة الإمام الخميني له علاقة بالطائفة، ولكنه كان مستترا بغطاء من الثورية، وقد جرت في طهران مياه مثيرة، كان اهمها محاولة السيد هاشمي رفسنجاني في حقبة حكمه الثانية، ان يقوم بعمل سياسي يتخطى “الطايفة” وقد تبعه ايضا السيد محمد خاتمي في حقبتيه التي تسنم فيها الحكم. الا أن الخط الطائفي ظهر بوضوح في السياسية الخارجية الايرانية ابان حقبة حكم الرئيس أحمدي نجاد الأولى والثانية. ما هي الأسباب؟
فكرة الحوار في معناه الأهم هو “تخليص المقدس من المدنس” عن طريق إعمال العقل اولا، وايضا من دون ان يطلب فريق من آخر أن يترك ما لديه للانضمام الى الفريق الآخر، هو اعتراف بالاختلاف الصحي ونقله من مكان شائك (السياسة) الى مكان رحب هو (الفكر واعمال العقل)
أرى أن الأسباب كثيرة، فالرغبة الايرانية في التمدد والنفوذ، هي رغبة قديمة وهي محاولة من اجل احياء شيء من “الامبراطورية الفارسية” لها صبغة قومية، وفي المرحلة الأخيرة، صبغت بصبغة “طائفية” ركونا الى ان هناك عددا كبيرا من الشيعة العرب، الذين تعتقد طهران انه يمكن استمالتهم إما بسبب الوضوع الذي يعانون منه في بلدانهم، او بسبب طموح بعض قياداتهم. وأضيف الى ذلك الطموح الفارسي القومي، تبني طهران – ولو قولا وبعض الفعل – شعارات النضال الفلسطيني، ساعد في ذلك بعض القوى الفلسطينية التي وجدت ان ايران الثورية، يمكن ان تقدم لها الدعم المادي أو المعنوي (النسيج الشيعي العربي بما يحيطه من ظروف سياسية واجتماعية، مضاف اليه الموضوع الفلسطيني، مع ما يحيطه من تعاطف عربي واسع، مع موقف تحالفي مع اقلية حاكمة في سوريا) هذه الثلاثية مدعومة بقدر كبير من المهارة في الاستفادة من المعطيات، قدر لإيران في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين أن تمد نفوذها الى خارج الحدود باتجاه الخاصرة العربية.
لقد قدم لها الاحتلال الاميركي للعراق، فرصة ان يمتد محور النفوذ طويلا، الى درجة ان احمدي نجاد في زيارته الى بيروت في اكتوبر (تشرين الأول) عام 2010 قال التصريح الشهير، ان محور قد تشكل بدوره في طهران مرورا ببغداد ودمشق وانقرة ثم بيروت. كانت خطاباته في لبنان خطاب الفاتح المترع بالنصر. وقتها كان نفوذ طهران غير مقاوم في بغداد، ومترسخا في دمشق، وقابضا على سلطة ضاربة هي حزب الله في لبنان المسلح بالمال والعتاد الايراني، كما ان وفود القوى الفلسطينية تحج إليه ويقوم بدعمها. هو اختراق بالغ الأهمية يتجاوز “الطائفية” وان توكّأ عليها في الامتداد الاول.
حساب الحقل والبيدر
ظهر من نهاية عام 2010 أن رياح “الربيع العربي بدأت تهب من تونس”، وكان ذلك فال خير، فقد استقبلتها طهران خاصة عند انتقالها الى مصر، على انها “امتداد للثورة الشعبية الايرنية” قبل ثلاثة عقود، رحبت بها واشتركت في زفها اعلاميا، خاصة بعد ان تبين “النفس الاسلامي” فيها، ولو كان سنيا، فحماس سنية، ولم يمنع ذلك التعاون على قاعدة “ثورية” معها! المفاجأة أن أصابت رياح “الربيع العربي”، الحليف والعمود الرئيسي للتحالف الايراني، واعني بها سوريا، فبدأت الماكينة الاعلامية الايرانية، وايضا توابعها العربية تتراجع عن توصيف الثورات الربيعية، بل وتصف ما يحدث في سوريا على انه تدخل امبريالي صهيوني.
حاولت حلب مصر أو ضمها الى خطها، فوجدت ان حساب الحقل لا ينسجم مع حساب البيدر، كما ان المطالبات السياسية في البحرين التي سرعان ما تأثرت بمطالب “جمهورية اسلامية” لم تستطع القوى الحديثة ان تؤثر في مسارها عند انطلاقها، جعلت من بعض القوى المحلية والخليجية تتوجس منها.
الحسبة النهائية لرببع العرب، جاءت على غير ما يهوى نجاد من تطور المحور الايراني. بل ان ما يحدث في سوريا سوف يقصم ظهر ذلك المحور، خاصة اذا تطور الوضع في بغداد بانفكاك كامل او جزئي من ذاك المحور.
الخطأ القاتل لسياسة ايران الخارجية، هو محاولة تلبيس المذهبي على الثوري، وهو تلبيس اضطرت ان تتعامل معه بوجهين، وجه ثوري موجه للقوى العربية السنية التي ترى أن الأوضاع القائمة سيئة للغاية، ووجه طائفي متمثل في أن هناك (اضطهادا للأقلية الشيعية في بحر سني).. كلا الوجهين ضعفهما في عدم الشفافية.
الرغبة الايرانية في التمدد والنفوذ، هي رغبة قديمة وهي محاولة من اجل احياء شيء من “الامبراطورية الفارسية” لها صبغة قومية، وفي المرحلة الأخيرة، صبغت بصبغة “طائفية” ركونا الى ان هناك عددا كبيرا من الشيعة العرب، الذين تعتقد طهران انه يمكن استمالتهم
ومن جهة اخرى فإن دخول ايران في صراع مع القوى الكبرى، قاعدته الرئيسية (خوف مرضي من فقد السلطة في ايران من القوى الدينية). يعرف أهل الرأى الايرانيون، كما يعرف المستنيرون من أهل “القومية الايرانية” أن حكما دينيا لا يمكن ان يستقر، في قرن يشهد تحولات كبرى. وايضا لا يمكن ان يقبل العقل “معصومية” سياسية من اي نوع، مهما بلغت من الشفافية، فالحكم نزاع يين قوى مختلفة لها مصالح مختلفة، لا يمكن ضبطها الا من خلال “صناديق اقتراع شفافة ودورية” وعلى قاعدة خدمة المصالح العامة والحديثة.
تقع السياسة الايرانية في نفس خطأ القوى “الثورية العربية” التي اعتقد ان العالم همه الرئيسي ان يطيح بحكمها، فضيقت على نفسها وعلى شعوبها، وبزت الآخرين في استكمال بنية “مخابراتية” فائقة القسوة، وكان الثمن ان توسعت السجون وتشككت الدولة في المواطن، الى أن فقد الأخير ثقته بها، ونسيت او تناست ان الشعوب تصبر، ولكن لا تطيق الصبر عقودا طويلة. هذا الخوف المرضي من فقد السلطة والشعور بما يسمى “المهمة المقدسة” في قيادة الشعوب، لم يعد لها تبرير مقنع اليوم لدى قطاع واسع من الشعوب. كما القوى الثورية العربية التي ألهت شعوبها بقضية “التحرير” وحرمتهم من “الحرية” على حساب التحرير، فلا التحرير أتى ولا الحرية تقدمت! لا يشعر كثير من النخب الايرانية بالتعاطف الذي تشعر به النخبة الحاكمة ـ أو بعضها ـ مع القضية الفلسطينية، فهناك من يعتقد في ايران ان توريط ايران في تلك القضية خاسر، خاصة انها لا تستطيع ان تقدم العون الحقيقي للتحرير، غير ذر الرماد في عيون السذج.
كما تعتقد بعض النخب الايرانية “القومية” ان العرب ـ شيعة وسنة ـ ليسوا على سوية الشعب الآري الذي تنتمي اليه شعوب ايران، ثم يطرح السؤال من النخب الايرانية، وهو لماذا نحرم من التقدم بسبب تلك الشعارات. اعتقد ان قضية “امتلاك التقنية النووية” في ايران هي شعار من اجل حشد الشعب الايراني خلف قضية يشعر بالفخر بها، لأن التقدم التقني لم يحدث في اي مجتمع من دون حرية وتقدم اجتماعي وسياسي، سوف يبقى التقدم التقني معلقا في الهواء لا أعمدة تحميه من السقوط. بعد طول مسيرة وجد العرب الثوريين أن العزلة لا تقدم الشعوب، وان شراء السلاح لا يحقق النصر، فعاد كثير منهم الى مواقع العقلانية التي تحتم ان تجمع الجهود من اجل تنمية شاملة تقودها حريات الناس. ايران تغوص فيما غاص فيه العرب الثوريين قبل سنوات، وربما تصل الى نفس النتيجة، أحلام الامبراطوريات انتهت.
الحكم في ايران يريد ان يستمر بنفس الشروط، بخلق شعارات مختلفة، ولكن الكثير من شعاراته تعجز عن توفير الأسباب الأولية لعيش كريم في بلاد لها تاريخ طويل من الحضارة. من هنا فإن الأدوات التي استخدمتها السياسة الخارجية الايرانية، قد باءت بالفشل منها اداة “الطائفية” التي سممت علاقة منسجمة بين مسلمين موحدين.
لا أريد أن أغادر هذا الجزء من دون الحديث عن تعصب مضاد، انساق اليه بعض ابناء الطائفة السنية، عن جهل أو تجهيل، فأضاف الحطب المعمتد على الجهل، الى الحطب المعتمد على الانتهازية السياسية.
المستقبل
مما تقدم فإن المسكوت عنه اليوم في الفضاء الاسلامي والعربي، وفي العلاقات الايرانية والعربية، هو كيف يمكن ان يحفظ للشعوب مستقبل تتقدم فيه، في الوقت الذي يصل غيرها الى المريخ تتقاتل هي على من له حق الولاية قبل قرنين من الزمان! وكيف نفسر هذا النص أو ذلك من التراث؟ لقد استنفذ السياسيون كل قدرات الأمة، وما زال بعضهم يفعل من دون تقديم مشروع نهضوي حقيقي، يجعل الانسان اكثر سعادة في حياته، تقدم له خدمات صحية وتعليمية وادارية حديثة، تنقي بيئته من الملوثات ويأكل أكلا صحيا، ويخضع لقانون حديث ينظم العلاقة بينه وبين الدولة على قاعدة حقوقية حديثة؟ من دون حل كل ذلك، لا نستطيع ان نتحدث عن “تحرير”، قبل تحرير الانسان، ولا تنمية قبل تنمية الفكر، ولا حوار، ان لم نؤمن بأن ألد عداء المعرفة ليس الجهل، بل توهم المعرفة!
الأسبوع الأخير من رمضان الماضي (اغسطس/آب 2012) ، وفي أيام يعتبرها المسلمون أيام فرج ورحمة، انعقدت في مكة المكرمة، أعمال القمة الاستثنائية لمؤتمر منظمة العمل الإسلامي، التي يضم في عضويته سبعا وخمسين دولة.
تجمعهم الصلاة وتفرقهم السياسة!
الاستثناء سببه في الاساس ما يحدث في سوريا من قتل للمدنيين بلا هوادة وسفك دماء الابرياء، ولكن المؤتمر طاف بعدد من المشكلات التي تواجه المسلمين في اكثر من مكان.
اللافت هو اقتراح الملك عبد الله بن عبد العزيز، الداعي للمؤتمر وحاضنه في جلسة افتتاح المؤتمر، اقامة مؤسسة للحوار بين المذاهب الاسلامية في الرياض، هذا الاقتراح ينقل العمل الاسلامي من الآنية الى المستقبلية.
تلبيس الاختلاف الفقهي
فلم يعد سرا اليوم تلبيس الاختلاف الفقهي، الذي صاحب المسلمين في معظم تاريخهم المعروف، خلافا سياسيا حادا وغير مبرر حتى في الوطن الواحد، مما سبب شروخا في الجبهة الداخلية تستنزف الطاقات. خلط السياسي المؤقت والقابل للتبدل، والذي تجري فيه وحوله المناورات، بالديني الذي ينتمي الى قواعد ثابتة، هذه الخلط يزيغ الابصار وينشر الفتن.
أوروبا المسيحية عانت من هذا الخلط سنين طويلة، ربما اكثر مما عانى المسلمون، ولعل التذكير برسالة جون لوك هذا الفليسوف الانجليزي الشهير المسماه “رسالة في التسامح” التي سخر فيها من النزاع العبثي في القرن السابع عشر بين البروتستانت والكاثوليك، الذي اهدر من الدماء انهارا، وسخن الجبهات الداخيلة الأوروبية الى درجة الغليان، ثم انتهى الى تعايش بعد ان تأكد الجميع ان الخسارة فادحة.
تلبيس الديني لبوس السياسي استمر في جيوب اوروبية عديدة، لعل اشهرها في زماننا، الصراع السياسي الذي تلبس الديني في مقاطعة شمال ايرلندا، وبعضنا يذكر رجل الدين ايان بيزلي في تلك المنطقة وخطبه النارية المتشددة ضد الآخر المختلف. وقد اختفى كل ذلك بعد التوصل الى حلول سياسية، ولكن المذاهب بقيت على حالها وأهلها اليوم في تناغم، فتصافحت ملكة بريطانيا البروتستانتية منذ اسابيع، مع رئيس الجيش الجمهوري الكاثوليكي السابق!، مما يفيد أن التوظيف السلبي للتنوع يؤجج العامة، ويحقن المجتمع بحقن سامة تؤدي بصفوفه الى التفكك.
التنوع المذهبي في الإسلام حقيقة ثابتة، وهو اجتهاد انساني، في تاريخنا تنوع وافر واجتهادات شتى، بقي من تلك الاجتهادات ما اعتقد الناس انه نافع لهم، واضمحل ما هو غير مفيد، فالاجتهادات التي تعيش بيننا اليوم هي بعض الاجتهادات الاسلامية التي يطلق عليها “مذاهب” أما الأخرى التي ظهرت في وقت ثم اختفت، وكان المقصد منها سياسيا فلم تعد قائمة. حتى تعريف “المذهب” لغة هو الطريق او السبيل التي يسلكها الناس الى الهدف، اما المقصد فهو واحد، ارضاء الله وعمل الصالح في الارض واعمارها. التقريب بين المذاهب الاسلامية ليس فكرة جديدة، فقد اجتهد فيها عدد من العلماء في السابق، وايضا اقيمت لها المؤسسات العاملة على تفعيلها.
اقتراح الملك عبد الله هو “الحوار بين المذاهب” وليس التقريب بين المذاهب الذي دعا إليه البعض في السابق، كما انه يفوق “التسامح” لأن المعنى الدفين للتسامح هو غلبة شيء على آخر، والتسامح معه يعني تأكيد التفوق، وربما ذلك عمل لا توازن فيه.
فكرة الحوار في معناه الأهم هو “تخليص المقدس من المدنس” عن طريق إعمال العقل اولا، وايضا من دون ان يطلب فريق من آخر أن يترك ما لديه للانضمام الى الفريق الآخر، هو اعتراف بالاختلاف الصحي ونقله من مكان شائك (السياسة) الى مكان رحب هو (الفكر واعمال العقل) وهو لا يتطلب الدعوة الى مذهب دون آخر، أو تغليب تصور للتاريخ على آخر، كما لا يتطلب تفسيرات قسرية للتقارب، بل يتطلب الاعتراف بالآخر، وابعاد الشأن السياسي عن الشأن الديني. وفكرة التنوع تعني ان الأصل واحد.
تفعيل العقل
في أجواء العرب الحالية التي تم حقن العامة بشعارات ضد الآخر من اجل الحشد والتأييد حتى مع تغييب العقل، في مثل هذه الاجواء، يسعى العقلاء ويدعون اول ما يدعون الى الحوار، لأن الحوار معرفة وتفهم، كما انه لا يقتصر على الفقهاء، بل العاملين ايضا في العلوم الاجتماعية الحديثة ذات المناهج المقارنة، التي تسبر غور تاريخ المنطقة وتفاعلاتها في اطوارها المختلفة والبناء على الايجابي منها، كما يظهر الحوار مغبة التعصب الأعمى وتزييف التاريخ الذي كتبه البعض من اجل أغراض سياسية. الحوار هو ايضا نزع القشور عن الأصول.
ابتلى العالم الاسلامي ببعض ما ابتلى في عصرنا بالتجهيل والتوظيف السياسي، وكان لذلك ارضيته التي تغذت على اهواء الساسة، وتفسيرات فقهاء الفضائيات وماكينات الأحزاب المؤدلجة. وما دفع حتى الآن من الاثمان باهظ، وقد تدفع اثمان اكثر واعظم تستزف الجهود، ان تركنا الأمور تسير على ما هي عليه. اقتراح الملك عبد الله مبادرة لإنشاء هيئة الحوار التي هي “هيئة مستقلة للتفكير في شؤوننا” واشاعة ما تتوصل اليه للناس كافة للتبصر فيه، مع وجوب الوقوف الصلب امام من يريد أن يتاجر في بضاعة الخلاف النسبي في وجهات النظر، الى تصعيد اختلاف سياسي طاحن عانت منه شعوب اخرى في فترات تاريخية سابقة، انه تقديم الحكمة على الشطط. وتفعيل العقل ضد الجهل.
لم يعد سرا اليوم تلبيس الاختلاف الفقهي، الذي صاحب المسلمين في معظم تاريخهم المعروف، خلافا سياسيا حادا وغير مبرر حتى في الوطن الواحد، مما سبب شروخا في الجبهة الداخلية تستنزف الطاقات
لقد كان من ضمن من حضر الى المؤتمر في مكة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، وقد اقترح الرئيس المصري محمد مرسي في ذلك المؤتمر تكوين ترويكا (رباعية) من دول: السعودية ومصر وتركيا وايضا ايران، من اجل النظر في ايجاد حل للمعضلة السورية التي تعقدت كثيرا، ودخل المجتمع السوري في حرب اهلية طاحنة، كان من جرائها مقتل حوالي ثلاثين الف قتيل، وتشريد ما يقارب المليون مشرد في بلاد الجوار مثل تركيا والاردن ولبنان، وعدد كبير من المعتقلين. كان الاقتراح المصري منخفض القوة ـ كما يقال في العمل الدبلوماسي ـ ولكنه قرئ في طهران على ان مصر ربما يمكن ربحها الى جانب الصف الايراني، وهو صف قليل العدد في العدة والعدد، وان لم يكن ذلك، فعلى الاقل تحييدها. لذلك اعد للرئيس المصري الجديد استقبال حافل في المؤتمر الذي تلا وعقد في نهاية اغسطس 2012، وهو مؤتمر دول عدم الانجياز، وفكرة عدم الانحياز فكرة ان اردنا تصنيفها “علمانية” نشأت من خلال تحالف دول عالم ثالثية بقيادة رجال تاريخيين، هم نهرو من الهند، وعبد الناصر من مصر، وسوكارنو من اندونيسيا، وجوزيف تيتو من يوغسلافيا (التي تفككت لاحقا) ولكن الايرانين ارادوا احياء تلك المجموعة.
لم يكن التجمع في طهران في شهر اغسطس 2012- ناجحا، فقد حضره فقد 29 رئيس دولة من 120 دولة، هي مجموع دول عدم الانحياز التي ارسلت اما وزير خارجيتها، او ما دون ذلك. الجائزة الكبرى التي كانت تتوقعها طهران هي كسب مصر. ولكن المفاجأة وقعت عندما دان محمد مرسي رئيس مصر ما يحدث في سوريا، ادانة واضحة وبأقوى الكلمات، كما تعمد التذكير والصلاة على اصحاب محمد جميعا، في محاولة لازاحة التعصب الطائفي. كلتا الفكرتين لم ترق للمضيف الايراني، فغير وبدل في الخطاب اثناء الترجمة بوضع (البحرين) بدلا من (سوريا) في نص الخطاب، وايضا تجاهل المترجم التنويه التقليدي الذي يذكر فيه الخطاب الاسلامي التنويه بصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
اتضح لطهران ان ما راهنت عليه لم يكن الا برقا خلبا، لم تستطع ان تقول للعالم انها ربحت مصر، كما ان خطاب بان كي مون، الذي قرع السياسة الايرانية في عقر دارها، صب الكثير من الماء البارد على توقعات طهران، وانتهي الاجتماع بشكل احتفالي لم تخرج منه طهران بما اعتقدت انه سوف يتحقق.
خط غير ظاهر
لا أريد أن أعمم، فقد كان هناك خط غير ظاهر في السياسة الايرانية، منذ قيام ثورة الإمام الخميني له علاقة بالطائفة، ولكنه كان مستترا بغطاء من الثورية، وقد جرت في طهران مياه مثيرة، كان اهمها محاولة السيد هاشمي رفسنجاني في حقبة حكمه الثانية، ان يقوم بعمل سياسي يتخطى “الطايفة” وقد تبعه ايضا السيد محمد خاتمي في حقبتيه التي تسنم فيها الحكم. الا أن الخط الطائفي ظهر بوضوح في السياسية الخارجية الايرانية ابان حقبة حكم الرئيس أحمدي نجاد الأولى والثانية. ما هي الأسباب؟
فكرة الحوار في معناه الأهم هو “تخليص المقدس من المدنس” عن طريق إعمال العقل اولا، وايضا من دون ان يطلب فريق من آخر أن يترك ما لديه للانضمام الى الفريق الآخر، هو اعتراف بالاختلاف الصحي ونقله من مكان شائك (السياسة) الى مكان رحب هو (الفكر واعمال العقل)
أرى أن الأسباب كثيرة، فالرغبة الايرانية في التمدد والنفوذ، هي رغبة قديمة وهي محاولة من اجل احياء شيء من “الامبراطورية الفارسية” لها صبغة قومية، وفي المرحلة الأخيرة، صبغت بصبغة “طائفية” ركونا الى ان هناك عددا كبيرا من الشيعة العرب، الذين تعتقد طهران انه يمكن استمالتهم إما بسبب الوضوع الذي يعانون منه في بلدانهم، او بسبب طموح بعض قياداتهم. وأضيف الى ذلك الطموح الفارسي القومي، تبني طهران – ولو قولا وبعض الفعل – شعارات النضال الفلسطيني، ساعد في ذلك بعض القوى الفلسطينية التي وجدت ان ايران الثورية، يمكن ان تقدم لها الدعم المادي أو المعنوي (النسيج الشيعي العربي بما يحيطه من ظروف سياسية واجتماعية، مضاف اليه الموضوع الفلسطيني، مع ما يحيطه من تعاطف عربي واسع، مع موقف تحالفي مع اقلية حاكمة في سوريا) هذه الثلاثية مدعومة بقدر كبير من المهارة في الاستفادة من المعطيات، قدر لإيران في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين أن تمد نفوذها الى خارج الحدود باتجاه الخاصرة العربية.
لقد قدم لها الاحتلال الاميركي للعراق، فرصة ان يمتد محور النفوذ طويلا، الى درجة ان احمدي نجاد في زيارته الى بيروت في اكتوبر (تشرين الأول) عام 2010 قال التصريح الشهير، ان محور قد تشكل بدوره في طهران مرورا ببغداد ودمشق وانقرة ثم بيروت. كانت خطاباته في لبنان خطاب الفاتح المترع بالنصر. وقتها كان نفوذ طهران غير مقاوم في بغداد، ومترسخا في دمشق، وقابضا على سلطة ضاربة هي حزب الله في لبنان المسلح بالمال والعتاد الايراني، كما ان وفود القوى الفلسطينية تحج إليه ويقوم بدعمها. هو اختراق بالغ الأهمية يتجاوز “الطائفية” وان توكّأ عليها في الامتداد الاول.
حساب الحقل والبيدر
ظهر من نهاية عام 2010 أن رياح “الربيع العربي بدأت تهب من تونس”، وكان ذلك فال خير، فقد استقبلتها طهران خاصة عند انتقالها الى مصر، على انها “امتداد للثورة الشعبية الايرنية” قبل ثلاثة عقود، رحبت بها واشتركت في زفها اعلاميا، خاصة بعد ان تبين “النفس الاسلامي” فيها، ولو كان سنيا، فحماس سنية، ولم يمنع ذلك التعاون على قاعدة “ثورية” معها! المفاجأة أن أصابت رياح “الربيع العربي”، الحليف والعمود الرئيسي للتحالف الايراني، واعني بها سوريا، فبدأت الماكينة الاعلامية الايرانية، وايضا توابعها العربية تتراجع عن توصيف الثورات الربيعية، بل وتصف ما يحدث في سوريا على انه تدخل امبريالي صهيوني.
حاولت حلب مصر أو ضمها الى خطها، فوجدت ان حساب الحقل لا ينسجم مع حساب البيدر، كما ان المطالبات السياسية في البحرين التي سرعان ما تأثرت بمطالب “جمهورية اسلامية” لم تستطع القوى الحديثة ان تؤثر في مسارها عند انطلاقها، جعلت من بعض القوى المحلية والخليجية تتوجس منها.
الحسبة النهائية لرببع العرب، جاءت على غير ما يهوى نجاد من تطور المحور الايراني. بل ان ما يحدث في سوريا سوف يقصم ظهر ذلك المحور، خاصة اذا تطور الوضع في بغداد بانفكاك كامل او جزئي من ذاك المحور.
الخطأ القاتل لسياسة ايران الخارجية، هو محاولة تلبيس المذهبي على الثوري، وهو تلبيس اضطرت ان تتعامل معه بوجهين، وجه ثوري موجه للقوى العربية السنية التي ترى أن الأوضاع القائمة سيئة للغاية، ووجه طائفي متمثل في أن هناك (اضطهادا للأقلية الشيعية في بحر سني).. كلا الوجهين ضعفهما في عدم الشفافية.
الرغبة الايرانية في التمدد والنفوذ، هي رغبة قديمة وهي محاولة من اجل احياء شيء من “الامبراطورية الفارسية” لها صبغة قومية، وفي المرحلة الأخيرة، صبغت بصبغة “طائفية” ركونا الى ان هناك عددا كبيرا من الشيعة العرب، الذين تعتقد طهران انه يمكن استمالتهم
ومن جهة اخرى فإن دخول ايران في صراع مع القوى الكبرى، قاعدته الرئيسية (خوف مرضي من فقد السلطة في ايران من القوى الدينية). يعرف أهل الرأى الايرانيون، كما يعرف المستنيرون من أهل “القومية الايرانية” أن حكما دينيا لا يمكن ان يستقر، في قرن يشهد تحولات كبرى. وايضا لا يمكن ان يقبل العقل “معصومية” سياسية من اي نوع، مهما بلغت من الشفافية، فالحكم نزاع يين قوى مختلفة لها مصالح مختلفة، لا يمكن ضبطها الا من خلال “صناديق اقتراع شفافة ودورية” وعلى قاعدة خدمة المصالح العامة والحديثة.
تقع السياسة الايرانية في نفس خطأ القوى “الثورية العربية” التي اعتقد ان العالم همه الرئيسي ان يطيح بحكمها، فضيقت على نفسها وعلى شعوبها، وبزت الآخرين في استكمال بنية “مخابراتية” فائقة القسوة، وكان الثمن ان توسعت السجون وتشككت الدولة في المواطن، الى أن فقد الأخير ثقته بها، ونسيت او تناست ان الشعوب تصبر، ولكن لا تطيق الصبر عقودا طويلة. هذا الخوف المرضي من فقد السلطة والشعور بما يسمى “المهمة المقدسة” في قيادة الشعوب، لم يعد لها تبرير مقنع اليوم لدى قطاع واسع من الشعوب. كما القوى الثورية العربية التي ألهت شعوبها بقضية “التحرير” وحرمتهم من “الحرية” على حساب التحرير، فلا التحرير أتى ولا الحرية تقدمت! لا يشعر كثير من النخب الايرانية بالتعاطف الذي تشعر به النخبة الحاكمة ـ أو بعضها ـ مع القضية الفلسطينية، فهناك من يعتقد في ايران ان توريط ايران في تلك القضية خاسر، خاصة انها لا تستطيع ان تقدم العون الحقيقي للتحرير، غير ذر الرماد في عيون السذج.
كما تعتقد بعض النخب الايرانية “القومية” ان العرب ـ شيعة وسنة ـ ليسوا على سوية الشعب الآري الذي تنتمي اليه شعوب ايران، ثم يطرح السؤال من النخب الايرانية، وهو لماذا نحرم من التقدم بسبب تلك الشعارات. اعتقد ان قضية “امتلاك التقنية النووية” في ايران هي شعار من اجل حشد الشعب الايراني خلف قضية يشعر بالفخر بها، لأن التقدم التقني لم يحدث في اي مجتمع من دون حرية وتقدم اجتماعي وسياسي، سوف يبقى التقدم التقني معلقا في الهواء لا أعمدة تحميه من السقوط. بعد طول مسيرة وجد العرب الثوريين أن العزلة لا تقدم الشعوب، وان شراء السلاح لا يحقق النصر، فعاد كثير منهم الى مواقع العقلانية التي تحتم ان تجمع الجهود من اجل تنمية شاملة تقودها حريات الناس. ايران تغوص فيما غاص فيه العرب الثوريين قبل سنوات، وربما تصل الى نفس النتيجة، أحلام الامبراطوريات انتهت.
الحكم في ايران يريد ان يستمر بنفس الشروط، بخلق شعارات مختلفة، ولكن الكثير من شعاراته تعجز عن توفير الأسباب الأولية لعيش كريم في بلاد لها تاريخ طويل من الحضارة. من هنا فإن الأدوات التي استخدمتها السياسة الخارجية الايرانية، قد باءت بالفشل منها اداة “الطائفية” التي سممت علاقة منسجمة بين مسلمين موحدين.
لا أريد أن أغادر هذا الجزء من دون الحديث عن تعصب مضاد، انساق اليه بعض ابناء الطائفة السنية، عن جهل أو تجهيل، فأضاف الحطب المعمتد على الجهل، الى الحطب المعتمد على الانتهازية السياسية.
المستقبل
مما تقدم فإن المسكوت عنه اليوم في الفضاء الاسلامي والعربي، وفي العلاقات الايرانية والعربية، هو كيف يمكن ان يحفظ للشعوب مستقبل تتقدم فيه، في الوقت الذي يصل غيرها الى المريخ تتقاتل هي على من له حق الولاية قبل قرنين من الزمان! وكيف نفسر هذا النص أو ذلك من التراث؟ لقد استنفذ السياسيون كل قدرات الأمة، وما زال بعضهم يفعل من دون تقديم مشروع نهضوي حقيقي، يجعل الانسان اكثر سعادة في حياته، تقدم له خدمات صحية وتعليمية وادارية حديثة، تنقي بيئته من الملوثات ويأكل أكلا صحيا، ويخضع لقانون حديث ينظم العلاقة بينه وبين الدولة على قاعدة حقوقية حديثة؟ من دون حل كل ذلك، لا نستطيع ان نتحدث عن “تحرير”، قبل تحرير الانسان، ولا تنمية قبل تنمية الفكر، ولا حوار، ان لم نؤمن بأن ألد عداء المعرفة ليس الجهل، بل توهم المعرفة!