- الجمعة نوفمبر 30, 2012 7:52 am
#55541
لا تقدم، ولا مدنية، ولا حضارة حقيقية؛ دون مشروع واضح لصناعة المجتمع المدني الذي ينهض على قواعد مؤسساتية؛ تحفظ التوازنات بين قوى المجتمع المتنوع من جهة، وتوفر الحد الأدنى من المشروعية القانونية للسلطات المدنية، التي هي العمود الفقري لأي مجتمع مدني، والتي لا يستقيم وجوده في حال ضعفها، أو تداخلها، أو ضبابية العلاقة فيما بينها. فهي الشرط الأولي لمشروع المجتمع المدني المعاصر (الدولة العصرية)، ذلك المجتمع الذي يتراجع فيه الشخصي؛ لحساب القانوني والمؤسساتي.
لكن، لا يمكن للمجتمع المدني أن يوجد، وإذا وجد لا يمكن له أن يترسخ في الواقع؛ ما لم تكن (حالة التعصب) في أدنى درجاتها؛ لأنه مجتمع قانوني، أي مجتمع عادل، يقف الفرد فيه في مواجهة الفرد، وليس الجماعة في مواجهة الجماعة. فقيمة الفرد فيه تتحدد من خلال ما يمتلكه الفرد من إمكانيات، وما يقدمه لمجتمعه الإنساني من تضحيات، وليست قيمته مرتبطة بانتماءاته العشائرية، أوالعرقية، أو المناطقية، أو المذهبية، أو الطائفية، تلك الانتماءات التي تمثل القاعدة الأولى لكل ألوان التعصب المقيت.
محاربة التعصب بأنواعه، هي إحدى الخطوات الأولى لصناعة المجتمع المدني المتسامح، وليس العكس؛ كما يتوهم البعض؛ ممن يحسن الظن في مثل هذه الارتباطات المتخلفة التي يظنها لبنة أولى في التكتل المجتمعي.
لا يمكن إرساء قيم المجتمع المدني، ولا مؤسساته؛ دون وجود أرضية من التسامح صالحة لضمان عدم اختراق تلك الانتماءات للبنى المؤسساتية المدنية. وجود المؤسسة قد يخفف من حدة تلك الانتماءات والعصبيات، ويكبح من جماحها الذي تمليه قوة الجماعة في مواجهة الفرد، لكنه لا يمنح ضمانة واقعية بعدم اختراقها من قبل العصبيات التي قد تصبح المؤسسة المدنية ألعوبة بيديها.
التشكيل الحديث للمجتمع المدني صناعة غربية؛ كغيره من مخرجات الواقع الغربي، الذي لم يأخذ في اعتباره - إبان صياغته النظرية - الحالات اللاحقة التي ستحاول تأسيس هذا المجتمع على رواسب من انتماءات تناقضه أشد المناقضة. وهو معذور في هذا؛ فهو قد بدأ التنظير للمجتمع المدني من حيث انتهى ذلك المجتمع الذي أصبحت المؤسسات المدنية فيه نتاج حرب ضروس ضد جميع أشكال التعصب والإقصاء.
وإذا كان الكفاح ضد حالات التعصب لا بد أن يستمر؛ حتى بعد نشوء المؤسسات المدنية ورسوخها؛ كي لا تحدث انتكاسة تلتهم النظرية الواقع؛ فإن ما قبل المؤسسة المدنية لا بد أن يكون تمهيدا لها، أو شبه تمهيد. لا بد أن تصبح المؤسسة المدنية وكأنها نتيجة للوعي الاجتماعي بقيم التعدد والتنوع و التسامح، وحقوق الأفراد الذي لا تنقضه حقوق الجماعة.
إن تجاهل هذا الأمر يقود إلى صناعة مجتمع مدني متطور في هيكله، لكنه في روحه الذي يحركه، طائفي عشائري متخلف. ولعل النموذج اللبناني خير شاهد على هذه الحال. فالديمقراطية اللبنانية بمؤسساتها المدنية من أعرق الديمقراطيات في المنطقة، وأكثرها رسوخا ونزاهة. لكن، تنامي حالات التعصب، جعلها مخترقة من الانتماءات الطائفية والولاءات الإقليمية. فأصبحت أعرق البلدان العربية في الممارسة الديمقراطية، وأشدها تنوعا وتعددية، هي الوجه العربي المشوه الذي يعكس حالة التعصب العربي، عندما ينحاز كل أحد، ضد كل أحد !. بل عندما يتم تقاسم المؤسسات المدنية، على أساس غير مدني، أي على أساس من التعصب الذي ينافي شروط المدنية ذاتها.
إن التسامح الذي يكون المقدمة الأولى للمجتمع المدني، ليس خيارا لنا من مجموعة خيارات، بل هو ضرورة بقاء، وضرورة مرحلة، وضرورة تقدم ونهضة. والتسامح لا يعني التسامح مع التعصب والعصبيات غير المدنية التي هي بالضرورة تحمل في مكوناتها النقيض لكل ما هو مدني. التسامح، يعني محاولة إجهاض كل ظاهرة من مظاهر التعصب، وتعريتها، وكشف زيفها من جهة، وخطورتها على المجتمع الواحد من جهة أخرى.
وبعيدا عن مناقشة : هل التعصب - بتمظهراته المتنوعة - حالة فطرية طبيعية في الكائن الإنساني، أم لا ؟؛ فإن مما لا شك فيه، أن التعصب يخضع في صعوده وهبوطه لأسباب من خارج المكونات الأساسية للإنسان. فسواء اقتنعنا بفطرية التعصب أو لم نقتنع؛ فسنعمل على الظاهرة اليقينية التي أمامنا، وهي أن التعصب الذي يقلق المدنيات المعاصرة - المتحققة، أو التي في طريقها إلى التحقق - هو تعصب من صنع الإنسان.
التعصب الذي تعاني منه المجتمعات اليوم، هو صناعة إنسانية، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. ومناقشة أسباب نشوء التعصب أو تناميه، هي بلا شك، من مقدمات صناعة ثقافة التسامح. ولعل من يتأمل حالة التعصب التي نعاني منها في مجتمعاتنا؛ يجد أنها ترجع إلى عدة أسباب، أهمها :
1- صعود الإيديولوجيات القمعية. فلا شك أن هذه الإيديولوجيات الأصولية ذات بعد قمعي، ينفي الآخر، وينكفئ على الذات، في ظل رؤية دوغمائية، تحتكر الحق والحقيقة. هذه الإيديولوجيات، قد تكون مرجعيتها دينية، وهذا هو الغالب، وقد لا تكون. فكثير من التيارات الوضعية غير الدينية، أصبحت أصولية في بنيتها ووظائفها، وفي بعدها الدوغمائي؛ لا تختلف عن الأصوليات الدينية إلا في نوعية مكونات البنية فحسب، بينما تمارس التعصب الديني ذاته، بل ربما زادت عليه في التوحش والنفي.
وجود هذه الإيديولوجيات، وتناميها، عزز من أشكال التعصب الأخرى. وربما لا يخفى على الكثير منا عودة القبيلة والعشائرية، في الوقت الذي تنامى فيه مد الأصوليات المتطرفة في عالمنا العربي والإسلامي. وهذا يدل على أن أشكال التعصب تتلاقح فيما بينها، بصرف النظر عن تعارض مكوناتها الداخلية؛ لأن حالة التعصب ليست فكرية خالصة، بل هي في اشتباك دائم، مع الوجداني. ومن ثم، فهي مشروع للعدوى بمرض التعصب.
2- المحاضن التربوية. وهذه المحاضن يحسن كثير من الظن بها، لما لها من واجهة تربوية، وأحيانا تربوية عصرية من حيث تمظهرها المؤسساتي. لكن، تكمن المشكلة عندما يتم اختراقها من قبل التيارات المتعصبة التي تتخذ منها وسائل لتمرير أجندتها الخاصة. حينئذ، تتحول هذه المحاضن إلى معسكرات فاشية؛ لصناعة التعصب المذهبي والديني.
الأخطر في هذا الأمر، أن الاختراق لا يتم على نحو شامل وواضح. بل يتم عبر وحدات منهجية، تؤسس للتنابذ المذهبي والطائفي. وبهذا، ينشأ الجيل الذي يراد له أن يكون قاعدة المجتمع المدني، ينشأ على عداوة مواطنيه، وعلى تكفير شرائح منهم. بل إن الأمر لا يقتصر على مجرد التكفير أو التضليل، إذ يتعداه إلى احتقان حاد، تجاه هذا الآخر المختلف عنه من بني وطنه. ولا شك أن هذا الاحتقان سيبحث له عن متنفس في الواقع. وسيأتي هذا التنفيس على صورة ممارسات عنصرية، موغلة في ذلك، حد القتل والتمثيل.
الحل لمثل هذه المحاضن، أن تكون الرقابة (الرقابة المدنية) عليها صارمة، وأن يكون ما يمارس فيها من المشترك الوطني، وأن يتم تطهيرها من كل ما يحمل ولو نوعا خافتا من التعصب المذهبي، هذا التعصب الذي لا بد أن يحمل - في الوقت نفسه - تضليل الآخر وتكفيره.
في الوقت نفسه؛ لا بد أن يتم تعزيز الأبعاد الإنسانية، والمشتركات الوطنية، كبديل لمفردات التعصب التي تم زرعها في مناهج علنية أو خفية. لا بد أن تعمل هذه المحاضن على مشروع واضح ومعلن، يضع الإنسان الفرد، من حيث هو قيمة بذاته في المجتمع المدني، فوق جميع أنواع العصبيات، وأن يتم فضح سلوكيات التعصب، كمهمة أولية من مهمات السياق التربوي لدينا.
3- الانغلاق على الذات. فالتعصب يتنامى في البيئة الانغلاقية التي لا تفهم الآخر؛ لغياب المعلومة، أو لعدم صحتها، أو لغياب الوعي الذي لا يمكن أن يتكون إلا عبر وعي كلي؛ يعي الذات في إطار تموضعها - الآني والتاريخي - في شبكة العلاقات الفكرية والواقعية.
معظم حالات التعصب المذهبي، وخاصة لدى الكوادر السفلى من أبناء الانتماء المغلق، ناتجة عن جهل بالآخر. إنهم يعتقدون أن ما هم عليه هو الصواب القطعي، وأن ما عليه الآخر هو الباطل القطعي؛ لسبب واحد، وهو الجهل بأن لهذا الآخر مقولاته واستدلالاته.
اليقين بالصواب - وهو مما يؤسس للتعصب - ينتج عن عدم الإنصات إلى الآخر، وسماع حججه. بل إن التعصب لأحد الأقوال أو الآراء، داخل المذهب الواحد، بل داخل التيار الواحد، والمدرسة الواحدة، لم يكن إلا بفعل الاطمئنان إلى الجهل، والنفور من الاشتباك المعرفي المنفتح مع المقولات الأخرى.
إن عرض الآراء والمقولات، وتفصيل الرؤى المجملة، لا يورث الاضطراب كما تتصور العقلية التقليدية، ولا يدعو إلى التحلل من قواعد الشريعة كما يتوهم المتعصبون، وإنما يقود إلى مزيد من الفهم والتفهم للآخر الذي لا يتبنى الرؤى ذاتها، وإلى فك اختناقات الوعي، وإعطاء مساحات أكبر من الخيارات التي تضمن البقاء في دائرة الالتزام الشرعي، بدل محاولات القفز عليها.
4- تراجع ثقافة التنوير، أو تقهقرها أمام زحف الأصوليات. فهذه الثقافة بما هي ضمانة لانتشار التسامح، وانحسار التعصب، لا بد أن يؤدي إلى شيوع أفكار وحالات التعصب؛ لأن الوعي لا يستسلم كثيرا للفراغ، فما لم يتم الترسيخ لثقافة التنوير؛ فإن الثقافة الأخرى المناوئة، ستزحف إلى الوعي، ومن ثم إلى الواقع.
لكن، ثقافة التنوير لا يمكن أن تتسرب في تفاصيل البنية الاجتماعية، إلا عبر مؤسسات المجتمع التعليمية والتربوية. وحضورها في هذا الميدان، يحتاج لإرادة واعية بأهمية التنوير من جهة، وبكارثية ثقافة التقليد من جهة أخرى؛ لأن التنوير سيواجه - بلا شك - خصومة اجتماعية من قبل تيارات المحافظة والتقليد. وما لم تكن هذه الإرادة حاضرة بقوة القرار، وبشرعية القانون، فإن إقصاء التنوير عن المحاضن التربوية والتعليمية، يكون أمرا محتوما.
حتى تنبعث مثل هذه الإرادة الواعية، المؤمنة بضرورة التقدم، لا بد أن يحمل الفاعل التنويري مهمته فوق كل أرض، وتحت كل سماء. أي لا بد أن يمارس فعله التنويري، عبر الوسائط المتاحة، وضمن شروط الواقع. كما أن عليه أن يكون متضمنا روح التضحية، ولو بأبسط صورها.
كثيرا ما أتساءل عن الدور الحقيقي الذي يمارسه المعلم (والتعليم فعل تنويري في الأساس، وقد يكون على الضد من ذلك) في مجالات التعليم كافة؛ هل يمارس ذوو القناعات التنويرية رسالتهم التنويرية على نحو كامل في إطار عملهم العام ؟. ماذا يفعل أساتذة الجامعات مع طلابهم في إطار هذا التجاذب المجتمعي بين رؤى التنوير من جهة، ورؤى التقليد والجمود من جهة أخرى ؟. وإذا كانوا يقومون برسالتهم على نحو عال من الإحساس بالمسؤولية؛ فأين مخرجات هذا الجهد التنويري المفترض؟. هل هناك تقصير، أم فاعلية التقليد والجمود أقوى من أي جهد يبذله الفاعل التنويري ؟!.
لا شك أن هناك تقصيراً من المؤمنين بفاعلية التنوير في مجالات العمل العام، وأن هذا التقصير لا ينبع - في الغالب - من نقص في القناعات، بقدر ما ينبع من إيثار لعدم الخوض في جدليات، قد تؤدي إلى نوع من التضحية المادية أو المعنوية، التي ليس لديه استعداد لبذلها عن طيب خاطر، خاصة عندما تمس وضعيته الاجتماعية، أو مستقبله الوظيفي.
5- ظروف إقليمية ودولية. وهذه الظروف تثير حالات من التعصب، قد تؤدي إلى بعث بعض الرؤى الفكرية المتعصبة من رقادها الطويل، أو ربما تؤدي إلى صناعة فكرة التعصب من وحي الواقع.
إن الإنسان لا يستطيع أن يكون منعزلا بمشاعره ووجدانه عن كل ما يدور حوله، خاصة عندما تكون الأحداث مستفزة للوجدان بحكم حجمها، أو نوعيتها، أو اشتباكها مع مفردات خاصة، تعدها الذات إحدى مقومات وجودها التي لا يمكن لها التنازل عنها بحال.
لكن، تكمن المشكلة في أن كثيرا من هذه الظروف لا يمكن التحكم بها، بل، ولا حتى التخفيف من حدتها؛ كما هو الحال - مثلا - في الشأن العراقي، الذي أصبح مطبخا إقليميا لحالات التعصب الطائفي والمذهبي. إن قدرتنا على التأثير في مسيرة الأحداث في العراق، تبقى ضئيلة، بل ربما معدومة؛ لأن للمسألة أكثر من بعد، وليس مجرد (احتلال !).
أعتقد أن مهمتنا الفكرية في هذا المضمار، تكمن في تصحيح الوعي بهذه الظروف، والكشف عن تلبساتها؛ عن طريق تغيير نمط التفكير الذي تعاين من خلاله الذات هذه الظروف. ففي الشأن العراقي، كمثال حي على هذه الظروف التي تصنع التعصب، لا بد من كشف حقيقة ما يحدث العراق، لا من خلال المعلومة المجردة، وإنما عن طريق بحث عبثية ما يسمى بالمقاومة، من حيث العائد البراجماتي، وانعدام شرعية ما يسمى ب(الجهاد) من حيث انعدام الشرعية التي تتمظهر بها جماعات الإرهاب في العراق.
مقاربة الظروف المعاصرة على النحو الذي يجعل من كل فرد قادرا على التفكير بحد أدنى من الواقعية، وتخفيض سقف الأحلام القوموية والإسلاموية، وبحث حقيقة تطلعات الجماعات المتعصبة، وتمحورها حول مصالحها الخاصة، كفيل بالحد من تأثير تلك الظروف، في قدرتها على رفع مستويات التعصب الذي نراه الآن يقف حائلا في وجه إقامة الدولة المدنية، وإرساء مؤسسات المجتمع المدني في العراق.
لكن، لا يمكن للمجتمع المدني أن يوجد، وإذا وجد لا يمكن له أن يترسخ في الواقع؛ ما لم تكن (حالة التعصب) في أدنى درجاتها؛ لأنه مجتمع قانوني، أي مجتمع عادل، يقف الفرد فيه في مواجهة الفرد، وليس الجماعة في مواجهة الجماعة. فقيمة الفرد فيه تتحدد من خلال ما يمتلكه الفرد من إمكانيات، وما يقدمه لمجتمعه الإنساني من تضحيات، وليست قيمته مرتبطة بانتماءاته العشائرية، أوالعرقية، أو المناطقية، أو المذهبية، أو الطائفية، تلك الانتماءات التي تمثل القاعدة الأولى لكل ألوان التعصب المقيت.
محاربة التعصب بأنواعه، هي إحدى الخطوات الأولى لصناعة المجتمع المدني المتسامح، وليس العكس؛ كما يتوهم البعض؛ ممن يحسن الظن في مثل هذه الارتباطات المتخلفة التي يظنها لبنة أولى في التكتل المجتمعي.
لا يمكن إرساء قيم المجتمع المدني، ولا مؤسساته؛ دون وجود أرضية من التسامح صالحة لضمان عدم اختراق تلك الانتماءات للبنى المؤسساتية المدنية. وجود المؤسسة قد يخفف من حدة تلك الانتماءات والعصبيات، ويكبح من جماحها الذي تمليه قوة الجماعة في مواجهة الفرد، لكنه لا يمنح ضمانة واقعية بعدم اختراقها من قبل العصبيات التي قد تصبح المؤسسة المدنية ألعوبة بيديها.
التشكيل الحديث للمجتمع المدني صناعة غربية؛ كغيره من مخرجات الواقع الغربي، الذي لم يأخذ في اعتباره - إبان صياغته النظرية - الحالات اللاحقة التي ستحاول تأسيس هذا المجتمع على رواسب من انتماءات تناقضه أشد المناقضة. وهو معذور في هذا؛ فهو قد بدأ التنظير للمجتمع المدني من حيث انتهى ذلك المجتمع الذي أصبحت المؤسسات المدنية فيه نتاج حرب ضروس ضد جميع أشكال التعصب والإقصاء.
وإذا كان الكفاح ضد حالات التعصب لا بد أن يستمر؛ حتى بعد نشوء المؤسسات المدنية ورسوخها؛ كي لا تحدث انتكاسة تلتهم النظرية الواقع؛ فإن ما قبل المؤسسة المدنية لا بد أن يكون تمهيدا لها، أو شبه تمهيد. لا بد أن تصبح المؤسسة المدنية وكأنها نتيجة للوعي الاجتماعي بقيم التعدد والتنوع و التسامح، وحقوق الأفراد الذي لا تنقضه حقوق الجماعة.
إن تجاهل هذا الأمر يقود إلى صناعة مجتمع مدني متطور في هيكله، لكنه في روحه الذي يحركه، طائفي عشائري متخلف. ولعل النموذج اللبناني خير شاهد على هذه الحال. فالديمقراطية اللبنانية بمؤسساتها المدنية من أعرق الديمقراطيات في المنطقة، وأكثرها رسوخا ونزاهة. لكن، تنامي حالات التعصب، جعلها مخترقة من الانتماءات الطائفية والولاءات الإقليمية. فأصبحت أعرق البلدان العربية في الممارسة الديمقراطية، وأشدها تنوعا وتعددية، هي الوجه العربي المشوه الذي يعكس حالة التعصب العربي، عندما ينحاز كل أحد، ضد كل أحد !. بل عندما يتم تقاسم المؤسسات المدنية، على أساس غير مدني، أي على أساس من التعصب الذي ينافي شروط المدنية ذاتها.
إن التسامح الذي يكون المقدمة الأولى للمجتمع المدني، ليس خيارا لنا من مجموعة خيارات، بل هو ضرورة بقاء، وضرورة مرحلة، وضرورة تقدم ونهضة. والتسامح لا يعني التسامح مع التعصب والعصبيات غير المدنية التي هي بالضرورة تحمل في مكوناتها النقيض لكل ما هو مدني. التسامح، يعني محاولة إجهاض كل ظاهرة من مظاهر التعصب، وتعريتها، وكشف زيفها من جهة، وخطورتها على المجتمع الواحد من جهة أخرى.
وبعيدا عن مناقشة : هل التعصب - بتمظهراته المتنوعة - حالة فطرية طبيعية في الكائن الإنساني، أم لا ؟؛ فإن مما لا شك فيه، أن التعصب يخضع في صعوده وهبوطه لأسباب من خارج المكونات الأساسية للإنسان. فسواء اقتنعنا بفطرية التعصب أو لم نقتنع؛ فسنعمل على الظاهرة اليقينية التي أمامنا، وهي أن التعصب الذي يقلق المدنيات المعاصرة - المتحققة، أو التي في طريقها إلى التحقق - هو تعصب من صنع الإنسان.
التعصب الذي تعاني منه المجتمعات اليوم، هو صناعة إنسانية، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. ومناقشة أسباب نشوء التعصب أو تناميه، هي بلا شك، من مقدمات صناعة ثقافة التسامح. ولعل من يتأمل حالة التعصب التي نعاني منها في مجتمعاتنا؛ يجد أنها ترجع إلى عدة أسباب، أهمها :
1- صعود الإيديولوجيات القمعية. فلا شك أن هذه الإيديولوجيات الأصولية ذات بعد قمعي، ينفي الآخر، وينكفئ على الذات، في ظل رؤية دوغمائية، تحتكر الحق والحقيقة. هذه الإيديولوجيات، قد تكون مرجعيتها دينية، وهذا هو الغالب، وقد لا تكون. فكثير من التيارات الوضعية غير الدينية، أصبحت أصولية في بنيتها ووظائفها، وفي بعدها الدوغمائي؛ لا تختلف عن الأصوليات الدينية إلا في نوعية مكونات البنية فحسب، بينما تمارس التعصب الديني ذاته، بل ربما زادت عليه في التوحش والنفي.
وجود هذه الإيديولوجيات، وتناميها، عزز من أشكال التعصب الأخرى. وربما لا يخفى على الكثير منا عودة القبيلة والعشائرية، في الوقت الذي تنامى فيه مد الأصوليات المتطرفة في عالمنا العربي والإسلامي. وهذا يدل على أن أشكال التعصب تتلاقح فيما بينها، بصرف النظر عن تعارض مكوناتها الداخلية؛ لأن حالة التعصب ليست فكرية خالصة، بل هي في اشتباك دائم، مع الوجداني. ومن ثم، فهي مشروع للعدوى بمرض التعصب.
2- المحاضن التربوية. وهذه المحاضن يحسن كثير من الظن بها، لما لها من واجهة تربوية، وأحيانا تربوية عصرية من حيث تمظهرها المؤسساتي. لكن، تكمن المشكلة عندما يتم اختراقها من قبل التيارات المتعصبة التي تتخذ منها وسائل لتمرير أجندتها الخاصة. حينئذ، تتحول هذه المحاضن إلى معسكرات فاشية؛ لصناعة التعصب المذهبي والديني.
الأخطر في هذا الأمر، أن الاختراق لا يتم على نحو شامل وواضح. بل يتم عبر وحدات منهجية، تؤسس للتنابذ المذهبي والطائفي. وبهذا، ينشأ الجيل الذي يراد له أن يكون قاعدة المجتمع المدني، ينشأ على عداوة مواطنيه، وعلى تكفير شرائح منهم. بل إن الأمر لا يقتصر على مجرد التكفير أو التضليل، إذ يتعداه إلى احتقان حاد، تجاه هذا الآخر المختلف عنه من بني وطنه. ولا شك أن هذا الاحتقان سيبحث له عن متنفس في الواقع. وسيأتي هذا التنفيس على صورة ممارسات عنصرية، موغلة في ذلك، حد القتل والتمثيل.
الحل لمثل هذه المحاضن، أن تكون الرقابة (الرقابة المدنية) عليها صارمة، وأن يكون ما يمارس فيها من المشترك الوطني، وأن يتم تطهيرها من كل ما يحمل ولو نوعا خافتا من التعصب المذهبي، هذا التعصب الذي لا بد أن يحمل - في الوقت نفسه - تضليل الآخر وتكفيره.
في الوقت نفسه؛ لا بد أن يتم تعزيز الأبعاد الإنسانية، والمشتركات الوطنية، كبديل لمفردات التعصب التي تم زرعها في مناهج علنية أو خفية. لا بد أن تعمل هذه المحاضن على مشروع واضح ومعلن، يضع الإنسان الفرد، من حيث هو قيمة بذاته في المجتمع المدني، فوق جميع أنواع العصبيات، وأن يتم فضح سلوكيات التعصب، كمهمة أولية من مهمات السياق التربوي لدينا.
3- الانغلاق على الذات. فالتعصب يتنامى في البيئة الانغلاقية التي لا تفهم الآخر؛ لغياب المعلومة، أو لعدم صحتها، أو لغياب الوعي الذي لا يمكن أن يتكون إلا عبر وعي كلي؛ يعي الذات في إطار تموضعها - الآني والتاريخي - في شبكة العلاقات الفكرية والواقعية.
معظم حالات التعصب المذهبي، وخاصة لدى الكوادر السفلى من أبناء الانتماء المغلق، ناتجة عن جهل بالآخر. إنهم يعتقدون أن ما هم عليه هو الصواب القطعي، وأن ما عليه الآخر هو الباطل القطعي؛ لسبب واحد، وهو الجهل بأن لهذا الآخر مقولاته واستدلالاته.
اليقين بالصواب - وهو مما يؤسس للتعصب - ينتج عن عدم الإنصات إلى الآخر، وسماع حججه. بل إن التعصب لأحد الأقوال أو الآراء، داخل المذهب الواحد، بل داخل التيار الواحد، والمدرسة الواحدة، لم يكن إلا بفعل الاطمئنان إلى الجهل، والنفور من الاشتباك المعرفي المنفتح مع المقولات الأخرى.
إن عرض الآراء والمقولات، وتفصيل الرؤى المجملة، لا يورث الاضطراب كما تتصور العقلية التقليدية، ولا يدعو إلى التحلل من قواعد الشريعة كما يتوهم المتعصبون، وإنما يقود إلى مزيد من الفهم والتفهم للآخر الذي لا يتبنى الرؤى ذاتها، وإلى فك اختناقات الوعي، وإعطاء مساحات أكبر من الخيارات التي تضمن البقاء في دائرة الالتزام الشرعي، بدل محاولات القفز عليها.
4- تراجع ثقافة التنوير، أو تقهقرها أمام زحف الأصوليات. فهذه الثقافة بما هي ضمانة لانتشار التسامح، وانحسار التعصب، لا بد أن يؤدي إلى شيوع أفكار وحالات التعصب؛ لأن الوعي لا يستسلم كثيرا للفراغ، فما لم يتم الترسيخ لثقافة التنوير؛ فإن الثقافة الأخرى المناوئة، ستزحف إلى الوعي، ومن ثم إلى الواقع.
لكن، ثقافة التنوير لا يمكن أن تتسرب في تفاصيل البنية الاجتماعية، إلا عبر مؤسسات المجتمع التعليمية والتربوية. وحضورها في هذا الميدان، يحتاج لإرادة واعية بأهمية التنوير من جهة، وبكارثية ثقافة التقليد من جهة أخرى؛ لأن التنوير سيواجه - بلا شك - خصومة اجتماعية من قبل تيارات المحافظة والتقليد. وما لم تكن هذه الإرادة حاضرة بقوة القرار، وبشرعية القانون، فإن إقصاء التنوير عن المحاضن التربوية والتعليمية، يكون أمرا محتوما.
حتى تنبعث مثل هذه الإرادة الواعية، المؤمنة بضرورة التقدم، لا بد أن يحمل الفاعل التنويري مهمته فوق كل أرض، وتحت كل سماء. أي لا بد أن يمارس فعله التنويري، عبر الوسائط المتاحة، وضمن شروط الواقع. كما أن عليه أن يكون متضمنا روح التضحية، ولو بأبسط صورها.
كثيرا ما أتساءل عن الدور الحقيقي الذي يمارسه المعلم (والتعليم فعل تنويري في الأساس، وقد يكون على الضد من ذلك) في مجالات التعليم كافة؛ هل يمارس ذوو القناعات التنويرية رسالتهم التنويرية على نحو كامل في إطار عملهم العام ؟. ماذا يفعل أساتذة الجامعات مع طلابهم في إطار هذا التجاذب المجتمعي بين رؤى التنوير من جهة، ورؤى التقليد والجمود من جهة أخرى ؟. وإذا كانوا يقومون برسالتهم على نحو عال من الإحساس بالمسؤولية؛ فأين مخرجات هذا الجهد التنويري المفترض؟. هل هناك تقصير، أم فاعلية التقليد والجمود أقوى من أي جهد يبذله الفاعل التنويري ؟!.
لا شك أن هناك تقصيراً من المؤمنين بفاعلية التنوير في مجالات العمل العام، وأن هذا التقصير لا ينبع - في الغالب - من نقص في القناعات، بقدر ما ينبع من إيثار لعدم الخوض في جدليات، قد تؤدي إلى نوع من التضحية المادية أو المعنوية، التي ليس لديه استعداد لبذلها عن طيب خاطر، خاصة عندما تمس وضعيته الاجتماعية، أو مستقبله الوظيفي.
5- ظروف إقليمية ودولية. وهذه الظروف تثير حالات من التعصب، قد تؤدي إلى بعث بعض الرؤى الفكرية المتعصبة من رقادها الطويل، أو ربما تؤدي إلى صناعة فكرة التعصب من وحي الواقع.
إن الإنسان لا يستطيع أن يكون منعزلا بمشاعره ووجدانه عن كل ما يدور حوله، خاصة عندما تكون الأحداث مستفزة للوجدان بحكم حجمها، أو نوعيتها، أو اشتباكها مع مفردات خاصة، تعدها الذات إحدى مقومات وجودها التي لا يمكن لها التنازل عنها بحال.
لكن، تكمن المشكلة في أن كثيرا من هذه الظروف لا يمكن التحكم بها، بل، ولا حتى التخفيف من حدتها؛ كما هو الحال - مثلا - في الشأن العراقي، الذي أصبح مطبخا إقليميا لحالات التعصب الطائفي والمذهبي. إن قدرتنا على التأثير في مسيرة الأحداث في العراق، تبقى ضئيلة، بل ربما معدومة؛ لأن للمسألة أكثر من بعد، وليس مجرد (احتلال !).
أعتقد أن مهمتنا الفكرية في هذا المضمار، تكمن في تصحيح الوعي بهذه الظروف، والكشف عن تلبساتها؛ عن طريق تغيير نمط التفكير الذي تعاين من خلاله الذات هذه الظروف. ففي الشأن العراقي، كمثال حي على هذه الظروف التي تصنع التعصب، لا بد من كشف حقيقة ما يحدث العراق، لا من خلال المعلومة المجردة، وإنما عن طريق بحث عبثية ما يسمى بالمقاومة، من حيث العائد البراجماتي، وانعدام شرعية ما يسمى ب(الجهاد) من حيث انعدام الشرعية التي تتمظهر بها جماعات الإرهاب في العراق.
مقاربة الظروف المعاصرة على النحو الذي يجعل من كل فرد قادرا على التفكير بحد أدنى من الواقعية، وتخفيض سقف الأحلام القوموية والإسلاموية، وبحث حقيقة تطلعات الجماعات المتعصبة، وتمحورها حول مصالحها الخاصة، كفيل بالحد من تأثير تلك الظروف، في قدرتها على رفع مستويات التعصب الذي نراه الآن يقف حائلا في وجه إقامة الدولة المدنية، وإرساء مؤسسات المجتمع المدني في العراق.