العلاقات الدولية من المنظور الإسلامي
مرسل: الأحد ديسمبر 02, 2012 12:45 am
القيم الأخلاقية ودورها في العلاقات الدولية من المنظور الإسلامي
الذي نقصده بهذا العنوان هو الكيفية التي تكون عليها علاقة المجتمع الاسلامي بالمجتمعات غير الاسلامية. أما علاقة المجتمعات الاسلامية بعضها مع بعض فلا نجد ضرورة لبحثها هنا، باعتبار أن المجتمعات الاسلامية ككل تشكل مجتمعاً واحداً اطاره العقيدة.
المهم هو معرفة طبيعة تعامل المسلمين مع غيرهم، ولهذا الموضوع أبعاد مختلفة، يمكن تشخيصها في ضوء الأمور السياسية والحقوقية في الاسلام.
فمثلاً: ما هي أقسام المجتمعات غير الاسلامية؟ وما هي الأحكام الفقهية والاسلامية في هذا المجال؟ إن الحقل الطبيعي لمثل هذه الأبحاث، هو حقل الحقوق في الاسلام.
ونقول هنا بصورة عامة ان المجتمعات غير الاسلامية لا تخرج عن أحد قسمين: فهي إما مجتمعات تحترم حقوق المسلمين، أو مجتمعات لا تحترم حقوق المجتمع الاسلامي بل هي في صدد القضاء على النظام الاسلامي وربما الدين الاسلامي ككل.
فنطلق على مثل هذه المجتمعات اسم (المحاربين). أما المجتمعات التي ترعى حقوق المسلمين، فيمكن أن تتحدد العلاقة بينهم وبين المسلمين، طبقاً للمعايير الكلية في القيم الاجتماعية، كأصل (العدالة) أو أصل (الإحسان)، ويرجع في حالة التزاحم بين هذه الأصول إلى أصول (الأولوية).
أولاً ـ العدالة:
من الطبيعي أن تتوقع أن المجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين يقابلها المسلمون بالمثل، وذلك أصل عقلي، ومصداق من مصاديق العدالة التي رعاها الاسلام وأقرها في تشريعاته، ويجب على المسلمين أن يحترموا اتفاقاتهم مع الكفار ما داموا (أي الكفار) يحترمونها. وحتى في حالة تجاوز الكفار على المسلمين، فيجب أن يكون رد المسلمين بالمقدار نفسه: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل عوقبتم به) النحل/ 126. ولا ينبغي تعدي ذلك (ولا تعتدوا إن الله لا يجب المعتدين) البقرة/ 190.
لابد إذن أن تراعى في حق هؤلاء القيم الاجتماعية كاحترام الدم والمال والعرض وغيرها. لكن قد يحدث أحياناً أن يهدر دم بعض الأشخاص داخل المجتمع الاسلامي نفسه، بل ربما وجب قتل مجرم ما، وقد يهدر عرض أو مال آخرين. لكن المهم أن الأصل في جميع ذلك هو اقامة العلاقات على أساس العدل وطبقاً للاحترام المتقابل بين المجتمعات.
ثانياً ـ الإحسان:
هناك من المسائل ما تندرج تحت عنوان (الإحسان)، فكما أن المجتمع الاسلامي محكوم في داخله لبعض القيم الأخلاقية التي توجب على بعضهم أن يحسنوا إلى المساكين والفقراء والمحرومين، كذلك تطرح القيم نفسها بحدود معينة مع المجتمعات الأخرى.
فالمجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين وترتبط معهم بمعاهدات معينة، تكون هي كذلك موضع احترام المسلمين ومحل عطفهم فمن المنساب جداً أن يجد هؤلاء المسلمين إلى جانبهم في حالة تعرضهم إلى الكوارث والمصائب كالزلازل والسيول والمجاعات وغيرها.
وهذا الأصل تجري مراعاته ضمن قاعدة (الأولوية) أي تقديم حاجة المجتمع الاسلامي على غيره، وتقديم المساعدات في حالة عدم التزاحم إلى المحتاجين من المسلمين ومن الكفار غير المحاربين.
إذن لا توجد أية مشكلة يمكن أن تواجهنا في علاقتنا مع تلك القيم من الكفار الذين احترم الاسلام أرواحهم وأموالهم. لكن مع مراعاة أمرين مهمين في هذا المجال:
1 ـ المحافظة على سيادة المسلمين.
2 ـ المحافظة على سمعة المسلمين والمجتمع الاسلامي.
فلا ينبغي أن تقام علاقات المجتمع الاسلامي مع المجتمعات الأخرى بحيث تكون للكفار اليد العليا في هذه العلاقات، مما قد يخدش سيادة المسلمين واستقلالهم، ويجعل للكافرين عليهم سبيلاً، وهو ما يرفضه الاسلام بنص القرآن الكريم: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء/ 141.
وليست مسألة قطع سبيل الكافرين على المسلمين بمسألة جزئية بل هي من الأمور الكبرى التي تندرج تحتها كل الأمور التي نعيشها في العصر الراهن، كالاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وما إلى ذلك.
ان الفترات التي شهدت اختلال هذه المعادلة هي فترات استثنائية، فربما خضع مجتمع اسلامي ما، نتيجة تكاسله أو غفلته لسيطرة الكفار، وربما فقد استقلاله وسيادته، لكن ذلك أمر استثنائي لا يقره الاسلام ولا يريد للمسلمين أن يقر لهم قرار حتى يخلصوا أنفسهم ومجتمعهم من ذل سيطرة الكفار ويستعيدوا سيادتهم واستقلالهم.
أما فيما يخص الأمر الثاني فقد يسيء المسلمون التصرف، مما يفقدهم شيئاً من سمعتهم، وربما سمعة الاسلام نفسه.
وهذه من النقاط المركزية التي اعتاد المسلمون في أيامنا هذه إهمالها، وعدم حملها على محمل الجد. ان تصرفات بعض المسلمين في تعاملهم مع الكفار في أنحاء مختلفة من العالم من شأنها أن تسيء إلى الاسلام وتشوه سمعته.
إننا لا ندعو إلى تخلي المسلمين عن قيمهم التي يعتزون بها، ويوجبها الاسلام إرضاء لعرف كافر وانسجاماً مع قيم اجتماعية باطلة، فقد يستنكر الغربيون حجاب المرأة ويستهجنون حشمتها ونوع لباسها، لكن ذلك لا يسوغ تساهلها في هذا الأمر بحجة مسايرة العرف والانحراف معه وعدم استفزازه.
ان هذا الحديث بعيد عما نريد بحثه، بل المقصود هو حث المسلمين على عدم استفزاز غيرهم بدون ضرورة، بل بدون مسوغ، فقد يتنصل المسلم عن التزاماته مع الكفار وينقض عهده معهم، بحجة أنهم كفار.
- العلاقة مع الغير مسلمين المحاربين:
المهم هنا هو علاقة المسلمين مع الكفار المحاربين، ففي الوقت الذي لا يجد المرء أية صعوبة في تسويغ موقف الاسلام من الكفار المحاربين الذين ينتهكون حقوق المسلمين، ويشنون الحرب عليهم، سواء من ناحية الرأي العام أو من ناحية القيم الأخلاقية الحاكمة في المجتمعات المختلفة، نجد صعوبة كبيرة في تسويغ ما يسمى بالجاهد الابتدائي في الاسلام، فذلك أمر غير مقبول في العرف السائد حالياً، وقد أدى هذا الأمر بالكثير من علماء المسلمين في هذا العصر إلى توجيه حروب المسلمين في صدر الاسلام جميعاً وجهة دفاعية ليسهل تبريرها. لكن الحقيقة غير ذلك، وان الأساس في هذا التفاوت، هو فلسفة القيم من وجهة نظر الاسلام ووجهة نظر الآخرين.
- الليبرالية والجهاد الابتدائي:
ان النظام الذي يسود العالم حالياً والذي يمكن أن يكون مقبولاً من قبل أكثر الشعوب، إنما هو النظام الليبرالي الحر. ويسمى على مستوى الحكم (النظام الديمقراطي). ان بيان حقوق الانسان وجميع الأمور التي يحترمها النظام العالمي والقيم التي تحكم العالم حالياً، إنما تستند إلى المبدأ القائل ان لكل انسان ـ بصفته انساناً ـ حقوقاُ ثابتة لا تتغير.
فحرية الأفراد وحرية الجماعات وحرية المجتمعات يجب أن تحترم من قبل بعضها بعضاً وينبغي عدم التجافي، وهكذا يتم التعامل على المستوى السياسي في العلاقات الدولية، فعلى المجتمعات أن تحترم الحقوق، بعضها يحترم البعض وأن لا يتدخل الواحد في شؤون الآخر الداخلية. فغالباً ما تحتوي البيانات التي تصدر في ختام لقاء رؤساء الدول العبارة التالية: (على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية).
يستند هذا الأمر إلى قاعدة (حقوق الانسان بما أنه انسان) بل اعترف بهذه الحقوق حتى أولئك الذين ينكرون الحقوق الطبيعية أو الفطرية على أساس أنها حقوق موضوعة. فكل انسان حر في ممارسة أعماله، ولا يحق لأحد التجاوز عليه ما دام لم يتجاوز حقوق غيره.
بناء على هذا لا يحق لأحد التدخل في شؤون المجتمعات الأخرى أو تحريض الشعوب على حكامها، حتى لو اختارت تلك الشعوب، والحكومات لنفسها نظام الكفر وارتأت أن تعيش على أساس الشرك، وكذلك لا يحق لأي انسان التدخل في حياة انسان آخر، وبعبارة أخرى أن الانسان الفرد والانسان المجتمع، حر في ممارسة حياته الشخصية.
وقد جرى العمل على ذلك حتى صارت قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية شيئاً بديهياً في الأعراف الدولية، وبناء على هذا ظلت أية عملية تدخل في شؤون الآخرين تواجه الرفض والاستنكار من الجميع.
- نقد النظرية الليبرالية:
ان قضية كون الانسان، والمجتمع حرّين في ممارسة الأعمال والتصرفات التي يرتضيها في حياته، أصبحت من الأمور الشائعة، وهي غير مقبولة لدينا بصورتها المطلقة هذه. فقد أوضحنا أن الدليل ان اقتضى قيداً، فإننا سنقيد تلك الكليات، حتى ان الصدق الذي لا يناقش أحد في حسنه، لا يكون حسناً دائماً وفي كل الأحوال، بل قد يصبح أمراً مذموماً في بعض الأحيان. فنحن نرى أن القيم الأخلاقية ترجع كلها إلى علاقة الانسان بالله، لا بمعنى أن القيم أمور جعلية يجب أن يجعلها الله تعالى، بل هي ناشئة من الحكمة الإلهية وهدف الخلق.
يجب أن نبحث عن الهدف من خلق الانسان، وقلنا ان الهدف من خلق الانسان إنما هو التكامل الاختياري، والكمال ـ في نظر الاسلام ـ هو القرب من الله تعالى والسعادة المعنوية الأبدية وترجع كل القيم الأخلاقية والحقوقية إلى هذا الأصل، وإذا ما أغمضنا النظر عنه، فسوف لن نستطيع اثبات أية قيمة أخلاقية بصورة قطعية وكلية.
واعتبار الحرية على أنها قيمة من القيم، أمر صحيح إلى حد ما، إذ لا يتحقق التكامل الحقيقي للانسان إلا باختياره، أما الإجبار فلا ينتج تكاملاً ولا يؤدي إلى التكامل. لكن هذا يستلزم نفي حق أي انسان ـ مهما كان ـ في التدخل في حياة الانسان الآخر. فأعطي حق التدخل لبعض أحياناً، لمنع أعمال يحاول الآخرون القيام بها. فمثلاً يجب منع الانسان عن ارتكاب عملية الانتحار إذا ما حاول ذلك، ولا يعد تدخل شخص ما لمنع وقوع مثل هذا العمل شيئاً مخالفاً للأخلاق أو الحقوق، بل يعدّ تركه جريمة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المجتمعات.
ان قيمة أي مجتمع مرهونة بموافقة ذلك المجتمع في سيره مع الهدف من خلقه. ويُحترم من أموره وشؤونه ما كان واقعاً في سيره التكاملي هذا. أما ما كان يعود بالضرر على ذلك المجتمع وعلى المجتمعات الأخرى، فليس هناك قاعدة كلية لدينا تمنع من التدخل.
ومن الجدير بالذكر ان هذا التدخل لا يعد نفياً لحرية الآخرين واختيارهم، بل إنما وقع لتهيئة أرضية الاختيار الصحيح وتكريسه.
إن أهم تدخل هو التدخل الفكري والارشاد والتوجيه. فالمجتمع الاسلامي مسؤول عن ارشاد المجتمع الذي يتخذ الفكر المنحرف منهجاً له إذ يجب عرض الاسلام عليه وبذل الجهد لإقناعه بدين الحق، وإذا ما أصر ذلك المجتمع ـ بسوء اختياره ـ على ضلالته وامتنع حتى عن سماع دعوة الاسلام، فهذا مجتمع لا يُقيم له الاسلام وزناً.
إننا نرى قيمة الانسان بما يحقق من خطوات على طريق تكامله. فالقرآن ينظر إلى بعض الناس هكذا: (أولئك كالأنعام بل هم أضل) الأعراف/ 179. ويقول: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) الأنفال/ 55.
فلا يُقيم الاسلام نظامه الأخلاقي على أساس انسانية الانسان فحسب، بمعنى أن الانسان لا يكتسب قيمته لمجرد كونه انساناً. فلا قيمة للانسان إذا كان مجرداً من الفكر والايدلوجية. ان ملاك قيمة الانسان في الاسلام، هو الاسلام والإيمان بالله. وإذا ما افتقد الانسان هذين العنصرين، فإنما تُحترم حقوقه وتراعى مصالحه، على أمل أن يهتدي إلى الاسلام. وإذا ما أيقنا أن هذا المجتمع سوف لن يهتدي إلى الطريق المستقيم، وسيبقى دائماً عدواً للاسلام، فالمسلمون لا يرون لمثل هذا المجتمع أية قيمة، كما ان الله تعالى لا يرى له قيمة، فيرسل عليه العذاب ويمحقه محقاً. وهذا هو المجتمع الذي يحث الله المسلمين على محاربته: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) التوبة/ 14.
الحقيقة ان النظام الأخلاقي في الاسلام مبني على أسس، هي غير الأسس التي بنى عليها المجتمع البشري الحديث نظامه الأخلاقي.
ان قيمة الانسان الأساسية هي بمقدار عبوديته لخالقه، وخطواته على طريق هذه العبودية. أي على طريق سيره التكاملي الحقيقي. وإذا أعطى أحياناً قيمة للكفار، فعلى أمل أن يهتدوا ويبلغوا سبل الرشاد. إذ يتحتم على الانسان ـ باعتباره عبداً لله ـ أن يطيع الله ويحقق هدف الله التشريعي. ومن وظائف المجتمع الاسلامي هداية المجتمعات الأخرى إلى الحق، وإذا وقفت بعض القوى بوجه هذه الهداية، فيجب إزالتها عن طريق تكامل الانسانية. وان أصرت وعتت في عنادها، فيجب شن الحرب عليها. فالجهاد الابتدائي حق، وقد وقع في صدر الاسلام، وسيقع في عصر الظهور، فليس صحيحاً ـ بناء على هذا ـ أن يسعى بعضهم لاعطاء الحروب الاسلامية جميعاً بعداً دفاعياً، انسجاماً مع العرف الدولي الحاكم حالياً، إلا إذا كان هؤلاء يحاولون التحدث بلغة الآخر من أجل أن يفهم الآخر، نحن أثبتنا بالبراهين المنطقية أن القيم ـ سواء الأخلاقية أو الحقوقية ـ مبنية على أساس (الحكمة والهدف من الخلق) وبدون هذا الأساس لا نستطيع إثبات حق أو قيمة واقعية. وعلى أساس هذا البرهان أيضاً ثبتت القيم والحقوق في مواقعها. ونحن لا يمكننا ـ بغض النظر عن مسألة الحكمة الإلهية والهدف من الخلق ـ إثبات أية قيمة أخلاقية أو اجتماعية على أنها أحد الأمور البرهانية القطعية، بل هي قضايا مشهورة يستفاد منها في الجدل أحياناً.
ان من حق المجتمع الاسلامي، بل من واجبه أن يسعى لتقريب الناس جميعاً من هدف خلقهم ـ أي العبودية لله تعالى ـ فليست المسألة سيطرة مجتمع على مجتمع آخر أو توسيع دولة ما جغرافياً على حساب دول أخرى. فهذه أمور غير مقصودة أصلاً، إنما الهدف هو تعبيد الآخرين لله تعالى وابلاغهم الحق وحملهم عليه. والذي يقف بوجه هذا العمل عادة، هم حكام المجتمع، وهم أفراد معدودون يكوّنون السلطة الحاكمة في ذلك المجتمع، سواء كانت سلطة رسمية او غير رسمية ـ أي تحكم من خلف الستار ـ فهؤلاء مهما كانوا، إنما هم أفراد معدودون يقفون سداً منيعاً لكي لا يسمع الناس نداء الاسلام. لابد إذن من إزالة هذا الحاجز وفتح الطريق أمام دعوة الاسلام، لتأخذ طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم.
نحن إذن نختلف مع النظام والعرف الدولي السائد حالياً (أي الأخلاق المقطوعة عن الدين والأخلاق المقطوعة عن الله) اختلافاً أساسياً. نحن نقدم الأخلاق من خلال ارتباطها بالدين، وفي ظل الدين وفي ظل الاعتقاد بالله. ونرى في تعزيز الأخلاق ونصرة القيم الأخلاقية تحقيقاً لهدف الخلق. وبناء على هذا سيكون الجهاد الابتدائي مبرراً جداً رغم عدم قدرة النظام الفكري الحاكم حالياً على هضمه وتوجيهه. نحن غير ملزمين باحترام أصول الأنظمة الفكرية كافة.
نحن نمتلك نظاماً أخلاقياً خاصاً ينسجم تماماً مع نظرة الاسلام إلى الحياة ويلتئم مع الايديولوجية الاسلامية، تمام الالتئام، فلا تضاد ولا تناقض.
- الأصول الأخلاقية في الجهاد:
في الوقت الذي أباح الاسلام للمسلمين محاربة غيرهم، فتح باباً لنوع معين من الأخلاق:
أولاً: ان هذه الحرب لم تُشرّع ـ كما أوضحنا سابقاً ـ لأجل استعمار الآخرين واستخدامهم، بل شرعت لهداية الناس وتوعيتهم وتمهيد الطريق أمامهم لبلوغ الكمال. وفي ضوء هذا الهدف تتحدد طريقة تعامل المسلمين مع المحاربين في المراحل المختلفة. فقبل الحرب يجب إبلاغهم دعوة الاسلام، وما لم تبلغ الدعوة أسماعهم لا يسع أحد محاربتهم.
وفي إحدى الروايات يقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) للإمام علي وهو في طريقه إلى إحدى المعارك: (لئن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت..).
ثانياً: وحين يلتقي الفريقان، كان يدعو الاسلام إلى نوع من القيم الأخلاقية الدقيقة. منها مثلاً: احترام المقدسات، سواء كانت هذه المقدسات موضع احترام الكفار أو الكفار والمسلمين، كاحترام مكة والمسجد الحرام، حيث إن الكفار يشاركون المسلمين إلى حد ما في بعض هذا الاحترام. ثم يمنع الاسلام الحرب في زمان محدد فلا حرب في الأشهر الحرم وفي مكان محدد، فلا حرب في أطراف المسجد الحرام، إلا إذا وقع عدوان على المسلمين، فعليهم أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم، ولا ينبغي أن يكون احتراما لزمان أو المكان سبباً في هزيمتهم واندحارهم. كذلك يجب احترام الكنائس، وأماكن العبادة التي أقامها المسيحيون أو اليهود لعبادة الله.
وليس لأحد أن يتعرض لشيخ أو طفل أو أي شخص محايد لم يشارك في الحرب.
فهذه الأصول وغيرها، أوجب الاسلام الالتزام بها، حتى مع أشد أعداء الاسلام، ولم يتسامح في تطبيقها، إلا إذا بادر العدو إلى خرقها.
لقد أراد الاسلام للحرب أن تكون حرباً شجاعة شريفة واضحة فلا استغفال للعدو ولا مباغتة له، إذ لا حرب قبل الإعلان وإذا ما وقعت الحرب فلا مجال لعمليات الإبادة أو الحرق، حتى إحراق منازل العدو ومزارعه التي تمده بالغذاء والمال، إلا إذا لجأ العدو إلى ذلك. فالحرب تحسم في ميدان القتال، وبالأسلحة المتعارفة في ذلك العصر.
وما بعد الحرب يأتي دور الأسرى الذين وضع الاسلام أصولاً للتعامل معهم، أوضحتها الروايات، وتحدثت عنها كتب الفقه باسهاب.
والحرب ليست هدفاً في الاسلام، حتى الحرب الدفاعية ـ كالحرب مع البغاة، فهي محدودة بحدود رفع الظلم ودفع التجاوز على النظام وفرض الأمن الاسلامي: (حتى تفيء إلى أمر الله) ـ أو هي جهاد ابتدائي، وهو لم يشرع لأنه مطلوب لذاته ـ أي ان الحرب ليست هي الهدف ـ بل الهدف هو هداية هؤلاء إلى عبادة الله وإلى الاسلام. فالحرب في الواقع مع مَن يقف في وجه الدعوة الاسلامية، ولا يدعها تأخذ طريقها إلى أسماع الناس وقلوبهم. فالأصل إذن هو تعبيد الناس لله ودخولهم في الدين كافة حتى يعيش الجميع بأمن وسلام.
- الصلح أو الحرب:
ويطرح ـ هنا ـ السؤال التالي: هل يمكننا القول ـ بناء على ما تقدم ـ إن الصلح في الاسلام هو الأصل والحرب أمر عرضي استثنائي؟ فحيثما وجدت فرصة لإحلال السلام لابد من الركون إليه وترك الحرب؟
(الصلح خير) ورغم ان عبارة (الصلح خير) وردت في القرآن في مورد اختلاف الزوجين، لكننا يمكن أن نستفيد من اطلاقها، لأن المورد لا يُقيّد ولا يخصص.
مما لا شك فيه أن الصلح خير، غير ان هذا لا يعني أننا نلجأ إلى الصلح مهما كان، وبأي شكل أُريد له. فكثيراً ما يستخدم العدو شعار السلام ـ كخدعة ـ وينادي به ليوفر الفرصة أمامه من أجل تجميع قواه والتقاط أنفاسه، ليعاود حربه على المسلمين من موقع أقوى. أما إذا كان الجنوح للسلم جنوحاً حقيقياً، وعلى أساس مقبول، فلا مجال لرفضه في نظر الاسلام: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) الأنفال/ 61. ولا تترك مثل هذه الفرصة حتى في الجهاد الابتدائي، فان أبدى العدو رغبة في ترك الحرب ومال إلى عقد معاهدة سلام مع المسلمين فلا مسوغ لترك فرصة السلام والإصرار على الحرب، إذا كان من شأن اتفاق السلام أن يفتح طريق الدعوة ويفسح المجال أمام دين الله ليبلغ الناس ويدخلوا فيه، ولو بصورة تدريجية. فالقتال لم يلجأ إليه، إلا من أجل تعبيد الناس لله ودخولهم في طاعته، والإصرار عليه ـ مع زوال العقبة أمام التبليغ وانتفاء الموانع التي تمنع المسلمين من ممارسة نشاطهم التبليغي ـ أمر يرفضه الاسلام.
ولو اقتضت شروط مرحلية معينة قبول المسلمين الصلح لتجديد قواهم، فعليهم أن لا يفوتوا فرصة السلام، وإن لم يحققوا أهدافهم بصورة تامة.
هذا إذا كان اللجوء إلى الصلح لجوءاً حقيقياً جاداً، أما إذا حاول العدو المخادعة واستغفال المسلمين بطرح شعار السلام فلا مسوغ لإجابته إلى طلبه وتمكينه من تحقيق هدفه في استغفال المسلمين: (وإن يريدوا أن يخدعوك) الأنفال/ 62.
من جانب آخر يميل الناس دائماً إلى الدعة والاستقرار ويكرهون القتال، ولا يعترفون به إلا حالة اضطرارية واستثنائية، لذا فهم ميالون لنداء العدو إلى الصلح، عند أول بادرة تصدر منه، ليعودوا إلى منازلهم وحياتهم الاعتيادية الطبيعية والمستقرة. ومهما بلغت التربية الاسلامية من القوة والتمكن من نفوس الناس فهي قاصرة عن انتزاع مثل هذه الحالة من نفوس الناس جميعاً، وهذا ما يجعل العدو يعقد الآمال على مشاريع الصلح ويحاول استغلالها لتحقيق مآربه التي أخفقت الحرب في تحقيقها.
لقد التفت القرآن الكريم إلى هذا النقطة، وحث المجاهدين على مواصلة الحرب حتى يتم لهم النصر: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران/ 139.
الذي نقصده بهذا العنوان هو الكيفية التي تكون عليها علاقة المجتمع الاسلامي بالمجتمعات غير الاسلامية. أما علاقة المجتمعات الاسلامية بعضها مع بعض فلا نجد ضرورة لبحثها هنا، باعتبار أن المجتمعات الاسلامية ككل تشكل مجتمعاً واحداً اطاره العقيدة.
المهم هو معرفة طبيعة تعامل المسلمين مع غيرهم، ولهذا الموضوع أبعاد مختلفة، يمكن تشخيصها في ضوء الأمور السياسية والحقوقية في الاسلام.
فمثلاً: ما هي أقسام المجتمعات غير الاسلامية؟ وما هي الأحكام الفقهية والاسلامية في هذا المجال؟ إن الحقل الطبيعي لمثل هذه الأبحاث، هو حقل الحقوق في الاسلام.
ونقول هنا بصورة عامة ان المجتمعات غير الاسلامية لا تخرج عن أحد قسمين: فهي إما مجتمعات تحترم حقوق المسلمين، أو مجتمعات لا تحترم حقوق المجتمع الاسلامي بل هي في صدد القضاء على النظام الاسلامي وربما الدين الاسلامي ككل.
فنطلق على مثل هذه المجتمعات اسم (المحاربين). أما المجتمعات التي ترعى حقوق المسلمين، فيمكن أن تتحدد العلاقة بينهم وبين المسلمين، طبقاً للمعايير الكلية في القيم الاجتماعية، كأصل (العدالة) أو أصل (الإحسان)، ويرجع في حالة التزاحم بين هذه الأصول إلى أصول (الأولوية).
أولاً ـ العدالة:
من الطبيعي أن تتوقع أن المجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين يقابلها المسلمون بالمثل، وذلك أصل عقلي، ومصداق من مصاديق العدالة التي رعاها الاسلام وأقرها في تشريعاته، ويجب على المسلمين أن يحترموا اتفاقاتهم مع الكفار ما داموا (أي الكفار) يحترمونها. وحتى في حالة تجاوز الكفار على المسلمين، فيجب أن يكون رد المسلمين بالمقدار نفسه: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل عوقبتم به) النحل/ 126. ولا ينبغي تعدي ذلك (ولا تعتدوا إن الله لا يجب المعتدين) البقرة/ 190.
لابد إذن أن تراعى في حق هؤلاء القيم الاجتماعية كاحترام الدم والمال والعرض وغيرها. لكن قد يحدث أحياناً أن يهدر دم بعض الأشخاص داخل المجتمع الاسلامي نفسه، بل ربما وجب قتل مجرم ما، وقد يهدر عرض أو مال آخرين. لكن المهم أن الأصل في جميع ذلك هو اقامة العلاقات على أساس العدل وطبقاً للاحترام المتقابل بين المجتمعات.
ثانياً ـ الإحسان:
هناك من المسائل ما تندرج تحت عنوان (الإحسان)، فكما أن المجتمع الاسلامي محكوم في داخله لبعض القيم الأخلاقية التي توجب على بعضهم أن يحسنوا إلى المساكين والفقراء والمحرومين، كذلك تطرح القيم نفسها بحدود معينة مع المجتمعات الأخرى.
فالمجتمعات التي تحترم حقوق المسلمين وترتبط معهم بمعاهدات معينة، تكون هي كذلك موضع احترام المسلمين ومحل عطفهم فمن المنساب جداً أن يجد هؤلاء المسلمين إلى جانبهم في حالة تعرضهم إلى الكوارث والمصائب كالزلازل والسيول والمجاعات وغيرها.
وهذا الأصل تجري مراعاته ضمن قاعدة (الأولوية) أي تقديم حاجة المجتمع الاسلامي على غيره، وتقديم المساعدات في حالة عدم التزاحم إلى المحتاجين من المسلمين ومن الكفار غير المحاربين.
إذن لا توجد أية مشكلة يمكن أن تواجهنا في علاقتنا مع تلك القيم من الكفار الذين احترم الاسلام أرواحهم وأموالهم. لكن مع مراعاة أمرين مهمين في هذا المجال:
1 ـ المحافظة على سيادة المسلمين.
2 ـ المحافظة على سمعة المسلمين والمجتمع الاسلامي.
فلا ينبغي أن تقام علاقات المجتمع الاسلامي مع المجتمعات الأخرى بحيث تكون للكفار اليد العليا في هذه العلاقات، مما قد يخدش سيادة المسلمين واستقلالهم، ويجعل للكافرين عليهم سبيلاً، وهو ما يرفضه الاسلام بنص القرآن الكريم: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) النساء/ 141.
وليست مسألة قطع سبيل الكافرين على المسلمين بمسألة جزئية بل هي من الأمور الكبرى التي تندرج تحتها كل الأمور التي نعيشها في العصر الراهن، كالاستقلال الاقتصادي والاكتفاء الذاتي وما إلى ذلك.
ان الفترات التي شهدت اختلال هذه المعادلة هي فترات استثنائية، فربما خضع مجتمع اسلامي ما، نتيجة تكاسله أو غفلته لسيطرة الكفار، وربما فقد استقلاله وسيادته، لكن ذلك أمر استثنائي لا يقره الاسلام ولا يريد للمسلمين أن يقر لهم قرار حتى يخلصوا أنفسهم ومجتمعهم من ذل سيطرة الكفار ويستعيدوا سيادتهم واستقلالهم.
أما فيما يخص الأمر الثاني فقد يسيء المسلمون التصرف، مما يفقدهم شيئاً من سمعتهم، وربما سمعة الاسلام نفسه.
وهذه من النقاط المركزية التي اعتاد المسلمون في أيامنا هذه إهمالها، وعدم حملها على محمل الجد. ان تصرفات بعض المسلمين في تعاملهم مع الكفار في أنحاء مختلفة من العالم من شأنها أن تسيء إلى الاسلام وتشوه سمعته.
إننا لا ندعو إلى تخلي المسلمين عن قيمهم التي يعتزون بها، ويوجبها الاسلام إرضاء لعرف كافر وانسجاماً مع قيم اجتماعية باطلة، فقد يستنكر الغربيون حجاب المرأة ويستهجنون حشمتها ونوع لباسها، لكن ذلك لا يسوغ تساهلها في هذا الأمر بحجة مسايرة العرف والانحراف معه وعدم استفزازه.
ان هذا الحديث بعيد عما نريد بحثه، بل المقصود هو حث المسلمين على عدم استفزاز غيرهم بدون ضرورة، بل بدون مسوغ، فقد يتنصل المسلم عن التزاماته مع الكفار وينقض عهده معهم، بحجة أنهم كفار.
- العلاقة مع الغير مسلمين المحاربين:
المهم هنا هو علاقة المسلمين مع الكفار المحاربين، ففي الوقت الذي لا يجد المرء أية صعوبة في تسويغ موقف الاسلام من الكفار المحاربين الذين ينتهكون حقوق المسلمين، ويشنون الحرب عليهم، سواء من ناحية الرأي العام أو من ناحية القيم الأخلاقية الحاكمة في المجتمعات المختلفة، نجد صعوبة كبيرة في تسويغ ما يسمى بالجاهد الابتدائي في الاسلام، فذلك أمر غير مقبول في العرف السائد حالياً، وقد أدى هذا الأمر بالكثير من علماء المسلمين في هذا العصر إلى توجيه حروب المسلمين في صدر الاسلام جميعاً وجهة دفاعية ليسهل تبريرها. لكن الحقيقة غير ذلك، وان الأساس في هذا التفاوت، هو فلسفة القيم من وجهة نظر الاسلام ووجهة نظر الآخرين.
- الليبرالية والجهاد الابتدائي:
ان النظام الذي يسود العالم حالياً والذي يمكن أن يكون مقبولاً من قبل أكثر الشعوب، إنما هو النظام الليبرالي الحر. ويسمى على مستوى الحكم (النظام الديمقراطي). ان بيان حقوق الانسان وجميع الأمور التي يحترمها النظام العالمي والقيم التي تحكم العالم حالياً، إنما تستند إلى المبدأ القائل ان لكل انسان ـ بصفته انساناً ـ حقوقاُ ثابتة لا تتغير.
فحرية الأفراد وحرية الجماعات وحرية المجتمعات يجب أن تحترم من قبل بعضها بعضاً وينبغي عدم التجافي، وهكذا يتم التعامل على المستوى السياسي في العلاقات الدولية، فعلى المجتمعات أن تحترم الحقوق، بعضها يحترم البعض وأن لا يتدخل الواحد في شؤون الآخر الداخلية. فغالباً ما تحتوي البيانات التي تصدر في ختام لقاء رؤساء الدول العبارة التالية: (على أساس الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية).
يستند هذا الأمر إلى قاعدة (حقوق الانسان بما أنه انسان) بل اعترف بهذه الحقوق حتى أولئك الذين ينكرون الحقوق الطبيعية أو الفطرية على أساس أنها حقوق موضوعة. فكل انسان حر في ممارسة أعماله، ولا يحق لأحد التجاوز عليه ما دام لم يتجاوز حقوق غيره.
بناء على هذا لا يحق لأحد التدخل في شؤون المجتمعات الأخرى أو تحريض الشعوب على حكامها، حتى لو اختارت تلك الشعوب، والحكومات لنفسها نظام الكفر وارتأت أن تعيش على أساس الشرك، وكذلك لا يحق لأي انسان التدخل في حياة انسان آخر، وبعبارة أخرى أن الانسان الفرد والانسان المجتمع، حر في ممارسة حياته الشخصية.
وقد جرى العمل على ذلك حتى صارت قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية شيئاً بديهياً في الأعراف الدولية، وبناء على هذا ظلت أية عملية تدخل في شؤون الآخرين تواجه الرفض والاستنكار من الجميع.
- نقد النظرية الليبرالية:
ان قضية كون الانسان، والمجتمع حرّين في ممارسة الأعمال والتصرفات التي يرتضيها في حياته، أصبحت من الأمور الشائعة، وهي غير مقبولة لدينا بصورتها المطلقة هذه. فقد أوضحنا أن الدليل ان اقتضى قيداً، فإننا سنقيد تلك الكليات، حتى ان الصدق الذي لا يناقش أحد في حسنه، لا يكون حسناً دائماً وفي كل الأحوال، بل قد يصبح أمراً مذموماً في بعض الأحيان. فنحن نرى أن القيم الأخلاقية ترجع كلها إلى علاقة الانسان بالله، لا بمعنى أن القيم أمور جعلية يجب أن يجعلها الله تعالى، بل هي ناشئة من الحكمة الإلهية وهدف الخلق.
يجب أن نبحث عن الهدف من خلق الانسان، وقلنا ان الهدف من خلق الانسان إنما هو التكامل الاختياري، والكمال ـ في نظر الاسلام ـ هو القرب من الله تعالى والسعادة المعنوية الأبدية وترجع كل القيم الأخلاقية والحقوقية إلى هذا الأصل، وإذا ما أغمضنا النظر عنه، فسوف لن نستطيع اثبات أية قيمة أخلاقية بصورة قطعية وكلية.
واعتبار الحرية على أنها قيمة من القيم، أمر صحيح إلى حد ما، إذ لا يتحقق التكامل الحقيقي للانسان إلا باختياره، أما الإجبار فلا ينتج تكاملاً ولا يؤدي إلى التكامل. لكن هذا يستلزم نفي حق أي انسان ـ مهما كان ـ في التدخل في حياة الانسان الآخر. فأعطي حق التدخل لبعض أحياناً، لمنع أعمال يحاول الآخرون القيام بها. فمثلاً يجب منع الانسان عن ارتكاب عملية الانتحار إذا ما حاول ذلك، ولا يعد تدخل شخص ما لمنع وقوع مثل هذا العمل شيئاً مخالفاً للأخلاق أو الحقوق، بل يعدّ تركه جريمة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى المجتمعات.
ان قيمة أي مجتمع مرهونة بموافقة ذلك المجتمع في سيره مع الهدف من خلقه. ويُحترم من أموره وشؤونه ما كان واقعاً في سيره التكاملي هذا. أما ما كان يعود بالضرر على ذلك المجتمع وعلى المجتمعات الأخرى، فليس هناك قاعدة كلية لدينا تمنع من التدخل.
ومن الجدير بالذكر ان هذا التدخل لا يعد نفياً لحرية الآخرين واختيارهم، بل إنما وقع لتهيئة أرضية الاختيار الصحيح وتكريسه.
إن أهم تدخل هو التدخل الفكري والارشاد والتوجيه. فالمجتمع الاسلامي مسؤول عن ارشاد المجتمع الذي يتخذ الفكر المنحرف منهجاً له إذ يجب عرض الاسلام عليه وبذل الجهد لإقناعه بدين الحق، وإذا ما أصر ذلك المجتمع ـ بسوء اختياره ـ على ضلالته وامتنع حتى عن سماع دعوة الاسلام، فهذا مجتمع لا يُقيم له الاسلام وزناً.
إننا نرى قيمة الانسان بما يحقق من خطوات على طريق تكامله. فالقرآن ينظر إلى بعض الناس هكذا: (أولئك كالأنعام بل هم أضل) الأعراف/ 179. ويقول: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون) الأنفال/ 55.
فلا يُقيم الاسلام نظامه الأخلاقي على أساس انسانية الانسان فحسب، بمعنى أن الانسان لا يكتسب قيمته لمجرد كونه انساناً. فلا قيمة للانسان إذا كان مجرداً من الفكر والايدلوجية. ان ملاك قيمة الانسان في الاسلام، هو الاسلام والإيمان بالله. وإذا ما افتقد الانسان هذين العنصرين، فإنما تُحترم حقوقه وتراعى مصالحه، على أمل أن يهتدي إلى الاسلام. وإذا ما أيقنا أن هذا المجتمع سوف لن يهتدي إلى الطريق المستقيم، وسيبقى دائماً عدواً للاسلام، فالمسلمون لا يرون لمثل هذا المجتمع أية قيمة، كما ان الله تعالى لا يرى له قيمة، فيرسل عليه العذاب ويمحقه محقاً. وهذا هو المجتمع الذي يحث الله المسلمين على محاربته: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) التوبة/ 14.
الحقيقة ان النظام الأخلاقي في الاسلام مبني على أسس، هي غير الأسس التي بنى عليها المجتمع البشري الحديث نظامه الأخلاقي.
ان قيمة الانسان الأساسية هي بمقدار عبوديته لخالقه، وخطواته على طريق هذه العبودية. أي على طريق سيره التكاملي الحقيقي. وإذا أعطى أحياناً قيمة للكفار، فعلى أمل أن يهتدوا ويبلغوا سبل الرشاد. إذ يتحتم على الانسان ـ باعتباره عبداً لله ـ أن يطيع الله ويحقق هدف الله التشريعي. ومن وظائف المجتمع الاسلامي هداية المجتمعات الأخرى إلى الحق، وإذا وقفت بعض القوى بوجه هذه الهداية، فيجب إزالتها عن طريق تكامل الانسانية. وان أصرت وعتت في عنادها، فيجب شن الحرب عليها. فالجهاد الابتدائي حق، وقد وقع في صدر الاسلام، وسيقع في عصر الظهور، فليس صحيحاً ـ بناء على هذا ـ أن يسعى بعضهم لاعطاء الحروب الاسلامية جميعاً بعداً دفاعياً، انسجاماً مع العرف الدولي الحاكم حالياً، إلا إذا كان هؤلاء يحاولون التحدث بلغة الآخر من أجل أن يفهم الآخر، نحن أثبتنا بالبراهين المنطقية أن القيم ـ سواء الأخلاقية أو الحقوقية ـ مبنية على أساس (الحكمة والهدف من الخلق) وبدون هذا الأساس لا نستطيع إثبات حق أو قيمة واقعية. وعلى أساس هذا البرهان أيضاً ثبتت القيم والحقوق في مواقعها. ونحن لا يمكننا ـ بغض النظر عن مسألة الحكمة الإلهية والهدف من الخلق ـ إثبات أية قيمة أخلاقية أو اجتماعية على أنها أحد الأمور البرهانية القطعية، بل هي قضايا مشهورة يستفاد منها في الجدل أحياناً.
ان من حق المجتمع الاسلامي، بل من واجبه أن يسعى لتقريب الناس جميعاً من هدف خلقهم ـ أي العبودية لله تعالى ـ فليست المسألة سيطرة مجتمع على مجتمع آخر أو توسيع دولة ما جغرافياً على حساب دول أخرى. فهذه أمور غير مقصودة أصلاً، إنما الهدف هو تعبيد الآخرين لله تعالى وابلاغهم الحق وحملهم عليه. والذي يقف بوجه هذا العمل عادة، هم حكام المجتمع، وهم أفراد معدودون يكوّنون السلطة الحاكمة في ذلك المجتمع، سواء كانت سلطة رسمية او غير رسمية ـ أي تحكم من خلف الستار ـ فهؤلاء مهما كانوا، إنما هم أفراد معدودون يقفون سداً منيعاً لكي لا يسمع الناس نداء الاسلام. لابد إذن من إزالة هذا الحاجز وفتح الطريق أمام دعوة الاسلام، لتأخذ طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم.
نحن إذن نختلف مع النظام والعرف الدولي السائد حالياً (أي الأخلاق المقطوعة عن الدين والأخلاق المقطوعة عن الله) اختلافاً أساسياً. نحن نقدم الأخلاق من خلال ارتباطها بالدين، وفي ظل الدين وفي ظل الاعتقاد بالله. ونرى في تعزيز الأخلاق ونصرة القيم الأخلاقية تحقيقاً لهدف الخلق. وبناء على هذا سيكون الجهاد الابتدائي مبرراً جداً رغم عدم قدرة النظام الفكري الحاكم حالياً على هضمه وتوجيهه. نحن غير ملزمين باحترام أصول الأنظمة الفكرية كافة.
نحن نمتلك نظاماً أخلاقياً خاصاً ينسجم تماماً مع نظرة الاسلام إلى الحياة ويلتئم مع الايديولوجية الاسلامية، تمام الالتئام، فلا تضاد ولا تناقض.
- الأصول الأخلاقية في الجهاد:
في الوقت الذي أباح الاسلام للمسلمين محاربة غيرهم، فتح باباً لنوع معين من الأخلاق:
أولاً: ان هذه الحرب لم تُشرّع ـ كما أوضحنا سابقاً ـ لأجل استعمار الآخرين واستخدامهم، بل شرعت لهداية الناس وتوعيتهم وتمهيد الطريق أمامهم لبلوغ الكمال. وفي ضوء هذا الهدف تتحدد طريقة تعامل المسلمين مع المحاربين في المراحل المختلفة. فقبل الحرب يجب إبلاغهم دعوة الاسلام، وما لم تبلغ الدعوة أسماعهم لا يسع أحد محاربتهم.
وفي إحدى الروايات يقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) للإمام علي وهو في طريقه إلى إحدى المعارك: (لئن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت..).
ثانياً: وحين يلتقي الفريقان، كان يدعو الاسلام إلى نوع من القيم الأخلاقية الدقيقة. منها مثلاً: احترام المقدسات، سواء كانت هذه المقدسات موضع احترام الكفار أو الكفار والمسلمين، كاحترام مكة والمسجد الحرام، حيث إن الكفار يشاركون المسلمين إلى حد ما في بعض هذا الاحترام. ثم يمنع الاسلام الحرب في زمان محدد فلا حرب في الأشهر الحرم وفي مكان محدد، فلا حرب في أطراف المسجد الحرام، إلا إذا وقع عدوان على المسلمين، فعليهم أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم، ولا ينبغي أن يكون احتراما لزمان أو المكان سبباً في هزيمتهم واندحارهم. كذلك يجب احترام الكنائس، وأماكن العبادة التي أقامها المسيحيون أو اليهود لعبادة الله.
وليس لأحد أن يتعرض لشيخ أو طفل أو أي شخص محايد لم يشارك في الحرب.
فهذه الأصول وغيرها، أوجب الاسلام الالتزام بها، حتى مع أشد أعداء الاسلام، ولم يتسامح في تطبيقها، إلا إذا بادر العدو إلى خرقها.
لقد أراد الاسلام للحرب أن تكون حرباً شجاعة شريفة واضحة فلا استغفال للعدو ولا مباغتة له، إذ لا حرب قبل الإعلان وإذا ما وقعت الحرب فلا مجال لعمليات الإبادة أو الحرق، حتى إحراق منازل العدو ومزارعه التي تمده بالغذاء والمال، إلا إذا لجأ العدو إلى ذلك. فالحرب تحسم في ميدان القتال، وبالأسلحة المتعارفة في ذلك العصر.
وما بعد الحرب يأتي دور الأسرى الذين وضع الاسلام أصولاً للتعامل معهم، أوضحتها الروايات، وتحدثت عنها كتب الفقه باسهاب.
والحرب ليست هدفاً في الاسلام، حتى الحرب الدفاعية ـ كالحرب مع البغاة، فهي محدودة بحدود رفع الظلم ودفع التجاوز على النظام وفرض الأمن الاسلامي: (حتى تفيء إلى أمر الله) ـ أو هي جهاد ابتدائي، وهو لم يشرع لأنه مطلوب لذاته ـ أي ان الحرب ليست هي الهدف ـ بل الهدف هو هداية هؤلاء إلى عبادة الله وإلى الاسلام. فالحرب في الواقع مع مَن يقف في وجه الدعوة الاسلامية، ولا يدعها تأخذ طريقها إلى أسماع الناس وقلوبهم. فالأصل إذن هو تعبيد الناس لله ودخولهم في الدين كافة حتى يعيش الجميع بأمن وسلام.
- الصلح أو الحرب:
ويطرح ـ هنا ـ السؤال التالي: هل يمكننا القول ـ بناء على ما تقدم ـ إن الصلح في الاسلام هو الأصل والحرب أمر عرضي استثنائي؟ فحيثما وجدت فرصة لإحلال السلام لابد من الركون إليه وترك الحرب؟
(الصلح خير) ورغم ان عبارة (الصلح خير) وردت في القرآن في مورد اختلاف الزوجين، لكننا يمكن أن نستفيد من اطلاقها، لأن المورد لا يُقيّد ولا يخصص.
مما لا شك فيه أن الصلح خير، غير ان هذا لا يعني أننا نلجأ إلى الصلح مهما كان، وبأي شكل أُريد له. فكثيراً ما يستخدم العدو شعار السلام ـ كخدعة ـ وينادي به ليوفر الفرصة أمامه من أجل تجميع قواه والتقاط أنفاسه، ليعاود حربه على المسلمين من موقع أقوى. أما إذا كان الجنوح للسلم جنوحاً حقيقياً، وعلى أساس مقبول، فلا مجال لرفضه في نظر الاسلام: (وان جنحوا للسلم فاجنح لها) الأنفال/ 61. ولا تترك مثل هذه الفرصة حتى في الجهاد الابتدائي، فان أبدى العدو رغبة في ترك الحرب ومال إلى عقد معاهدة سلام مع المسلمين فلا مسوغ لترك فرصة السلام والإصرار على الحرب، إذا كان من شأن اتفاق السلام أن يفتح طريق الدعوة ويفسح المجال أمام دين الله ليبلغ الناس ويدخلوا فيه، ولو بصورة تدريجية. فالقتال لم يلجأ إليه، إلا من أجل تعبيد الناس لله ودخولهم في طاعته، والإصرار عليه ـ مع زوال العقبة أمام التبليغ وانتفاء الموانع التي تمنع المسلمين من ممارسة نشاطهم التبليغي ـ أمر يرفضه الاسلام.
ولو اقتضت شروط مرحلية معينة قبول المسلمين الصلح لتجديد قواهم، فعليهم أن لا يفوتوا فرصة السلام، وإن لم يحققوا أهدافهم بصورة تامة.
هذا إذا كان اللجوء إلى الصلح لجوءاً حقيقياً جاداً، أما إذا حاول العدو المخادعة واستغفال المسلمين بطرح شعار السلام فلا مسوغ لإجابته إلى طلبه وتمكينه من تحقيق هدفه في استغفال المسلمين: (وإن يريدوا أن يخدعوك) الأنفال/ 62.
من جانب آخر يميل الناس دائماً إلى الدعة والاستقرار ويكرهون القتال، ولا يعترفون به إلا حالة اضطرارية واستثنائية، لذا فهم ميالون لنداء العدو إلى الصلح، عند أول بادرة تصدر منه، ليعودوا إلى منازلهم وحياتهم الاعتيادية الطبيعية والمستقرة. ومهما بلغت التربية الاسلامية من القوة والتمكن من نفوس الناس فهي قاصرة عن انتزاع مثل هذه الحالة من نفوس الناس جميعاً، وهذا ما يجعل العدو يعقد الآمال على مشاريع الصلح ويحاول استغلالها لتحقيق مآربه التي أخفقت الحرب في تحقيقها.
لقد التفت القرآن الكريم إلى هذا النقطة، وحث المجاهدين على مواصلة الحرب حتى يتم لهم النصر: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران/ 139.