منتديات الحوار الجامعية السياسية

الوقائع و الأحداث التاريخية
#55880
الدول العظمى لها مسؤوليات أخلاقية كبيرة تجاه العالم على مختلف المستويات، لأنها ترسم النظام العالمي وتمتلك سلطة اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياة الجميع، بحكم كونها تحتكر السلطة في المنظمات الدولية، وخاصة مجلس الأمن الدولي. في هذا السياق لنا أن نطرح السؤال المهم حول مدى التزام هذه الدول بمسؤولياتها الدولية؟

منذ عقدين من السنين بدأت مرحلة جديدة في تاريخ البشرية، فقد استبشر العالم مع نهاية الحرب الباردة بمجيء حقبة جديدة، يتراجع فيها الخوف وتتراجع فيها قعقعة السلاح وسياسات المحاور وصراع الأيديولوجيات، الذي لم تقتصر تداعياته على الكبار، بل حصدتها الدول الصغيرة التي اصطفت بدرجات متفاوتة من الحماسة تحت لواء هذا المعسكر أو ذاك. ومع هذا الانفراج الدولي استبشر العالم بحلول مرحلة جديدة، تسود فيها آفاق جديدة تساعد على توسيع مساحات الأحلام، فترة رخاء تتحول فيها ميزانيات التسلح الضخمة التي فرضتها العلاقات الدولية المتشنجة إبان تلك الفترة، إلى ميزانيات تدعم التعليم وتطور الخدمات الصحية وتوفرالرفاه الاقتصادي والاجتماعي.

ولكن تحقيق هذه الأحلام يتطلب اتباع استراتيجية جديدة تعتمدها الدول الكبرى، من منطلق أيديولوجي جديد يأخذ بنظر الاعتبار سمات عصر ما بعد الحرب الباردة، والتغيرات المهمة التي حدثت في البنى السياسية والاقتصاية والفكرية والأخلاقية في العالم. وتقع تبعات ذلك بالدرجة الرئيسية على الدولة الأكثر قوة ونفوذاً وحضوراً في الساحة الدولية، والتي بقيت الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وهي الولايات المتحدة الأميركية.

تعاقب على الرئاسة الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة أربعة رؤساء، اثنان من الحزب الجمهوري واثنان من الحزب الديمقراطي، ولم تشهد هذه الفترة ما كان متوقعاً من هدوء في الساحة السياسية الدولية وابتعاد عن سلوكيات القوة والعنجهية، ولم يصبح العالم أكثر أمناً واستقراراً من ذي قبل. والحقيقة أن العالم ليس مضطرباً بنفسه، وإنما جعلته السياسات الأميركية كذلك، حين أضاعت فرصة نهاية الحرب الباردة وفشلت في صياغة استراتيجية جديدة لوضع أحلام الإنسان موضع التنفيذ.

فشل الولايات المتحدة في ذلك، لا يرجع إلى سياسات هؤلاء الرؤساء الأربعة، فهي دولة لا يحكمها أفراد، وإنما يرجع إلى أسس العلاقات التي تربط الولايات المتحدة بالعالم، وإلى خصائص الولايات المتحدة التي تكونت عبر تاريخها في نصف القرن الأخير. فجميع الإدارات الأميركية التي تعاقبت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قد اختطت سياساتها من منطلق أن العالم لا يستطيع الاستغناء عن الدور الأميركي، وأن الولايات المتحدة ليست جزءاً من هذا العالم قدر ما هي في مقدمته بمسافات. فهي تمتلك قوة ونفوذاً تتسع مساحاته باستمرار حول الأرض وفضاءاتها، متمثلاً بمصالح وعلاقات متشابكة، بعضها ملموس وبعضها غير ذلك، تمتد إلى كل ركن من أركان هذا العالم، وطموحات بزيادة وتوسيع هذا التوغل. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حرصت الولايات المتحدة على الحصول على التفوق في المجال العسكري لتصبح قوة ضاربة، ولم تسعَ إلى التوازن مع دولة أو دول أخرى، ونجحت في ذلك لأنه السبيل الذي اختطته لمد نفوذها وإدامته وتوسيعه في العالم.

على المستوى السياسي رسمت الولايات المتحدة سياساتها انطلاقاً من أن نظام الحكم الديمقراطي الليبرالي وحده، هو الشكل الشرعي للحكومة، وأن الأشكال الأخرى ليست غير شرعية فحسب، بل طارئة ومؤقتة وسرعان ما ستزول. وقد أعلنت الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض، دعمها ومساندتها للحركات التي تقاوم الاستعباد والقمع، وتعهدت بدفع أي ثمن وتحمل أية مخاطر من أجل دعم الحرية والديمقراطية والعمل على إنهاء أنظمة الطغاة.

ما يميز السياسة الأميركية عن غيرها من السياسات الغربية، أنها قليلة الصبر على استمرار الأوضاع السائدة، فالولايات المتحدة ترى نفسها عاملاً مساعداً وإيجابياً في تغيير شؤون العالم. وقد استخدمت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استراتيجية وتكتيك توسيع دائرة التغيير، بطرائق سريعة تقرب من الطرائق التي تلجأ إليها المنظمات الثورية، وليس طرائق الحل التدريجي للمشاكل الذي اعتادت الدول الغربية المحافظة على الأخذ به، وقد وجدت نفسها أكثر من مرة في خلاف مع حلفائها.

ثلاثة مبادئ تستند إليها السياسة الخارجية الأميركية، أولها عدم التردد في اتخاذ قرار بشن حرب وقائية ضد دول أو منظمات قد تصبح ذات خطر على مصالحها في يوم ما، وهو ما يعرف بالحرب الاستباقية. والثاني هو الترويج لمبادئ الحرية والديمقراطية والعمل على تغيير الأنظمة السياسية التي تنتهج سياسات غير ديمقراطية. أما المبدأ الثالث فيتمثل في انتهاج دبلوماسية الانفراد بمعالجة القضايا في العالم، ومنع الآخرين من القيام بدور يذكر، مع الحرص على توظيف الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية في ذلك. فعند استعراض حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتوقف عند أبرز أحداثها، نجد أنفسنا أمام حقيقة مهمة، وهي أن جميع الإدارات الاميركية عملت على تغيير أنظمة سياسية في أماكن مختلفة من العالم، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. فقد كان الرئيس آيزنهاور مهندس الانقلاب في إيران وفي غواتيمالا في خمسنيات القرن المنصرم، وهو الذي خطط لإسقاط نظام فيدل كاسترو في كوبا في عملية خليج الخنازير الفاشلة التي نفذها خلفه كنيدي. وتورط جونسن ثم نيكسون في الحرب الفيتنامية، ثم جاء كارتر ليشكل قوات التدخل السريع ويوظف القدرات العسكرية والمخابراتية الأميركية في أفغانستان. وجاء ريغان بعده ليرسل قواته إلى لبنان ويصدر أوامره باحتلال جزيرة غرينادا، ثم جاء الرئيس بوش الأب الذي أمر باحتلال بنما، وحشد جيوشه وأساطيله لا ليخرج القوات العراقية من الكويت وإنما ليدمر العراق. وخلفه بيل كلينتون الذي شن حربين في هاييتي وفي البوسنة وتدخل عسكرياً في الصومال، ليأتي بعده بوش الابن ويخوض حربين كبيرتين في أفغانستان وفي العراق.

الأزمة المالية التي عصفت بالولايات المتحدة منذ عام 2008، لم تمنع الرئيس أوباما من السير على خطى أسلافه، فهو ليس أقل وفاء من غيره لتقاليد الإدارات الأميركية. وها هو يشارك الرؤساء الثلاثة الذين سبقوه في إضاعة فرصة نهاية الحرب الباردة، فرصة جعل العالم أكثر استقراراً وأمناً.