- الأربعاء ديسمبر 05, 2012 12:19 am
#55881
مؤتمر فرساي، مصالح دائم
في الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 1918م/1336 هـ، وقَّع الاتحاديون الهدنة مع الحلفاء، وخرجت بذلك الدولة العثمانية من الحرب.. وقد رأت الدول الحليفة التي خرجت منتصرة وجوبَ عقد مؤتمر لمعالجة آثار الحرب والقضاء على أسبابها مستقبلاً، وذلك بإعادة تنظيم خارطة البلدان التي كانت تخضع للدول المهزومة بما بتناسب ورغبات الشعوب، وتمّ الاتفاق على أن يُعقَد المؤتمر في أول عام 1919م/1337 هـ، وأن يشترك فيه ممثلون عن جميع الدول التي قاتلت في صف الحلفاء.
مؤتمر فرساي
لمحة عن المؤتمر
وبينما كان الأمير فيصل في مدينة حلب تلقّى برقية من والده الشريف حسين يطلب إليه فيها أن يمثله في المؤتمر المذكور، فعاد إلى دمشق ومنها إلى بيروت ليغادرها فوراً على ظهر بارجة حربية بريطانية برفقة لورانس. وعندما وصلت البارجة ميناء مرسيليا الفرنسي وجد فيصل نفسه وجهاً لوجه أمام تبدّل سياسي مقلق أثارَ في نفسه بعض المخاوف، هذا التبدّل يتلخّص بقوله: »وقد جبهني الفرنسيون بأقوال يمكن إجمالها بما يلي: إن فرنسا لا تعلم شيئاً عن طبيعة المهمة الرسمية التي سأضطلع بها في فرساي (مؤتمر الصلح)، لذا ليس من المرغوب فيه أن أتابع سفري إلى باريس. وإبقاءً على مظاهر المجاملات واللياقات وُجِّهَت لي الدعوة لزيارة الجبهة الغربية، وبعد انقضاء عشرة أيام استطعت متابعة السفر إلى باريس ومنها إلى لندن، وبعد ذلك عُدت إلى فرساي« [1]. ويقول صاحب كتاب (الصراع الدولي في الشرق الأوسط) تعليقاً على هذا: »في الوقت الذي كان فيه فيصل يشاهد ساحات المعارك الموحلة المشوّهة الأديم بفعل القنابل على الجبهة الغربية، كان يُعقَد اجتماع على غاية من الخطورة بين لويد جورج الإنكليزي وكليمنصو الفرنسي، وكان له أثر بعيد الغور بالنسبة إلى مستقبل سوريا، ومستقبل الأمير نفسه«. وتحدد جريدة التايمز اللندنية الغاية الرئيسية من هذا الاجتماع بقولها: »جاء السيد كليمنصو والكولونيل هوس ممثل الرئيس الأمريكي ولسون إلى لندن من أجل الإعداد، بالتشاور مع رجال الدولة لدول الحلفاء، لعقد مؤتمر مشترك للحلفاء يعقَد قريباً (مؤتمر الصلح) في باريس، والاتفاق مسبقاً على مخطط للصلح ليطرح في المؤتمر«[2].
وفي أثناء الحديث الذي جرى بين هوس ولويد جورج »حاول رئيس الوزارة البريطانية أن يركز الحديث حول الخطوط العريضة لاتفاقية سايكس-بيكو، مبتغياً في ذلك جس نبض محدِّثه الأمريكي، غير أنه في قضيتين كشف عما في نفسه من ميل لنقض بعض الالتزامات التي ارتبطت بها إنكلترا نحو فرنسا في إبّان الحرب، والتي لها علاقة بمستقبل الصلح« يلمح هذا من مخطط مشروع الصلح البريطاني المتعلق بالشرق الأدنى والمقدم من وزارة الخارجية البريطانية إلى السفارة الأمريكية في لندن وفيه: »تسيطر بريطانيا على العراق، وأمريكا على فلسطين والقسطنطينية والمضائق. أما نصيب فرنسا فربما كان سوريا«[3]. وما ذلك إلا لأن بريطانيا أصبحت ترى أن اتفاقية سايكس-بيكو لا تحقق لها المصالح التي تريدها في منطقة الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى فإنها تسعى لاسترضاء الرئيس ولسون وتهدئة خواطر حكومة الولايات المتحدة التي كانت تعتبر ظاهرياً الاتفاقيات السرية »سياسة التستر الأرعن والمصالح الأنانية الخرقاء«.
ولقد قال سايكس نفسه أنه: »ينبغي إعادة صقل الاتفاقيات السرية المتعلقة بتقسيم مناطق النفوذ، وتعديلها على ضوء الظروف الحاضرة، ولا سيما للإبقاء على سمعة الرئيس ولسون، ولذا فقد ارتأى أن تقحم الولايات المتحدة في نظام الوصاية، وهذا من شأنه أن يحبط أي محاولة يقوم بها الرئيس ولسون لمعارضة إنشاء مناطق نفوذ لكل من بريطانيا وفرنسا«[4].
أقام فيصل في إنكلترا حتى السابع من كانون الثاني 1919م عندما غادرها إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح بعد أن نُصِح بأن يقبل بسيطرة فرنسا على سوريا لأن بريطانيا غير مستعدة أن تخاصمها حول مشكلة سوريا!
وفي أثناء إقامته في لندن اجتمع بالدكتور حاييم وايزمان Chaim Weismann اليهودي (أصبح فيما بعد أول رئيس لدولة العدو الصهيوني في فلسطين بعد قيامها عام 1948) وحضر الاجتماع لورانس كترجمان، وكان قد جرى اتصال الأمير بوايزمان قبل ذلك بإيعاز من الجنرال ألِنبي في عام 1337 هـ/حزيران 1918م في مقر قيادته في الغويرة (بين العقبة ومعان) وكذلك اجتمع الأمير بعدد من زعماء اليهود في الوليمة التي أقامها على شرفه اللورد روتشليد اليهودي المعروف.
ويقال إن اتفاقية وقّعها الأمير مع وايزمان في لندن عرفت باسم (اتفاقية فيصل-وايزمان) كان من بنودها:
-أن تسود النوايا الحسنة علاقات والتزامات الدولة العربية وفلسطين، وأن يحتفظ بوكالات عربية ويهودية في بلد كل منهما.
-أن تحدد الحدود بين الدوليتين بعد مؤتمر السلام من قبل لجنة يتفق على تعيينها الطرفان المتعاقدان.
-احترام الحرية الدينية ووضع الأماكن الإسلامية تحت رقابة المسلمين. ويقال بأن الأمير قيَّد تنفيذ الاتفاقية بشرط استقلال البلاد العربية[5].
ولم يتمكن الأمير من عرض قضيته أمام مؤتمر الصلح إلا في اليوم السادس من شباط (فبراير) 1919م. في حين كان انعقاد المؤتمر في اليوم الأول من كانون الثاني (يناير) 1919م. حيث قدم الأمير مذكرة أولى، ثم مذكرة ثانية في اليوم التاسع والعشرين من الشهر نفسه، كان من أهم ما جاء فيه قوله: »جئت ممثلاً والدي الذي قاد الثورة العربية ضد الأتراك تلبية لرغبة بريطانيا وفرنسا، لأطالب بأن تكون الشعوب الناطقة بالعربية في آسيا من خط الإسكندرونة/ديار بكر حتى المحيط الهندي جنوباً، معتَرفاً باستقلالها وبسيادتها من عصبة الأمم. وإنني أستند في مطلبي هذا إلى المبادئ التي صرّح بها الرئيس الأميركي ولسون، وأنا واثق من أن الدول الكبرى ستهتم بأجساد الشعوب الناطقة بالعربية وبأرواحها أكثر من اهتمامها بمالها في نفسها من مصالح مادية!«
وخلال شهر كانون الثاني كان كل ما اتُّخِذ من قرارات رسمية حول القضية العربية في المؤتمر:
-فصل سوريا فصلاً تاماً على الإمبراطورية العثمانية.
-فصل أرمينيا والعراق وفلسطين والجزيرة العربية عن الإمبراطورية العثمانية.
وفي الكلمة التي ألقاها الأمير أمام مؤتمر الصلح قال: »إن العرب يعترفون بالجميل لبريطانيا وفرنسا، ويشكرونهما على ما قدمتاه من عون في سبيل تحرير أوطانهم، والعرب يطالبون الآن أن يفي الحلفاء بالوعود التي قطعوها على أنفسهم«.
وبعد أن انتهى من إلقاء كلمته التفت إليه ولسون الأميركي وسأله: ما إذا كان يؤْثر أن يرى دولة واحدة تتولى الانتداب على شعبه أو عدداً من الدول!
وقد أصيب الأمير بخيبة أمل قاسية، فقد كان السؤال على غير ما كان يأمله من الرئيس الأميركي، وعما كان يطالب به من الاستقلال والسيادة فأجاب بقوله: »إنني لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال قبل أن أستشير والدي، وقبل أن أعود إلى العرب أنفسهم«.
ومن الجدير بالذكر أن وزارة الخارجية الأمريكية كانت قد استدعت الدكتور هوارد بلس رئيس الكلية الإنجيلية في بيروت (الجامعة الأمريكية الآن) ووجّهت إليه الدعوة ليأتي إلى باريس، ويُدلي أمام مؤتمر الصلح بآرائه حول الوضع في سوريا. وكان مما جاء في بيانه قولُه: »إني مقتنع أن مثل هذا الاستفتاء الحر سيكشف عن رغبة الشعب في إقامة دولة، أو دول تتطلع آخر الأمر إلى نيل الاستقلال، غير أنها الآن تسعى إلى الحصول على وصاية تقوم بها دولة منتدبة!« وأضاف يقول: »إنه من الأفضل للحكم أن يلازم خطاً موازياً للدين، وأن يسير الاثنان معاً نحو تحقيق غايتهما الرائعة، متوازيين منفصلين« [6].
وأمام تضارب مصالح الدول الكبرى في مؤتمر الصلح، خاصة فيما يتعلق بسوريا، بدا وكأنه لا يوجد من سبيل لتسوية الخلاف بينهم، قام ويكهام ستيد بجمع مناصري وجهة النظر البريطانية، ومناصري وجهة النظر الفرنسية بغية التوفيق بينهما، وتمّ ذلك في مكتبه حيث تعهّد لورانس بإسداء النصح إلى الأمير فيصل بألاّ يغادر باريس، بينما تعهّد الفرنسيون من جانبهم بأن يجروا اتصالاً مباشراً معه. وفي هذا الاتصال طلب كليمنصو من الأمير أن يوافق على إحلال عساكر فرنسا محل عساكر بريطانيا الذين سينسحبون من الشام وحلب، وردّ الأمير بقوله: »أنا لا أستطيع الموافقة على هذه الفكرة«. فقال كليمنصو: »أنا لا أريد احتلال البلاد. إن الأمة الفرنسية لا يرضيها أن لا يكون في سوريا أثر يدلّ على وجود فرنسا فيها. إنها إذا لم تمثل بعلمها وعساكرها فإن الأمة الفرنسية تعدّ ذلك عاراً، ولا مانع أن يوضع علمكم إلى جانب علمنا«.
وقبل أن يغادر الأمير باريس عائداً إلى دمشق كتب رسالة إلى كليمنصو جاء فيها: »أرى لزاماً عليَّ أن أرفع إليكم خالص شكري لأنكم كنتم أول من اقترح إرسال لجنة مشتركة للحلفاء لتذهب بعد فترة وجيزة إلى المشرق للتأكّد من رغائب الأهلين وأمانيهم فيما يتعلق بالتنظيم العتيد لبلادهم، وإني متأكد أن الشعب السوري يعرف كيف يعبّر لكم عن عرفانه الجميل لسعادتكم«[7].
كل هذا يؤكّد مرة أخرى أن الحقيقة لم تزل قائمة، وأن المتغير هو الصورة فقط والإخراج، وما مسلسل المؤتمرات والقرارات (الدولية وغيرها) والاتفاقيات، والمعاهدات، وأخيراً اللقاءات مع زعماء يهود السرية تارة والمعلنة تارة أخرى التي نسمع بها، ونقرأ عنها في الصحف والمجلات هذه الأيام[8]، ما هي إلا مراحل ترسم بدقة، وتحضّر بعناية للوصول إلى الخارطة السياسية والفكرية المرسومة مسبقاً، وإن بلاد العالم الإسلامي لا زالت تمثل التركة التي يختلف على اقتسامها الأقوياء.
وهذا يذكرنا بما كتبه هنري كيسنجر في إحدى دراساته قبل توليه منصب وزير الخارجية الأمريكية، من أنه: »ما من دولة كبرى يجوز أن تكون بلا هدف مصلحي، وبأنه غير معقول ولا مقبول أن تتحرك بسبب الآخرين، وإلا أصبحت أشبه بسفينة هائمة لا تعرف أي مرفأ تقصد«. وكان بذلك يرد على ما قاله دين راسك وزير خارجية الولايات المتحدة يومها في أحد مؤتمراته الصحفية من أنه: »ليس بيننا وبين الشيوعية خصام، فكل خصوماتنا إنما هي بسبب الآخرين«.
والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال هي: أن لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بين الدول الكبرى، وإنما هي مصالح دائمة.
في الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 1918م/1336 هـ، وقَّع الاتحاديون الهدنة مع الحلفاء، وخرجت بذلك الدولة العثمانية من الحرب.. وقد رأت الدول الحليفة التي خرجت منتصرة وجوبَ عقد مؤتمر لمعالجة آثار الحرب والقضاء على أسبابها مستقبلاً، وذلك بإعادة تنظيم خارطة البلدان التي كانت تخضع للدول المهزومة بما بتناسب ورغبات الشعوب، وتمّ الاتفاق على أن يُعقَد المؤتمر في أول عام 1919م/1337 هـ، وأن يشترك فيه ممثلون عن جميع الدول التي قاتلت في صف الحلفاء.
مؤتمر فرساي
لمحة عن المؤتمر
وبينما كان الأمير فيصل في مدينة حلب تلقّى برقية من والده الشريف حسين يطلب إليه فيها أن يمثله في المؤتمر المذكور، فعاد إلى دمشق ومنها إلى بيروت ليغادرها فوراً على ظهر بارجة حربية بريطانية برفقة لورانس. وعندما وصلت البارجة ميناء مرسيليا الفرنسي وجد فيصل نفسه وجهاً لوجه أمام تبدّل سياسي مقلق أثارَ في نفسه بعض المخاوف، هذا التبدّل يتلخّص بقوله: »وقد جبهني الفرنسيون بأقوال يمكن إجمالها بما يلي: إن فرنسا لا تعلم شيئاً عن طبيعة المهمة الرسمية التي سأضطلع بها في فرساي (مؤتمر الصلح)، لذا ليس من المرغوب فيه أن أتابع سفري إلى باريس. وإبقاءً على مظاهر المجاملات واللياقات وُجِّهَت لي الدعوة لزيارة الجبهة الغربية، وبعد انقضاء عشرة أيام استطعت متابعة السفر إلى باريس ومنها إلى لندن، وبعد ذلك عُدت إلى فرساي« [1]. ويقول صاحب كتاب (الصراع الدولي في الشرق الأوسط) تعليقاً على هذا: »في الوقت الذي كان فيه فيصل يشاهد ساحات المعارك الموحلة المشوّهة الأديم بفعل القنابل على الجبهة الغربية، كان يُعقَد اجتماع على غاية من الخطورة بين لويد جورج الإنكليزي وكليمنصو الفرنسي، وكان له أثر بعيد الغور بالنسبة إلى مستقبل سوريا، ومستقبل الأمير نفسه«. وتحدد جريدة التايمز اللندنية الغاية الرئيسية من هذا الاجتماع بقولها: »جاء السيد كليمنصو والكولونيل هوس ممثل الرئيس الأمريكي ولسون إلى لندن من أجل الإعداد، بالتشاور مع رجال الدولة لدول الحلفاء، لعقد مؤتمر مشترك للحلفاء يعقَد قريباً (مؤتمر الصلح) في باريس، والاتفاق مسبقاً على مخطط للصلح ليطرح في المؤتمر«[2].
وفي أثناء الحديث الذي جرى بين هوس ولويد جورج »حاول رئيس الوزارة البريطانية أن يركز الحديث حول الخطوط العريضة لاتفاقية سايكس-بيكو، مبتغياً في ذلك جس نبض محدِّثه الأمريكي، غير أنه في قضيتين كشف عما في نفسه من ميل لنقض بعض الالتزامات التي ارتبطت بها إنكلترا نحو فرنسا في إبّان الحرب، والتي لها علاقة بمستقبل الصلح« يلمح هذا من مخطط مشروع الصلح البريطاني المتعلق بالشرق الأدنى والمقدم من وزارة الخارجية البريطانية إلى السفارة الأمريكية في لندن وفيه: »تسيطر بريطانيا على العراق، وأمريكا على فلسطين والقسطنطينية والمضائق. أما نصيب فرنسا فربما كان سوريا«[3]. وما ذلك إلا لأن بريطانيا أصبحت ترى أن اتفاقية سايكس-بيكو لا تحقق لها المصالح التي تريدها في منطقة الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى فإنها تسعى لاسترضاء الرئيس ولسون وتهدئة خواطر حكومة الولايات المتحدة التي كانت تعتبر ظاهرياً الاتفاقيات السرية »سياسة التستر الأرعن والمصالح الأنانية الخرقاء«.
ولقد قال سايكس نفسه أنه: »ينبغي إعادة صقل الاتفاقيات السرية المتعلقة بتقسيم مناطق النفوذ، وتعديلها على ضوء الظروف الحاضرة، ولا سيما للإبقاء على سمعة الرئيس ولسون، ولذا فقد ارتأى أن تقحم الولايات المتحدة في نظام الوصاية، وهذا من شأنه أن يحبط أي محاولة يقوم بها الرئيس ولسون لمعارضة إنشاء مناطق نفوذ لكل من بريطانيا وفرنسا«[4].
أقام فيصل في إنكلترا حتى السابع من كانون الثاني 1919م عندما غادرها إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح بعد أن نُصِح بأن يقبل بسيطرة فرنسا على سوريا لأن بريطانيا غير مستعدة أن تخاصمها حول مشكلة سوريا!
وفي أثناء إقامته في لندن اجتمع بالدكتور حاييم وايزمان Chaim Weismann اليهودي (أصبح فيما بعد أول رئيس لدولة العدو الصهيوني في فلسطين بعد قيامها عام 1948) وحضر الاجتماع لورانس كترجمان، وكان قد جرى اتصال الأمير بوايزمان قبل ذلك بإيعاز من الجنرال ألِنبي في عام 1337 هـ/حزيران 1918م في مقر قيادته في الغويرة (بين العقبة ومعان) وكذلك اجتمع الأمير بعدد من زعماء اليهود في الوليمة التي أقامها على شرفه اللورد روتشليد اليهودي المعروف.
ويقال إن اتفاقية وقّعها الأمير مع وايزمان في لندن عرفت باسم (اتفاقية فيصل-وايزمان) كان من بنودها:
-أن تسود النوايا الحسنة علاقات والتزامات الدولة العربية وفلسطين، وأن يحتفظ بوكالات عربية ويهودية في بلد كل منهما.
-أن تحدد الحدود بين الدوليتين بعد مؤتمر السلام من قبل لجنة يتفق على تعيينها الطرفان المتعاقدان.
-احترام الحرية الدينية ووضع الأماكن الإسلامية تحت رقابة المسلمين. ويقال بأن الأمير قيَّد تنفيذ الاتفاقية بشرط استقلال البلاد العربية[5].
ولم يتمكن الأمير من عرض قضيته أمام مؤتمر الصلح إلا في اليوم السادس من شباط (فبراير) 1919م. في حين كان انعقاد المؤتمر في اليوم الأول من كانون الثاني (يناير) 1919م. حيث قدم الأمير مذكرة أولى، ثم مذكرة ثانية في اليوم التاسع والعشرين من الشهر نفسه، كان من أهم ما جاء فيه قوله: »جئت ممثلاً والدي الذي قاد الثورة العربية ضد الأتراك تلبية لرغبة بريطانيا وفرنسا، لأطالب بأن تكون الشعوب الناطقة بالعربية في آسيا من خط الإسكندرونة/ديار بكر حتى المحيط الهندي جنوباً، معتَرفاً باستقلالها وبسيادتها من عصبة الأمم. وإنني أستند في مطلبي هذا إلى المبادئ التي صرّح بها الرئيس الأميركي ولسون، وأنا واثق من أن الدول الكبرى ستهتم بأجساد الشعوب الناطقة بالعربية وبأرواحها أكثر من اهتمامها بمالها في نفسها من مصالح مادية!«
وخلال شهر كانون الثاني كان كل ما اتُّخِذ من قرارات رسمية حول القضية العربية في المؤتمر:
-فصل سوريا فصلاً تاماً على الإمبراطورية العثمانية.
-فصل أرمينيا والعراق وفلسطين والجزيرة العربية عن الإمبراطورية العثمانية.
وفي الكلمة التي ألقاها الأمير أمام مؤتمر الصلح قال: »إن العرب يعترفون بالجميل لبريطانيا وفرنسا، ويشكرونهما على ما قدمتاه من عون في سبيل تحرير أوطانهم، والعرب يطالبون الآن أن يفي الحلفاء بالوعود التي قطعوها على أنفسهم«.
وبعد أن انتهى من إلقاء كلمته التفت إليه ولسون الأميركي وسأله: ما إذا كان يؤْثر أن يرى دولة واحدة تتولى الانتداب على شعبه أو عدداً من الدول!
وقد أصيب الأمير بخيبة أمل قاسية، فقد كان السؤال على غير ما كان يأمله من الرئيس الأميركي، وعما كان يطالب به من الاستقلال والسيادة فأجاب بقوله: »إنني لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال قبل أن أستشير والدي، وقبل أن أعود إلى العرب أنفسهم«.
ومن الجدير بالذكر أن وزارة الخارجية الأمريكية كانت قد استدعت الدكتور هوارد بلس رئيس الكلية الإنجيلية في بيروت (الجامعة الأمريكية الآن) ووجّهت إليه الدعوة ليأتي إلى باريس، ويُدلي أمام مؤتمر الصلح بآرائه حول الوضع في سوريا. وكان مما جاء في بيانه قولُه: »إني مقتنع أن مثل هذا الاستفتاء الحر سيكشف عن رغبة الشعب في إقامة دولة، أو دول تتطلع آخر الأمر إلى نيل الاستقلال، غير أنها الآن تسعى إلى الحصول على وصاية تقوم بها دولة منتدبة!« وأضاف يقول: »إنه من الأفضل للحكم أن يلازم خطاً موازياً للدين، وأن يسير الاثنان معاً نحو تحقيق غايتهما الرائعة، متوازيين منفصلين« [6].
وأمام تضارب مصالح الدول الكبرى في مؤتمر الصلح، خاصة فيما يتعلق بسوريا، بدا وكأنه لا يوجد من سبيل لتسوية الخلاف بينهم، قام ويكهام ستيد بجمع مناصري وجهة النظر البريطانية، ومناصري وجهة النظر الفرنسية بغية التوفيق بينهما، وتمّ ذلك في مكتبه حيث تعهّد لورانس بإسداء النصح إلى الأمير فيصل بألاّ يغادر باريس، بينما تعهّد الفرنسيون من جانبهم بأن يجروا اتصالاً مباشراً معه. وفي هذا الاتصال طلب كليمنصو من الأمير أن يوافق على إحلال عساكر فرنسا محل عساكر بريطانيا الذين سينسحبون من الشام وحلب، وردّ الأمير بقوله: »أنا لا أستطيع الموافقة على هذه الفكرة«. فقال كليمنصو: »أنا لا أريد احتلال البلاد. إن الأمة الفرنسية لا يرضيها أن لا يكون في سوريا أثر يدلّ على وجود فرنسا فيها. إنها إذا لم تمثل بعلمها وعساكرها فإن الأمة الفرنسية تعدّ ذلك عاراً، ولا مانع أن يوضع علمكم إلى جانب علمنا«.
وقبل أن يغادر الأمير باريس عائداً إلى دمشق كتب رسالة إلى كليمنصو جاء فيها: »أرى لزاماً عليَّ أن أرفع إليكم خالص شكري لأنكم كنتم أول من اقترح إرسال لجنة مشتركة للحلفاء لتذهب بعد فترة وجيزة إلى المشرق للتأكّد من رغائب الأهلين وأمانيهم فيما يتعلق بالتنظيم العتيد لبلادهم، وإني متأكد أن الشعب السوري يعرف كيف يعبّر لكم عن عرفانه الجميل لسعادتكم«[7].
كل هذا يؤكّد مرة أخرى أن الحقيقة لم تزل قائمة، وأن المتغير هو الصورة فقط والإخراج، وما مسلسل المؤتمرات والقرارات (الدولية وغيرها) والاتفاقيات، والمعاهدات، وأخيراً اللقاءات مع زعماء يهود السرية تارة والمعلنة تارة أخرى التي نسمع بها، ونقرأ عنها في الصحف والمجلات هذه الأيام[8]، ما هي إلا مراحل ترسم بدقة، وتحضّر بعناية للوصول إلى الخارطة السياسية والفكرية المرسومة مسبقاً، وإن بلاد العالم الإسلامي لا زالت تمثل التركة التي يختلف على اقتسامها الأقوياء.
وهذا يذكرنا بما كتبه هنري كيسنجر في إحدى دراساته قبل توليه منصب وزير الخارجية الأمريكية، من أنه: »ما من دولة كبرى يجوز أن تكون بلا هدف مصلحي، وبأنه غير معقول ولا مقبول أن تتحرك بسبب الآخرين، وإلا أصبحت أشبه بسفينة هائمة لا تعرف أي مرفأ تقصد«. وكان بذلك يرد على ما قاله دين راسك وزير خارجية الولايات المتحدة يومها في أحد مؤتمراته الصحفية من أنه: »ليس بيننا وبين الشيوعية خصام، فكل خصوماتنا إنما هي بسبب الآخرين«.
والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال هي: أن لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة بين الدول الكبرى، وإنما هي مصالح دائمة.