صفحة 1 من 1

الحرب الوقائية

مرسل: السبت ديسمبر 08, 2012 9:47 pm
بواسطة حمدان العنزي٨٠
سبتمبر 2002، شهر ميزته ثلاثة أحداث متصلة وبالغة الأهمية. الحدث الأول: أعلنت الولايات المتحدة، أقوى دولة في التاريخ، استراتيجية أمنية قومية جديدة مؤكدة أنها سوف تحتفظ بالسيطرة على العالم دائما، وأن أي تحد سوف يقابل بالقوة، والقوة هي الجانب الذي تتفوق فيه بلا منافس. وفي نفس الوقت، (الثاني) بدأت طبول الحرب تدق للتعبئة لغزو العراق. و(الحدث الثالث) افتتحت حملة انتخابات التجديد النصفي لأعضاء الكونجرس، والذي سيقرر ما إذا كانت الإدارة قادرة على الاضطلاع بالمهام الراديكالية الموضوعة في الأجندة، على الصعيدين العالمي والمحلي.

إن "الاستراتيجية الاستعمارية الكبرى" الجديدة ـ كما عبر جون إيكنبري في كتاباته في الجريدة الشهيرة التابعة للمؤسسة الحاكمة، تقدم الولايات المتحدة بصفتها: "دولة ’مراجعة‘ revisionist state تقصد إلى فرض تفوقها الحالي على مسرح نظام عالمي تكون فيه هي مخرج الاستعراض"، نظام وحيد القطب "حيث لا دولة فيه ولا تحالف قادر على الوقوف أمامها كحاكم للعالم، وحامي حماه، والمنفذ لما شاءت فيه"([1]). ومثل كثيرين آخرين في نخبة السياسة الخارجية، حذر إيكنبري بأن هذه السياسات مشحونة بالخطر حتى على الولايات المتحدة نفسها.

والحماية لا يقصد بها حماية العالم،[العالم] الذي عارض الفكرة بشراسة، وإنما المعني هو حماية قوة وهيمنة الولايات المتحدة والمصالح التي تمثلها هذه الهيمنة. وخلال أشهر قليلة كشفت الدراسات أن الخوف من الولايات المتحدة وصل إلى مستويات عالية بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى فقدان الثقة بالقيادة السياسية. فقد أجري استفتاء عالمي في ديسمبر، لم يكد يلحظه أحد في الولايات المتحدة، وأظهر أنه لا يكاد يوجد أي دعم للخطط التي أعلنتها واشنطن بالقيام بحرب في العراق تقوم بها من جانب واحد الولايات المتحدة وحلفاؤها ـ أي التحالف الأمريكي-البريطاني.

وأخبرت واشنطن الأمم المتحدة بأنها يمكن أن تكون ذات فاعلية في الأمر بمساندة خطط الولايات المتحدة، أو يمكنها أن تكون مجرد هيئة لتبادل النقاش. فالولايات المتحدة لها "الحق الأعلى في القيام بحل عسكري"، هكذا قال كولين باول بتواضع أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عارض خطط الحرب أيضا بشدة: "عندما يتملكنا شعور قوي نحو أمر سوف نقوم به، حتى لو لم يتبع خطانا أحد"([2]).

وقد أوضح الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ازدرائهما للقانون والمؤسسات الدولية في مؤتمرهما في جزيرة الآزور عشية الغزو. ووجها إنذارا، ليس للعراق، وإنما لمجلس الأمن: اخضع وإلا سوف ننفذ الغزو دون موافقتكم التي ليس لها قيمة. وسوف نفعل ذلك سواء ترك صدام حسين وعائلته البلد أم لم يتركها.([3]) فالمبدأ الحاسم هو أن الولايات المتحدة لابد أن تفعل ما من شأنه أن يجعلها تحكم العراق.

وأعلن الرئيس بوش أن الولايات المتحدة "لها السلطة العليا لاستخدام القوة لضمان أمنها القومي"، من تهديد العراق سواء كان بصدام أو بدون صدام، طبقا لقانون بوش. فالولايات المتحدة سوف يسعدها أن تؤسس واجهة عربية، طبقا للتعبير الإنجليزي أيام شمسهم الذهبية، في الوقت الذي تزرع الولايات المتحدة هيمنتها بقوة في قلب أهم منطقة لإنتاج الطاقة في العالم. فالديمقراطية الرسمية ستكون بخير، على شرط أن تكون من النوع المستكين المقبول في الساحة الخلفية للولايات المتحدة، على الأقل إذا استرشدنا بالتاريخ وبالمجريات الآنية.

إن الاستراتيجية العظمى تعطي الولايات المتحدة سلطة تنفيذ حرب وقائية preventive war، وقائية، لا حربا استباقية pre-emptive. ومهما كانت التبريرات التي تحاول تسميتها بالحرب الاستباقية، فهي لا تسري على الحرب الوقائية، خاصة حيث أن الفكرة ينهض لتفسيرها المتحمسين لها الآن: استخدام القوة العسكرية للحد من تهديد مخترع أو متخيل، ومن ثم حتى التعبير بكلمة "وقائية" هو تعبير فضفاض للغاية. الحرب الوقائية هي، ببساطة شديدة، الجريمة العظمى التي تمت إدانتها في نورمبرج.

وقد فهم ذلك كل من لديهم بعض الاهتمام ببلادهم. وعندما غزت الولايات المتحدة العراق، كتب المؤرخ أرثر شليزنجر أن الاستراتيجية الكبيرة لبوش كانت "مشابهة بوضوح لنفس السياسة التي استخدمتها اليابان الإمبريالية أيام اعتدت على بيرل هاربور، في يوم يلطخه العار"، كما قال الرئيس الأمريكي السابق [فرانكلين روزفلت]. وأضاف شليزنجر أنه لا عجب أن موجة التعاطف العالمية التي احتضنت أمريكا بعد 11 سبتمبر، قد انتهت لتحل محلها موجة عالمية من كراهية الغطرسة الأمريكية والعسكرية الأمريكية" والاعتقاد بأن بوش "أكثر تهديدا للسلام من صدام حسين بكثير"([4]).

وبالنسبة للقيادة السياسية، والتي تعتبر "إعادة تدوير" للقطاعات الأشد رجعية في رئاسة كل من ريجان وبوش الأب، فإن موجة الكراهية العالمية ليست مشكلة كبيرة. ومن الطبيعي بالنسبة لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، أن يستعير كلمات رجل عصابات شيكاغو آل كابوني: "كلمة طيبة وبندقية أكثر منفعة من الكلمة الطيبة وحدها". فهم يفهمون تماما مثلهم في ذلك مثل نقاد مؤسستهم أن أفعالهم تزيد من خطورة تكاثر أسلحة الدمار الشامل والإرهاب. ولكن ذلك أيضا ليس مشكلة كبيرة. فما يحظى بالأولوية القصوى لديهم هو تأسيس سيطرة عالمية وفرض أجندتهم المحلية، والتي تقصد إلى تجريد الشعوب من الإنجازات التقدمية التي اكتسبتها بالنضال الشعبي طوال القرن الماضي، وأن يتم تحويل التغييرات الجذرية إلى تغييرات مؤسساتية حتى تصبح استعادتها مرة أخرى أمرا في غاية الصعوبة.

ولا يكفي أن تُعلن القوة المسيطرة سياسة رسمية. فيجب أن يؤسس لها كأحد المعايير الجديدة في القانون الدولي بأفعال تكون مثالا لها. وهنا قد ينبري المعلقون المبرزون بشرح أن القانون أداة تتميز بالمرونة الشديدة، فالمعيار الجديد المرشد للفعل متاح الآن: مفهوم أن أولئك الذين يملكون البندقية هم وحدهم الذين يمكنهم وضع المعايير الجديدة وتعديل القانون الدولي.

والهدف المختار لابد أن يفي بشروط عديدة. فلابد أن يكون غير قادر على الدفاع عن نفسه، وأن يكون من الأهمية بحيث يستحق العناء، وأن يكون تهديدا بارزا لحياتنا، وأن يكون شرا مستطيرا، والعراق تتوفر فيه جميع الشروط. فالحالتان الأوليتان واضحتان. أما الثالثة، فيكفي أن نكرر أقوال بوش وبلير وزملائهما: إن الدكتاتور "يقوم بتصنيع تجميعي لأخطر أسلحة العالم [من أجل أن] يسيطر ويهيمن، أو يرهب، أو يهاجم"؛ كما أنه "استخدم هذه الأسلحة بالفعل على قرى كاملة تاركا آلافا من مواطنيه موتى، أو عمي، أو مشوهين. وإذا لم يكن هذا هو الشر، فما هو معنى الشر؟" وأكيد، ترن تصريحات بوش الجذابة رنينا صادقا. وهؤلاء الذين ساهموا في تعزيز الشر لن يذهبوا بدون عقاب: ومن بينهم، المتحدث بهذه الكلمات المتغطرسة وكل من معه حاليا، وكل من لحق بهم في تلك السنوات التي كانوا يؤيدون فيها صدام حسين، صاحب الشر المطلق، طويلا بعد ارتكابه لتلك الجرائم المروعة، وبعد الحرب الأولى مع العراق. ويفسر رجال إدارة بوش السبب: لقد أيدوه انطلاقا من واجبنا بمساعدة صادرات الولايات المتحدة.

ومن المؤثر أن نرى كيف كان سهلا بالنسبة لقادة مهذبين، وهم يعددون أسوأ جرائم صدام الشرير، أن يكتبواالكلمات الحاسمة التي كان ينبغي أن تضاف: "[ارتكب هذه الجرائم] بمساعدتنا، لأننا لا نأبه بمثل هذه الأمور". فالتأييد تغير إلى الإدانة بمجرد أن ارتكب صديقهم صدام أولى جرائمه الحقيقية، وهي عدم طاعة الأوامر (أو ربما سوء فهمها)، بغزوه للكويت. وكان العقاب قاسيا ـ لشعبه. أما الطاغية فقد هرب دون أن يمسه ضر، وازداد قوة بنظام العقوبات الذي تم تطبيقه من قبل حلفائه السابقين.

ومما يسهل كتمانه أيضا الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تعود إلى تأييد صدام بعد حرب الخليج مباشرة، وهو يحطم الثائرين الذين كان يمكن أن يطيحوا به. وشرح توماس فريدمان، كبير المراسلين الدبلوماسيين لصحيفة نيويورك تايمز أن أفضل ما يمكن للولايات المتحدة أن تتمناه هو: "مجلس رئاسي عراقي ذو قبضة حديدية بدون صدام حسين"، ولكن بما أن هذا الهدف فيما يبدو غير متاح، فإننا سنكتفي بالاختيار الثاني في الأفضلية".([5]) لقد فشل الثائرون لأن الولايات المتحدة وحلفاؤها كانوا يحتفظون “بوجهة نظر متفق عليها بالإجماع بأنه مهما كانت آثام الرئيس العراقي، إلا أنه قدم للغرب وللمنطقة أملا جديدا لاستقرار بلاده أكثر مما فعل الذين كانوا يعانون من القمع تحت حكمه"([6]).

تم كتمان كل هذا في التعليق على الأحزان الجماعية لضحايا سورة الغضب المعتمدة للسلطات الأمريكية من إرهاب صدام حسين، والذي قدم كتبرير للحرب على "أسس أخلاقية". كل هذا كان معروفا في 1991، ولكن تم تجاهله لأسباب تخص الدولة.

وكان لابد من إلهاب شعب الولايات المتحدة المتبرم بالسياط، ليصل إلى حالة نفسية تلائم حمى الحرب. فمنذ سبتمبر تدفقت التحذيرات القاسية عن التهديد الفظيع الذي يمثله صدام حسين للولايات المتحدة وعلاقاته بالقاعدة، مع إيحاءات عريضة بأنه كان له يد في غارة 11 سبتمبر. وعلقت محررة "نشرة علماء الطاقة الذرية" بأن كثيرا من التهم التي كانت "تجندل أمام [وسائل الإعلام] فشلت في إثارة الضحك، ولكن كلما زادت سخافتهم، كلما تحرقت الميديا لبلع الأمر بحذافيره كنوع من الامتحان للوطنية"([7]). وقد أتت مذبحة الدعاية بمفعولها. ففي خلال أسابيع، أصبح أغلبية الأمريكيين ينظرون إلى صدام باعتباره تهديدا رئيسيا للولايات المتحدة. وسرعان ما أصبح ما يقرب من نصفهم يعتقدون بأن العراق كان وراء الأحداث الإرهابية في 11 سبتمبر. وارتبط تأييدهم للحرب بهذه الاعتقادات. وكانت الحملة الإعلانية كافية لإعطاء الإدارة أغلبية ساحقة في انتخابات التجديد النصفي، حيث ألقى الناخبون اهتماماتهم العاجلة جانبا، وانساقوا تحت مظلة السلطة خوفا من عدو جهنمي.

واتضح النجاح الساحق للسياسة العامة عندما استطاع بوش، بتعبير أحد المعلقين: "تقديم خاتمة ريجانية قوية لحرب الأسابيع الستة على ظهر حاملة الطائرات أبراهام لنكولن في أول مايو". وربما تتعلق هذه الإشارة بإعلان الرئيس رونالد ريجان الفخور بأن أمريكا "تقف عاليا"، بعد غزوه لجرينادا في 1983، عاصمة أشجار جوزة الطيب في العالم، بهدف منع السوفييت من استخدامها لضرب الولايات المتحدة. وكان بوش، مثله مثل ريجان، قادرا على أن يعلن ـ دون اعتبار للتعليقات المتشككة في بلاده ـ بأنه فاز بـ "نصر في حرب على الإرهاب، بإزاحة أحد حلفاء القاعدة"([8]). ولم يكن ثمة أهمية لكونه لم يقدم دليلا يعتمد عليه لإثبات الصلة المزعومة بين صدام حسين وعدوه اللدود أسامة بن لادن، ولا لرفض هذا الاتهام من قبل المراقبين المختصين. كما لم تكن ثمة أهمية للصلة الوحيدة المعروفة بين النصر والإرهاب: يبدو أن الغزو كان "نكسة كبيرة في الحرب على الإرهاب"، فقد أدى إلى زيادة كبيرة في التجنيد لحركة القاعدة، وهو ما اعترف به كبار المسئولين في الولايات المتحدة.([9])