- الأحد ديسمبر 09, 2012 1:33 am
#56169
بسم الله الرحمن الرحيم.
والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
اما بعد.
هنا يتكلم الكاتب عن انظمة الحكم وافضل الانظمة من عدة نواحي مثل العدل والفضيله وامكانيه ممارستها عند اكثر من مفكر ...
في الحداثه السياسيه
إذا كانت مشاغل الفكر السياسي، في التاريخين القديم والوسيط، البحث عن أخير الأنظمة السياسية الممكنة، حسب أرسطو، وعن " المدينة الفاضلة " حسب أفلاطون والفارابي، فإنّ الفكر السياسي في التاريخ الحديث كان همه البحث، لا عن أعدل الأنظمة وأكثرها مطابقة للفضيلة، بل عن شروط ممارسة الحكم وإمكانية وشروط ممارسة السياسة بالذات.
وبهذا المعنى، يمكن أن يُعد ميكيافلي (1469-1527) الأب المؤسس للحداثة السياسية. فمؤلف " الأمير " كان معنياً، بالدرجة الأولى، بتقنيات الحكم. بحيث أنّ الفعل المؤسس للسياسة، أو للدولة بصورة أعم، هو في نظر ميكيافلي فعل لا أخلاقي، فليس أمام الأمير من طريق، إلى الحكم أو إلى تأسيس الدولة، سوى القوة. فحتى يبقى الأمير في السلطة فلا خيار له، كما يقول ميكيافلي في الفصل الثامن عشر من رسالته، سوى أن يسلك ويتصرف " ضد الإنسانية وضد مبدأ الإحسان والرحمة، بل ضد الدين بالذات ". ولا مناص أمامه من أن يكون " مرناً بما فيه الكفاية ليلتف حول كل عرض يُعرَض وكل ريح تهب. ولا شك أنّ من واجبه، مادام ذلك في مستطاعه، ألا يحيد عن جادة الخير. ولكن من واجبه أيضا، متى دعت الضرورة، أن يعرف كيف يطرق جادة الشر ".
ومع ميكيافلي تجردت السياسة من كل تبرير لاهوتي، وبذلك فقد بات في مقدورها، وقد تجردت من أرديتها الدينية والأخلاقية، أن تقوم بقراءة مباشرة لنفسها. إذ أمسى في الإمكان إخضاع السياسة للتحليل الموضوعي والعلمي، وبالتالي النقدي. ورغم إدانة أوساط عديدة لكتاب " الأمير "، خاصة الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية معاً، فقد غدا الكتاب " كتاب الوسادة " لجميع السياسيين الكبار في القرون اللاحقة.
وقد يكون توماس هوبز (1588-1679) هو المتابع الأكبر للتشاؤمية الميكيافلية في القرن السابع عشر، فهذا الفيلسوف السياسي الإنكليزي انطلق أيضاً من "شرّية" السياسة و"شرّية" الإنسان نفسه. فبما أنّ "الإنسان ذئب للإنسان" فلا مناص من التدخل الدائم للسلطة السياسية، بالإكراه والعنف عند الضرورة، للحؤول دون تحوّل المجتمع إلى مسرح لـ "حرب الجميع ضد الجميع". فالدولة، والدولة القوية وحدها، هي المؤهلة لتحويل المجتمع الطبيعي الوحشي إلى مجتمع مدني حضاري.
وصحيح أنّ هوبز تحدث عن عقد اجتماعي يعقده الأفراد، فيما بينهم بالتراضي، لتفويض من ينوب عنهم في حكمهم، ولكنّ هذا العقد هو في جوهره عقد خضوع، يتنازل الأفراد، بموجبه، عن حقوقهم مقابل الأمان الذي يوفره الحاكم لأشخاصهم وممتلكاتهم. فليس هدف العقد إذن أن يحد من سلطة الدولة، بل أن يبررها.
أما جون لوك (1632-1704)، وهو صاحب كتاب "مقالتان في الحكم" (1690)، فقد قلب الإشكالية، فعنده أنّ العقد الذي يؤسس الدولة هو بالتراضي بكل معنى الكلمة، غايته تنظيم العقوبات التي تطبقها الدولة، بحق كل من يعتدي على أمن الأفراد وممتلكاتهم. ومن ثم فإنّ من حق الأفراد أن يسحبوا ارتضاءهم العقد حالما يخلُّ الحكام بواجباتهم.
وعلى عكس دولة هوبز الاستبدادية والمطلقة، فإنّ دولة لوك ليبرالية ومحدودة، فالمطلوب من الدولة أن تتدخل بأقل قدر مستطاع حتى لا تتحول هي نفسها إلى " تنين " يبتلع المجتمع المدني. ومن هنا احتفظ لوك للأفراد بالحق في التمرد على الدولة إذا خرجت عن وظيفتها. وبالإضافة إلى ذلك، كان لوك أول من نظّر لمبدأ فصل السلطات، للحد من سلطة الدولة. كما طالب بفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، وبذلك كان أول منظّر للعلمانية.
كما أنه كان أول من ابتكر مصطلح " المصلحة العامة "، في التاريخ الحديث، وقال: إنّ الحكومة ينبغي أن ترعاها وتسهر عليها، وهذه الرعاية هي وحدها التي تعطي الشرعية للحكومة. كما كان أول من استعمل مصطلح المُلك المشترَك. Common Wealth في الحديث عن أرض الوطن وكل ما فيه من خيرات.
أما شارل مونتسكيو (1689-1755) فهو مؤسس الفكر الدستوري الفرنسي، اشتغل بدراسة المجتمعات الإنسانية والمؤسسات السياسية والشرائع، ودرس عوامل قيام الدول القومية واضمحلالها، وقام بجولات في أقطار أوروبية عديدة من بينها بريطانيا، وأبدى اهتماما خاصا بالنظام السياسي الإنكليزي، وجمع خلاصة آرائه وتجربته في كتاب "روح القوانين".
لقد عاد مونتسكيو إلى فكرة فصل السلطات، ضمانا لديمقراطية الدولة ولحرية المواطنين، وتقدم بنظريتين: نظرية "الفصل العمودي" ونظرية "الفصل الأفقي" للسلطات، فعموديا ينبغي أن تتمايز مؤسسات المجتمع المدني وأن تحافظ على استقلالها النسبي، كممثلة للأمة، تجاه السلطة السياسية. وأفقيا ينبغي أن تتمايز سلطات هذه السلطة إلى ثلاث: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، تداركا لاحتمالات التملك الاستبدادي للسلطة. ذلك أنّ من طبيعة السلطة أن تفرط في استعمال السلطة، ولهذا يتعين، عن طريق الفصل العمودي والأفقي للسلطات " حد السلطة بالسلطة "، وذلك من خلال سيادة الشعب: " إنّ الإرادة الجماعية تستطيع وحدها تسيير دواليب الدولة.. ولا يمكن أن يخضع الشعب لقوانين لا يسنها بنفسه. إنّ السلطة التشريعية هي ملك للشعب، لا يمكن أن تكون لغيره.. وكل قانون لا يصادق عليه الشعب بنفسه يعتبر لاغياً أو بالأحرى لا يعتبر قانوناً.
وكان مونتسكيو يؤمن أنّ المصادفة لا أثر لها في التاريخ، وأنّ لكل حادث أسبابه التي تعمل في كل دولة، فترفع قدرها أو تحافظ عل كيانها أو تسقطها، وهذه القوانين تحكم كل حوادث التاريخ. ويريد مونتسكيو بالقوانين كل القواعد الطبيعية أو الوضعية التي تحكم الحياة بصورة عامة، فكتابه "روح القوانين" ليس مقتصرا على القوانين التشريعية فحسب، بل كل القوانين التي تربط بين النظام الاجتماعي والسلوك التاريخي لأمة من الأمم. لقد أرسى مونتسكيو أساس نظرية فصل السلطات، ووجدت آراؤه الدستورية تطبيقها الواضح في الدستور الفرنسي (1791)، وتناقلتها معظم النصوص الدستورية فيما بعد.
أما جان جاك روسو (1712-1778) فقد عاد أدراجه بالفكر السياسي إلى ما ينبغي أن يكون، لا إلى ما هو كائن، ولهذا الغرض ألّف كتابه " في العقد الاجتماعي "، فأعاد صياغة فكرة " العقد الاجتماعي " من جديد. فالعقد الاجتماعي عنده عقد حرية، فهو شكل الاجتماع السياسي، يوحد الأفراد الأحرار في إرادة عامة واحدة، وبخضوعهم لها إنما يخضعون لأنفسهم ويبقون أحراراً كما من قبل. فالخضوع للقانون الذي ينظمه العقد، هو بعينه الحرية. ولكنها الحرية العاقلة "حرية المواطن التي تقف حيث تبدأ حرية الآخرين". ولكنه اعتقد بأنّ ذلك يستلزم مجتمعا صغيرا، موحداً على نحو جيد، يحترم التقاليد الوطنية.
كان روسو يرى الحل في الديمقراطية، يقيناً منه أنّ كل الناس سواسية، ولا يجوز لأحد أن يحكم غيره. وانطلاقاً من أنّ الشعب هو صاحب السيادة، يكون من حقه وحده سنُّ القوانين، وتعيين حكومة لتطبيقها، على أن يبقى دورها إدارياً بحتاً، وتخضع لمراقبته باستمرار. ويجوز له عزلها كلما تبين أنها تجاوزت مشمولاتها، أو لم تعد تخدم الصالح العام.
وللوصول إلى هذه النتيجة، يبرز روسو أهمية المدرسة " إنما التربية هي التي يجب أن تعطي النفوس الشكل الوطني وتوجه آراءهم وأذواقهم توجيهاً يجعلهم وطنيين بالميل والهوى والضرورة ". وواضح أنّ الوطنية الحقة، عند جان جاك روسو، تنطوي على العناية بالخصوصيات القومية. فهو لم يبالِ بتصنيفات أغلب فلاسفة عصره، الذين كانوا يتجهون نحو تصنيف مختلف الشعوب تحت قانون عقلي واحد وفكرة عامة واحدة. كما أنّ كتاباته تدعو إلى التفكير والرغبة في الحوار، ومن هنا فإنّ أثره في تحريك عجلة التاريخ كان أقوى من غيره من فلاسفة التنوير، فعندما قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 كانت كتابات روسو أكثر فائدة وأبعد أثراً، لأنها تميل إلى البناء وتقدم حلولاً.
أما فولتير (1694-1778)، فقد فضل نظام "الاستبداد المستنير"، أي النظام الذي يحتفظ فيه الملك بجميع السلطات، لكن بشرط أن يطبق مبادئ التنوير "الملك الطيب، المتشبع بالأفكار النيّرة، هو خير هدية تقدمها السماء إلى الأرض". والعقل عنده أساس المعرفة " هذا الفكر المعمق، والمعتمد على العقل، والذي نشره كثير من المفكرين في كتاباتهم، وفي مناقشاتهم، ساهم في تثقيف الأمة وتهذيبها. فقد قضى نقدهم على كل الأفكار المسبقة التي كانت تعفن المجتمع، مثل: تكهنات المنجمين، وتنبؤات السحرة، ومختلف أنواع الشعوذة، والمعجزات والأعاجيب المزيفة، والعادات المبنية على خرافات باطلة ". كما أبرز أهمية الحرية والمساواة في حياة الإنسان " أن يكون المرء حراً، وأن يكون مساوياً للجميع، فتلك هي الحياة الحقة، حياة الإنسان الطبيعية. وكل حياة أخرى لا تعدو كونها خدعة حقيرة، يؤدي فيها أحدهم شخصية السيد والآخر دور العبد ".
أما عمانويل كانط (1724-1804)، كبير فلاسفة ألمانيا في القرن الثامن عشر، فقد عاد إلى فكرة هوبز عن كون حالة الإنسان في الطبيعة حالة أنانية وعنف وحرب، ولكنه بدلاً من أن يعارض الحالة الطبيعية بدولة السلطة المطلقة، عارضها بسلطة القانون. فالقانون يفترض بالفعل أنّ البشر، كما يصورهم هوبز، أشراراً، ولكنه يرغمهم على أن يسلكوا مسلك الأحرار. وبهذا المعنى، يمكن للقانون أن يحكم حتى " شعباً من الشياطين ". وبالتعارض دوماً مع حالة الحرب التي هي الحالة الطبيعية، فإنّ " الحالة القانونية " تنظم السلم، ليس فقط بين الأفراد، بل كذلك بين الأمم. فكانط كان مفكراً كونياً، ومعه أخذ تعبير " دولة القانون " كامل دلالته، كدولة للسلم والعقل والحرية.
أما الكونت سان سيمون (1760-1825)، ملهم العصر الصناعي الجديد والأب الروحي للاشتراكية الخيالية، طعن في المقاربة السياسية الخالصة للدولة، واقترح صيغة بديلة من طبيعة اقتصادية - اجتماعية، فمع الثورة الصناعية، لم تعد السياسة هي التي توجه التاريخ، بل الاقتصاد. ومن ثم يتعين على السياسيين أن يخلوا مكانهم لرجال الاقتصاد وأهل الصناعة والعلم، لكي يحققوا حلم البشرية في إحلال إدارة الأشياء محل حكم البشر.
فعلى العكس من طبقة السياسيين القديمة، التي ما كان لها من دور سوى أن تعد العدة للحرب، فإنّ الطبقة الحاكمة الجديدة، التي ينبغي أن تكون مؤلفة من المنتجين حصراً، بمن فيهم المنتجون العلميون والفنيون، لن يكون لها من برنامج سوى توطيد السلم الاجتماعي والعالمي.
أما كارل ماركس (1818-1883)، الوارث "العلمي" للاشتراكية الخيالية، فقد حدد طبقة المنتجين بأنها البروليتاريا حصراً، وأوكل لهذه الطبقة مهمة إزالة المجتمع الطبقي، وإلغاء الدولة، التي هي الإدارة السياسية لهيمنة الطبقة البورجوازية. وبذلك، كان ماركس يضع نفسه في خط المعارضة المباشرة لهيغل، الذي كان أرسى الأسس الفلسفية لعبادة الدولة، بوصفها أعلى أشكال تجسد العقل في التاريخ.
وجاء التلميذ الروسي لماركس فلاديمير إيليتش لينين (1870-1924)، الذي انتهى إلى أن يكون، فيما يتعلق بنظرية الدولة، هيغلياً أكثر منه ماركسياً، فعلى الرغم من إعلانه النظري عن حتمية فناء الدولة مع الانتصار الكامل للثورة البلشفية، فإنّ نظام الحكم الذي تولى التنظير له وأرسى قواعده، انتهى إلى تأبيد الدولة في شكلها الاستبدادي الفج. فلم يحدث في التاريخ المعاصر أن أكل " غول " الدولة المجتمع المدني كما في ظل الستالينية وتفريخاتها الهجينة.
إنّ خيبة التجربة البلشفية، التي تزامنت تاريخياً مع التجربتين الفاشية والنازية، أنجبت آخر مدرسة كبيرة من مدارس الفكر السياسي النقدي، هي " مدرسة فرانكفورت " التي رأت النور عام1931، وامتد نتاجها الفكري بين الوطن الأم في ألمانيا ووطن المهجر في الولايات المتحدة الأمريكية على مدى نصف قرن. وقد صاغت، ممثلة برائدها ماكس هور كهيْمَـــرْ (1895-1973) وزميليه تيودورأدورنو (1903-1969) ويورجين هابرماس الذي ولد سنة 1929، ما بات يعرف في الفلسفة السياسية باسم " النظرية النقدية "، وهي نظرية ترفض، في آن معاً، الاستبداد الإيديولوجي للأنظمة الشمولية كما " الاستبداد التكنولوجي " للمجتمعات الغربية المتقدمة.
والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
اما بعد.
هنا يتكلم الكاتب عن انظمة الحكم وافضل الانظمة من عدة نواحي مثل العدل والفضيله وامكانيه ممارستها عند اكثر من مفكر ...
في الحداثه السياسيه
إذا كانت مشاغل الفكر السياسي، في التاريخين القديم والوسيط، البحث عن أخير الأنظمة السياسية الممكنة، حسب أرسطو، وعن " المدينة الفاضلة " حسب أفلاطون والفارابي، فإنّ الفكر السياسي في التاريخ الحديث كان همه البحث، لا عن أعدل الأنظمة وأكثرها مطابقة للفضيلة، بل عن شروط ممارسة الحكم وإمكانية وشروط ممارسة السياسة بالذات.
وبهذا المعنى، يمكن أن يُعد ميكيافلي (1469-1527) الأب المؤسس للحداثة السياسية. فمؤلف " الأمير " كان معنياً، بالدرجة الأولى، بتقنيات الحكم. بحيث أنّ الفعل المؤسس للسياسة، أو للدولة بصورة أعم، هو في نظر ميكيافلي فعل لا أخلاقي، فليس أمام الأمير من طريق، إلى الحكم أو إلى تأسيس الدولة، سوى القوة. فحتى يبقى الأمير في السلطة فلا خيار له، كما يقول ميكيافلي في الفصل الثامن عشر من رسالته، سوى أن يسلك ويتصرف " ضد الإنسانية وضد مبدأ الإحسان والرحمة، بل ضد الدين بالذات ". ولا مناص أمامه من أن يكون " مرناً بما فيه الكفاية ليلتف حول كل عرض يُعرَض وكل ريح تهب. ولا شك أنّ من واجبه، مادام ذلك في مستطاعه، ألا يحيد عن جادة الخير. ولكن من واجبه أيضا، متى دعت الضرورة، أن يعرف كيف يطرق جادة الشر ".
ومع ميكيافلي تجردت السياسة من كل تبرير لاهوتي، وبذلك فقد بات في مقدورها، وقد تجردت من أرديتها الدينية والأخلاقية، أن تقوم بقراءة مباشرة لنفسها. إذ أمسى في الإمكان إخضاع السياسة للتحليل الموضوعي والعلمي، وبالتالي النقدي. ورغم إدانة أوساط عديدة لكتاب " الأمير "، خاصة الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية معاً، فقد غدا الكتاب " كتاب الوسادة " لجميع السياسيين الكبار في القرون اللاحقة.
وقد يكون توماس هوبز (1588-1679) هو المتابع الأكبر للتشاؤمية الميكيافلية في القرن السابع عشر، فهذا الفيلسوف السياسي الإنكليزي انطلق أيضاً من "شرّية" السياسة و"شرّية" الإنسان نفسه. فبما أنّ "الإنسان ذئب للإنسان" فلا مناص من التدخل الدائم للسلطة السياسية، بالإكراه والعنف عند الضرورة، للحؤول دون تحوّل المجتمع إلى مسرح لـ "حرب الجميع ضد الجميع". فالدولة، والدولة القوية وحدها، هي المؤهلة لتحويل المجتمع الطبيعي الوحشي إلى مجتمع مدني حضاري.
وصحيح أنّ هوبز تحدث عن عقد اجتماعي يعقده الأفراد، فيما بينهم بالتراضي، لتفويض من ينوب عنهم في حكمهم، ولكنّ هذا العقد هو في جوهره عقد خضوع، يتنازل الأفراد، بموجبه، عن حقوقهم مقابل الأمان الذي يوفره الحاكم لأشخاصهم وممتلكاتهم. فليس هدف العقد إذن أن يحد من سلطة الدولة، بل أن يبررها.
أما جون لوك (1632-1704)، وهو صاحب كتاب "مقالتان في الحكم" (1690)، فقد قلب الإشكالية، فعنده أنّ العقد الذي يؤسس الدولة هو بالتراضي بكل معنى الكلمة، غايته تنظيم العقوبات التي تطبقها الدولة، بحق كل من يعتدي على أمن الأفراد وممتلكاتهم. ومن ثم فإنّ من حق الأفراد أن يسحبوا ارتضاءهم العقد حالما يخلُّ الحكام بواجباتهم.
وعلى عكس دولة هوبز الاستبدادية والمطلقة، فإنّ دولة لوك ليبرالية ومحدودة، فالمطلوب من الدولة أن تتدخل بأقل قدر مستطاع حتى لا تتحول هي نفسها إلى " تنين " يبتلع المجتمع المدني. ومن هنا احتفظ لوك للأفراد بالحق في التمرد على الدولة إذا خرجت عن وظيفتها. وبالإضافة إلى ذلك، كان لوك أول من نظّر لمبدأ فصل السلطات، للحد من سلطة الدولة. كما طالب بفصل السلطة السياسية عن السلطة الدينية، وبذلك كان أول منظّر للعلمانية.
كما أنه كان أول من ابتكر مصطلح " المصلحة العامة "، في التاريخ الحديث، وقال: إنّ الحكومة ينبغي أن ترعاها وتسهر عليها، وهذه الرعاية هي وحدها التي تعطي الشرعية للحكومة. كما كان أول من استعمل مصطلح المُلك المشترَك. Common Wealth في الحديث عن أرض الوطن وكل ما فيه من خيرات.
أما شارل مونتسكيو (1689-1755) فهو مؤسس الفكر الدستوري الفرنسي، اشتغل بدراسة المجتمعات الإنسانية والمؤسسات السياسية والشرائع، ودرس عوامل قيام الدول القومية واضمحلالها، وقام بجولات في أقطار أوروبية عديدة من بينها بريطانيا، وأبدى اهتماما خاصا بالنظام السياسي الإنكليزي، وجمع خلاصة آرائه وتجربته في كتاب "روح القوانين".
لقد عاد مونتسكيو إلى فكرة فصل السلطات، ضمانا لديمقراطية الدولة ولحرية المواطنين، وتقدم بنظريتين: نظرية "الفصل العمودي" ونظرية "الفصل الأفقي" للسلطات، فعموديا ينبغي أن تتمايز مؤسسات المجتمع المدني وأن تحافظ على استقلالها النسبي، كممثلة للأمة، تجاه السلطة السياسية. وأفقيا ينبغي أن تتمايز سلطات هذه السلطة إلى ثلاث: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، تداركا لاحتمالات التملك الاستبدادي للسلطة. ذلك أنّ من طبيعة السلطة أن تفرط في استعمال السلطة، ولهذا يتعين، عن طريق الفصل العمودي والأفقي للسلطات " حد السلطة بالسلطة "، وذلك من خلال سيادة الشعب: " إنّ الإرادة الجماعية تستطيع وحدها تسيير دواليب الدولة.. ولا يمكن أن يخضع الشعب لقوانين لا يسنها بنفسه. إنّ السلطة التشريعية هي ملك للشعب، لا يمكن أن تكون لغيره.. وكل قانون لا يصادق عليه الشعب بنفسه يعتبر لاغياً أو بالأحرى لا يعتبر قانوناً.
وكان مونتسكيو يؤمن أنّ المصادفة لا أثر لها في التاريخ، وأنّ لكل حادث أسبابه التي تعمل في كل دولة، فترفع قدرها أو تحافظ عل كيانها أو تسقطها، وهذه القوانين تحكم كل حوادث التاريخ. ويريد مونتسكيو بالقوانين كل القواعد الطبيعية أو الوضعية التي تحكم الحياة بصورة عامة، فكتابه "روح القوانين" ليس مقتصرا على القوانين التشريعية فحسب، بل كل القوانين التي تربط بين النظام الاجتماعي والسلوك التاريخي لأمة من الأمم. لقد أرسى مونتسكيو أساس نظرية فصل السلطات، ووجدت آراؤه الدستورية تطبيقها الواضح في الدستور الفرنسي (1791)، وتناقلتها معظم النصوص الدستورية فيما بعد.
أما جان جاك روسو (1712-1778) فقد عاد أدراجه بالفكر السياسي إلى ما ينبغي أن يكون، لا إلى ما هو كائن، ولهذا الغرض ألّف كتابه " في العقد الاجتماعي "، فأعاد صياغة فكرة " العقد الاجتماعي " من جديد. فالعقد الاجتماعي عنده عقد حرية، فهو شكل الاجتماع السياسي، يوحد الأفراد الأحرار في إرادة عامة واحدة، وبخضوعهم لها إنما يخضعون لأنفسهم ويبقون أحراراً كما من قبل. فالخضوع للقانون الذي ينظمه العقد، هو بعينه الحرية. ولكنها الحرية العاقلة "حرية المواطن التي تقف حيث تبدأ حرية الآخرين". ولكنه اعتقد بأنّ ذلك يستلزم مجتمعا صغيرا، موحداً على نحو جيد، يحترم التقاليد الوطنية.
كان روسو يرى الحل في الديمقراطية، يقيناً منه أنّ كل الناس سواسية، ولا يجوز لأحد أن يحكم غيره. وانطلاقاً من أنّ الشعب هو صاحب السيادة، يكون من حقه وحده سنُّ القوانين، وتعيين حكومة لتطبيقها، على أن يبقى دورها إدارياً بحتاً، وتخضع لمراقبته باستمرار. ويجوز له عزلها كلما تبين أنها تجاوزت مشمولاتها، أو لم تعد تخدم الصالح العام.
وللوصول إلى هذه النتيجة، يبرز روسو أهمية المدرسة " إنما التربية هي التي يجب أن تعطي النفوس الشكل الوطني وتوجه آراءهم وأذواقهم توجيهاً يجعلهم وطنيين بالميل والهوى والضرورة ". وواضح أنّ الوطنية الحقة، عند جان جاك روسو، تنطوي على العناية بالخصوصيات القومية. فهو لم يبالِ بتصنيفات أغلب فلاسفة عصره، الذين كانوا يتجهون نحو تصنيف مختلف الشعوب تحت قانون عقلي واحد وفكرة عامة واحدة. كما أنّ كتاباته تدعو إلى التفكير والرغبة في الحوار، ومن هنا فإنّ أثره في تحريك عجلة التاريخ كان أقوى من غيره من فلاسفة التنوير، فعندما قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 كانت كتابات روسو أكثر فائدة وأبعد أثراً، لأنها تميل إلى البناء وتقدم حلولاً.
أما فولتير (1694-1778)، فقد فضل نظام "الاستبداد المستنير"، أي النظام الذي يحتفظ فيه الملك بجميع السلطات، لكن بشرط أن يطبق مبادئ التنوير "الملك الطيب، المتشبع بالأفكار النيّرة، هو خير هدية تقدمها السماء إلى الأرض". والعقل عنده أساس المعرفة " هذا الفكر المعمق، والمعتمد على العقل، والذي نشره كثير من المفكرين في كتاباتهم، وفي مناقشاتهم، ساهم في تثقيف الأمة وتهذيبها. فقد قضى نقدهم على كل الأفكار المسبقة التي كانت تعفن المجتمع، مثل: تكهنات المنجمين، وتنبؤات السحرة، ومختلف أنواع الشعوذة، والمعجزات والأعاجيب المزيفة، والعادات المبنية على خرافات باطلة ". كما أبرز أهمية الحرية والمساواة في حياة الإنسان " أن يكون المرء حراً، وأن يكون مساوياً للجميع، فتلك هي الحياة الحقة، حياة الإنسان الطبيعية. وكل حياة أخرى لا تعدو كونها خدعة حقيرة، يؤدي فيها أحدهم شخصية السيد والآخر دور العبد ".
أما عمانويل كانط (1724-1804)، كبير فلاسفة ألمانيا في القرن الثامن عشر، فقد عاد إلى فكرة هوبز عن كون حالة الإنسان في الطبيعة حالة أنانية وعنف وحرب، ولكنه بدلاً من أن يعارض الحالة الطبيعية بدولة السلطة المطلقة، عارضها بسلطة القانون. فالقانون يفترض بالفعل أنّ البشر، كما يصورهم هوبز، أشراراً، ولكنه يرغمهم على أن يسلكوا مسلك الأحرار. وبهذا المعنى، يمكن للقانون أن يحكم حتى " شعباً من الشياطين ". وبالتعارض دوماً مع حالة الحرب التي هي الحالة الطبيعية، فإنّ " الحالة القانونية " تنظم السلم، ليس فقط بين الأفراد، بل كذلك بين الأمم. فكانط كان مفكراً كونياً، ومعه أخذ تعبير " دولة القانون " كامل دلالته، كدولة للسلم والعقل والحرية.
أما الكونت سان سيمون (1760-1825)، ملهم العصر الصناعي الجديد والأب الروحي للاشتراكية الخيالية، طعن في المقاربة السياسية الخالصة للدولة، واقترح صيغة بديلة من طبيعة اقتصادية - اجتماعية، فمع الثورة الصناعية، لم تعد السياسة هي التي توجه التاريخ، بل الاقتصاد. ومن ثم يتعين على السياسيين أن يخلوا مكانهم لرجال الاقتصاد وأهل الصناعة والعلم، لكي يحققوا حلم البشرية في إحلال إدارة الأشياء محل حكم البشر.
فعلى العكس من طبقة السياسيين القديمة، التي ما كان لها من دور سوى أن تعد العدة للحرب، فإنّ الطبقة الحاكمة الجديدة، التي ينبغي أن تكون مؤلفة من المنتجين حصراً، بمن فيهم المنتجون العلميون والفنيون، لن يكون لها من برنامج سوى توطيد السلم الاجتماعي والعالمي.
أما كارل ماركس (1818-1883)، الوارث "العلمي" للاشتراكية الخيالية، فقد حدد طبقة المنتجين بأنها البروليتاريا حصراً، وأوكل لهذه الطبقة مهمة إزالة المجتمع الطبقي، وإلغاء الدولة، التي هي الإدارة السياسية لهيمنة الطبقة البورجوازية. وبذلك، كان ماركس يضع نفسه في خط المعارضة المباشرة لهيغل، الذي كان أرسى الأسس الفلسفية لعبادة الدولة، بوصفها أعلى أشكال تجسد العقل في التاريخ.
وجاء التلميذ الروسي لماركس فلاديمير إيليتش لينين (1870-1924)، الذي انتهى إلى أن يكون، فيما يتعلق بنظرية الدولة، هيغلياً أكثر منه ماركسياً، فعلى الرغم من إعلانه النظري عن حتمية فناء الدولة مع الانتصار الكامل للثورة البلشفية، فإنّ نظام الحكم الذي تولى التنظير له وأرسى قواعده، انتهى إلى تأبيد الدولة في شكلها الاستبدادي الفج. فلم يحدث في التاريخ المعاصر أن أكل " غول " الدولة المجتمع المدني كما في ظل الستالينية وتفريخاتها الهجينة.
إنّ خيبة التجربة البلشفية، التي تزامنت تاريخياً مع التجربتين الفاشية والنازية، أنجبت آخر مدرسة كبيرة من مدارس الفكر السياسي النقدي، هي " مدرسة فرانكفورت " التي رأت النور عام1931، وامتد نتاجها الفكري بين الوطن الأم في ألمانيا ووطن المهجر في الولايات المتحدة الأمريكية على مدى نصف قرن. وقد صاغت، ممثلة برائدها ماكس هور كهيْمَـــرْ (1895-1973) وزميليه تيودورأدورنو (1903-1969) ويورجين هابرماس الذي ولد سنة 1929، ما بات يعرف في الفلسفة السياسية باسم " النظرية النقدية "، وهي نظرية ترفض، في آن معاً، الاستبداد الإيديولوجي للأنظمة الشمولية كما " الاستبداد التكنولوجي " للمجتمعات الغربية المتقدمة.