سراب في الصحراء
مرسل: الأحد ديسمبر 09, 2012 9:59 am
ترقب لنتائج تقرير كريستوفر روس لمجلس الأمن
سراب في الصحراء
يقدم الدبلوماسي الأميركي كريستوفر روس وسيط الأمم المتحدة في نزاع الصحراء، تقريرا لمجلس الأمن الدولي، يتضمن خلاصات جولته الأخيرة في المنطقة ومشاوراته مع مجموعة "أصدقاء الصحراء" التي تضم روسيا وأميركا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا.
العاهل المغربي الملك محمد السادس يستقبل كريستوفر روس
ولم تحظ زيارات مبعوثي الأمم المتحدة السابقين إلى الصحراء، من وفدوا مرارا، على كل من المغرب والجزائر وموريتانيا وكذلك مخيمات “تندوف” (جنوب غربي الجزائر) بمثل ما أحاط الجولة الأخيرة التي بدأها روس منذ 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من ترقب وتساؤلات بخصوص مآل وجدوى مهمته، التي بدأت منذ شهر يناير(كانون الثاني)2009، خاصة عقب أزمة الثقة غير المسبوقة التي شابت العلاقة بين المغرب والدبلوماسي الأممي، وأدت إلى اعتراض الرباط، في شهر مايو (أيار) الماضي على استئناف مهمته، متهمة إياه بالخروج عن دور الوسيط النزيه والانحياز لأطروحة جبهة البوليساريو الداعية لاستقلال الصحراء عن المغرب.
ولم يعد خافيا، أن المغرب استقبل روس على مضض، وإن حاول الأخير تبديد مخاوفه وطمأنة وإقناع جل من قابلهم في الرباط، من رسميين وقادة أحزاب وبعض تعبيرات المجتمع المدني، أنه متقيد بالتفويض المخول والمحدد من طرف مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، وبالتالي فلا مبرر، من وجهة نظره، لغضب المغرب من ميله لطرف دون آخر، مؤكدا نفس التوجه في تصريحات صحافية أدلى بها لوسائل الإعلام، عقب استقباله من طرف العاهل المغربي الملك محمد السادس.
وكانت تقارير صحافية سبقت زيارات روس، قد أشارت إلى أن حظوظه باتت ضئيلة، ولن تكون أفضل من سابقيه الذين قاموا بعشرات الجولات المكوكية بين الأطراف المعنية بنزاع الصحراء، اصطدمت جهودهم بتصلب مواقف الطرفين ورفضهما التنازل عما يعتقدان أنها “ثوابت” أساسية لا يجوز التخلي عنها، فالمغرب مثلا، لا يرى بديلا عن السيادة السياسية المبسوطة على كامل تراب الصحراء، وفي مقابل ذلك يمنح الصحراويين صلاحيات تدبير واسعة للشأن المحلي تقترب إلى حد كبير من أنظمة الحكم الذاتي المطبقة في عدة دول. صلاحيات حددها المشروع الذي عرضه المغرب على المنتظم الدولي ورفضته جبهة “البوليساريو” كونها لا تقبل، مؤيدة من قبل الجزائر، التخلي عن مبدأ “تقرير المصير” بواسطة استفتاء، ما جعل روس يقر بدوره، بوضوح إن جولات المفاوضات المباشرة التي رعتها الأمم المتحدة والمساعي السلمية المبذولة لمدة أكثر من عقدين، لم تسفر عن نتائج جوهرية من شأنها زحزحة ملف الصحراء عن مكانه، في أفق حل توافقي سلمي ودائم لنزاع استمر قرابة أربعة عقود.
أمضى روس في المنطقة مدة أطول من التي قضاها في جولات سابقة (حوالي 3 أسابيع) وسع لقاءاته ومشاوراته، واعترف لأول مرة أنه استفاد كثيرا من اللقاءات الجانبية ومن الآراء والتحليلات غير الرسمية التي استمع إليها، وبالتالي أصبحت الأمور واضحة في ذهنه أكثر من ذي قبل.
وبدا من تصريحاته في العواصم التي حل بها أخيرا، وكذا مخيمات اللاجئين الصحراويين، أنه مصر على مضاعفة السرعة، محذرا من استمرار النزاع، معربا عن خشيته الشديدة من تداخل أوراق أزمة الصحراء، بما يجري في منطقة الساحل، من تداعيات الوضع غير المستقر في دولة مالي المجاورة للجزائر. وهذه فكرة يلتقي فيها روس بشكل من الأشكال مع المغرب الذي طالما حذر من تحول المخيمات التي يسيطر عليها “البوليساريو” في” تندوف” إلى ملاذ أو بؤرة لنشاط تنظيم القاعدة، عبر أفرعها وخلاياها اليقظة والنائمة في منطقة الصحراء الكبرى، مستفيدة من فضاء مترامي الأطراف، وفي ظل ضعف المراقبة على الحدود وانتشار كثيف للأسلحة،علما أن الجزائر المهددة على حدودها، وتلك مفارقة سياسية، لا تشاطر المغرب نفس النظرة وتعارض الحل العسكري للأزمة في مالي، محذرة بقوة من التدخل الأجنبي.
هاجسان.. دبلوماسي وشخصي
ولا يعني تحذير روس من خطورة الوضع في مالي والصحراء الكبرى، الذي أكده في جولته الأخيرة، أنه متفق تماما مع المغرب في المقاربة العامة، بقدر ما يعكس انشغاله بالانعكاسات الأمنية والعسكرية لمشاكل الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل، التي ستلقي حتما بظلالها الضارة على المصالح الإستراتيجية الغربية.
وبهذ الاعتبار يتساءل المراقبون عن الدواعي التي جعلت الدبلوماسي الأميركي، يحذر من عواقب وخيمة محتملة لنزاع الصحراء بلغة صريحة، إذا استمر بدون حل؟ فمنهم من يرى أن روس يسعى لتحقيق أنجاز دبلوماسي شخصي، ليخلد اسمه في سجل عمله الدبلوماسي، وليسجل في التاريخ أنه نجح فيما فشل فيه آخرون من قبله. ومن الجائز أيضا أنه يستحضر في ذهنه أدوار الوساطة الدولية الناجحة التي قام دبلوماسيون آخرون في شتى الأزمات الدولية.
روس مع بوتفليقة
وفي نفس السياق تذهب طائفة من المحللين إلى القول، إن روس القادم من الخارجية الأميركية، حريص على خدمة سياسة الولايات المتحدة ومصالحها التي تسعى كقوة عظمى، بمختلف الوسائل، لكي يكون لها دور ونفوذ وموقع قدم في سبيل إيجاد مخرج لنزاع يمكن أن يؤثر في حال استمراره على مصالحها الإستراتيجية الحيوية في المنطقة المغاربية، وخاصة لدى الجزائر والمغرب، ركيزتي الاستقرار في المغرب العربي، إذ لوحظ في السنوات الأخيرة أن واشنطن، تسير بسرعتين متوازيتين نحو تعميق علاقات التعاون الثنائي بينها وبين الرباط والجزائر في كثير من المجالات، لتستفيد من الجانبين، مقدمة النصح للجارين القويين للعمل معا في أفق التقارب الثنائي والانخراط بجدية في مشروع الاندماج المغاربي، الذي ترى فيه أميركا فضاء اقتصاديا واعدا.
ومن المؤكد أن مصالح الدول والأشخاص تلتقي وتتعارض في آية معركة دبلوماسية، وبالتالي من الجائز أن يسعى روس لتحقيق مجد شخصي من دون تعارض مع خدمة مصالح بلاده والسلم والأمن في المنطقة.
أوراق الوسيط الأممي الضاغطة
فما هي الأوراق المؤثرة التي يمسك بها روس لتغيير المجرى التفاوضي، بخوص نزاع الصحراء كممثل للأمم المتحدة؟
يجب التذكير في هذا الصدد أنه بدأ مهمته بتفاؤل كبير، وربما ساوره الظن أنها لن تستغرق وقتا طويلا، لاعتبارات شكلية وجوهرية بينها أنه أميركيي مسنود بقوة من حكومة بلاده، كما أنه يجيد اللغة العربية للتواصل السهل السري والعلني مع الأطراف التي يتحاور معها، إذ لا يحتاج إلى مترجم أو وسيط لغوي، فضلا عن أنه يعرف طبيعة المزاج العربي الذي خبره من خلال أقامته في عدد من الدول العربية لحذق نطقه بلغة الضاد، من بينها مدينة فاس المغربية، كما أقام وعمل في الجزائر.
ورغبة في الإيحاء لمحاوريه، أنه قريب منهم عاطفيا فإن روس جاراهم وارتدى خلال زياراته الزى التقليدي. لبس “السلهام” في المغرب و”البرنص” في الجزائر و”الدراعة” في المخيمات الصحراوية، ونشرت له صور بتلك الأزياء.
ليس ضروريا امتداح أو نقد ذلك السلوك من الوسيط الأممي. قد يكون من المناسب وضعه ضمن سياق البحث عن أدوات ووسائل غير تقليدية واختبار جدواها للوصول إلى الهدف المبتغى، وقد سبق لروس نفسه، أن جرب أساليب بديلة في التفاوض المباشر المفتوح بين المفاوضين المغاربة والصحراويين، حيث لم تتقيد جلساته بجدول أعمال صارم، وإنما ترك المجال مفتوحا للتداول الحر بين طرفي النزاع، أملا في بناء جسور الثقة بينهما وتكسير الحاجز النفسي بين الطرفين المتصارعين. الإحالة هنا مع فارق على دور وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في أزمة الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973.
ويبدو أن كل الوسائل المجربة من قبل روس، لم تسفر حتى الآن عن نتائج باهرة، فالوضع ما زال كما استقر منذ سنوات، مثلما أن رهانه الآخر على تطبيع شامل للعلاقات بين الرباط والجزائر، لم يتم الاستماع إليه، وخاصة من جارة المغرب الشرقية التي تصر على أن نزاع الصحراء ثنائي بين المغرب وجبهة “البوليساريو”، ويندرج ضمن قضايا تصفية الاستعمار التي تصفى عبر تطبيق مبدأ تقرير المصير، والاحتكام إلى مبادئ الشرعية الدولية، بواسطة استفتاء شعبي، وهو نفس الموقف الذي تدافع عنه جبهة “البوليساريو” منذ منتصف السبعينيات، وأكدت عليه في محطات سابقة منذ توقيع اتفاق وقف الاشتباكات بين الطرفين عام 1991 برعاية الأمم المتحدة، التي أوفدت بمقتضاه إلى الصحراء بعثة “المينورسو” للأشراف على تنفيذ بنود الاتفاق وانطلاق مباحثات السلام برعاية المنظمة الدولية.
حدود مرونة المغرب
من جانبه يرى المغرب أن موقفه من النزاع، يتسم بالمرونة المتدرجة، فمن التأكيد على مغربية الصحراء واعتبارها قطعة من التراب الوطني، انخرطت الرباط في مسلسل السلام منذ بداية عقد التسعينيات، ولما تعثرت المفاوضات، بادرت بطرح مقترح الحكم الذاتي للمحافظات الصحراوية كأرضية لتفاوض جدي، مؤملة أن تدعم الجزائر ذلك التوجه الذي لا تقدر جبهة “البوليساريو”على معارضته أو رفضه بمفردها. وبالتالي فإن الرباط ما زالت مقتنعة بأن مفتاح المشكل الصحراوي يتقاسمه المغرب والجزائر.
نعود إلى السؤال: ماذا يستطيع روس أن ينجز في سياق إقليمي ودولي، سياسي واقتصادي وأمني متغير، لم يستقر بعد على حال؟ صحيح أنه ضاعف سرعة التحرك، وأدخل عناصر جديدة لرقعة اللعبة التفاوضية، من قبيل التحذير بخطورة الموقف وأن الزمن ليس في صالح أي من طرفي النزاع ولا في استقرار المنطقة المغاربية، كما لجأ روس إلى جر “مجموعة أصدقاء الصحراء” إلى عملية البحث عن حل سياسي، وأطلعها في معرض لقاءاته على نتائج زيارته الأخيرة للمنطقة واستمع إلي آرائها ليضمنها في تقريره لمجلس الأمن الذي سيقدمه في غضون الأيام المقبلة، ومن المحتمل أن يدعوها لممارسة ضغط وتأثير على طرفي النزاع.
الإنذار أو النصيحة ما قبل الأخيرة؟
يسود الاعتقاد أن روس سيوجه إلى الطرفين ما يمكن تسميته “نصيحة الإنذار” ليخيرهم بين أمرين: إما التفاهم على حل ثنائي توافقي في إطار “لا غالب ولا مغلوب” بضمانة دولية ممثلة في مجموعة أصدقاء الصحراء والأمم المتحدة، يساعد عليه اتفاق ثنائي بين الرباط والجزائر.
وإذا ما استمع الطرفان إلى نصيحته، فإنه قد يضيف أدوات أخرى لتسريع التفاوض عبر آليات بديلة، لكنه موقن أن ذلك مرهون بمرونة موقف الجزائر، وهذا احتمال لا يبدو قريب الاحتمال في الدبلوماسية العلنية ويجوز طبخه وإعداده على نار هادئة في مطبخ للدبلوماسية السرية.
ومن العوامل التي قد تساعد على المضي في ذات الاتجاه أن ساكن البيت الأبيض هو نفسه خلال السنوات الأربع المقبلة، وهي الأخيرة في مسار باراك أوباما الرئاسي، ما قد يقنعه بجدوى تخصيص ملف الصحراء وقتا وجهدا، وممارسة ضغط على الأطراف. إن ذلك مرهون بتطور تعقيدات الوضع الدولي في جوانبه العسكرية والأمنية والاقتصادية وأسبقية بؤر التوتر المشتعلة في أكثر من مكان.
يبقى احتمال ضعيف يتم استحضاره في بعض أوقات التأزم وانسداد الأفق: البحث عن الحل ضمن الإطار الإقليمي العربي والمغاربي، من خلال مبادرة فردية أو جماعية، على غرار ما قامت به المملكة العربية السعودية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، أدت إلى تهدئة الأوضاع وإزالة الاحتقان بين المغرب والجزائر. كانت خطوة تاريخية في الاتجاه الصحيح لكنها لم تستأنف على يد أطراف أخرى.
صحيح أن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، حاول السير في نفس الاتجاه بأسلوبه ووضعه الدستوري، لكنه توقف في بداية المشوار بعدما أيقن أن الطريق غير سالكة.
وبرأي كثيرين، فإن على روس، لكي يتابع عمله أن يستعيد ثقة المغاربة في نزاهته وموضوعيته وحياده وألا يجرب مهارته الدبلوماسية بغية نجاحه الشخصي على حساب مصالح المغرب الحيوية خاصة، وأنه ليس متصلبا في مواقفه. والسؤال هل سينجح في استعادة تلك الثقة أم أن هذه الأخيرة تعاملت معه مضطرة حتى لا تلام بعرقلة مساعي الأمم المتحدة السلمية.
وربما بات على روس في مستقبل الأيام، بذل جهد مضاعف لدى جارة المغرب الشرقية وجبهة “البوليساريو” لأقناعهما بمزايا التفاهم مع المغرب وتجنيب المنطقة المغاربية أزمات لا يعرف أحد المدى، الذي يمكن أن تبلغه في ظروف بالغة التعقيد والارتباك إقليميا وعربيا ودوليا.
اختار روس ظرفية صعبة لاستئناف مشاوراته ولقاءاته مع الأطراف، تزامنت مع ذكريات أحداث وقعت في الصحراء مثل المسيرة الخضراء وأحداث مخيم “كديم إيزيك” الدامية، وزار مبعوث الأمم المتحدة، لأول مرة مدينة العيون عاصمة الصحراء، من دون ترحيب وقبول من المغرب، وفيها تباحث مع مؤيدي مغربية الصحراء والمطالبين بالانفصال، إضافة إلى ناشطين حقوقيين وسياسيين محليين.
إن زخم الأحداث وتواليها وغموض السياقات، لا يمكن إلا أن يثير مخاوف المغرب، الذي ينتظر “تقرير” روس ليحكم عليه.
انتهى الجزء الأول من مسلسل روس في الصحراء بما يشبه الاعتراف بالفشل الشخصي، فهل سيكون بإمكانه في الفصل الثاني تدارك الأخطاء والسير بحذر على طريق تجمعت فوقها كثبان كثيفة من رمال تذروها رياح متعددة المصادر، ما يضعف القدرة على تبين حل منشود. إنه رهان دبلوماسي كبير. وعلى كل فالمطلوب من روس، النفاذ إلى لب المشكل والتموقع على مسافة الحياد والنزاهة.
سراب في الصحراء
يقدم الدبلوماسي الأميركي كريستوفر روس وسيط الأمم المتحدة في نزاع الصحراء، تقريرا لمجلس الأمن الدولي، يتضمن خلاصات جولته الأخيرة في المنطقة ومشاوراته مع مجموعة "أصدقاء الصحراء" التي تضم روسيا وأميركا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا.
العاهل المغربي الملك محمد السادس يستقبل كريستوفر روس
ولم تحظ زيارات مبعوثي الأمم المتحدة السابقين إلى الصحراء، من وفدوا مرارا، على كل من المغرب والجزائر وموريتانيا وكذلك مخيمات “تندوف” (جنوب غربي الجزائر) بمثل ما أحاط الجولة الأخيرة التي بدأها روس منذ 27 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، من ترقب وتساؤلات بخصوص مآل وجدوى مهمته، التي بدأت منذ شهر يناير(كانون الثاني)2009، خاصة عقب أزمة الثقة غير المسبوقة التي شابت العلاقة بين المغرب والدبلوماسي الأممي، وأدت إلى اعتراض الرباط، في شهر مايو (أيار) الماضي على استئناف مهمته، متهمة إياه بالخروج عن دور الوسيط النزيه والانحياز لأطروحة جبهة البوليساريو الداعية لاستقلال الصحراء عن المغرب.
ولم يعد خافيا، أن المغرب استقبل روس على مضض، وإن حاول الأخير تبديد مخاوفه وطمأنة وإقناع جل من قابلهم في الرباط، من رسميين وقادة أحزاب وبعض تعبيرات المجتمع المدني، أنه متقيد بالتفويض المخول والمحدد من طرف مجلس الأمن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة، وبالتالي فلا مبرر، من وجهة نظره، لغضب المغرب من ميله لطرف دون آخر، مؤكدا نفس التوجه في تصريحات صحافية أدلى بها لوسائل الإعلام، عقب استقباله من طرف العاهل المغربي الملك محمد السادس.
وكانت تقارير صحافية سبقت زيارات روس، قد أشارت إلى أن حظوظه باتت ضئيلة، ولن تكون أفضل من سابقيه الذين قاموا بعشرات الجولات المكوكية بين الأطراف المعنية بنزاع الصحراء، اصطدمت جهودهم بتصلب مواقف الطرفين ورفضهما التنازل عما يعتقدان أنها “ثوابت” أساسية لا يجوز التخلي عنها، فالمغرب مثلا، لا يرى بديلا عن السيادة السياسية المبسوطة على كامل تراب الصحراء، وفي مقابل ذلك يمنح الصحراويين صلاحيات تدبير واسعة للشأن المحلي تقترب إلى حد كبير من أنظمة الحكم الذاتي المطبقة في عدة دول. صلاحيات حددها المشروع الذي عرضه المغرب على المنتظم الدولي ورفضته جبهة “البوليساريو” كونها لا تقبل، مؤيدة من قبل الجزائر، التخلي عن مبدأ “تقرير المصير” بواسطة استفتاء، ما جعل روس يقر بدوره، بوضوح إن جولات المفاوضات المباشرة التي رعتها الأمم المتحدة والمساعي السلمية المبذولة لمدة أكثر من عقدين، لم تسفر عن نتائج جوهرية من شأنها زحزحة ملف الصحراء عن مكانه، في أفق حل توافقي سلمي ودائم لنزاع استمر قرابة أربعة عقود.
أمضى روس في المنطقة مدة أطول من التي قضاها في جولات سابقة (حوالي 3 أسابيع) وسع لقاءاته ومشاوراته، واعترف لأول مرة أنه استفاد كثيرا من اللقاءات الجانبية ومن الآراء والتحليلات غير الرسمية التي استمع إليها، وبالتالي أصبحت الأمور واضحة في ذهنه أكثر من ذي قبل.
وبدا من تصريحاته في العواصم التي حل بها أخيرا، وكذا مخيمات اللاجئين الصحراويين، أنه مصر على مضاعفة السرعة، محذرا من استمرار النزاع، معربا عن خشيته الشديدة من تداخل أوراق أزمة الصحراء، بما يجري في منطقة الساحل، من تداعيات الوضع غير المستقر في دولة مالي المجاورة للجزائر. وهذه فكرة يلتقي فيها روس بشكل من الأشكال مع المغرب الذي طالما حذر من تحول المخيمات التي يسيطر عليها “البوليساريو” في” تندوف” إلى ملاذ أو بؤرة لنشاط تنظيم القاعدة، عبر أفرعها وخلاياها اليقظة والنائمة في منطقة الصحراء الكبرى، مستفيدة من فضاء مترامي الأطراف، وفي ظل ضعف المراقبة على الحدود وانتشار كثيف للأسلحة،علما أن الجزائر المهددة على حدودها، وتلك مفارقة سياسية، لا تشاطر المغرب نفس النظرة وتعارض الحل العسكري للأزمة في مالي، محذرة بقوة من التدخل الأجنبي.
هاجسان.. دبلوماسي وشخصي
ولا يعني تحذير روس من خطورة الوضع في مالي والصحراء الكبرى، الذي أكده في جولته الأخيرة، أنه متفق تماما مع المغرب في المقاربة العامة، بقدر ما يعكس انشغاله بالانعكاسات الأمنية والعسكرية لمشاكل الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل، التي ستلقي حتما بظلالها الضارة على المصالح الإستراتيجية الغربية.
وبهذ الاعتبار يتساءل المراقبون عن الدواعي التي جعلت الدبلوماسي الأميركي، يحذر من عواقب وخيمة محتملة لنزاع الصحراء بلغة صريحة، إذا استمر بدون حل؟ فمنهم من يرى أن روس يسعى لتحقيق أنجاز دبلوماسي شخصي، ليخلد اسمه في سجل عمله الدبلوماسي، وليسجل في التاريخ أنه نجح فيما فشل فيه آخرون من قبله. ومن الجائز أيضا أنه يستحضر في ذهنه أدوار الوساطة الدولية الناجحة التي قام دبلوماسيون آخرون في شتى الأزمات الدولية.
روس مع بوتفليقة
وفي نفس السياق تذهب طائفة من المحللين إلى القول، إن روس القادم من الخارجية الأميركية، حريص على خدمة سياسة الولايات المتحدة ومصالحها التي تسعى كقوة عظمى، بمختلف الوسائل، لكي يكون لها دور ونفوذ وموقع قدم في سبيل إيجاد مخرج لنزاع يمكن أن يؤثر في حال استمراره على مصالحها الإستراتيجية الحيوية في المنطقة المغاربية، وخاصة لدى الجزائر والمغرب، ركيزتي الاستقرار في المغرب العربي، إذ لوحظ في السنوات الأخيرة أن واشنطن، تسير بسرعتين متوازيتين نحو تعميق علاقات التعاون الثنائي بينها وبين الرباط والجزائر في كثير من المجالات، لتستفيد من الجانبين، مقدمة النصح للجارين القويين للعمل معا في أفق التقارب الثنائي والانخراط بجدية في مشروع الاندماج المغاربي، الذي ترى فيه أميركا فضاء اقتصاديا واعدا.
ومن المؤكد أن مصالح الدول والأشخاص تلتقي وتتعارض في آية معركة دبلوماسية، وبالتالي من الجائز أن يسعى روس لتحقيق مجد شخصي من دون تعارض مع خدمة مصالح بلاده والسلم والأمن في المنطقة.
أوراق الوسيط الأممي الضاغطة
فما هي الأوراق المؤثرة التي يمسك بها روس لتغيير المجرى التفاوضي، بخوص نزاع الصحراء كممثل للأمم المتحدة؟
يجب التذكير في هذا الصدد أنه بدأ مهمته بتفاؤل كبير، وربما ساوره الظن أنها لن تستغرق وقتا طويلا، لاعتبارات شكلية وجوهرية بينها أنه أميركيي مسنود بقوة من حكومة بلاده، كما أنه يجيد اللغة العربية للتواصل السهل السري والعلني مع الأطراف التي يتحاور معها، إذ لا يحتاج إلى مترجم أو وسيط لغوي، فضلا عن أنه يعرف طبيعة المزاج العربي الذي خبره من خلال أقامته في عدد من الدول العربية لحذق نطقه بلغة الضاد، من بينها مدينة فاس المغربية، كما أقام وعمل في الجزائر.
ورغبة في الإيحاء لمحاوريه، أنه قريب منهم عاطفيا فإن روس جاراهم وارتدى خلال زياراته الزى التقليدي. لبس “السلهام” في المغرب و”البرنص” في الجزائر و”الدراعة” في المخيمات الصحراوية، ونشرت له صور بتلك الأزياء.
ليس ضروريا امتداح أو نقد ذلك السلوك من الوسيط الأممي. قد يكون من المناسب وضعه ضمن سياق البحث عن أدوات ووسائل غير تقليدية واختبار جدواها للوصول إلى الهدف المبتغى، وقد سبق لروس نفسه، أن جرب أساليب بديلة في التفاوض المباشر المفتوح بين المفاوضين المغاربة والصحراويين، حيث لم تتقيد جلساته بجدول أعمال صارم، وإنما ترك المجال مفتوحا للتداول الحر بين طرفي النزاع، أملا في بناء جسور الثقة بينهما وتكسير الحاجز النفسي بين الطرفين المتصارعين. الإحالة هنا مع فارق على دور وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في أزمة الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973.
ويبدو أن كل الوسائل المجربة من قبل روس، لم تسفر حتى الآن عن نتائج باهرة، فالوضع ما زال كما استقر منذ سنوات، مثلما أن رهانه الآخر على تطبيع شامل للعلاقات بين الرباط والجزائر، لم يتم الاستماع إليه، وخاصة من جارة المغرب الشرقية التي تصر على أن نزاع الصحراء ثنائي بين المغرب وجبهة “البوليساريو”، ويندرج ضمن قضايا تصفية الاستعمار التي تصفى عبر تطبيق مبدأ تقرير المصير، والاحتكام إلى مبادئ الشرعية الدولية، بواسطة استفتاء شعبي، وهو نفس الموقف الذي تدافع عنه جبهة “البوليساريو” منذ منتصف السبعينيات، وأكدت عليه في محطات سابقة منذ توقيع اتفاق وقف الاشتباكات بين الطرفين عام 1991 برعاية الأمم المتحدة، التي أوفدت بمقتضاه إلى الصحراء بعثة “المينورسو” للأشراف على تنفيذ بنود الاتفاق وانطلاق مباحثات السلام برعاية المنظمة الدولية.
حدود مرونة المغرب
من جانبه يرى المغرب أن موقفه من النزاع، يتسم بالمرونة المتدرجة، فمن التأكيد على مغربية الصحراء واعتبارها قطعة من التراب الوطني، انخرطت الرباط في مسلسل السلام منذ بداية عقد التسعينيات، ولما تعثرت المفاوضات، بادرت بطرح مقترح الحكم الذاتي للمحافظات الصحراوية كأرضية لتفاوض جدي، مؤملة أن تدعم الجزائر ذلك التوجه الذي لا تقدر جبهة “البوليساريو”على معارضته أو رفضه بمفردها. وبالتالي فإن الرباط ما زالت مقتنعة بأن مفتاح المشكل الصحراوي يتقاسمه المغرب والجزائر.
نعود إلى السؤال: ماذا يستطيع روس أن ينجز في سياق إقليمي ودولي، سياسي واقتصادي وأمني متغير، لم يستقر بعد على حال؟ صحيح أنه ضاعف سرعة التحرك، وأدخل عناصر جديدة لرقعة اللعبة التفاوضية، من قبيل التحذير بخطورة الموقف وأن الزمن ليس في صالح أي من طرفي النزاع ولا في استقرار المنطقة المغاربية، كما لجأ روس إلى جر “مجموعة أصدقاء الصحراء” إلى عملية البحث عن حل سياسي، وأطلعها في معرض لقاءاته على نتائج زيارته الأخيرة للمنطقة واستمع إلي آرائها ليضمنها في تقريره لمجلس الأمن الذي سيقدمه في غضون الأيام المقبلة، ومن المحتمل أن يدعوها لممارسة ضغط وتأثير على طرفي النزاع.
الإنذار أو النصيحة ما قبل الأخيرة؟
يسود الاعتقاد أن روس سيوجه إلى الطرفين ما يمكن تسميته “نصيحة الإنذار” ليخيرهم بين أمرين: إما التفاهم على حل ثنائي توافقي في إطار “لا غالب ولا مغلوب” بضمانة دولية ممثلة في مجموعة أصدقاء الصحراء والأمم المتحدة، يساعد عليه اتفاق ثنائي بين الرباط والجزائر.
وإذا ما استمع الطرفان إلى نصيحته، فإنه قد يضيف أدوات أخرى لتسريع التفاوض عبر آليات بديلة، لكنه موقن أن ذلك مرهون بمرونة موقف الجزائر، وهذا احتمال لا يبدو قريب الاحتمال في الدبلوماسية العلنية ويجوز طبخه وإعداده على نار هادئة في مطبخ للدبلوماسية السرية.
ومن العوامل التي قد تساعد على المضي في ذات الاتجاه أن ساكن البيت الأبيض هو نفسه خلال السنوات الأربع المقبلة، وهي الأخيرة في مسار باراك أوباما الرئاسي، ما قد يقنعه بجدوى تخصيص ملف الصحراء وقتا وجهدا، وممارسة ضغط على الأطراف. إن ذلك مرهون بتطور تعقيدات الوضع الدولي في جوانبه العسكرية والأمنية والاقتصادية وأسبقية بؤر التوتر المشتعلة في أكثر من مكان.
يبقى احتمال ضعيف يتم استحضاره في بعض أوقات التأزم وانسداد الأفق: البحث عن الحل ضمن الإطار الإقليمي العربي والمغاربي، من خلال مبادرة فردية أو جماعية، على غرار ما قامت به المملكة العربية السعودية خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، أدت إلى تهدئة الأوضاع وإزالة الاحتقان بين المغرب والجزائر. كانت خطوة تاريخية في الاتجاه الصحيح لكنها لم تستأنف على يد أطراف أخرى.
صحيح أن الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، حاول السير في نفس الاتجاه بأسلوبه ووضعه الدستوري، لكنه توقف في بداية المشوار بعدما أيقن أن الطريق غير سالكة.
وبرأي كثيرين، فإن على روس، لكي يتابع عمله أن يستعيد ثقة المغاربة في نزاهته وموضوعيته وحياده وألا يجرب مهارته الدبلوماسية بغية نجاحه الشخصي على حساب مصالح المغرب الحيوية خاصة، وأنه ليس متصلبا في مواقفه. والسؤال هل سينجح في استعادة تلك الثقة أم أن هذه الأخيرة تعاملت معه مضطرة حتى لا تلام بعرقلة مساعي الأمم المتحدة السلمية.
وربما بات على روس في مستقبل الأيام، بذل جهد مضاعف لدى جارة المغرب الشرقية وجبهة “البوليساريو” لأقناعهما بمزايا التفاهم مع المغرب وتجنيب المنطقة المغاربية أزمات لا يعرف أحد المدى، الذي يمكن أن تبلغه في ظروف بالغة التعقيد والارتباك إقليميا وعربيا ودوليا.
اختار روس ظرفية صعبة لاستئناف مشاوراته ولقاءاته مع الأطراف، تزامنت مع ذكريات أحداث وقعت في الصحراء مثل المسيرة الخضراء وأحداث مخيم “كديم إيزيك” الدامية، وزار مبعوث الأمم المتحدة، لأول مرة مدينة العيون عاصمة الصحراء، من دون ترحيب وقبول من المغرب، وفيها تباحث مع مؤيدي مغربية الصحراء والمطالبين بالانفصال، إضافة إلى ناشطين حقوقيين وسياسيين محليين.
إن زخم الأحداث وتواليها وغموض السياقات، لا يمكن إلا أن يثير مخاوف المغرب، الذي ينتظر “تقرير” روس ليحكم عليه.
انتهى الجزء الأول من مسلسل روس في الصحراء بما يشبه الاعتراف بالفشل الشخصي، فهل سيكون بإمكانه في الفصل الثاني تدارك الأخطاء والسير بحذر على طريق تجمعت فوقها كثبان كثيفة من رمال تذروها رياح متعددة المصادر، ما يضعف القدرة على تبين حل منشود. إنه رهان دبلوماسي كبير. وعلى كل فالمطلوب من روس، النفاذ إلى لب المشكل والتموقع على مسافة الحياد والنزاهة.