- الأحد ديسمبر 09, 2012 10:03 am
#56194
العملة الإيرانية.. تاريخ وأسباب وآثار الانهيار
أوراق الخريف
يجب أن نذكر بداية أن قيمة صرف العملة الأجنبية في إيران ليست على مستوى واحد، فهناك السعر الرسمي الذي يقره البنك المركزي الإيراني، وهناك سعر محلات الصرافة، وهو لا يرتبط مطلقا بالسعر الرسمي، بل يتأثر سلبا وإيجابا بالنظام الاقتصادي المحلي والعالمي، كما يوجد أحيانا نوع ثالث هو سعر السماسرة الذين يقفون على مقربة من محلات الصرافة، ويكون سعرهم الأفضل غالبا، ولكن قد يقع أحدهم في فخ العملة المزورة بكل سهولة، وهو أمر يدركه الإيرانيون جيدا.
طفلة إيرانية تتسول في شوارع مدينة بندر عباس في جنوب إيران
يعد شارع الفردوسي في قلب العاصمة طهران مؤشر سوق العملة في البلاد، على الرغم من أن حجم الأموال التي يتم تداولها هناك قد لا يتجاوز ما نسبته 5 في المائة من السوق الإيراني بشكل عام. لكن التأثير يأتي من ربط المجتمع لسعر صرف العملات الأجنبية بسوق الصرافة بشارع الفردوسي. بعبارة أخرى، المجتمع الإيراني لا يسأل عن قيمة الدولار مثلا لدى البنوك، بل كم وصل في شارع الفردوسي، فعندما يرتفع الصرف هناك، يتم انتشار الخبر بشكل سريع جدا، وبالتالي يقبل الإيرانيون على شراء العملة الصعبة، وعليه يكون الطلب غالبا أكثر من العرض، ومن ثم يرتفع سعر الصرف ويتبعه السوق الإيراني بشكل كامل.
نقطة أخرى مهمة وهي عندما يذهب أحد الإيرانيين إلى البنك، ويرغب في تحويل مبلغ كبير من حسابه إلى عملة أجنبية، يكون رد البنك غالبا بأنه ليس بمقدوره توفير هذه الكمية من العملة، بينما الأمر في شارع فردوسي لا قيود ولا حدود له، فبقدر ما تريد من العملة سيتم تأمينها بكل سهولة، وهذا بلا شك يلعب دورا جوهريا في تحديد سعر الصرف في سوق العملة في البلاد.
سرد تاريخي مختصر لتأرجح العملة
شهدت قيمة العملة الإيرانية منذ نجاح الثورة في عام 1979، تراجعا تدريجيا ومتواصلا (ما عدا فترات قصيرة جدا) حتى حدوث الانهيار الأخير. فعلى سبيل المثال كان سعر الدولار الواحد في عام 1979، 100 ريال إيراني (يساوي 10 تومانات). أخذت العملة تتراجع شيئا فشيئا حيث أصبح 140 ريالاً في عام 1980، بينما كان سعر صرف الدولار الواحد في عام 1990، قرابة 1200 ريال. يعد هذا التراجع كبيرا نسبيا، إلا أنه كان تدريجيا والأهم أن هناك مبررات لهذا التراجع في هذا العقد، وأعني هنا الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات (1980 ـ 1988).
التراجع الأكثر وضوحا وأقل فترة زمنية كان خلال الفترة بين 1998 و2000، حيث قفز سعر الدولار الواحد من 4780 إلى 8630 ريالا. استعاد الريال الإيراني بعض قيمته خلال الأربعة أعوام التالية، حيث كانت قيمته 8130، 7920، 7990 و8320 للأعوام 2001، 2002، 2003 و2004 على التوالي. شهدت السنوات الخمس التالية انخفاضا تدريجيا في قيمة العملة الإيرانية، حيث أصبحت قيمة الدولار الواحد منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2011 حوالي 14840 ريالاً، واتضح جلياً الفارق بين القيمة الرسمية والسوق السوداء (السوق الحرة) وكان آنذاك قرابة 4040 ريالاً.(السعر الرسمي 10800 ريال)، بينما أصبح في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) من العام الجاري 19000 ريال. استعادت العملة الإيرانية بعض قيمتها خلال الأشهر الأربعة التالية، فقد تراوحت قيمة الدولار خلال هذه المدة بين 16800 و17900 ريال.(منتصف شهر يونيو/حزيران تحديداً). عاد بعد ذلك إلى الانخفاض التدريجي حتى تاريخ 22 من سبتمبر (أيلول) حيث بلغ سعر صرف الدولار 22000 ريال، وبعد هذا التاريخ بدأ الانهيار الحاد الذي استمر أربعة أيام تقريبا، تجاوز فيه سعر الدولار الواحد 40000 ريال، مما يعني أن العملة قد فقدت 80 في المائة من قيمتها خلال بضعة أشهر.
من جانب آخر، ارتفع سعر سبائك الذهب (عيار كامل) في إيران من 4200 ريال في عام 1979، إلى 10 ملايين و390 ألف ريال في الوقت الراهن. (الأرقام من جدول نشر في صحيفة همشهري الإيرانية).
هذا الانهيار الكبير والمفاجئ الذي لم تستطع الحكومة السيطرة عليه أو حتى احتواءه، قاد إلى مسيرات لتجار السوق الكبير (البازار) بعد أن أغلقوا محلاتهم التجارية في العاصمة طهران، وانطلقوا في عدة شوارع حيوية، تحولت هذه المسيرات الغاضبة فيما بعد إلى مظاهرات ضمت أعداداً قدرت بالآلاف، ورددت شعارات ضد حكومة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد واتهمتها بالفشل في إدارة اقتصاد البلاد. وقد استشهد موقع “كلمة” المقرب من الإصلاحيين في إيران بروايات شهود، قالوا إن المتظاهرين طالبوا بإطاحة أحمدي نجاد، ونعتوه بـ”الخائن”. كما انتقد المتظاهرون سياسة تبديد أموال الدولة على دول ومنظمات خارجية مثل سوريا وحزب الله وحركة أمل وغيرها، حيث ردد بعض الغاضبين شعارات مثل “أتركوا سوريا وشأنها واهتموا بنا” و”لا سوريا ولا لبنان.. روحي فداء إيران”. كل هذه الأحداث قادت قوات الأمن وقوات التعبئة (البسيج) إلى التصدي للمتظاهرين، واستخدمت حسب بعض التقارير القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين. واستمر الوجود المكثف لقوات الأمن في الشوارع القريبة من سوق العملة مثل شارع الفردوسي وشارع اسطنبول وكذلك الشوارع المتاخمة للسوق الكبير لأيام عدة، ونقل عن بعض المواقع الإصلاحية مثل موقع “كلمة” وموقع “نداى سبز آزادي” أن أشخاصاً يرتدون ملابس مدنية (في إشارة إلى قوات البسيج) قاموا بإجبار أصحاب المحلات التجارية على فتح محلاتهم وتهديد كل من يرفض ذلك. من جانب آخر، أغلقت محلات الصرافة أبوابها لأيام عدة، ثم اتخذت الحكومة الخطة التي قامت بها في البازار فتم تهديد أصحاب محلات الصرافة وانتشرت قوات البسيج في السوق لمراقبة الأسعار، مما اضطر تجار العملة إلى فتح محلاتهم، ولكن من دون تداول فعلي للعملة.
أسباب تدهور العملة.. وجهات نظر
كما أشرنا أعلاه، فعلى الرغم من التراجع التدريجي في قيمة العملة الإيرانية، طيلة ما يربو على ثلاثة عقود من الزمن، إلا أن التدهور الحقيقي مر بمرحلتين خلال العشرة أشهر الماضية. وعلى الرغم من نجاح الحكومة في السيطرة على سعر العملة خلال فترة الانهيار الأول، من خلال ضخ كميات كبيرة من العملة الصعبة في الأسواق، إلا أنها لم تتمكن أو ربما لم ترغب في ذلك في الانهيار الأخير. ولكن ما هي أسباب الانهيار الأول بداية؟ يعتبر قلق إيران من تبعات تشديد العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة علي مبيعات إيران النفطية وكذلك العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني بسبب الشكوك التي تحوم حول أهداف برنامج طهران النووي، من أهم مسببات الانهيار الأول. فمع بداية العام الميلادي الحالي، نجد أن الاقتصاد الإيراني تضرر بشدة جراء هذه العقوبات. وأدت هذه العقوبات إلى انخفاض صادرات النفط الإيراني بشكل كبير، ويعود السبب في ذلك إلى أن الزبائن الدائمين للنفط الإيراني مثل اليابان والصين والهند وتركيا، قاموا بخفض مشترياتهم من إيران بنسب تتراوح بين 30 إلى 50 في المائة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، فقد هبط إنتاج إيران من النفط الخام إلى 3.2 مليون برميل يوميا منخفضا بواقع 150 ألف برميل يوميا خلال شهرين، وفقا لتقرير نشرته مؤسسة استشارات الطاقة في فيينا (جي بي سي) في الربع الأول من العام الحالي.
وهذا الانخفاض الحاد في إنتاج إيران من النفط، يعد الأول من نوعه منذ عشرين عاماً.
تجدر الإشارة إلى أن قطع العلاقات التجارية بين إيران والإمارات العربية المتحدة، كان أحد أسباب الانهيار الأول أيضا، حيث أصدر وزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني، قرارا في شهر ديسمبر الماضي يقضي بحظر جميع أشكال التبادل التجاري مع الإمارات، إضافة إلى تعليق تسجيل الطلبات التجارية المتعلقة بالإمارات في ما يسمى بمنظمة التجارة الإيرانية ( الجهة التي تنظم تجارة إيران الخارجية).
وجاء تبريرهذا القرار المفاجئ للكثيرين أنه تم اتخاذه “على خلفية مواقف الإمارات المعادية لإيران”، طبقا لما نشرته وكالة أنباء مهر الإيرانية.
من جانب آخر، تسبب قرار دولة الإمارات العربية المتحدة بوقف تصدير الدولارات إلى إيران، وقطع علاقاتها مع 17 بنكا إيرانيا في تفاقم مشاكل إيران الاقتصادية. وجاء قرار الإمارات هذا تماشيا مع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، على اعتبار أن هذه البنوك تصنف ضمن القائمة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية، ومن بين هذه البنوك “بنك صادرات” و”بنك ملي” اللذان يملكان فروعا لهما في الإمارات. هذا التوتر في العلاقة بين البلدين، أدى إلى تعميق أزمة نقص احتياطيات الدولارات المتوفرة في خزانة المصرف المركزي الإيراني من جانب، وتوقف التبادل التجاري مع شريك مهم في المنطقة تجاوز حجم التبادل التجاري معه العشرة مليارات دولار أميركي.
هناك سبب ثالث يمكن أضافته إلى السببين السابقين، وهو اتخاذ إيران قرارا برفع الدعم الحكومي عن بعض السلع الرئيسة واستبدال ذلك بتحويلات نقدية تودع في حسابات المواطنين بشكل مباشر. أدت هذه الخطوة التي بدأت في عام 2010 إلى ارتفاع نسبي في معدلات التضخم، إلا أن نية الحكومة تطبيق المرحلة الثانية من الخطة أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم لتصل إلى 23 في المائة، الأمر الذي دعا بعض الخبراء الاقتصاديين في إيران إلى توجيه رسالة إلى المرشد الأعلى، يحذرونه فيها من آثار تطبيق مقترح الحكومة هذا، مؤكدين أن نسبة التضخم قد ترتفع إلى نحو 60 في المائة.
كل هذه الضغوطات الاقتصادية على إيران، وكذلك بعض القرارات التي اتخذتها طهران فيما يتعلق بعلاقاتها التجارية مع دول الجوار والإمارات العربية المتحدة تحديدا، أدت إلى تفاقم المشكلة الاقتصادية، ولعل أهم نتائجها الانهيار الأخير للعملة الإيرانية.
في الواقع أنه ولسنوات عديدة، لم تكن العقوبات على إيران ذات فاعلية تذكر، بسبب أنها لم تكن جادة مطلقا، لأن معظم دول العالم على استعداد تام للقيام بكل شيء، ما عدا إيقاف تدفق النفط، وهو الشيء الوحيد الذي من شأنه أن يحدث فرقا واضحا. وبالفعل، فقد تحقق ذلك مع الحزمة الأخيرة من العقوبات التي قلصت مبيعات إيران من النفط، خاصة مع دخول قرار الاتحاد الأوروبي القاضي بحظر النفط الإيراني، حيز التنفيذ مع بداية شهر يوليو (تموز) الماضي، هذا من جانب، وعزلها عن نظام المدفوعات العالمية من جانب آخر. وكانت هذه الخطوة مؤثرة فعلاً لدرجة اضطرت تركيا، على سبيل المثال، وهي من أهم المستهلكين للغاز الإيراني لدفع ثمن النفط الإيراني بالذهب، كما اشترطت الهند دفع جزء من قيمة وارداتها من النفط الإيراني بالروبية الهندية، والجزء الآخر بالذهب والبضائع المنتجة محليا.
في هذا الصدد يقول اليكس فاتانكا وهو باحث في معهد واشنطن للشرق الأوسط، إن سقوط الريال كان نتيجة لمزيج من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية ومحاولات داخلية في الإصلاح الاقتصادي “مما أدى إلى مزيج مثير للاهتمام ومؤلم في الوقت ذاته، خاصة عندما يتجه الإيرانيون إلى السوبر ماركات ومراكز التسوق بهدف التبضع”، وأضاف “لقد قيدت العقوبات قدرة إيران على بيع النفط في السوق العالمية والحد من الوصول إلى النظام المصرفي الدولي. كما أن ذلك أدى إلى التضخم الذي يحوم حوالي 25 في المائة” (صوت أميركا).
يمكننا أيضا تأكيد أن أحد أسباب انهيار العملة، يكمن في ارتفاع حجم السيولة في سوق العملة والذهب وارتفاع معدل الطلب على هاتين السلعتين كملاذ آمن لمدخرات المواطنين بعد أن تم خفض نسبة الفائدة على الودائع للعام المالي المنصرم (2011). حيث قامت الحكومة الإيرانية بخفض نسبة الفوائد لتصبح 12 في المائة، وهي أقل بكثير من واقع الأسواق الإيراني، بينما كان معدل التضخم يفوق 20 فب المائة، ولم تلتفت الحكومة لتحذيرات الخبراء الاقتصاديين، وكانت النتيجة خروج حجم كبير من الأموال من حسابات التوفير الاستثمارية وتوجهها إلى سوق العملة والذهب، مما أدى إلى الإقبال الكبير، وبالتالي ارتفاع أسعار العملات الأجنبية.
كل هذه الأسباب أجبرت الحكومة الإيرانية على التحرك وإدراك ما يمكن إدراكه، ففي محاولة لتحقيق الاستقرار في سوق العملة، قامت الحكومة الإيرانية بافتتاح مركز لصرف العملات في الشهر الماضي، تحت إشراف البنك المركزي وتم إنشاؤه خصيصا لتوفير الدولار بقيمة مخفضة للمستوردين لبعض السلع الأساسية. إلا أن الحكومة تواجه المشكلة ذاتها، فنقص الدولارات من عائدات النفط، يعني أن الطلب على الدولار أعلى من العرض. وهذا يعني أن الريال قد يغرق بسبب انخفاض عائدات النفط، وبالتالي لا يوجد دولارات كافية لتلبية الطلب المتزايد على العملة الصعبة.
..وجهة نظر أخرى
إلا أن لبعض المحللين وجهة نظر مختلفة، خاصة فيما يتعلق بالانهيار الأخير للعملة الإيرانية. هناك من يرى أن الحكومة الإيرانية تعاني من عجز في الموازنة وتواجه صعوبة في تمويل المدفوعات المباشرة، تعويضا عن إلغاء الدعم الحكومي لبعض السلع. فمن المحتمل أن هذا العجز في تأمين التزاماتها المالية قادها إلى ضخ ما لديها من مخزون من العملة الأجنبية إلى السوق، ومن ثم بيع هذه العملة بأسعار عالية جدا، وبالتالي تكون العائدات كبيرة مما يجعلها تنجح في تأمين التزاماتها المالية (بالعملة المحلية طبعاً) في فترة وجيزة. وعلى الرغم من أن وزير الاقتصاد الإيراني نفى ذلك مرارا، إلا أن بعض تجار العملة تعلموا كيف يتم يتجاهل مثل هذه التصريحات، وذلك بسبب تجاربهم السابقة مع الوزير، وينطبق ذلك أيضا على رئيس البنك المركزي الذي أطلق وعوداً متكررة باحتواء ارتفاع سعر العملة الأجنبية، ولكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع مطلقا، بل وعلى العكس تماما، فكلما صرح رئيس البنك المركزي، ارتفعت الأسعار أكثر فأكثر.
هناك من قرأ الحدث من زاوية مختلفة نسبيا، ففي مقال له على موقع “لوبي لوج” كتب الدكتور جواد صالحي أصفهاني، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط، واقتصادي بجامعة فرجينيا للتكنولوجيا وباحث بمعهد بروكينغز، أن ما تحاول الحكومة الإيرانية القيام به هو التأكد من أن تأثير العقوبات يذهب إلى الأغنياء، بحيث تصبح الطبقة المتوسطة في إيران – وليست الطبقة السفلى – ضحية العقوبات الغربية. كما يرى أصفهاني أن الطبقة السفلى من المجتمع والتي تشكل القدر الأكبر من الناخبين (وبالتالي مهمة من الناحية السياسية) محمية تماما من انخفاض قيمة الدولار، بسبب أن نمط حياتها اليومي غير مرتبط بالدولار، بل ان هذه الطبقة تعتمد كليا على العملة الإيرانية، فأفرادها يذهبون للعمل، ويحصلون على أجرهم اليومي، ويذهبون لشراء الدجاج والخبز، وبالتالي تحصل هذه الفئة من المجتمع على نفس ما حصلت عليه في اليوم السابق من دون أن تشعر بتقلبات العملة الأجنبية. ويتفق مع وجهة النظر هذه الدكتور “خوان كول” المؤرخ الاجتماعي والخبير في شؤون الشرق الأوسط بجامعة ميتشيغان بقوله “ببساطة شديدة، إنك لا تدفع بالدولار للحصول على البيض في إيران”.
تراجع كبير للعملة الإيرانية مقابل الدولار
إضافة إلى ذلك، يرى موقع “بزنس انسايدر” الأميركي أن إيران يمكن أن تحدد بشكل فعال قيمة الريال مقابل الدولار كيفما تشاء، على الأقل طالما أنها تملك مخزونا من الدولارات (كمية ما تملكه إيران من العملة الأجنبية غير معروف) وهذا هو بالضبط ما يفعله النظام. حيث يضع الريال وفق ما يسمى نظام “سعر الصرف المتعدد”. هذا النظام يسمح للحكومة بدعم أسعار بعض السلع الضرورية، كالغذاء مثلاً، ويبقيها بأسعار معقولة نسبيا للطبقة السفلى من المجتمع وهي الطبقة المهمة سياسيا كما ذكرنا سابقاً.
إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في تضرر المجتمع الإيراني من هذه الخطة، فعندما يتم تدمير الطبقة الوسطى من المجتمع – وهي العملية التي قد تكون بدأت فعليا مع أحداث الهبوط الأخير للعملة ـ فإن ذلك يعني حرمان الفئة الأكثر نشاطا في المجتمع من الموارد اللازمة لتحدي الحكومة، خاصة أن هذه الطبقة ليست موالية لحكومة أحمدي نجاد منذ انتخابات عام 2009 على أقل تقدير، أو كما يراها النظام بالفئة المؤدلجة أو “المتحالفة مع الغرب”.
عليه، فإذا كانت الحكومة لا تزال تحصل على المليارات من عائدات النفط، وتعمل في الوقت ذاته على تدمير الطبقة الوسطى، فإن النظام سيصبح العنصر الأكثر قوة وفاعلية في المجتمع، وبالتالي ضمان الاستمرار لفترة أطول، أو كما يراها الدكتور “كول” بأن العقوبات ربما تسبب إحباطا شديدا للمجتمع الإيراني، بدلا من تشجيعه على تحقق “الربيع الإيراني” على حد تعبيره أخيرا في (بزنس انسايدر).
ردود أفعال داخلية شعبية وحكومية
اتفقت، إلى حد كبير، الردود الرسمية وشبه الرسمية الإيرانية حول انهيار العملة، بأن سبب انهيار العملة يعود إلى مؤامرة تحاك ضد الجمهورية الإسلامية في إيران وأنها ـ أي إيران – سوف تهزم مؤامرة العدو ضد عملتها الأجنبية وأسواق الذهب. فعلى سبيل المثال، تحدث محمود بهماني، رئيس البنك المركزي الإيراني، عن الإقبال الكبير للمواطنين الإيرانيين على شراء العملة الأجنبية، وحذرهم من ذلك قائلا: من خلال متابعة ما حدث في الأشهر القليلة الماضية، فإنه من المتوقع أن يكون هناك خلط بين الراغبين الفعليين للعملة الأجنبية وبين المتلاعبين بالسوق، لذا فإنه من الواجب عدم الوقوع في هذا الفخ السياسي والنفسي. وحث بهماني الشعب على الأخذ بالاعتبار العائدات المجزية من السوق المالي الرسمي في البلاد، وشجعهم على إيداع ما لديهم من سيولة زائدة عن حاجتهم في البنوك، وأن لا يخاطروا في أنشطة المضاربة في العملة والذهب.
من جانب آخر، نقلت وكالة أنباء فارس شبه الرسمية عن مهدي غضنفري وزير الصناعة والمناجم والتجارة قوله “لدينا توقعات كبيرة بأن الأجهزة الأمنية ستسيطر على أفرع وجذور الاضطراب في سوق الصرف، وأن تتصدى للمضاربين المتسببين في تراجع العملة”.
كما صرح غلام علي حداد عادل، الرئیسالسابق للبرلمان الإيراني وصهر المرشد علي خامنئي وأحد الأسماء المرشحة للانتخابات الرئاسية القادمة لوكالة فارس أن “إيران ستتغلب على الحرب النفسية والمؤامرة التي سببها العدو لسوق العملة وسوق الذهب، وهذه حرب متقلبة ولكنها مستمرة “. الأمر ذاته كرره أحمدي نجاد نفسه في مؤتمر صحافي عقده خلال ذروة اضطراب العملة. ومؤخرا تناقلت وكالات الأنباء الإيرانية أن أحكاما بالإعدام ستصدر ضد المتلاعبين في سوق العملة، بدعوى أن ذلك من باب الإفساد في الأرض.
على الجانب الشعبي، ظهرت آثار تدهور الاقتصاد الإيراني وانهيار العملة المحلية جلية على المواطنين العاديين، حتى أصبح حديث الشارع والأسواق يدور حول الموضوع، وكيف تحول الوضع رأسا على عقب خلال أسبوع واحد، كما أدى انخفاض العملة إلى دوامة من التكهنات حول المسؤول عن كل ما يحدث. ففي طهران، أصبح العديد من السكان يقضون أوقاتهم في الاتصال على محلات الصرافة، ويقومون بزيارة البنوك، وهم في حيرة عما إذا كان من الأفضل بيع ما لديهم من العملة المحلية الآن، أو الانتظار لمعجزة تعيد الأسعار إلى المستويات السابقة، كما أن مسيرة في أحد شوارع العاصمة، ومهما كانت متواضعة، تشعرهم بالرعب والفزع الشديدين، كما حدث قبل أيام من قبل تجار البازار.
“إن التقلبات كبيرة بحيث لا أحد يعلم ما إذا كان من الأفضل الانتظار أو التبديل الآن”، هكذا قال أحمد (65 عاما) بينما كان في سيارة أجرة متجهة إلى حي “صادقية” غرب العاصمة طهران، وفقا لتقریر نشرته صحیفة “نيويورك تايمز”. أحمد بائع ملابس، ولا يرغب في الكشف عن اسمه كاملا، خوفا من بطش السلطات، أكمل حديثه قائلا: “لقد سئمت من كل هذا وأريد أن أقضي حياتي بشكل طبيعي، ولكن بدءا من وجبة الإفطار، لتناول الغداء وحتى العشاء، أصبح الجميع لا يتحدثون عن شيء سوى العملة الصعبة”.
كالعديد من سكان العاصمة، تجمد أحمد أمام شاشة التلفاز للاستماع إلى المؤتمر الصحافي للرئيس أحمدي نجاد في خضم أزمة العملة، على أمل أن يقدم الرئيس حلا ما لهذه الأزمة الخانقة. ولكن بدلا من ذلك، ألقى نجاد اللوم في تدهور العملة وضعف الريال على المضاربين في العملة والعقوبات الخارجية، قائلا إنه من الطبيعي أن تعاني العملة عندما يكون من الممكن بيع كميات قليلة من النفط، وعندما يكون من الصعب تنفيذ التحويلات المصرفية الدولية. إلا أن خصومه يرون في ذلك محاولة لتجنب اللوم لسوء إدارته لاقتصاد البلاد. بل وصل به الأمر إلى حد التهديد بالاستقالة. “لقد أحدث فوضى كبيرة، والآن يريد أن يتركنا”، قال أحمد عن الرئيس. ولكن قاطعه أحد ركاب سيارة الأجرة ويدعى مصطفى، قائلاً: “لا، معظم قادتنا على خطأ، لكنهم يحاولون إلقاء اللوم في كل شيء على أحمدي نجاد.”
احتجاجات في قلب طهران على تراجع قيمة الريال الإيراني
سقوط العملة المحلية أثر سلباً على المستوى المعيشي والصحي للمواطنين العاديين، وذلك بسبب نسبة التضخم الهائلة وارتفاع أسعار المواد الأساسية. في هذا الصدد قال مواطن إيراني في مقابلة عبر الإنترنت “اليوم ذهبت إلى المستشفى لشراء دواء والدتي التي تعاني من مرض السرطان، وفوجئت أن قيمة الدواء قد تضاعفت ثلاث مرات، مقارنة مع سعرها قبل أسبوعين فقط”. لم تكن أسعار المواد الأساسية في المنازل مثل الأجهزة الكهربائية ونحو ذلك، بأفضل حال من أسعار الدواء فقد أصبح من المستحيل اقتناءها في ظل الارتفاع المحموم في الأسعار. هكذا يصف أحد الإيرانيين الوضع حيث يقول: “الأسبوع الماضي ذهبنا إلى متجر شركة سامسونغ، في شارع شريعتي بالعاصمة طهران، بهدف شراء ثلاجة لحفظ الأطعمة. أخبرونا أنه نفذ كل ما لديهم من أجهزة، حتى تلك التي كانت تستخدم للعرض في المتجر، كما أنهم لم يطلعونا على أسعار السلع حين توفيرها، لأن كل شيء يعتمد على سعر الدولار وقت الشراء”.
الطبقة الوسطى في المجتمع الإيراني تضررت أيضا من هذا الانهيار، فعدد كبير من الآباء الإيرانيين طالبوا أبناءهم الذين يدرسون في الخارج بالعودة إلى إيران، لأنه لم يعد بمقدورهم تحمل أعباء الإيجارات والرسوم الدراسية في بلدان مثل الفلبين وماليزيا، فما بالك بمن يدرس في جامعات غربية. شاباز (60 عاما) شريك في إحدى المطابع في طهران، مثال لذلك. يقول شاباز “طلبت من ابني العودة إلى الوطن”، مؤكداً أنه قضى حياته في تشجيع ابنه وابنته على الدراسة في الخارج. ويضيف بحسرة، “نحن نخسر كل شيء. لقد ذهب مستقبله، ولن يتحقق حلمي بالاحتفال بتخرجه، بل الأدهى من ذلك انه لن يجد وظيفة عندما يترك دراسته ويعود إلى البلاد” (نيويورك تايمز).
القلق من مستقبل اقتصاد البلاد تجاوز الأفراد إلى العاملين في قطاع التجارة، حيث يعد انهيار الريال مكلفا جدا للشركات الإيرانية التي تعمل في استيراد السلع من الخارج، أي أن معظم المستوردين الإيرانيين لا يستطيعون تحمل ثمن تلك البضائع إذا ما قاموا بتبديل العملة بسعر السوق الحرة. ففي مقابلة على شبكة الإنترنت (موقع إذاعة صوت أميركا الناطقة بالفارسية) قال شباب إيراني إن انخفاض العملة أدى إلى خسارة جزء كبير من أمواله، مضيفا “لقد قمت بطلب بضاعة من أوروبا بما تعادل قيمتها 30 ألف يورو، وكان سعر الصرف آنذاك 28000 ريال مقابل اليورو الواحد، والآن تجاوز سعر اليورو الواحد 45000 ريال، وعندما تصل البضاعة، فإنه من المستحيل أن أبيعها من دون خسارة جزء كبير من رأس المال”.
منذ سقوط نظام الشاه في عام 1979، والعملة الإيرانية تتراجع قيمتها بشكل تدريجي، حتى وإن مرت بمراحل تعديل المسار المنخفض أو الحفاظ على فارق ضئيل بين سنة وأخرى. استطاعت الحكومات الإيرانية المتعاقبة التي سبقت حكومة الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد المحافظة على تماسك العملة المحلية والعمل على إيجاد ثبات معقول ومتوازن في الاقتصاد المحلي، رغم العقوبات الدولية المفروضة على البلاد. حكومة حاولت تدارك الوضع واقترحت حذف أربعة أصفار من العملة الإيرانية، لكي تجعل الريال مساويا أو قريبا في قيمته من الدولار الأميركي، الأمر الذي رآه البعض مجرد محاولة يائسة لإخفاء إخفاقاتها في التصدي لمعركة الدفاع عن الريال والحد من النزف المستمر في قيمته أمام العملات الأجنبية، ومع ذلك كله حدث الانهيار الكبير قبل أن يتم تطبيق هذا المقترح على الأرض الواقع. قد تكون الحكومة تضررت من انخفاض العملة وقد يظهر ذلك بشكل أكثر وضوحا في المستقبل القريب، لكن ما هو مؤكد الآن، هو أن التأثير الأكبر جاء على حساب الشعب الإيراني بمختلف طبقاته وفئاته. لم تجد نفعاً تلك التحذيرات المتكررة للحكومة الإيرانية في التقليل من خطر اقتصادي داهم وتحميل مسؤولية المشاكل الاقتصادية لجهات ودول خارجية، ترى طهران أنها تشن حربا اقتصادية ضدها، فالشعب لم يعد يصدق مثل هذه الاسطوانة المتكررة ولا محاولات التملص من المسؤولية، مما جعل العديد من الإيرانيين يهرعون إلى تحويل مدخراتهم المالية إلى عملات أجنبية أو الإقبال على شراء الذهب، قبل أن تفقد العملة المحلية كامل قيمتها.
أوراق الخريف
يجب أن نذكر بداية أن قيمة صرف العملة الأجنبية في إيران ليست على مستوى واحد، فهناك السعر الرسمي الذي يقره البنك المركزي الإيراني، وهناك سعر محلات الصرافة، وهو لا يرتبط مطلقا بالسعر الرسمي، بل يتأثر سلبا وإيجابا بالنظام الاقتصادي المحلي والعالمي، كما يوجد أحيانا نوع ثالث هو سعر السماسرة الذين يقفون على مقربة من محلات الصرافة، ويكون سعرهم الأفضل غالبا، ولكن قد يقع أحدهم في فخ العملة المزورة بكل سهولة، وهو أمر يدركه الإيرانيون جيدا.
طفلة إيرانية تتسول في شوارع مدينة بندر عباس في جنوب إيران
يعد شارع الفردوسي في قلب العاصمة طهران مؤشر سوق العملة في البلاد، على الرغم من أن حجم الأموال التي يتم تداولها هناك قد لا يتجاوز ما نسبته 5 في المائة من السوق الإيراني بشكل عام. لكن التأثير يأتي من ربط المجتمع لسعر صرف العملات الأجنبية بسوق الصرافة بشارع الفردوسي. بعبارة أخرى، المجتمع الإيراني لا يسأل عن قيمة الدولار مثلا لدى البنوك، بل كم وصل في شارع الفردوسي، فعندما يرتفع الصرف هناك، يتم انتشار الخبر بشكل سريع جدا، وبالتالي يقبل الإيرانيون على شراء العملة الصعبة، وعليه يكون الطلب غالبا أكثر من العرض، ومن ثم يرتفع سعر الصرف ويتبعه السوق الإيراني بشكل كامل.
نقطة أخرى مهمة وهي عندما يذهب أحد الإيرانيين إلى البنك، ويرغب في تحويل مبلغ كبير من حسابه إلى عملة أجنبية، يكون رد البنك غالبا بأنه ليس بمقدوره توفير هذه الكمية من العملة، بينما الأمر في شارع فردوسي لا قيود ولا حدود له، فبقدر ما تريد من العملة سيتم تأمينها بكل سهولة، وهذا بلا شك يلعب دورا جوهريا في تحديد سعر الصرف في سوق العملة في البلاد.
سرد تاريخي مختصر لتأرجح العملة
شهدت قيمة العملة الإيرانية منذ نجاح الثورة في عام 1979، تراجعا تدريجيا ومتواصلا (ما عدا فترات قصيرة جدا) حتى حدوث الانهيار الأخير. فعلى سبيل المثال كان سعر الدولار الواحد في عام 1979، 100 ريال إيراني (يساوي 10 تومانات). أخذت العملة تتراجع شيئا فشيئا حيث أصبح 140 ريالاً في عام 1980، بينما كان سعر صرف الدولار الواحد في عام 1990، قرابة 1200 ريال. يعد هذا التراجع كبيرا نسبيا، إلا أنه كان تدريجيا والأهم أن هناك مبررات لهذا التراجع في هذا العقد، وأعني هنا الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات (1980 ـ 1988).
التراجع الأكثر وضوحا وأقل فترة زمنية كان خلال الفترة بين 1998 و2000، حيث قفز سعر الدولار الواحد من 4780 إلى 8630 ريالا. استعاد الريال الإيراني بعض قيمته خلال الأربعة أعوام التالية، حيث كانت قيمته 8130، 7920، 7990 و8320 للأعوام 2001، 2002، 2003 و2004 على التوالي. شهدت السنوات الخمس التالية انخفاضا تدريجيا في قيمة العملة الإيرانية، حيث أصبحت قيمة الدولار الواحد منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2011 حوالي 14840 ريالاً، واتضح جلياً الفارق بين القيمة الرسمية والسوق السوداء (السوق الحرة) وكان آنذاك قرابة 4040 ريالاً.(السعر الرسمي 10800 ريال)، بينما أصبح في نهاية شهر يناير (كانون الثاني) من العام الجاري 19000 ريال. استعادت العملة الإيرانية بعض قيمتها خلال الأشهر الأربعة التالية، فقد تراوحت قيمة الدولار خلال هذه المدة بين 16800 و17900 ريال.(منتصف شهر يونيو/حزيران تحديداً). عاد بعد ذلك إلى الانخفاض التدريجي حتى تاريخ 22 من سبتمبر (أيلول) حيث بلغ سعر صرف الدولار 22000 ريال، وبعد هذا التاريخ بدأ الانهيار الحاد الذي استمر أربعة أيام تقريبا، تجاوز فيه سعر الدولار الواحد 40000 ريال، مما يعني أن العملة قد فقدت 80 في المائة من قيمتها خلال بضعة أشهر.
من جانب آخر، ارتفع سعر سبائك الذهب (عيار كامل) في إيران من 4200 ريال في عام 1979، إلى 10 ملايين و390 ألف ريال في الوقت الراهن. (الأرقام من جدول نشر في صحيفة همشهري الإيرانية).
هذا الانهيار الكبير والمفاجئ الذي لم تستطع الحكومة السيطرة عليه أو حتى احتواءه، قاد إلى مسيرات لتجار السوق الكبير (البازار) بعد أن أغلقوا محلاتهم التجارية في العاصمة طهران، وانطلقوا في عدة شوارع حيوية، تحولت هذه المسيرات الغاضبة فيما بعد إلى مظاهرات ضمت أعداداً قدرت بالآلاف، ورددت شعارات ضد حكومة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد واتهمتها بالفشل في إدارة اقتصاد البلاد. وقد استشهد موقع “كلمة” المقرب من الإصلاحيين في إيران بروايات شهود، قالوا إن المتظاهرين طالبوا بإطاحة أحمدي نجاد، ونعتوه بـ”الخائن”. كما انتقد المتظاهرون سياسة تبديد أموال الدولة على دول ومنظمات خارجية مثل سوريا وحزب الله وحركة أمل وغيرها، حيث ردد بعض الغاضبين شعارات مثل “أتركوا سوريا وشأنها واهتموا بنا” و”لا سوريا ولا لبنان.. روحي فداء إيران”. كل هذه الأحداث قادت قوات الأمن وقوات التعبئة (البسيج) إلى التصدي للمتظاهرين، واستخدمت حسب بعض التقارير القنابل المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين. واستمر الوجود المكثف لقوات الأمن في الشوارع القريبة من سوق العملة مثل شارع الفردوسي وشارع اسطنبول وكذلك الشوارع المتاخمة للسوق الكبير لأيام عدة، ونقل عن بعض المواقع الإصلاحية مثل موقع “كلمة” وموقع “نداى سبز آزادي” أن أشخاصاً يرتدون ملابس مدنية (في إشارة إلى قوات البسيج) قاموا بإجبار أصحاب المحلات التجارية على فتح محلاتهم وتهديد كل من يرفض ذلك. من جانب آخر، أغلقت محلات الصرافة أبوابها لأيام عدة، ثم اتخذت الحكومة الخطة التي قامت بها في البازار فتم تهديد أصحاب محلات الصرافة وانتشرت قوات البسيج في السوق لمراقبة الأسعار، مما اضطر تجار العملة إلى فتح محلاتهم، ولكن من دون تداول فعلي للعملة.
أسباب تدهور العملة.. وجهات نظر
كما أشرنا أعلاه، فعلى الرغم من التراجع التدريجي في قيمة العملة الإيرانية، طيلة ما يربو على ثلاثة عقود من الزمن، إلا أن التدهور الحقيقي مر بمرحلتين خلال العشرة أشهر الماضية. وعلى الرغم من نجاح الحكومة في السيطرة على سعر العملة خلال فترة الانهيار الأول، من خلال ضخ كميات كبيرة من العملة الصعبة في الأسواق، إلا أنها لم تتمكن أو ربما لم ترغب في ذلك في الانهيار الأخير. ولكن ما هي أسباب الانهيار الأول بداية؟ يعتبر قلق إيران من تبعات تشديد العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة علي مبيعات إيران النفطية وكذلك العقوبات المفروضة على البنك المركزي الإيراني بسبب الشكوك التي تحوم حول أهداف برنامج طهران النووي، من أهم مسببات الانهيار الأول. فمع بداية العام الميلادي الحالي، نجد أن الاقتصاد الإيراني تضرر بشدة جراء هذه العقوبات. وأدت هذه العقوبات إلى انخفاض صادرات النفط الإيراني بشكل كبير، ويعود السبب في ذلك إلى أن الزبائن الدائمين للنفط الإيراني مثل اليابان والصين والهند وتركيا، قاموا بخفض مشترياتهم من إيران بنسب تتراوح بين 30 إلى 50 في المائة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، فقد هبط إنتاج إيران من النفط الخام إلى 3.2 مليون برميل يوميا منخفضا بواقع 150 ألف برميل يوميا خلال شهرين، وفقا لتقرير نشرته مؤسسة استشارات الطاقة في فيينا (جي بي سي) في الربع الأول من العام الحالي.
وهذا الانخفاض الحاد في إنتاج إيران من النفط، يعد الأول من نوعه منذ عشرين عاماً.
تجدر الإشارة إلى أن قطع العلاقات التجارية بين إيران والإمارات العربية المتحدة، كان أحد أسباب الانهيار الأول أيضا، حيث أصدر وزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني، قرارا في شهر ديسمبر الماضي يقضي بحظر جميع أشكال التبادل التجاري مع الإمارات، إضافة إلى تعليق تسجيل الطلبات التجارية المتعلقة بالإمارات في ما يسمى بمنظمة التجارة الإيرانية ( الجهة التي تنظم تجارة إيران الخارجية).
وجاء تبريرهذا القرار المفاجئ للكثيرين أنه تم اتخاذه “على خلفية مواقف الإمارات المعادية لإيران”، طبقا لما نشرته وكالة أنباء مهر الإيرانية.
من جانب آخر، تسبب قرار دولة الإمارات العربية المتحدة بوقف تصدير الدولارات إلى إيران، وقطع علاقاتها مع 17 بنكا إيرانيا في تفاقم مشاكل إيران الاقتصادية. وجاء قرار الإمارات هذا تماشيا مع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، على اعتبار أن هذه البنوك تصنف ضمن القائمة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية، ومن بين هذه البنوك “بنك صادرات” و”بنك ملي” اللذان يملكان فروعا لهما في الإمارات. هذا التوتر في العلاقة بين البلدين، أدى إلى تعميق أزمة نقص احتياطيات الدولارات المتوفرة في خزانة المصرف المركزي الإيراني من جانب، وتوقف التبادل التجاري مع شريك مهم في المنطقة تجاوز حجم التبادل التجاري معه العشرة مليارات دولار أميركي.
هناك سبب ثالث يمكن أضافته إلى السببين السابقين، وهو اتخاذ إيران قرارا برفع الدعم الحكومي عن بعض السلع الرئيسة واستبدال ذلك بتحويلات نقدية تودع في حسابات المواطنين بشكل مباشر. أدت هذه الخطوة التي بدأت في عام 2010 إلى ارتفاع نسبي في معدلات التضخم، إلا أن نية الحكومة تطبيق المرحلة الثانية من الخطة أدت إلى ارتفاع نسبة التضخم لتصل إلى 23 في المائة، الأمر الذي دعا بعض الخبراء الاقتصاديين في إيران إلى توجيه رسالة إلى المرشد الأعلى، يحذرونه فيها من آثار تطبيق مقترح الحكومة هذا، مؤكدين أن نسبة التضخم قد ترتفع إلى نحو 60 في المائة.
كل هذه الضغوطات الاقتصادية على إيران، وكذلك بعض القرارات التي اتخذتها طهران فيما يتعلق بعلاقاتها التجارية مع دول الجوار والإمارات العربية المتحدة تحديدا، أدت إلى تفاقم المشكلة الاقتصادية، ولعل أهم نتائجها الانهيار الأخير للعملة الإيرانية.
في الواقع أنه ولسنوات عديدة، لم تكن العقوبات على إيران ذات فاعلية تذكر، بسبب أنها لم تكن جادة مطلقا، لأن معظم دول العالم على استعداد تام للقيام بكل شيء، ما عدا إيقاف تدفق النفط، وهو الشيء الوحيد الذي من شأنه أن يحدث فرقا واضحا. وبالفعل، فقد تحقق ذلك مع الحزمة الأخيرة من العقوبات التي قلصت مبيعات إيران من النفط، خاصة مع دخول قرار الاتحاد الأوروبي القاضي بحظر النفط الإيراني، حيز التنفيذ مع بداية شهر يوليو (تموز) الماضي، هذا من جانب، وعزلها عن نظام المدفوعات العالمية من جانب آخر. وكانت هذه الخطوة مؤثرة فعلاً لدرجة اضطرت تركيا، على سبيل المثال، وهي من أهم المستهلكين للغاز الإيراني لدفع ثمن النفط الإيراني بالذهب، كما اشترطت الهند دفع جزء من قيمة وارداتها من النفط الإيراني بالروبية الهندية، والجزء الآخر بالذهب والبضائع المنتجة محليا.
في هذا الصدد يقول اليكس فاتانكا وهو باحث في معهد واشنطن للشرق الأوسط، إن سقوط الريال كان نتيجة لمزيج من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية ومحاولات داخلية في الإصلاح الاقتصادي “مما أدى إلى مزيج مثير للاهتمام ومؤلم في الوقت ذاته، خاصة عندما يتجه الإيرانيون إلى السوبر ماركات ومراكز التسوق بهدف التبضع”، وأضاف “لقد قيدت العقوبات قدرة إيران على بيع النفط في السوق العالمية والحد من الوصول إلى النظام المصرفي الدولي. كما أن ذلك أدى إلى التضخم الذي يحوم حوالي 25 في المائة” (صوت أميركا).
يمكننا أيضا تأكيد أن أحد أسباب انهيار العملة، يكمن في ارتفاع حجم السيولة في سوق العملة والذهب وارتفاع معدل الطلب على هاتين السلعتين كملاذ آمن لمدخرات المواطنين بعد أن تم خفض نسبة الفائدة على الودائع للعام المالي المنصرم (2011). حيث قامت الحكومة الإيرانية بخفض نسبة الفوائد لتصبح 12 في المائة، وهي أقل بكثير من واقع الأسواق الإيراني، بينما كان معدل التضخم يفوق 20 فب المائة، ولم تلتفت الحكومة لتحذيرات الخبراء الاقتصاديين، وكانت النتيجة خروج حجم كبير من الأموال من حسابات التوفير الاستثمارية وتوجهها إلى سوق العملة والذهب، مما أدى إلى الإقبال الكبير، وبالتالي ارتفاع أسعار العملات الأجنبية.
كل هذه الأسباب أجبرت الحكومة الإيرانية على التحرك وإدراك ما يمكن إدراكه، ففي محاولة لتحقيق الاستقرار في سوق العملة، قامت الحكومة الإيرانية بافتتاح مركز لصرف العملات في الشهر الماضي، تحت إشراف البنك المركزي وتم إنشاؤه خصيصا لتوفير الدولار بقيمة مخفضة للمستوردين لبعض السلع الأساسية. إلا أن الحكومة تواجه المشكلة ذاتها، فنقص الدولارات من عائدات النفط، يعني أن الطلب على الدولار أعلى من العرض. وهذا يعني أن الريال قد يغرق بسبب انخفاض عائدات النفط، وبالتالي لا يوجد دولارات كافية لتلبية الطلب المتزايد على العملة الصعبة.
..وجهة نظر أخرى
إلا أن لبعض المحللين وجهة نظر مختلفة، خاصة فيما يتعلق بالانهيار الأخير للعملة الإيرانية. هناك من يرى أن الحكومة الإيرانية تعاني من عجز في الموازنة وتواجه صعوبة في تمويل المدفوعات المباشرة، تعويضا عن إلغاء الدعم الحكومي لبعض السلع. فمن المحتمل أن هذا العجز في تأمين التزاماتها المالية قادها إلى ضخ ما لديها من مخزون من العملة الأجنبية إلى السوق، ومن ثم بيع هذه العملة بأسعار عالية جدا، وبالتالي تكون العائدات كبيرة مما يجعلها تنجح في تأمين التزاماتها المالية (بالعملة المحلية طبعاً) في فترة وجيزة. وعلى الرغم من أن وزير الاقتصاد الإيراني نفى ذلك مرارا، إلا أن بعض تجار العملة تعلموا كيف يتم يتجاهل مثل هذه التصريحات، وذلك بسبب تجاربهم السابقة مع الوزير، وينطبق ذلك أيضا على رئيس البنك المركزي الذي أطلق وعوداً متكررة باحتواء ارتفاع سعر العملة الأجنبية، ولكن ذلك لم يتحقق على أرض الواقع مطلقا، بل وعلى العكس تماما، فكلما صرح رئيس البنك المركزي، ارتفعت الأسعار أكثر فأكثر.
هناك من قرأ الحدث من زاوية مختلفة نسبيا، ففي مقال له على موقع “لوبي لوج” كتب الدكتور جواد صالحي أصفهاني، وهو خبير في شؤون الشرق الأوسط، واقتصادي بجامعة فرجينيا للتكنولوجيا وباحث بمعهد بروكينغز، أن ما تحاول الحكومة الإيرانية القيام به هو التأكد من أن تأثير العقوبات يذهب إلى الأغنياء، بحيث تصبح الطبقة المتوسطة في إيران – وليست الطبقة السفلى – ضحية العقوبات الغربية. كما يرى أصفهاني أن الطبقة السفلى من المجتمع والتي تشكل القدر الأكبر من الناخبين (وبالتالي مهمة من الناحية السياسية) محمية تماما من انخفاض قيمة الدولار، بسبب أن نمط حياتها اليومي غير مرتبط بالدولار، بل ان هذه الطبقة تعتمد كليا على العملة الإيرانية، فأفرادها يذهبون للعمل، ويحصلون على أجرهم اليومي، ويذهبون لشراء الدجاج والخبز، وبالتالي تحصل هذه الفئة من المجتمع على نفس ما حصلت عليه في اليوم السابق من دون أن تشعر بتقلبات العملة الأجنبية. ويتفق مع وجهة النظر هذه الدكتور “خوان كول” المؤرخ الاجتماعي والخبير في شؤون الشرق الأوسط بجامعة ميتشيغان بقوله “ببساطة شديدة، إنك لا تدفع بالدولار للحصول على البيض في إيران”.
تراجع كبير للعملة الإيرانية مقابل الدولار
إضافة إلى ذلك، يرى موقع “بزنس انسايدر” الأميركي أن إيران يمكن أن تحدد بشكل فعال قيمة الريال مقابل الدولار كيفما تشاء، على الأقل طالما أنها تملك مخزونا من الدولارات (كمية ما تملكه إيران من العملة الأجنبية غير معروف) وهذا هو بالضبط ما يفعله النظام. حيث يضع الريال وفق ما يسمى نظام “سعر الصرف المتعدد”. هذا النظام يسمح للحكومة بدعم أسعار بعض السلع الضرورية، كالغذاء مثلاً، ويبقيها بأسعار معقولة نسبيا للطبقة السفلى من المجتمع وهي الطبقة المهمة سياسيا كما ذكرنا سابقاً.
إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في تضرر المجتمع الإيراني من هذه الخطة، فعندما يتم تدمير الطبقة الوسطى من المجتمع – وهي العملية التي قد تكون بدأت فعليا مع أحداث الهبوط الأخير للعملة ـ فإن ذلك يعني حرمان الفئة الأكثر نشاطا في المجتمع من الموارد اللازمة لتحدي الحكومة، خاصة أن هذه الطبقة ليست موالية لحكومة أحمدي نجاد منذ انتخابات عام 2009 على أقل تقدير، أو كما يراها النظام بالفئة المؤدلجة أو “المتحالفة مع الغرب”.
عليه، فإذا كانت الحكومة لا تزال تحصل على المليارات من عائدات النفط، وتعمل في الوقت ذاته على تدمير الطبقة الوسطى، فإن النظام سيصبح العنصر الأكثر قوة وفاعلية في المجتمع، وبالتالي ضمان الاستمرار لفترة أطول، أو كما يراها الدكتور “كول” بأن العقوبات ربما تسبب إحباطا شديدا للمجتمع الإيراني، بدلا من تشجيعه على تحقق “الربيع الإيراني” على حد تعبيره أخيرا في (بزنس انسايدر).
ردود أفعال داخلية شعبية وحكومية
اتفقت، إلى حد كبير، الردود الرسمية وشبه الرسمية الإيرانية حول انهيار العملة، بأن سبب انهيار العملة يعود إلى مؤامرة تحاك ضد الجمهورية الإسلامية في إيران وأنها ـ أي إيران – سوف تهزم مؤامرة العدو ضد عملتها الأجنبية وأسواق الذهب. فعلى سبيل المثال، تحدث محمود بهماني، رئيس البنك المركزي الإيراني، عن الإقبال الكبير للمواطنين الإيرانيين على شراء العملة الأجنبية، وحذرهم من ذلك قائلا: من خلال متابعة ما حدث في الأشهر القليلة الماضية، فإنه من المتوقع أن يكون هناك خلط بين الراغبين الفعليين للعملة الأجنبية وبين المتلاعبين بالسوق، لذا فإنه من الواجب عدم الوقوع في هذا الفخ السياسي والنفسي. وحث بهماني الشعب على الأخذ بالاعتبار العائدات المجزية من السوق المالي الرسمي في البلاد، وشجعهم على إيداع ما لديهم من سيولة زائدة عن حاجتهم في البنوك، وأن لا يخاطروا في أنشطة المضاربة في العملة والذهب.
من جانب آخر، نقلت وكالة أنباء فارس شبه الرسمية عن مهدي غضنفري وزير الصناعة والمناجم والتجارة قوله “لدينا توقعات كبيرة بأن الأجهزة الأمنية ستسيطر على أفرع وجذور الاضطراب في سوق الصرف، وأن تتصدى للمضاربين المتسببين في تراجع العملة”.
كما صرح غلام علي حداد عادل، الرئیسالسابق للبرلمان الإيراني وصهر المرشد علي خامنئي وأحد الأسماء المرشحة للانتخابات الرئاسية القادمة لوكالة فارس أن “إيران ستتغلب على الحرب النفسية والمؤامرة التي سببها العدو لسوق العملة وسوق الذهب، وهذه حرب متقلبة ولكنها مستمرة “. الأمر ذاته كرره أحمدي نجاد نفسه في مؤتمر صحافي عقده خلال ذروة اضطراب العملة. ومؤخرا تناقلت وكالات الأنباء الإيرانية أن أحكاما بالإعدام ستصدر ضد المتلاعبين في سوق العملة، بدعوى أن ذلك من باب الإفساد في الأرض.
على الجانب الشعبي، ظهرت آثار تدهور الاقتصاد الإيراني وانهيار العملة المحلية جلية على المواطنين العاديين، حتى أصبح حديث الشارع والأسواق يدور حول الموضوع، وكيف تحول الوضع رأسا على عقب خلال أسبوع واحد، كما أدى انخفاض العملة إلى دوامة من التكهنات حول المسؤول عن كل ما يحدث. ففي طهران، أصبح العديد من السكان يقضون أوقاتهم في الاتصال على محلات الصرافة، ويقومون بزيارة البنوك، وهم في حيرة عما إذا كان من الأفضل بيع ما لديهم من العملة المحلية الآن، أو الانتظار لمعجزة تعيد الأسعار إلى المستويات السابقة، كما أن مسيرة في أحد شوارع العاصمة، ومهما كانت متواضعة، تشعرهم بالرعب والفزع الشديدين، كما حدث قبل أيام من قبل تجار البازار.
“إن التقلبات كبيرة بحيث لا أحد يعلم ما إذا كان من الأفضل الانتظار أو التبديل الآن”، هكذا قال أحمد (65 عاما) بينما كان في سيارة أجرة متجهة إلى حي “صادقية” غرب العاصمة طهران، وفقا لتقریر نشرته صحیفة “نيويورك تايمز”. أحمد بائع ملابس، ولا يرغب في الكشف عن اسمه كاملا، خوفا من بطش السلطات، أكمل حديثه قائلا: “لقد سئمت من كل هذا وأريد أن أقضي حياتي بشكل طبيعي، ولكن بدءا من وجبة الإفطار، لتناول الغداء وحتى العشاء، أصبح الجميع لا يتحدثون عن شيء سوى العملة الصعبة”.
كالعديد من سكان العاصمة، تجمد أحمد أمام شاشة التلفاز للاستماع إلى المؤتمر الصحافي للرئيس أحمدي نجاد في خضم أزمة العملة، على أمل أن يقدم الرئيس حلا ما لهذه الأزمة الخانقة. ولكن بدلا من ذلك، ألقى نجاد اللوم في تدهور العملة وضعف الريال على المضاربين في العملة والعقوبات الخارجية، قائلا إنه من الطبيعي أن تعاني العملة عندما يكون من الممكن بيع كميات قليلة من النفط، وعندما يكون من الصعب تنفيذ التحويلات المصرفية الدولية. إلا أن خصومه يرون في ذلك محاولة لتجنب اللوم لسوء إدارته لاقتصاد البلاد. بل وصل به الأمر إلى حد التهديد بالاستقالة. “لقد أحدث فوضى كبيرة، والآن يريد أن يتركنا”، قال أحمد عن الرئيس. ولكن قاطعه أحد ركاب سيارة الأجرة ويدعى مصطفى، قائلاً: “لا، معظم قادتنا على خطأ، لكنهم يحاولون إلقاء اللوم في كل شيء على أحمدي نجاد.”
احتجاجات في قلب طهران على تراجع قيمة الريال الإيراني
سقوط العملة المحلية أثر سلباً على المستوى المعيشي والصحي للمواطنين العاديين، وذلك بسبب نسبة التضخم الهائلة وارتفاع أسعار المواد الأساسية. في هذا الصدد قال مواطن إيراني في مقابلة عبر الإنترنت “اليوم ذهبت إلى المستشفى لشراء دواء والدتي التي تعاني من مرض السرطان، وفوجئت أن قيمة الدواء قد تضاعفت ثلاث مرات، مقارنة مع سعرها قبل أسبوعين فقط”. لم تكن أسعار المواد الأساسية في المنازل مثل الأجهزة الكهربائية ونحو ذلك، بأفضل حال من أسعار الدواء فقد أصبح من المستحيل اقتناءها في ظل الارتفاع المحموم في الأسعار. هكذا يصف أحد الإيرانيين الوضع حيث يقول: “الأسبوع الماضي ذهبنا إلى متجر شركة سامسونغ، في شارع شريعتي بالعاصمة طهران، بهدف شراء ثلاجة لحفظ الأطعمة. أخبرونا أنه نفذ كل ما لديهم من أجهزة، حتى تلك التي كانت تستخدم للعرض في المتجر، كما أنهم لم يطلعونا على أسعار السلع حين توفيرها، لأن كل شيء يعتمد على سعر الدولار وقت الشراء”.
الطبقة الوسطى في المجتمع الإيراني تضررت أيضا من هذا الانهيار، فعدد كبير من الآباء الإيرانيين طالبوا أبناءهم الذين يدرسون في الخارج بالعودة إلى إيران، لأنه لم يعد بمقدورهم تحمل أعباء الإيجارات والرسوم الدراسية في بلدان مثل الفلبين وماليزيا، فما بالك بمن يدرس في جامعات غربية. شاباز (60 عاما) شريك في إحدى المطابع في طهران، مثال لذلك. يقول شاباز “طلبت من ابني العودة إلى الوطن”، مؤكداً أنه قضى حياته في تشجيع ابنه وابنته على الدراسة في الخارج. ويضيف بحسرة، “نحن نخسر كل شيء. لقد ذهب مستقبله، ولن يتحقق حلمي بالاحتفال بتخرجه، بل الأدهى من ذلك انه لن يجد وظيفة عندما يترك دراسته ويعود إلى البلاد” (نيويورك تايمز).
القلق من مستقبل اقتصاد البلاد تجاوز الأفراد إلى العاملين في قطاع التجارة، حيث يعد انهيار الريال مكلفا جدا للشركات الإيرانية التي تعمل في استيراد السلع من الخارج، أي أن معظم المستوردين الإيرانيين لا يستطيعون تحمل ثمن تلك البضائع إذا ما قاموا بتبديل العملة بسعر السوق الحرة. ففي مقابلة على شبكة الإنترنت (موقع إذاعة صوت أميركا الناطقة بالفارسية) قال شباب إيراني إن انخفاض العملة أدى إلى خسارة جزء كبير من أمواله، مضيفا “لقد قمت بطلب بضاعة من أوروبا بما تعادل قيمتها 30 ألف يورو، وكان سعر الصرف آنذاك 28000 ريال مقابل اليورو الواحد، والآن تجاوز سعر اليورو الواحد 45000 ريال، وعندما تصل البضاعة، فإنه من المستحيل أن أبيعها من دون خسارة جزء كبير من رأس المال”.
منذ سقوط نظام الشاه في عام 1979، والعملة الإيرانية تتراجع قيمتها بشكل تدريجي، حتى وإن مرت بمراحل تعديل المسار المنخفض أو الحفاظ على فارق ضئيل بين سنة وأخرى. استطاعت الحكومات الإيرانية المتعاقبة التي سبقت حكومة الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد المحافظة على تماسك العملة المحلية والعمل على إيجاد ثبات معقول ومتوازن في الاقتصاد المحلي، رغم العقوبات الدولية المفروضة على البلاد. حكومة حاولت تدارك الوضع واقترحت حذف أربعة أصفار من العملة الإيرانية، لكي تجعل الريال مساويا أو قريبا في قيمته من الدولار الأميركي، الأمر الذي رآه البعض مجرد محاولة يائسة لإخفاء إخفاقاتها في التصدي لمعركة الدفاع عن الريال والحد من النزف المستمر في قيمته أمام العملات الأجنبية، ومع ذلك كله حدث الانهيار الكبير قبل أن يتم تطبيق هذا المقترح على الأرض الواقع. قد تكون الحكومة تضررت من انخفاض العملة وقد يظهر ذلك بشكل أكثر وضوحا في المستقبل القريب، لكن ما هو مؤكد الآن، هو أن التأثير الأكبر جاء على حساب الشعب الإيراني بمختلف طبقاته وفئاته. لم تجد نفعاً تلك التحذيرات المتكررة للحكومة الإيرانية في التقليل من خطر اقتصادي داهم وتحميل مسؤولية المشاكل الاقتصادية لجهات ودول خارجية، ترى طهران أنها تشن حربا اقتصادية ضدها، فالشعب لم يعد يصدق مثل هذه الاسطوانة المتكررة ولا محاولات التملص من المسؤولية، مما جعل العديد من الإيرانيين يهرعون إلى تحويل مدخراتهم المالية إلى عملات أجنبية أو الإقبال على شراء الذهب، قبل أن تفقد العملة المحلية كامل قيمتها.