صفحة 1 من 1

تغير التاريخ الدبلوماسي

مرسل: الاثنين ديسمبر 10, 2012 6:37 pm
بواسطة عبدالعزيزالعياضي101
إن التغيير التاريخي لا يحقّق أهدافه إن لم تقف وراءه نخب قويّة من مفكرين حقيقيين يؤسسون فكرا جديدا، ويرسمون خطوطا مشدودة نحو المستقبل، فضلا عن قادة سياسيين يقدّمون مشروعا نهضويا لتأسيس نظم حياة مدنية، وغرس عدالة ونظام، وترسيخ أخلاقيات جديدة.
إن التغيير يترجم معنى الثورة نحو التقدم لا التراجع، وإتاحة المجال للعقل لا للكراهية، والإبداع لا الاتباع، والحريّات لا الالتفاف على المكاسب، واحترام حقوق الإنسان، والتحرّر من الأوهام والأخيلة الواهية.. وتحرير الذهنيّة من المركبّات الطائفيّة والتناقضات الثقافيّة، بعد الخلاص من الطغاة والمستبدين والمفسدين في الأرض.

إن وراء كل الثورات العظمى، أفكارا وفلسفات ونظريّات وجدلا، تتجسّد في "مشروعات" نحو المستقبل، لا في "شوارع" نحو الماضي. فما الذي يوفرّه زمننا العربي اليوم؟

لقد انتقلنا اليوم من مرحلة تاريخيّة متعفنة، لجمهوريات عربيّة أوليغارشية مستبدة ومتحزبّة انتقدناها طويلا، بعد أن تفشّى الظلم فيها، وافتقرت لأبسط المعاني الأخلاقية، إذ انسحق الإنسان منذ أكثر من خمسين سنة، وعانى من الاضطهاد والفساد مع ضياع المال العام، وارتخى الإنتاج..

وانتقلنا اليوم فجأة إلى مرحلة أتمنى مخلصا أن تكون جديدة تختفي منها التعصبات، ويزول عنها التخلّف والانغلاق، بخروج الناس من كهوف الماضي. فهل انتقلنا حقا من قمع المتسلطين للمواطنين؟ وهل باستطاعتنا الوقوف سدا منيعا ضد المناكفات والفتن وتصدير الأيديولوجيات لنحول دون الانقسامات وتشظيّات الأوطان؟ هل يمكننا صدّ ثقافات التوحش والمنكرات؟

لقد تحولنا من فشل القوميات وانهيار الوطنيات، إلى حالة التصادم بين التواريخ وتفجير المجتمعات.. وقتل الحريات، وسجن الآراء، وتفجير الصراع بين الأكثريات والأقليات، وقتل الأوطان، وتمزيق الهوية إلى مجهريات جهوية أو طارئة في زمن التفكيك..

لقد أصبح التاريخ وعاء مثالب لهذا الحاضر التعيس، وأمسى أداة تمزّق لكل وجودنا وحاضرنا، بل وجعله مرجعا كارثيا للمستقبل. فكيف ستنمو ذهنيّة عربيّة جديدة لها قطيعتها مع كلّ أعباء الماضي وثقله؟

من المؤسف جدا، أن العرب غدوا منقسمين طائفيّا بين تمجيد التاريخ وتقديسه، أو البكاء واللطم في أروقته والشوارع الأمامية. إن المشكلة ذهنيّة، فأغلبية الناس في مجتمعاتنا لا تشعر أنها قد خرجت من أقبيّة الماضي الكئيبة، التي أصبحت خرائط طرق وعرة لجماعات وملل وأحزاب مذاهبيّة وطائفيّة، وهي تتمثلّها وتستعيد روحها كل لحظة تمرّ، وسنشهد كوارث قادمة من جرّاء ذلك!

لم نرث من العهود السابقة الساقطة مجرد مشكلات حدود، أو استبداد حكّام، أو معضلات أوطان، أو أوجاع مجتمعات، أو سوء أخلاق.. بل ورثنا عادات متوحشّة، وأمراضا سقيمة، وأوبئة مستشرية، وذهنيّات مركبّة، وثقافات بليدة، وأحقادا وثارات.. وإن تناقضات مجتمعاتنا اليوم صعبة جدا، وهي تتفاقم بمخاطرها من حيث لا ندري، وعندما تنفجر فإن سيولا من الدماء ستجري، لا سمح الله!

إن الأمم الأخرى فهمت أسرار ما تريده حقّا، فطوت الماضي بملله ونحله وبشاعات الكراهية فيه، وانطلقت عندها مشروعات قطيعة ذهنيّة وفكريّة، فأصدرت بيانات للتسامح لتاريخ جديد. إن مجتمعاتنا ليست بحاجة لترسيخ الانقسامات التاريخية وإشعال الفتن الاجتماعيّة، وعليها تعطيل بقايا التاريخ!

لا بدّ من انشداد الأجيال الجديدة بديلا عن تراخي مجتمعاتنا الراحلة، وأن لا تسمح إراداتها بوصول أناس أو أحزاب إلى السلطة، بلا أي مشروع حقيقي من أجل الاستنارة والتمدّن وبناء المستقبل.. إذا كان روح القوانين قد ساد في مجتمعات معينّة فارتقى بها نحو التمدّن، فإن الهوس العاطفي قد راج في مجتمعاتنا اليوم، ليأخذها ليس نحو الانغلاق فحسب، بل نحو التمزقّات المخيفة.

إن الإعلام العربي لا بدّ أن ينتقل نقلات نوعية، بعيدا عن التخلّف والمتخلّفين، ليكون مرآة حقيقيّة لفكرة التمدّن، بكل تأثيراتها وانعكاساتها المرئيّة على تفكير الناس، وينبغي أن لا يبقى الفكر العربي جامدا مغيبّا في زنزانة لوحده، من دون أيّة معالجات حرّة للتاريخ والحاضر، ومن دون أي تشريعات فكريّة نهضويّة تحاكي العقل وتبني المستقبل. لا يمكن تقييد حريّات المفكريّن الحقيقيين، وممارسة الإرهاب ضدّهم من قبل المتسلّطين الجدد!

وإذا كان البعض من المتفائلين يتهمنّي بالتشاؤم من صورة المستقبل، فإنني أقول إن ما سيأتي من الأيّام على مدى الثلاثين سنة القادمة، أصعب بكثير جداً مما نتخيلّه، بحيث سيتبلور تشرذم حقيقي في مجتمعاتنا التي ستمزقّها سطوة الفئات الحاكمة القادمة وصراعاتها (حتى إن جاءت عبر صناديق الاقتراع أو من خلال سرقة الثورات)، وستزداد التعصّبات، وستتغيّب الهويّة، وسيكرّس الانغلاق والسكونية، وسيعمّ التشتّت الفكري مع ترسّخ الانقسامات، وسيزداد النكد والجوع والأمراض الاجتماعيّة.

وسيؤثّر ذلك كلّه على الإبداع والذهن والثقافة والفن وكلّ ما تعبّر عنه الحياة المدنيّة، أو ما يتطلّع له الإنسان المستنير. إن الأقليّات في مجتمعاتنا ستعاني الأمريّن، إذ ستهدّد فيزداد اغترابها وهجراتها نحو شتات الأرض..

الصورة كالحة كما أراها على الرغم من التفاؤل الحذر الذي أسمعه من أصدقاء ومفكرين قريبين منّي.. في السودان انفصالات بعد تمزقّات، وفي مصر معضلات لا تحصى أبدا ويصعب حلها، وفي الجزائر صمت يسبق العاصفة..

والعراق انقسام وتدخلات وأحقاد وثارات تكمن تحت التراب، واليمن ثورته سرقت.. وسوريا إزاء جهنم أهليّة باتت مفضوحة اليوم، ولبنان لا يدري ماذا يفعل.. وفي ليبيا وتونس قلق من حدوث مشكلات كثيرة..

إن ثلاثين سنة قد بدأ زمنها منذ العام 2009، ليأخذنا نحو نقطة فاصلة أخرى في تاريخنا المعاصر، تغلق عام 2039.. وليذكرني الناس حينها عندما أكون قد رحلت إلى دار الأبديّة.