مقال: التوازنات الهشة تستدعي سوريا إلى لبنان
مرسل: الاثنين ديسمبر 10, 2012 10:54 pm
سحر الاطرش*
من عهد الوصاية إلى زمن الرهانات
كيف ستؤثّر محصّلة الأزمة السورية، وقد اقتربت من نهايتها، على لبنان. مهما كانت محاولة "النأي عن النفس"، فإنّ القوى اللبنانيّة قد انخرطت بشكلٍ فعليّ في الحرب القائمة لدى شقيقتها، كلّ لصالح طرف، ممّا يعني أنّ نهايات الصراع السوري ستأتي بزلزال على لبنان، خاصّة مع تعطّل نظامه السياسي ودولته.
منذ الأيام الأولى للأزمة في سوريا، كانت جميع الأسباب تدعو للقلق على مصير لبنان، إذ إن العلاقة بين البلدين لا تقتصر على تاريخٍ طويل من التشابك والاشتباك، ولا على تقاسم حدود يبلغ طولها ٣٦٥ كلم غير مرسّمة وقابلة للاختراق في الاتجاهين فحسب، بل تتعدّى ذلك إلى روابط عائلية وقبليّة واجتماعية، إضافة إلى مصالح اقتصادية وتجاريّة على الصعيدين المحلي (micro) والوطني (macro). كما أنّ للنظام السوري تاريخاً من التصرّف بنزق عندما يشعر بأنّه محاصر، إضافة إلى تراث من التدخّل العنيف في كثير من الأحيان في الشؤون اللبنانية. كثيرون شعروا بالقلق منذ البداية من أنّ دمشق ستسعى لزعزعة الاستقرار في جارتها، على الأقل لإضعاف خصومها عبر الحدود وتحذير العالم من التبعات المحتملة لاقتتالٍ طويل. وفي المقابل، ثمّة فئات لبنانيّة هامّة تشعر بالاستياء العميق إزاء ممارسات النظام السوري ضدّها خلال العقود الماضية. أخيراً، فإنّ التوترات المذهبية داخل سوريا لها ما يوازيها في لبنان. هكذا، فإن تفاقمها في سوريا سيقود حتماً إلى تصاعدها في لبنان. وما يزيد الوضع خطورةً هشاشة لبنان الذي يعيش منذ أكثر من سبع سنوات انقساماً سياساً ومذهبيّاً حاداً شكلت سوريا جزءاً أساسياً منه.
كان من الطبيعي أن ينظر كلّ من ائتلافي ١٤ آذار/مارس الذي يشكّل تيار المستقبل ذي الأغلبية السنية ثقله، و٨ آذار/مارس الذي يمثل حزب الله الشيعيّ عصبه، إلى الأحداث في سوريا من منظورين متناقضين تماماً؛ إذ تشكل الانتفاضة ضدّ نظام الأسد حلماً يتحقّق بالنسبة إلى الفريق الأول الذي خاض معركةً تلو الأخرى ضد دمشق بعد تحميلها مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥. أمّا بالنسبة إلى حزب الله، فإنّ التطورات في سوريا تمثل كابوساً رهيباً ينذر بسقوط حليفٍ أساسي يشكل "العمق الاستراتيجي المباشر للحزب الشيعي، والجسر الذي يربطه بعمقه الاستراتيجي الأبعد، أي إيران" [1].
حزب الله وسوريا: من الرعاية إلى التحالف
من الواضح أنّ القوى اللبنانية تعي الرهانات جيداً؛ إذ يراهن كلّ منها على انتصار أحد الطرفين في سوريا وينتظر ترجمة التوازن الإقليميّ الذي قد ينشأ إلى توازن لبناني، كلٌّ لصالحه. يصعب على حزب الله تصور مستقبلٍ مع نظام سوري مختلف، خصوصاً إن كان معادياً له وللمحور الذي يمثله، أي المحور الإيراني. وفي السنوات الأخيرة، شهدت العلاقة بين سوريا وحزب الله تغيّرات كبرى حولتها من علاقة "راعٍ ووكيل" تحت حكم حافظ الأسد إلى تحالفٍ استراتيجي عضويّ في ظل حكم بشار الأسد. وكان لذلك عوامل متعدّدة أهمها، تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000، وتغيّر طبيعة الصراع بين الحزب اللبناني وإسرائيل منذ حرب ٢٠٠٦ و"توازن الرعب" الجديد الذي أرسته. منذ ذلك الحين، أصبحت حاجة حزب الله إلى قدرات عسكريّة وتكنولوجية متطوّرة تزداد أكثر فأكثر مع احتمال تجدّد الحرب، وبات الدعم السوري اللوجستي والسياسيّ حيوياً أكثر من أيّ وقتٍ مضى. كما أن الحليفين ارتبطا بشكلٍ وثيق في صراع ضد خصوم مشتركين من ١٤ آذار/مارس إلى المملكة السعودية إلى الولايات المتحدة، دفاعاً عما يسمّى بمحور المقاومة.
وعليه، ربط حزب الله مصيره بمصير حليفه بطريقةٍ غير مسبوقة، متحولاً إلى طرف في الصراع السوري. ثمّة الكثير من التخمينات حول نطاق الدعم الذي يؤمّنه الحزب إلى النظام السوري، لكن من دون توافر أدلّة ملموسة. فمنذ الأشهر الأولى للأزمة، ادّعت القوى اللبنانية والسوريّة المناهضة للحليفين بأنّ قناصة الحزب يساعدون قوات النظام ويقتلون المتظاهرين [2]. كما يزعم مسؤولون أميركيون أنّ سوريا وحزب الله وإيران يتعاونون عسكرياً بشكلٍ وثيق مشكلين مليشيات نخبة [3]. لقد زاد من هذه الشكوك تشييع حزب الله لمقاتلين قضوا في ظروفٍ غامضة أثناء قيامهم "بواجبٍ جهاديّ" على حدّ تعبير مواقع إلكترونية مقربة من الحزب [4]. ورغم تصريح الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله بأنّ هؤلاء سكّان قرى حدودية ماتوا يدافعون "عن أنفسهم، عن أرواحهم، عن أطفالهم، عن أعراضهم، عن أملاكهم ... في مواجهة مجموعات مسلّحة بعضها سوريّة وبعضها من كلّ حدب وصوب" [5]، يبدو أنّ الحزب الشيعيّ قد صعّد انخراطه على الأرض، وإن يبقى من غير المؤكّد مدى فاعلية ذلك في إنقاذ النظام. لكن في الحدّ الأدنى، إن الرسالة التي يرغب الحزب في إرسالها إلى العالم الخارجي هي أنّه سيفعل كل ما هو مطلوب.
حكومة الضرورات
عمد حزب الله إلى تحقيق توازنٍ بين اعتبارات متعارضة تتمثّل في الدفاع عن النظام وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بمكانته في لبنان، ليس فقط في الوقت الحاضر، بل أيضاً في ظلّ توقعات بحدوث تغييرات في دمشق. وقد أبرز الحزب هدف الحفاظ على الحكومة كأولويّة أساسيّة، كررها مراراً أمينه العام. ولهذا السبب رضخ لسياسات رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، حتّى عندما كانت تتعارض مع مصالح النظام السوري أو مع مصالحه الخاصّة حين قبل مرغماً تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان رغم توجيهها الاتهام إلى أربعة من أعضائه في قضيّة مقتل الحريري. ويشرح أحد مسؤولي حزب الله أهميّة هذه الحكومة: "يتمتّع حزب الله في ظلّ حكومة نجيب ميقاتي بغالبية 18 وزيراً (ينتمون إلى قوى ٨ آذار/مارس) من مجموع 30 وزيراً يشكلون الحكومة الحالية، ومن ثمّ فإن الحفاظ على هذه الحكومة يمكّنه من منع مساءلة ترسانته العسكرية المخصّصة لمقاومة إسرائيل. وعليه، فإنّه في ظلّ أيّ حكومة جديدة تشكّلها المعارضة (قوى 14 آذار/مارس) أو تأليف حكومة وحدة وطنية، سيصبح موقف حزب الله أصعب، لا سيّما لجهة المطالبة الصريحة لهذه القوى بسحب سلاحه أو التعاون في ملفّ المحكمة الدولية. ولسوف يزداد هذا الضغط بعد اغتيال وسام الحسن (رئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي المقرّب من سعد الحريري، والذي قضى في تفجير في ١٩ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١٢).
لم يغيّر حزب الله من موقفه بعد مقتل الحسن، بل أصرَّ على ضرورة الحفاظ على الوضع الراهن في لبنان وتجنّب أي تغييرات من شأنها خلط الأوراق داخلياً وإقليميّاً. وقد ذهب الحزب أبعد من ذلك معتبراً أن هدف اغتيال المسؤول الأمني الرفيع "جاء في غايته الأولى للدفع نحو إحداث تغيير في الحكومة الحالية أو تشكيل حكومة جديدة تدعم الثورة السورية وتخرج لبنان من دائرة حزب الله والنظامين السوري والإيراني" [6].
رهان "المستقبل"
في الجهة المقابلة، وعلى النقيض من حسابات حزب الله، لا يستطيع تيار المستقبل وحلفاؤه أن يروا بديلاً غير نهاية النظام السوريّ، مهما استغرق ذلك من وقت ومهما بلغت الكلفة. إنّهم يعتبرون الانتفاضة السورية الاستراتيجيّة بشكل مزدوج "هدية من عند الله" [7] كما يصفها أحد مسؤولي التيار. فهي تمثّل فرصة ذهبية للانتقام من نظامٍ معادٍ، ليس متهماً باغتيال رفيق الحريري فحسب، بل أيضاً بتصفية مجموعة من مسؤولي تحالف ١٤ آذار/مارس وممثليه، كان آخرهم وسام الحسن. وأبعد من ذلك، تعتبر هذه القوى أن سقوط نظام بشار الأسد هو خطوة أولى باتجاه إضعاف حزب الله وتحدّي هيمنته الداخليّة وإعادة ترتيب موازين القوى في الداخل اللبناني.
يتهم خصوم تيار المستقبل اللبنانيّون والسوريّون بانخراطه في تسليح مجموعات المعارضة السورية. ولكن، كما بالنسبة إلى حزب الله، لا توجد أدلّة ملموسة على الدور الذي يؤدّيه التيار في هذا المجال. إلاّ أنّه من المؤكد أنّ مناطق لبنانية ذات أغلبية سنيّة، وهي غالباً ما تعتبر مناصرة لتيار المستقبل، انخرطت تدريجياً في الصراع. ولقد كان لتدفق اللاجئين السوريين إلى لبنان، إضافة إلى التبعات الإنسانية، تأثيرات سياسية وأمنية أيضاً، إذ أضحى اللبنانيّون السنة في مناطق عكار وطرابلس وبعض قرى البقاع شواهد على قمع النظام لـ"إخوانهم"، هذا القمع الذي كانوا قد اختبروه خلال سنوات الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠) وفي فترة الوصاية السورية على لبنان بين 1990 و2005. وبالتالي صعّد هؤلاء، والعديد منهم مقرب أو منتمٍ إلى تيار المستقبل، من خوضهم هذا الصراع. وقد دفعهم تضامنهم مع "إخوانهم" المحاصرين إلى تحويل مناطق عدّة إلى ملاذات آمنة للمقاتلين ونقاط لعبور للأسلحة. بدأ تهريب الأسلحة إلى سوريا بشكلٍ تجاري مرتجل، إلاّ أنّه توسع بدرجة كبيرة. وقد دفع سكان القرى الحدودية ثمن هذا الانخراط، إذ أصبحوا عرضة لهجمات الجيش السوري. كما يبدو أن تيار "المستقبل" يستعمل تركيا كممرّ بديل لتقديم الدعم إلى المجموعات السورية المسلّحة على ما يؤكده بعض المسؤولين الأميركيين ونشطاء في المعارضة السورية [8].
القوى الإسلامية: استثمار الفراغ
على نطاق أوسع، ساعدت الانتفاضة السورية وصعود الحركات الإسلامية في المنطقة عامّة، الجماعات الإسلامية في كلا البلدين، لبنان وسوريا، على تعزيز مكانتها والعلاقات فيما بينها، والتي كانت ضعفت إن لم تكن انقطعت في ثمانينيات القرن الماضي. هذا الشعور يبدو واضحاً في تصريح أحد شيوخ السلفيّة في طرابلس سالم الرافعي: "(إذا ظننتم) بأنّنا ضعفاء، فاعلموا أنّنا لسنا ضعفاء بعد اليوم لأنّنا امتداد لذلك الشعب الأبيّ الثائر خلف الحدود الذي يواجه الدبابات الأسديّة بصدور عارية" [9]. ومن المؤكد أن قوى إسلاميّة في لبنان قد استفادت من الدعم المالي من جانب متموّلين سوريين وخليجيين اعتبروا صراع هذه القوى مع حزب الله أو مع الحزب العربي الديمقرطي (العلويّ) الحليف للنظام السوري امتداداً للحرب في سوريا. ومن علامات هذه الجرأة المكتسبة، تصدّي مجموعات مسلّحة، ذات طابع إسلامي غالباً، لقوى الأمن في توقيف معارضين سوريين أو حتّى لناشطين إسلاميين لبنانيين، كما في حالة شادي المولوي الداعم للمعارضة السورية والذي اتّهم بالانتماء إلى مجموعة إرهابية؛ إذ لم تهدأ المعارك في طرابلس في أيار/مايو ٢٠١٢، إلى حين إطلاق سراحه [10].
هكذا يحاول بعض القوى الإسلامية ملء الفراغ الذي يخلّفه تراجع تيار المستقبل وغياب زعيمه سعد الحريري عن لبنان لأكثر من عشرين شهراً. ولا يخفي بعض هذه القوى هدف تحويل شمال لبنان إلى "ضاحية شمالية مقابل الضاحية الجنوبية" [11]، أي منطقة شبيهة بمعقل حزب الله يتمتّع فيها الإسلاميون بسيطرة لوجستية وسياسيّة ويلاحقون أهدافاً داخليّة وإقليمية، خاصّة من دون رقابة السلطات الأمنية. إلاّ أن هذه القوى تبقى مشرذمة ومنقسمة الانتماء والأيديولوجيات، كما تفتقر إلى زعامة قوية بمقدرورها أن تستقطب جميع الأطراف تحت سياسات واستراتيجيات موحدة. وفي الوقت الراهن، يبقى هدف تحويل شمالي لبنان إلى حصن إسلامي بحت هدفاً صعب التحقق.
"شوارع بشوارع"
تتمثل إحدى المخاطر الأكثر إلحاحاً في تلاشي قدرة القوى السياسيّة المهيمنة على السيطرة على جماهيرها التي تبدو في حالة استقطاب متزايدة. مرتبكاً في أعقاب اغتيال وسام الحسن، نادى تيار المستقبل وحلفاؤه بإسقاط الحكومة من دون معرفة السبيل إلى تحقيق هذا المطلب. وقد صبَّ عدم تمكنهم من جمع حشدٍ كبير في تشييع الحسن أو السيطرة على مناصريهم الذين حاولوا اقتحام مقرّ رئاسة الحكومة، إضافة إلى الفوضى والاشتباكات التي تلت حادثة الاغتيال [12]، صبّ جميع هذه العوامل في مصلحة بقاء ميقاتي الذي تراجع عن استقالته متسلحاً بدعم دولي [13]: "استقالتي لم تعد واردة إطلاقاً، لأنّها أصبحت تعني قبولي (بتحمّل) المسؤولية عن دم اللواء وسام الحسن" [14]. ولم تكن الفوضى الناجمة عن الاغتيال إلاّ مثالاً على خروج الشارع عن السيطرة وتفاقم حالة انعدام الأمن في لبنان وضعف الدولة التي تدفع الكثيرين لتسوية الأمور بأيديهم.
ينطبق ذلك أيضاً على مناصري حزب الله وإن بدرجة أقل، إذ يشكو سكّان الضاحية الجنوبية من ممارسات بعض الأفراد والعائلات المنتمين في أغلب الأحيان إلى أحد الطرفين الشيعيين أي حزب الله وحركة أمل بقيادة رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذين يستقوون على سكان المنطقة لفرض الخوّات أو يعتدون على آخرين من دون أيّة محاسبة أو خوف من العقاب. هكذا يبدو حزب الله "مكبّلاً في مواجهة مثل هذه المشكلات - بحسب أحد الصحافيين المقربين من الحزب - إذ لا يستطيع معاداة فردٍ من عائلة كبيرة فيستعدي العشيرة بأكملها، التي تشكل مصدر ولاء مهم بالنسبة إليه" [15]. وأبرز مثال على ذلك لجوء أفراد من عائلة آل المقداد (المنحدرة من منطقة البقاع وذات الأغلبية الشيعية) إلى خطف مواطنين سورين وواحد تركيّ رداً على خطف أحد أقاربهم على يد مجموعة سوريّة معارضة. إضافة إلى ذلك، لجأ البعض من الطرفين وفي مناسبات مختلفة إلى نصب حواجز والتدقيق في هويّات المارة لأسبابٍ مذهبية. ومن المقلق ما تشي به هذه الظواهر من استعادة لثقافة ميليشياوية اتسمت بها الأحزاب اللبنانية وغير اللبنانية خلال فترة الحرب الأهلية.
انفجار مؤجل
في الوقت الراهن، ورغم هذه التطورات الخطرة، فإن احتمالات تجدّد الحرب الأهلية في لبنان تبقى بعيدة نسبياً. إذ رغم التباين في المصالح والحسابات، لم تعمد القوى اللبنانية إلى تفجير الوضع كلياً، بل بقيت تمارس نوعاً من ضبط النفس. وما يزال حزب الله يتمتع بالتفوّق العسكري، وهو ما يجبر أعداءه على التفكير بعناية قبل أن ينزلقوا إلى مواجهة عسكريّة معه. كما أن أيّ صراع مسلح لن يكون في صالح الحزب الشيعيّ أيضاً، لأنّه سيجلب مزيداً من الإدانات والعزلة داخلياً وإقليميّاً. ولذلك بدا حزب الله مصمّماً، حتّى الآن، على المحافظة على الوضع الراهن. الأكثر أهميّة هو أن أيّاً من الفرقاء السياسيين الرئيسيين في لبنان لا يريد اختبار أيّ سيناريو كارثيّ، وجميعهم يخشون من تبعات انفجار يخرج عن سيطرة الجميع.
والحال أنّه من الصعب توقّع استمرار التوازن الهشّ في لبنان في ضوء عقليّة تقوم على الغلبة لدى الفريقين. كما أنّ الخوف من تبعات التصعيد ليس سوى حبل واهن لا يصلح لتعليق الآمال عليه، إذ إن كلّ الديناميكيّات اللبنانية تشير في الاتجاه الخطأ. حتّى قبل مقتل وسام الحسن منذ أقل من شهرين، كان السنة يشعرون تدريجياً بأنّهم قد اكتسبوا قدراً أكبر من الجرأة والرغبة في الانتقام. بدورهم، يشعر الشيعة بأنّهم أكثر انكشافاً وخشيةً من تنامي عزلتهم الإقليمية. هكذا تصاعدت المواجهات المذهبية، مع ما يصاحب ذلك من مخاطر تصاعد العنف الطائفي وانتشاره.
سيكون من الخطأ الاستنتاج بأنّ لبنان نجح في تجنّب هذه المخاطر، ذلك أن الوضع يبقى هشاً وغير مستقرّ. ومن دون وجود حكم مركزي قويّ قادر على إدارة الأحداث، فإنّ صراعاً عنيفاً قابلاً للتوسّع قد ينشأ على الأقلّ في بعض المناطق. وقد أظهر الائتلافان الرئيسيان محدوديّة قدراتهما على السيطرة على جمهورهما الأكثر عنفاً وغضباً واضطراباً. كما أّن لبنان ليس في منأى عن تدخّلات خارجية، إن من قبل النظام السوري الذي بإمكانه أن يلجأ، من خلال بعض حلفائه، إلى تصدير العنف إلى لبنان، أو من قبل أعداء النظام الذين قد يدفعهم حدثاً مثل اغتيال وسام الحسن إلى الانخراط أكثر في دعم السنّة، إن في سوريا أو لبنان.
على المدى البعيد، على لبنان التأقلم مع حصيلة صراع سيكون له تداعيات هائلة عليه وسيؤثر بعمق في جميع القضايا المحورية التي طالما شغلت البلاد: من العلاقات مع إسرائيل؛ إلى وضع الأقليّات، خصوصاً المسيحية والعلوية؛ إلى الانقسام بين السنّة والشيعة؛ إلى التنافس السعودي-الإيراني؛ إضافة إلى صعود وتنامي قوّة الإسلاميين السنّة. أضِف إلى ذلك التداعيات الماديّة للانتفاضة السورية، التي تسببت بضغوط كبيرة على الاقتصاد اللبناني الضعيف أصلاً.
تاريخياً، أبدى اللاعبون السياسيون اللبنانيّون لا مبالاة إزاء الأسباب العميقة لاستمرار انعدام الاستقرار في البلاد، والتي تتمثّل بطبيعة بنية النظام (التوزيع الطائفي للسلطات، والامتيازات التي تؤدّي في معظم الأحيان إلى الشلل، وفي أسوئها إلى الاقتتال)؛ وتناقضات تحالفاتهم الخارجية (إذ اتجه البعض نحو "محور المقاومة" وتحالف آخرون مع الغرب)؛ وطبيعة النظام الاقتصادي (الموجّه نظرياً نحو صناعة خدمات عالميّة وحديثة، وعملياً يتركّز على أشكالٍ قديمة من الرعاية والمحسوبيّة والفساد والواسطة). مثل هذه المقاربة، باهظة الثمن دائماً، ستكون أكثر كلفةً في أعقاب الزلزال الاستراتيجي الذي ستحدثه حصيلة الصراع في سوريا، أيّاً كانت النتيجة. وستُخرج هذه الحصيلة إلى السطح عدداً من القضايا التي لطالما أهملت في وقتٍ لن يكون فيه اللاعبون اللبنانيون المحليّون في موقعٍ يمكّنهم من اجتراح حلول وسط أو فعل أيّ شيء باستثناء تمترس كلّ طرف في موقعه.
يبقى نطاق تأثير تطوّرات الصراع في سوريا على لبنان غير مؤكّد، إلاّ أن الجواب المختصر هو أنّ هذا التأثير سيكون كبيراً. إن التراخي في وجه عاصفة قادمة أمرٌ مفهوم لكنّه قصير النظر؛ إذ إن تداعيات الصراع في سوريا، حالما أتيح الوقت لاستيعاب التحوّلات الجارية، ستكون دراماتيكية وعنيفة ومزعزعة للاستقرار على الأرجح.
ربّما يكون من السذاجة دعوة الفرقاء المحليين والإقليميين عدم استعمال الأراضي اللبنانية كحلبة للانخراط في الصراع السوري، ومحاولة تجنيب البلاد مفاعيل هذه الأزمة، إلاّ أن تاريخ لبنان القريب (والبعيد) يجب أن يذكّر الجميع بعواقب تحويله إلى ساحة لحروب مباشرة أو بالوكالة.
* محلّلة سياسية في مجموعة الأزمات الدولية International Crisis Group
———
[1] مقابلة مع عميد متقاعد في الجيش اللبناني مقرب من حزب الله، بيروت، آب ٢٠١١.
[2] مقابلات مع مسؤولين في ١٤ آذار والمعارضة السورية، بيروت، دمشق وواشنطن، ٢٠١١ـ٢٠١٢.
[3] مقابلات مع مسؤولين أميركيين، واشنطن، ٢٠١٢.
[4] http://www.moqawama.org/essaydetails.php?e...; http://www.moqawama.org/essaydetails.php?e...
[5] http://www.almanar.com.lb/adetails....
[6] مقابلة مع مسؤول في حزب الله، بيروت، تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٢.
[7] مقابلة مع مسؤول في تيار المستقبل، بيروت، كانون الأول/ديسمبر 2011.
[8] مقابلات مع مسؤولين أميركيين ونشطاء سوريين، واشنطن، أيلول/سبتمبر ٢٠١٢.
[9] عمر إبراهيم، اعتصام في "ساحة كرامي": من قتل خضر المصري؟، السفير، ١٤ تموز/يوليو ٢٠١٢ .
[10] أنظر عبد الكافي الصمد، توقيف سلفي يفجّر طرابلس: أكثر من 15 قتيلاً وجريحاً، بينهم جندي، الأخبار، 14 أيار/ مايو 2012.
[11] http://www.lebanonnews.com/details/15005/10,14
[12] أنظر الشرق الأوسط، تشييع الحسن يتحول إلى اشتباكات... "المستقبل" يرفض أي حوار قبل رحيل الحكومة، ثائر عباس، ٢٢ تشرين الأول/ أكتوبر 2012.
[13] وقد عبر الأميركيون والأوروبيون عن خشيتهم من الفوضى ودعوا إلى المحافظة على استقرار لبنان. أنظر: http://www.almanar.com.lb/adetails....
[14] http://www.najibmikati.com/LatestNews/7599...
[15] مقابلة مع صحافي مقرب من حزب الله، بيروت، أيلول /سبتمبر 2012.