السياسة الميتة
مرسل: الاثنين ديسمبر 10, 2012 11:21 pm
يستنكف الراغبون في خوض غمار السياسة اليوم من أبناء الحركات الإسلامية، خاصة منهم العلماء والدعاة والصادقون انتساباً للصحوة، من ما يحف العمل السياسي من أمور تُخالف في نظرهم ومفهومهم لمعاني الحق والصدق والالتزام والورع، لكنها في حقيقتها أمور مشروعة ربانيا بل هي تعويض إلهي للفئة المؤمنة إذا هي أرادت الإصلاح عن قلتها وضعفها وتجريدها من المحرمات القطعية التي يتلبس بها الآخرون دون أي تورع.
فالفئة المؤمنة بقلتها وضعفها -وهي صفتين ملازمة لها تاريخياً- لا يباح لها الظلم، ولا العدوان، ولا البغي، ولا الإجرام، ولا الفساد، ولا الخيانة، ولا الغدر، ولا الكذب، ولا غيرها من الأساليب التي تمارسها اليوم الدول والأحزاب والقوى الساعية للعلو والهيمنة والسلطة.
إذن فبأي وسيلة تواجه أولئك وقد ملكوا زمام توجيه الغوغاء والكثرة الغثائية من الناس، وسلطوهم على أهل الصلاح والإصلاح! وهي محدودة الأساليب، محدودة الوسائل، محدودة الإمكانات والطاقات!
أيترك المولى سبحانه وتعالى المؤمنين إزاء هذا المدِّ الطاغي والزاحف يتحطم.. وقد قال سبحانه في وصف أعداءه: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}! وهي صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعا! لا بل كيف يأمرهم أن يواجهوا هذا المدِّ الطاغي والعاتي مسلوبي الإمكانات والوسائل والأساليب؟!
حاشا وكلا! وتعالى الله -جلت حكمته- من أن يكلف عباده خلاف سننه، وفوق طاقتهم التي زودهم بها. بل إن الناظر في كلام الله تعالى (في القرآن الكريم)، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم (في السنة المطهرة)، وما أوجده من فطرة سوية وعقل مرشد، ليعلم علماً يقينيا بأن الله تعالى أعطى عباده المؤمنين جميع مفاتيح الغلبة والانتصار.. معنويا وماديا! تاركا لهم كبشر فرصة معرفتها وإدراكها وتوظيفها والحفاظ على تجددها.
حتى إذا ما جاء المكلف بين يدي الله تعالى لم تكن له حجة الجاهلين مثلا:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء!
بل إن موقفه يكون كموقف الأنبياء -وفي طليعتهم نبي الهدى والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، الثناء على الله تعالى بما هو له أهل، وتمجيده، وحمده، لما علَّمَ وهَدَى وأَرشَدَ وبَيَّن. يقول يوسف –عليه الصلاة والسلام- وهو يثني على ربه بما زوده من المهارات وما أتاح له من الفرص: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[1]؛ وكذلك يقول سليمان -عليه الصلاة والسلام: {.. فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [2]، وهو الذي ورث عن داوود –عليه الصلاة والسلام- مملكة بني إسرائيل الكبرى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[3]، وطلب من ربه المزيد: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ }[4]، فوظف ما آتاه الله تعالى في نشر التوحيد وهداية البشرية ونفع العالمين.
لذلك فإن أول مقام يقومه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة هو أن يأتي تحت العرش فيثني على الله ثناء عظيما، ويحمده ويسبحه بأمور يفتحها الله عليه. كما جاء في أحاديث الشفاعة[5].. (فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي) كما في حديث أبي هريرة، (فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدا)، كما في رواية أنس بن مالك. وذلك يناسب النعم التي أُوتيها، والفضل الذي وهب، والأعمال التي وفق فيها وأعين عليها حتى بلغ عند ربه من المنزلة أعلاها وأجلها، وكان أكثر الناس تابعا وأعظمهم أثرا في الخلق. لذلك بشر في ختام حياته وأمر بما يناسب البشارة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[6].
لقد أوتي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الحكمة، كما أوتوا العلم. فالعلم يفتح آفاق الخيارات والبدائل، والحكمة ترشح أنسبها وأفضلها وأعظمها أثرا. وقد فضل الأنبياء بعضهم على بعض بمدى إعمالهم لهذا العلم وهذه الحكمة، قال تعالى عن شأن يعقوب وإعماله للعلم الذي أوتيه: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[7]، وقال في شأن سليمان: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[8]، وحكى على لسان موسى والخضر –والصحيح من الأقوال أنه نبي: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }[9]، بل حكى هذا التفاضل عن امرأة لم تنبأ وعن رجل منبأ: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}[10]!
لذلك يقول تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ... } الآية[11]. وهذا التفضيل تفضيل متصل بماهية المُفَضَل وليس عبثا أو محابة من الله لأحد: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [12]، فإذا كان الاختيار على علم فالتفضيل على علم.. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[13].
وهكذا نجد بأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكمل الناس في علمهم وحكمتهم، ونجدهم في ذلك متفاضلين بحسب إعمالهم لهذا العلم وتلك الحكمة. وهذا لا يستلزم أن يحققوا الغلبة والنصر والتمكين إلا أن تتوفر شروطه في أقوامهم. ذلك أن البعض قد يُشكل عليه كيف أن الأنبياء بهذه المنزلة ومع ذلك لا يتحقق لهم التمكين؟ لأن التمكين ليس متعلقا بالفرد بل بالأمة التي يكون هذا الفرد مبعوثا فيها. فكم من حلم عظيم أو فكرة نافعة أو هدف سام لم يتحقق لا لشيء سوى لأن الذين آمنوا به حقا وعملوا لأجله كانوا أقل من يواجهوا طغيان الكثرة.. (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.. إذا كثر الخبث)! هي سنة ماضية على كل مجتمع وكل أمة.
ومن هنا يتجلى لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان له أن يحقق ما حقق، لولا الحواريين الذين اتبعوه والصحابة الذين ناصروه. يقول تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[14]. وهذه الحقيقة لم تغب عن رسول الله تعالى لحظة، بل عبر عنها –عليه الصلاة والسلام- في أحاديثه ومواقفه لأفرادهم ولمجموعهم، وأعلى من مكانة ذلك الجيل الأول والرعيل السابق، بما لا يدع مجالا للشك في مكانتهم في الإسلام ونصرته والتمكين له. ومن عرف القرآن الكريم والسنة المطهرة وحقائق التاريخ المسطرة في مسيرة أولئك العظماء عرف خسة ودناءة شانئيهم ومبغضيهم والطاعنين في فضائلهم.
وهذا التمكين وهذا النصر تحقق بفهمهم العميق للدين، ومنهجية نصره، وآليات التمكين له، حتى أنهم رضوان الله عليهم سجلوا من التغيير والإصلاح ما تعجز عنه جهود الشعوب اليوم. ولما قَصُر الناس عن هذا الفهم وذلك المنهج دب الضعف على الأمة وتراجع تمكن الدين وخلا الجو للجهلة والمفسدين.
وهنا لن أتحدث عمَّا يكرره الكثير من الصالحين من المعاني المتفق عليها بداهة في شأن التمكين لهذا الدين، أو الأساليب أو الوسائل. ولكنني أذهب في الحديث إلى الأمور التي يغفلون عنها نظرا لورع يشعرون به أو لبس يقعون فيه، ساعين في بذلهم لنصرة هذا الدين أن لا يقعوا في انحراف أو خلط أو شبهة.
ويظن هذا الفريق أن مجرد حمل الحق، والإيمان بالعقيدة، ودعاء الله تعالى، والأخذ بالأسباب الظاهر إقرار الشرع لها، كاف لمواجهة لجهود الباطل وزحف الفساد وجيوش الظلم والجهل. غير واضعين في حسبانهم أن للحياة قوانين وسننا ربانية لا يمكن تجاوزها من أي إنسان كان مؤمنا أو كافرا؛ وأن المولى سبحانه وتعالى وهو يكلف عباده المؤمنين بمواجهة كل هؤلاء الأعداء مكنهم من (أحسن) الأسباب والوسائل أثرا، ولولا ذلك لما اتسعت الحياة لتدافع الحق والباطل، بل لكانت ساحة للباطل وميدانا للفساد.
ولأن مدار الصراع أساساً هو التأثير على الخلق وتوجيه دفة مسيرتهم نحو الصلاح كانت السياسة ميدانها الأكثر تجليا والأوسع حضورا والأمضى فتكا. أما إذا عاش الصالحون على هامش الحياة يختطفون من أنياب الباطل على خفية الشارد من الناس ويظنون بذلك أنهم يستنقذون الخلق دون أن يتحول هذا الجهد إلى قوة متنامية فإنهم بذلك حالمون وواهمون! ويخطئون من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعا! وهؤلاء جهلوا ما مكنوا فيه، وقصر علمهم عن حقيقة ما أتيح لهم، فقنعوا من الغنيمة بالسلامة:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً
إن المصلحون بحاجة إلى امتلاك ما يواجهون به كثرة وقوة وبطش وإجرام الأعداء، وهنا يأتي الفقه بأساليب الكيد والمكر ووسائل الخداع والحيلة، والفقه بمواطن الخيلاء والكبر، والفقه في بناء القوة وكسب الموارد، والفقه في إدارة الصراع وتقليل خسائر المواجهة، والفقه في إرهاب العدو وإرعاب الخصم،... إلخ. وما أغنى شرعة الله تعالى، وما أثرى التاريخ، وما أوسع مدارك العقل في ذلك.
الكيد والمكر والخداع والحيلة وعلاقة ذلك بالسياسة:
إن صفة الكيد والمكر والخداع صفات مذمومة ابتداء، لذلك فقد وصف بها الشيطان والمنافقون وأهل الأهواء من المفسدين في الأرض، وإن كانت في الأساس موجودة في الإنسان. إلا أن هذه الصفات في مقابل أمثالها تكون صفات مدح وثناء إذا أبطلت الغاية من استخدامها للفساد أو الباطل ابتداء. لذلك أجاز الله تعالى من العدوان والقصاص ما يحدث الردع للمعتدين والعبرة للآخرين. بل لم ينزه نفسه سبحانه وتعالى من هذه الصفات إذا ما جاءت في مقابلة صفات أعداءه، وفي القرآن الكريم شواهد لذلك.
وقد استفاد الشيخ عبدالرحمن السعدي –رحمه الله تعالى- عند تفسيره لسورة يوسف: "جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع التحيل على إسقاط واجب أو فعل محرم". وقد قدمت السورة لنا صورا متقابلة من الكيد والمكر والحيل، الأول منها ما أشار إليه السعدي رحمه الله تعالى ممَّا يتوصل بها إلى الحقوق والحقائق والمنافع، والثانية ما يتوصل بها إلى الباطل والضرر بالآخرين وغشهم.
فمن جنس النوع الأول:
وصية يعقوب ليوسف –عليهما الصلاة والسلام- بأن لا يقُصَّ رؤياه على إخوته خوفا عليه منهم: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[15].
وكان من كيد بعض إخوة يوسف لمَّا رأى عزم إخوته لقتل يوسف تحسين إبعاده لهم، إذ: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}[16]، "وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل" كما قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى.
كما كان من حيلة يعقوب –عليه الصلاة والسلام- حفاظا على يوسف –عليه الصلاة والسلام- أن لا يرسله مع أبنائه خوفا عليه منهم؛ ولقد اعتذر لهم بالذئب، قال: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[17]، عندما طلبوا منه أن يرافقهم في الخروج إلى المرعى، فلم يفاتحهم بما يخافه منهم ويظنه فيهم، بل اعتذر لهم بالحزن من فراقه والخوف من أكل الذئب له في حين غفلة منهم!
وكان من حيلة يوسف مع امرأة العزيز حين راودته ألا يمسها بسوء أو يدفعها بأذى كونه في بيت سيده وقد تنسب إليه المراودة والتحرش، بل كان من شأنه التذكير والوعظ والاعتذار عن فعل كهذا، فلما أصرت عليه استبق إلى الخروج عن المكان.
كما كان من حيلته –عليه الصلاة والسلام- لإبلاغ دعوته لمرافقيه في السجن أن استغل حاجتهما، ليعرض عليهما دعوة التوحيد وعبودية الله تعالى. فـ"لعل يوسف -عليه الصلاة والسلام- قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجع لدعوته وأقبل لهما"، و"في هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى، فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل الله وإحسانه، حيث منَّ عليَّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائي، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت".
وكان من حيلة يوسف –عليه الصلاة والسلام- طلب الشفعة من صاحبه في السجن: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}[18]، "أي: اذكر له شأني وقصتي لعله يرقُّ لي فيخرجني مما أنا فيه" –كما قال الشيخ السعدي رحمه الله.
وكان من حيلة يوسف –عليه الصلاة والسلام- أنه لما سُئِل عن تأويل الرؤيا أدرج معها نصحه ورأيه: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[19]، وذلك فيما يظهر تعريفا بما تميز به من رأي وحنكة ومعرفة في هذه المسائل، لذلك أرسل الملك في طلبه.
وكان من حيلته أيضا وقد أرسل الملك في لقائه أن طلب التحقيق في شأن النسوة اللاتي كن سببا لدخوله السجن: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[20]، فأبدى قرينة جامعة بينهن بتقطيعهن أيديهن ما يدل على حقيقة افتتانهن بيوسف! خلافا لما ادعينه فيه. كما أنه لم يذهب في وصفهن أبعد من قرينة التهمة تأدبا واحترازا من إثارة علية القوم عليه.
وكان من حيلة الملك أنه ابتدر النسوة بسؤالهن عن مراودتهن ليوسف من غير برهان عنده، فقال: {ما خُطبُكُنَّ إِذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ عَنْ نَفْسِه}، كي يدفع بهن للاعتراف، فـ: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[21]، فظهرت براءة يوسف للملأ.
وكان من مكر يوسف بإخوته عندما دخلوا عليه أنه لم يكشف لهم عن نفسه بعد أن جهلوا حقيقته، وطلب منهم أخوهم بداعي وفاء الكيل وتمام العدل: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ}[22]، وذلك لعلمه باضطرارهم إلى العودة إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.
كما كان من مكره بهم أن {قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[23]، أي: اجعلوا الثمن الذي اشتروا به من الميرة في رحالهم، لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.
وكان من حيلة يعقوب –عليه الصلاة والسلام- أن أخذ على أبنائه موثقا في شأن أخذهم أخيهم الآخر معهم، وأوصاهم بوصية بالغة: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}[24]، وذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا من باب الأخذ بالأسباب.
وكان من حيلة يوسف –عليه الصلاة والسلام- لاستخلاص أخيه من بين بقية أخوته أنه لما جهزهم: {بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ، قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[25].
وكان من حيلة يوسف حين قال إخوته: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}، أن أَسَرَّهَا.. {فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ، قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[26].
وكان من حيلة إخوته فيما وقع أن: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[27]، فأرادوا استعطافه بذكر أبيهم المسن، وطمأنته بأخذ رهينة لديه!
وكان من حيلته في رده أن قال: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ}[28]، ولم يقل "من سرق" تحرزا من الكذب!
هذه جملة من المكائد والحيل التي توصل بها أصحابها لمرادهم من الحق أو الخير أو النفع، أو حاولوا.
ومن جنس النوع الثاني:
كيد إخوة يوسف له عندما شعروا بتفضيل أبيهم له: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[29]، "فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله، وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض"، كما يقول الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى.
وكان من كيد إخوته أن أثاروا حفيظة أبيهم فـ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[30]، وهذا سؤال في محل الاستنكار حتى يتوصلوا به إلى طمأنة أبيهم؛ بل خاطبوه بما يعجب محبوبه –يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} ضامنين له: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[31]، فلما اعتذر لهم بخشيته من أن يأكله الذئب قطعوا العذر عنه بقولهم: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}[32]. فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم سمح حينئذ بإرساله معهم لينال يوسف حظه من الأنس واللعب.
ثمَّ كان من كيدهم بعد أن ألقوه في الجب أن: {جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[33]، ليكون إتيانهم متأخرين عن عادتهم وبكاؤهم دليلا لهم وقرينة على صدقهم، كما قال الشيخ السعدي.
ثمَّ ساقوا لأبيهم رواية من نسج خيالهم اتفقوا عليها: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، معرجين على شكه بهم سلفا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[34]. ثمَّ إنهم لم يكتفوا بذلك حتى قدموا على روايتهم دليلا: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}[35]، فما كان من يعقوب وهو العارف ببواطن الأمور إلا أن ألمح لحقيقة ما جرى أملا في توبتهم ورجعوهم عمَّا قاموا به: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
ومن ذلك أيضا كيد السيارة الذين وجدوا يوسف في الجب حيث أنهم: {أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}، و{شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[36]، حرصا على عدم افتضاح أمرهم.
وكان من كيد امرأة العزيز حين راودت يوسف أن: {غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}[37] حتى يطمئن إلى ندائها ويبادر لإجابتها. ولما ألفيا سيدها لدى الباب وكانا قد استبقا إليه بادرته بالقول.. {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[38]، ولم تقل "فعل بأهلك سوءا" تبرأة لنفسها وليوسف، وقدمت السجن على العذاب خشية على يوسف من غضبته وهو الذي شغفها حباً! فـ{لَمَّا رَأَى –عزيز مصر- قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}[39].
وكان من كيد بعض نساء المدينة من اللاتي رغبن في النيل من شرف امرأة العزيز أن قالوا: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[40]، بل "كان هذا القول منهن مكرا، ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز" –كما قال السعدي.
وكان من كيد امرأة العزيز {لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أن {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}[41].
وكان من كيد أزواج النسوة اللاتي راودن يوسف بعد أن رأوا ما وقع من نسائهم أن عملوا على سجنه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}[42]، "فإنه لما اشتهر الخبر وبان وصار الناس فيها بين عاذر ولائم وقادح، {بَدَا لَهُم} أي: ظهر لهم، {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} الدالة على براءته، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} أي: لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه، فإذا عُدِمَت أسبابه نُسي، فرأوا أن هذا مصلحة لهم فأدخلوه في السجن" –كما قال الشيخ السعدي.
وكان من مكر الملأ الذين جهلوا تفسير رؤيا الملك التي أرقته أن جعلوها في خانة أضغاث الأحلام: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}[43]، أي: لا نعبر إلا الرؤيا، وأما الأحلام التي هي من الشيطان أو من حديث النفس فإنا لا نعبرها- كما قال الشيخ السعدي.
وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام، فإنه لو عبرها ابتداء قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم فيعجزوا عنها لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب وكان الملك مهتما لها غاية الاهتمام، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم، بعد أن سألهم فلم يعلموا، ثم سأل آدم فعلمهم أسماء كل شيء، فحصل بذلك زيادة فضله.
هكذا نجد أن يوسف –عليه الصلاة والسلام- كان من بيت أهله محنكون، لهم في الحيل والأسباب قدم معلى، وقع بعضهم في الخطأ حين استغلها في غير وجهتها أما يوسف فقد كان أهلا لمعرفة استغلالها واستثمارها.. حتى شهد له إخوانه بذلك: {والله لقد آثرك الله علينا}!
وبذلك يظهر لنا أن أي مجتمع إنساني لا يخلو –بل لا يستغني- عن الكيد والمكر والحيلة، سواء لجلب مصالح أو دفع مفاسد، والعبرة في ذلك كله بحقائق الأمور ومآلاتها وموافقتها لمقاصد الشرع وصدق نوايا أصحابها. لذلك امتدح المولى تعالى يعقوب –عليه الصلاة والسلام- بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[44]، بل امتدح نفسه تعالى بقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ، مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[45].
فإذا كان الأمر كذلك فأين المؤمنون عن هذه الأساليب؟! وهم يريدون سياسة نقية طاهرة شفافة في حين أن خصومهم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ويتربصون بهم الدوائر! إنها سياسة (ميتة) لا تؤتي أُكلها في عالم الصراع غير المتكافئ.
(وللحديث بقية)
فالفئة المؤمنة بقلتها وضعفها -وهي صفتين ملازمة لها تاريخياً- لا يباح لها الظلم، ولا العدوان، ولا البغي، ولا الإجرام، ولا الفساد، ولا الخيانة، ولا الغدر، ولا الكذب، ولا غيرها من الأساليب التي تمارسها اليوم الدول والأحزاب والقوى الساعية للعلو والهيمنة والسلطة.
إذن فبأي وسيلة تواجه أولئك وقد ملكوا زمام توجيه الغوغاء والكثرة الغثائية من الناس، وسلطوهم على أهل الصلاح والإصلاح! وهي محدودة الأساليب، محدودة الوسائل، محدودة الإمكانات والطاقات!
أيترك المولى سبحانه وتعالى المؤمنين إزاء هذا المدِّ الطاغي والزاحف يتحطم.. وقد قال سبحانه في وصف أعداءه: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}! وهي صنع الله الذي أتقن كل شيء صنعا! لا بل كيف يأمرهم أن يواجهوا هذا المدِّ الطاغي والعاتي مسلوبي الإمكانات والوسائل والأساليب؟!
حاشا وكلا! وتعالى الله -جلت حكمته- من أن يكلف عباده خلاف سننه، وفوق طاقتهم التي زودهم بها. بل إن الناظر في كلام الله تعالى (في القرآن الكريم)، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم (في السنة المطهرة)، وما أوجده من فطرة سوية وعقل مرشد، ليعلم علماً يقينيا بأن الله تعالى أعطى عباده المؤمنين جميع مفاتيح الغلبة والانتصار.. معنويا وماديا! تاركا لهم كبشر فرصة معرفتها وإدراكها وتوظيفها والحفاظ على تجددها.
حتى إذا ما جاء المكلف بين يدي الله تعالى لم تكن له حجة الجاهلين مثلا:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء!
بل إن موقفه يكون كموقف الأنبياء -وفي طليعتهم نبي الهدى والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، الثناء على الله تعالى بما هو له أهل، وتمجيده، وحمده، لما علَّمَ وهَدَى وأَرشَدَ وبَيَّن. يقول يوسف –عليه الصلاة والسلام- وهو يثني على ربه بما زوده من المهارات وما أتاح له من الفرص: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[1]؛ وكذلك يقول سليمان -عليه الصلاة والسلام: {.. فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [2]، وهو الذي ورث عن داوود –عليه الصلاة والسلام- مملكة بني إسرائيل الكبرى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[3]، وطلب من ربه المزيد: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ }[4]، فوظف ما آتاه الله تعالى في نشر التوحيد وهداية البشرية ونفع العالمين.
لذلك فإن أول مقام يقومه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة هو أن يأتي تحت العرش فيثني على الله ثناء عظيما، ويحمده ويسبحه بأمور يفتحها الله عليه. كما جاء في أحاديث الشفاعة[5].. (فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي) كما في حديث أبي هريرة، (فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدا)، كما في رواية أنس بن مالك. وذلك يناسب النعم التي أُوتيها، والفضل الذي وهب، والأعمال التي وفق فيها وأعين عليها حتى بلغ عند ربه من المنزلة أعلاها وأجلها، وكان أكثر الناس تابعا وأعظمهم أثرا في الخلق. لذلك بشر في ختام حياته وأمر بما يناسب البشارة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[6].
لقد أوتي الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الحكمة، كما أوتوا العلم. فالعلم يفتح آفاق الخيارات والبدائل، والحكمة ترشح أنسبها وأفضلها وأعظمها أثرا. وقد فضل الأنبياء بعضهم على بعض بمدى إعمالهم لهذا العلم وهذه الحكمة، قال تعالى عن شأن يعقوب وإعماله للعلم الذي أوتيه: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[7]، وقال في شأن سليمان: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[8]، وحكى على لسان موسى والخضر –والصحيح من الأقوال أنه نبي: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا }[9]، بل حكى هذا التفاضل عن امرأة لم تنبأ وعن رجل منبأ: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}[10]!
لذلك يقول تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ... } الآية[11]. وهذا التفضيل تفضيل متصل بماهية المُفَضَل وليس عبثا أو محابة من الله لأحد: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [12]، فإذا كان الاختيار على علم فالتفضيل على علم.. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[13].
وهكذا نجد بأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أكمل الناس في علمهم وحكمتهم، ونجدهم في ذلك متفاضلين بحسب إعمالهم لهذا العلم وتلك الحكمة. وهذا لا يستلزم أن يحققوا الغلبة والنصر والتمكين إلا أن تتوفر شروطه في أقوامهم. ذلك أن البعض قد يُشكل عليه كيف أن الأنبياء بهذه المنزلة ومع ذلك لا يتحقق لهم التمكين؟ لأن التمكين ليس متعلقا بالفرد بل بالأمة التي يكون هذا الفرد مبعوثا فيها. فكم من حلم عظيم أو فكرة نافعة أو هدف سام لم يتحقق لا لشيء سوى لأن الذين آمنوا به حقا وعملوا لأجله كانوا أقل من يواجهوا طغيان الكثرة.. (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.. إذا كثر الخبث)! هي سنة ماضية على كل مجتمع وكل أمة.
ومن هنا يتجلى لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان له أن يحقق ما حقق، لولا الحواريين الذين اتبعوه والصحابة الذين ناصروه. يقول تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[14]. وهذه الحقيقة لم تغب عن رسول الله تعالى لحظة، بل عبر عنها –عليه الصلاة والسلام- في أحاديثه ومواقفه لأفرادهم ولمجموعهم، وأعلى من مكانة ذلك الجيل الأول والرعيل السابق، بما لا يدع مجالا للشك في مكانتهم في الإسلام ونصرته والتمكين له. ومن عرف القرآن الكريم والسنة المطهرة وحقائق التاريخ المسطرة في مسيرة أولئك العظماء عرف خسة ودناءة شانئيهم ومبغضيهم والطاعنين في فضائلهم.
وهذا التمكين وهذا النصر تحقق بفهمهم العميق للدين، ومنهجية نصره، وآليات التمكين له، حتى أنهم رضوان الله عليهم سجلوا من التغيير والإصلاح ما تعجز عنه جهود الشعوب اليوم. ولما قَصُر الناس عن هذا الفهم وذلك المنهج دب الضعف على الأمة وتراجع تمكن الدين وخلا الجو للجهلة والمفسدين.
وهنا لن أتحدث عمَّا يكرره الكثير من الصالحين من المعاني المتفق عليها بداهة في شأن التمكين لهذا الدين، أو الأساليب أو الوسائل. ولكنني أذهب في الحديث إلى الأمور التي يغفلون عنها نظرا لورع يشعرون به أو لبس يقعون فيه، ساعين في بذلهم لنصرة هذا الدين أن لا يقعوا في انحراف أو خلط أو شبهة.
ويظن هذا الفريق أن مجرد حمل الحق، والإيمان بالعقيدة، ودعاء الله تعالى، والأخذ بالأسباب الظاهر إقرار الشرع لها، كاف لمواجهة لجهود الباطل وزحف الفساد وجيوش الظلم والجهل. غير واضعين في حسبانهم أن للحياة قوانين وسننا ربانية لا يمكن تجاوزها من أي إنسان كان مؤمنا أو كافرا؛ وأن المولى سبحانه وتعالى وهو يكلف عباده المؤمنين بمواجهة كل هؤلاء الأعداء مكنهم من (أحسن) الأسباب والوسائل أثرا، ولولا ذلك لما اتسعت الحياة لتدافع الحق والباطل، بل لكانت ساحة للباطل وميدانا للفساد.
ولأن مدار الصراع أساساً هو التأثير على الخلق وتوجيه دفة مسيرتهم نحو الصلاح كانت السياسة ميدانها الأكثر تجليا والأوسع حضورا والأمضى فتكا. أما إذا عاش الصالحون على هامش الحياة يختطفون من أنياب الباطل على خفية الشارد من الناس ويظنون بذلك أنهم يستنقذون الخلق دون أن يتحول هذا الجهد إلى قوة متنامية فإنهم بذلك حالمون وواهمون! ويخطئون من حيث يحسبون أنهم يحسنون صنعا! وهؤلاء جهلوا ما مكنوا فيه، وقصر علمهم عن حقيقة ما أتيح لهم، فقنعوا من الغنيمة بالسلامة:
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً
إن المصلحون بحاجة إلى امتلاك ما يواجهون به كثرة وقوة وبطش وإجرام الأعداء، وهنا يأتي الفقه بأساليب الكيد والمكر ووسائل الخداع والحيلة، والفقه بمواطن الخيلاء والكبر، والفقه في بناء القوة وكسب الموارد، والفقه في إدارة الصراع وتقليل خسائر المواجهة، والفقه في إرهاب العدو وإرعاب الخصم،... إلخ. وما أغنى شرعة الله تعالى، وما أثرى التاريخ، وما أوسع مدارك العقل في ذلك.
الكيد والمكر والخداع والحيلة وعلاقة ذلك بالسياسة:
إن صفة الكيد والمكر والخداع صفات مذمومة ابتداء، لذلك فقد وصف بها الشيطان والمنافقون وأهل الأهواء من المفسدين في الأرض، وإن كانت في الأساس موجودة في الإنسان. إلا أن هذه الصفات في مقابل أمثالها تكون صفات مدح وثناء إذا أبطلت الغاية من استخدامها للفساد أو الباطل ابتداء. لذلك أجاز الله تعالى من العدوان والقصاص ما يحدث الردع للمعتدين والعبرة للآخرين. بل لم ينزه نفسه سبحانه وتعالى من هذه الصفات إذا ما جاءت في مقابلة صفات أعداءه، وفي القرآن الكريم شواهد لذلك.
وقد استفاد الشيخ عبدالرحمن السعدي –رحمه الله تعالى- عند تفسيره لسورة يوسف: "جواز استعمال المكايد التي يتوصل بها إلى الحقوق، وأن العلم بالطرق الخفية الموصلة إلى مقاصدها مما يحمد عليه العبد، وإنما الممنوع التحيل على إسقاط واجب أو فعل محرم". وقد قدمت السورة لنا صورا متقابلة من الكيد والمكر والحيل، الأول منها ما أشار إليه السعدي رحمه الله تعالى ممَّا يتوصل بها إلى الحقوق والحقائق والمنافع، والثانية ما يتوصل بها إلى الباطل والضرر بالآخرين وغشهم.
فمن جنس النوع الأول:
وصية يعقوب ليوسف –عليهما الصلاة والسلام- بأن لا يقُصَّ رؤياه على إخوته خوفا عليه منهم: {قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[15].
وكان من كيد بعض إخوة يوسف لمَّا رأى عزم إخوته لقتل يوسف تحسين إبعاده لهم، إذ: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}[16]، "وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف، وأبرهم وأتقاهم في هذه القضية، فإن بعض الشر أهون من بعض، والضرر الخفيف يدفع به الضرر الثقيل" كما قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى.
كما كان من حيلة يعقوب –عليه الصلاة والسلام- حفاظا على يوسف –عليه الصلاة والسلام- أن لا يرسله مع أبنائه خوفا عليه منهم؛ ولقد اعتذر لهم بالذئب، قال: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[17]، عندما طلبوا منه أن يرافقهم في الخروج إلى المرعى، فلم يفاتحهم بما يخافه منهم ويظنه فيهم، بل اعتذر لهم بالحزن من فراقه والخوف من أكل الذئب له في حين غفلة منهم!
وكان من حيلة يوسف مع امرأة العزيز حين راودته ألا يمسها بسوء أو يدفعها بأذى كونه في بيت سيده وقد تنسب إليه المراودة والتحرش، بل كان من شأنه التذكير والوعظ والاعتذار عن فعل كهذا، فلما أصرت عليه استبق إلى الخروج عن المكان.
كما كان من حيلته –عليه الصلاة والسلام- لإبلاغ دعوته لمرافقيه في السجن أن استغل حاجتهما، ليعرض عليهما دعوة التوحيد وعبودية الله تعالى. فـ"لعل يوسف -عليه الصلاة والسلام- قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال التي بدت حاجتهما إليه، ليكون أنجع لدعوته وأقبل لهما"، و"في هذا من الترغيب للطريق التي هو عليها ما لا يخفى، فإن الفتيين لما تقرر عنده أنهما رأياه بعين التعظيم والإجلال -وأنه محسن معلم- ذكر لهما أن هذه الحالة التي أنا عليها، كلها من فضل الله وإحسانه، حيث منَّ عليَّ بترك الشرك وباتباع ملة آبائي، فبهذا وصلت إلى ما رأيتما، فينبغي لكما أن تسلكا ما سلكت".
وكان من حيلة يوسف –عليه الصلاة والسلام- طلب الشفعة من صاحبه في السجن: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}[18]، "أي: اذكر له شأني وقصتي لعله يرقُّ لي فيخرجني مما أنا فيه" –كما قال الشيخ السعدي رحمه الله.
وكان من حيلة يوسف –عليه الصلاة والسلام- أنه لما سُئِل عن تأويل الرؤيا أدرج معها نصحه ورأيه: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[19]، وذلك فيما يظهر تعريفا بما تميز به من رأي وحنكة ومعرفة في هذه المسائل، لذلك أرسل الملك في طلبه.
وكان من حيلته أيضا وقد أرسل الملك في لقائه أن طلب التحقيق في شأن النسوة اللاتي كن سببا لدخوله السجن: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[20]، فأبدى قرينة جامعة بينهن بتقطيعهن أيديهن ما يدل على حقيقة افتتانهن بيوسف! خلافا لما ادعينه فيه. كما أنه لم يذهب في وصفهن أبعد من قرينة التهمة تأدبا واحترازا من إثارة علية القوم عليه.
وكان من حيلة الملك أنه ابتدر النسوة بسؤالهن عن مراودتهن ليوسف من غير برهان عنده، فقال: {ما خُطبُكُنَّ إِذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ عَنْ نَفْسِه}، كي يدفع بهن للاعتراف، فـ: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[21]، فظهرت براءة يوسف للملأ.
وكان من مكر يوسف بإخوته عندما دخلوا عليه أنه لم يكشف لهم عن نفسه بعد أن جهلوا حقيقته، وطلب منهم أخوهم بداعي وفاء الكيل وتمام العدل: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ}[22]، وذلك لعلمه باضطرارهم إلى العودة إليه، وأن ذلك يحملهم على الإتيان به.
كما كان من مكره بهم أن {قَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[23]، أي: اجعلوا الثمن الذي اشتروا به من الميرة في رحالهم، لأجل التحرج من أخذها على ما قيل، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها، ولا يشعرون لما يأتي، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن.
وكان من حيلة يعقوب –عليه الصلاة والسلام- أن أخذ على أبنائه موثقا في شأن أخذهم أخيهم الآخر معهم، وأوصاهم بوصية بالغة: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}[24]، وذلك أنه خاف عليهم العين، لكثرتهم وبهاء منظرهم، لكونهم أبناء رجل واحد، وهذا من باب الأخذ بالأسباب.
وكان من حيلة يوسف –عليه الصلاة والسلام- لاستخلاص أخيه من بين بقية أخوته أنه لما جهزهم: {بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ، قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ، قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[25].
وكان من حيلة يوسف حين قال إخوته: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}، أن أَسَرَّهَا.. {فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ، قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[26].
وكان من حيلة إخوته فيما وقع أن: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[27]، فأرادوا استعطافه بذكر أبيهم المسن، وطمأنته بأخذ رهينة لديه!
وكان من حيلته في رده أن قال: {مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ}[28]، ولم يقل "من سرق" تحرزا من الكذب!
هذه جملة من المكائد والحيل التي توصل بها أصحابها لمرادهم من الحق أو الخير أو النفع، أو حاولوا.
ومن جنس النوع الثاني:
كيد إخوة يوسف له عندما شعروا بتفضيل أبيهم له: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[29]، "فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله، وإزالة لشناعته، وتنشيطا من بعضهم لبعض"، كما يقول الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى.
وكان من كيد إخوته أن أثاروا حفيظة أبيهم فـ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[30]، وهذا سؤال في محل الاستنكار حتى يتوصلوا به إلى طمأنة أبيهم؛ بل خاطبوه بما يعجب محبوبه –يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} ضامنين له: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[31]، فلما اعتذر لهم بخشيته من أن يأكله الذئب قطعوا العذر عنه بقولهم: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}[32]. فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة من عدم إرساله معهم سمح حينئذ بإرساله معهم لينال يوسف حظه من الأنس واللعب.
ثمَّ كان من كيدهم بعد أن ألقوه في الجب أن: {جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[33]، ليكون إتيانهم متأخرين عن عادتهم وبكاؤهم دليلا لهم وقرينة على صدقهم، كما قال الشيخ السعدي.
ثمَّ ساقوا لأبيهم رواية من نسج خيالهم اتفقوا عليها: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، معرجين على شكه بهم سلفا: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[34]. ثمَّ إنهم لم يكتفوا بذلك حتى قدموا على روايتهم دليلا: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}[35]، فما كان من يعقوب وهو العارف ببواطن الأمور إلا أن ألمح لحقيقة ما جرى أملا في توبتهم ورجعوهم عمَّا قاموا به: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
ومن ذلك أيضا كيد السيارة الذين وجدوا يوسف في الجب حيث أنهم: {أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}، و{شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[36]، حرصا على عدم افتضاح أمرهم.
وكان من كيد امرأة العزيز حين راودت يوسف أن: {غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}[37] حتى يطمئن إلى ندائها ويبادر لإجابتها. ولما ألفيا سيدها لدى الباب وكانا قد استبقا إليه بادرته بالقول.. {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[38]، ولم تقل "فعل بأهلك سوءا" تبرأة لنفسها وليوسف، وقدمت السجن على العذاب خشية على يوسف من غضبته وهو الذي شغفها حباً! فـ{لَمَّا رَأَى –عزيز مصر- قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}[39].
وكان من كيد بعض نساء المدينة من اللاتي رغبن في النيل من شرف امرأة العزيز أن قالوا: {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[40]، بل "كان هذا القول منهن مكرا، ليس المقصود به مجرد اللوم لها والقدح فيها، وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام إلى رؤية يوسف الذي فتنت به امرأة العزيز" –كما قال السعدي.
وكان من كيد امرأة العزيز {لَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} أن {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}[41].
وكان من كيد أزواج النسوة اللاتي راودن يوسف بعد أن رأوا ما وقع من نسائهم أن عملوا على سجنه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}[42]، "فإنه لما اشتهر الخبر وبان وصار الناس فيها بين عاذر ولائم وقادح، {بَدَا لَهُم} أي: ظهر لهم، {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} الدالة على براءته، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} أي: لينقطع بذلك الخبر ويتناساه الناس، فإن الشيء إذا شاع لم يزل يذكر ويشاع مع وجود أسبابه، فإذا عُدِمَت أسبابه نُسي، فرأوا أن هذا مصلحة لهم فأدخلوه في السجن" –كما قال الشيخ السعدي.
وكان من مكر الملأ الذين جهلوا تفسير رؤيا الملك التي أرقته أن جعلوها في خانة أضغاث الأحلام: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}[43]، أي: لا نعبر إلا الرؤيا، وأما الأحلام التي هي من الشيطان أو من حديث النفس فإنا لا نعبرها- كما قال الشيخ السعدي.
وهذا أيضا من لطف الله بيوسف عليه السلام، فإنه لو عبرها ابتداء قبل أن يعرضها على الملأ من قومه وعلمائهم فيعجزوا عنها لم يكن لها ذلك الموقع، ولكن لما عرضها عليهم فعجزوا عن الجواب وكان الملك مهتما لها غاية الاهتمام، فعبرها يوسف- وقعت عندهم موقعا عظيما، وهذا نظير إظهار الله فضل آدم على الملائكة بالعلم، بعد أن سألهم فلم يعلموا، ثم سأل آدم فعلمهم أسماء كل شيء، فحصل بذلك زيادة فضله.
هكذا نجد أن يوسف –عليه الصلاة والسلام- كان من بيت أهله محنكون، لهم في الحيل والأسباب قدم معلى، وقع بعضهم في الخطأ حين استغلها في غير وجهتها أما يوسف فقد كان أهلا لمعرفة استغلالها واستثمارها.. حتى شهد له إخوانه بذلك: {والله لقد آثرك الله علينا}!
وبذلك يظهر لنا أن أي مجتمع إنساني لا يخلو –بل لا يستغني- عن الكيد والمكر والحيلة، سواء لجلب مصالح أو دفع مفاسد، والعبرة في ذلك كله بحقائق الأمور ومآلاتها وموافقتها لمقاصد الشرع وصدق نوايا أصحابها. لذلك امتدح المولى تعالى يعقوب –عليه الصلاة والسلام- بقوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[44]، بل امتدح نفسه تعالى بقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ، مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[45].
فإذا كان الأمر كذلك فأين المؤمنون عن هذه الأساليب؟! وهم يريدون سياسة نقية طاهرة شفافة في حين أن خصومهم لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ويتربصون بهم الدوائر! إنها سياسة (ميتة) لا تؤتي أُكلها في عالم الصراع غير المتكافئ.
(وللحديث بقية)