منتديات الحوار الجامعية السياسية

فليقل كل كلمته
#56509
حراك

مرتزقة العاطفة: لا يألونكم خبالا

في كيمياء العلاقات بين البشر، لن تجد أحدا سيجبرك على كره أو حب فئة محددة، فالخيار دائما في مسائل القبول والرفض للأطراف أو الأشخاص يعود إلى الفرد نفسه، إلا أن العاطفة مهما أحيطت بسياج عقلي ستبقى متحفزة إلى التعاطي مع ردود الأفعال ونقولات القيل والقال في رسم تصوراتنا وتشكيل انطباعاتنا عن الآخرين، وكثيرون منا ــ دون شك ــ تعرضوا إلى العبارات والمواقف الأشهر في العلاقات الإنسانية حين يقول أحدهم في محيط العمل أو الدراسة «أنا لم أتوقعك هكذا، قالوا لي عنك كذا وكذا، ياليتني عرفتك من زمان...».
هناك من يستمد قوة حضوره الاجتماعي من مفاهيم «الخصومة»، وتظهر عقدته من خلال الاختلاق والتقول والكذب على شريحة الخصوم، ويجتهد ناشرا بين الناس «صكوك» أحكامه على الآخرين، ويستعير مهام موظف التسويق الذي يعرض مدائح منتجه وسلبيات منتجات الآخرين، ويبهرها بالمواد الدعائية و«حلو» الكلام؛ لتبتاع سلعته ويخرج منك بنسبته، لكن ثمة فرق شاسع بين هذا المسوق وبين «فجرة» الخصومة، هذا يبيعك ما تمسك به وما تراه، لكن الآخر يبيعك الكلام ليضرب على أوتار مشاعرك.
إن التدافع والتراغم بين فئات البشر سنة من سنن الله الكونية، ولو كان كل خلاف أو اختلاف بين الآخرين بمثابة «الصك» لتحريض الأتباع والمريدين والمتعاطفين على الطرد والإبعاد لمن اختلف عنا أو اختلفنا معه، فهذه ــ لعمري ــ حيلة العاجزين، وتدفعنا إلى التأمل في مسارات «عقلنا الجمعي» الذي تتراكم فيه نصوص ومواقف عبر التاريخ تؤكد على احترام القيمة الإنسانية وإن اختلف البشر فكيف إن كان المختلف معنا «مسلما»، ضربنا لأجل الاختلاف معه مبادئ القيم وخضعنا آكلين في لحمه ونقل ما يقال عنه، ولم نسأل أنفسنا حين «يقظة»: هل قرأنا له أو ناقشناه بدلا من الاستعانة بمن يقرأ عنا!.
إنه أمر يبعث على الأسى والحزن من تغلغل «المرتزقة» في عقلنا الجمعي، واستقوائها بنشر العداء للآخرين، تارة باسم الدين وأخرى باسم المجتمع، لتصبح «قنطرتهم» هي معيار القبول أو الرفض إن لم تتجاوزه إلى الشتم والإيذاء.
استدراك: صادف هذا المقال خبر فقدنا للمفكر المغربي الفذ محمد عابد الجابري، الذي أشبع كثيرا من قضايا التراث تمحيصا وبناء ونقدا، وأثرى ثقافتنا الحديثة بسلسلة من المؤلفات التي شكلت معالم منهجه النقدي، وكم يعتصرني الألم وأنا أقرأ لمرتزقة العاطفة وهم يتناقلون خبر وفاته بصيغة «الهلاك» والبشارة برحيله والدعاء عليه، وأجزم أن واحدا منهم ما فك حرفا من حروف الراحل، وعقم عن إدراكها.