منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By خالدالسمحان81
#56584
اربعون عاماً من الوحشية: مقالة عن غزة

كان آفي شلايم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، قد خدم في الجيش الإسرائيلي وكتب كثيراً عن الكيان اليهودي دون أن يستنطق شرعية الدولة. لكن الاعتداء الهمجي الراهن على غزة قاده هذه المرة إلى استنتاجات مذهلة.

آفي شلايم – (الغارديان) -مقالة عن غزة -جريدة الغد

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

ربما تتأتى الطريقة الوحيدة لفهم حرب إسرائيل الحالية وغير المنطقية على قطاع غزة من خلال فهم السياق التاريخي للصراع. منذ البدء، انطوى خلق دولة إسرائيل في شهر نيسان-أبريل عام 1948 على إيقاع ظلم مشهدي بالفلسطينيين، وقد شعر المسؤولون البريطانيون بالمرارة وبالأسى من نجوم الشراكة الأميركية التي باتت تتحدث باسم الدولة الوليدة. وفي 2 حزيران-يونيو عام 1948، كتب السير جون تراوتبيك إلى وزير الخارجية الأميركي إيرنيست بيفن قائلاً إن الأميركيين كانوا مسؤوليين عن خلق دولة من رجال العصابات، والتي ترأسها مجموعة "معدومة تماماً من الضمير". وعلى أنني اعتدت التفكير بهذا الحكم على أنه كان بالغ القسوة، إلا أن عدوان إسرائيل الوحشي الراهن على غزة، ومصادقة إدارة بوش على هذا العدوان، أعادت بالضرورة طرح السؤال.

إنني أكتب بوصفي شخصاً كان خدم بكل ولاء وإخلاص في الجيش الإسرائيلي في أواسط الستينيات، والذي لم يسبق له أن استنطق أبداً مشروعية دولة إسرائيل في داخل حدودها السابقة لعام 1967. لكن الذي أرفضه تماماً هو المشروع الكولنيالي الصهيوني فيما وراء الخط الأخضر. إن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في أعقاب حرب حزيران-يونيو 1967 كان له قليل صلة بالأمن، وكل الصلة بالنزعة التوسعية في الأراضي. وكان الهدف هو خلق "إسرائيل الكبرى" عبر إنجاز سيطرة سياسية وعسكرية واقتصادية دائمة على المناطق الفلسطينية. وكانت النتيجة واحداً من أكثر الاحتلالات العسكرية الوحشية دواماً وطولاً في العصور الحديثة.

أوقعت أربعة عقود من السيطرة الإسرائيلية أضراراً لا حصر لها باقتصاد قطاع غزة. بعدد هائل من السكان اللاجئين الذين لجأوا إليها عام 1948، والمحتشدين في قطاع صغير من الأرض، ومن دون بنية تحتية ولا مصادر طبيعية، لم تكن آفاق غزة مشرقة أبداً. ومع ذلك، لا تشكل غزة ببساطة قضية اقتصاد غير متطور، وإنما قضية وحشية على نحو متفرد من المنع الدؤوب للتطور. وباستخدام التعبير التوراتي، حولت إسرائيل سكان غزة إلى حطابين وسقائي مياه، إلى نوع من العمالة الرخيصة وسوق ظل أسير السلع الإسرائيلية. وقد تم إنهاك الصناعة المحلية بدأب حتى يصبح من المستحيل على الفلسطينيين أن يتخلصوا من تبعيتهم لإسرائيل وأن يخلقوا الاقتصاد الذي يعتبر بالغ الأساسية لخلق استقلال سياسي حقيقي.

تظل غزة حالة كلاسيكية للاستغلال الاستعماري في حقبة ما بعد الكولنيالية. فيما تظل المستعمرات اليهودية في المناطق المحتلة غير أخلاقية، غير قانونية وعقبة عصية على التجاوز في الطريق إلى السلام. إنها تشكل في الوقت نفسه أداة للاستغلال ورمزاً للاحتلال المكروه. وفي غزة، وصل عدد المستوطنين اليهود في عام 2005 إلى 8 آلاف في مقابل 1.4 مليون من السكان المحليين. ومع ذلك سيطرت المستعمرات على 25% من الأراضي، و40% من الأرض الصالحة للاستغلال، وحصة الأسد من مصادر المياه الشحيحة أصلاً. وتماماً إلى جوار هؤلاء المتطفلين الغرباء، عاشت أغلبية السكان المحليين في وضع من الفقر المدقع والبؤس الذي يفوق التخيل. وما يزال 80% منهم يعيشون على دخول تقل عن دولارين في اليوم. وتبقى ظروف العيش في القطاع إهانة للقيم المتحضرة، ومحرضاً قوياً على المقاومة، وأرضاً خصبة لترعرع التطرف السياسي.

في شهر آب (أغسطس) من عام 2005، أجرت حكومة الليكود بزعامة آرئيل شارون انسحاباً إسرائيلياً أحادي الجانب من غزة، ساحبة كافة المستوطنين الثمانية آلاف ومدمرة المنازل والمزارع التي خلفوها وراءهم. وكانت حماس، حركة المقاومة الإسلامية، قد نفذت حملة فعالة لإخراج الإسرائيليين من غزة. وقد شكل الانسحاب إهانة للجيش الإسرائيلي. وقدم شارون الانسحاب من غزة إلى العالم على أنه إسهام في عملية السلام القائم على حل الدولتين. لكن 12.000 إسرائيلي آخرين استوطنوا خلال السنة التالية في الضفة الغربية، مضيقين أكثر من أفق قيام دولة فلسطينية مستقلة. إن سلب الأرض وصناعة السلام يظلان أمرين غير متساوقين بكل بساطة. وكانت إسرائيل تمتلك الخيار، لكنها اختارت الأرض بدل أن تختار السلام.

كان الهدف الرئيس وراء الخطوة إذن هو إعادة رسم حدود "إسرائيل الكبرى" من جانب واحد عن طريق ضم الكتل الاستيطانية الرئيسية في الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل. وبهذا، لم يكن الانسحاب من غزة استهلالاً لصفقة سلام مع السلطة الفلسطينية، وإنما كان مقدمة للمزيد من التوسع الصهيوني في الضفة الغربية. كان خطوة إسرائيلية أحادية الجانب في إطار ما نظر إليه، خطأ من وجهة نظري، على أنه مصلحة إسرائيلية وطنية. ولأنه يجد أصوله الراسخة في رفض أصولي للهوية الوطنية الفلسطينية، كان الانسحاب من غزة جزءاً من جهد طويل الأمد يرمي إلى حرمان الشعب الفلسطيني من أي وجود سياسي مستقل على أرضه.

لقد تم سحب المستوطنين الإسرائيليين، لكن الجنود الإسرائيليين استمروا في السيطرة على كل مداخل قطاع غزة من البر والبحر والجو. وتحولت غزة بين عشية وضحاها إلى سجن في الفضاء المفتوح. ومن هذا الموقف، تمتع سلاح الجو الإسرائيلي بحرية غير محدودة في إسقاط القنابل، وصناعة الصخب المريع عن طريق الطيران الخفيض وكسر حاجز الصوت، وفي إرهاب سكان هذا السجن الذين بلا حول.

تحب إسرائيل أن تصور نفسها على أنها واحة وجزيرة للديمقراطية في بحر من الأحدية والتسلط. ومع ذلك، لم تفعل إسرائيل أبداً طوال كامل تاريخها أي شيء يعزز الديمقراطية في الجانب العربي، وإنما فعلت الكثير والكثير جداً من أجل إجهاضها. إن لإسرائيل تاريخاً طويلاً من التعاون السري مع الأنظمة العربية الرجعية لقمع النزعة الفلسطينية القومية. ورغم كافة المعوقات، نجح الشعب الفلسطيني في بناء الديمقراطية الوحيدة الأصيلة في العالم العربي، مع إمكانية استثناء لبنان. وفي شهر كانون الثاني (يناير) عام 2006، جلبت انتخابات حرة وعادلة للمجلس التشريعي والسلطة الفلسطينية إلى سدة السلطة حكومة تقودها حماس. ومع ذلك، رفضت إسرائيل الاعتراف بالحكومة المنتخبة ديمقراطياً، زاعمة بأن حماس إنما هي ببساطة ووضوح مجرد منظمة إرهابية.

من دون خجل، عمدت أميركا والاتحاد الأوروبي إلى الانضمام لإسرائيل في عزل وإسباغ سمة الشيطان على حكومة حماس، وحاولوا إسقاطها عن طريق احتجاز عوائد الضرائب والمساعدات الأجنبية. وهكذا تطور وضع سوريالي غرائبي فيما كان جزء يعتد به من المجتمع الدولي يفرض عقوبات اقتصادية، ليس على الطرف الذي يمارس الاحتلال، وإنما ضد الطرف الخاضع للاحتلال. وليس ضد الذي يمارس الاضطهاد، وإنما ضد الخاضع للاضطهاد.

كما يكون الأمر عادة في التاريخ الفلسطيني المأسوي، تم لوم الضحايا على التسبب في سوء أقدارهم. وكررت آلة الدعاية الصهيونية دون كلل فكرة أن الفلسطينيين هم إرهابيون، وأنهم يرفضون التعايش مع الدولة اليهودية، وأن نزعتهم القومية إنما تتجاوز معاداة السامية، وأن حماس ليست سوى حفنة من الجانحين المتدينين المتشددين، وأن الإسلام دين غير قابل للتواؤم مع الديمقراطية. لكن الحقيقة البسيطة هي أن الشعب الفلسطيني هو شعب طبيعي ذو تطلعات طبيعية. إنهم ليسوا أفضل، ولكنهم ليسو أسوأ من أي جماعة قومية أخرى. إن ما تطلعون إليه، فوق كل شيء، هو قطعة من الأرض التي يستطيعون القول إنها وطنهم، والتي يعيشون عليها بحرية وكرامة.

مثل الحركات الراديكالية الأخرى، شرعت حماس بتخفيف حدة برنامجها السياسي عقب توليها السلطة. فمن النزعة الرفضوية الأيديولوجية التي يتضمنها ميثاقها، شرعت بالتحرك نحو نوع من التكيف البراغماتي مع فكرة حل الدولتين. وفي شهر آذار (مارس) عام 2007، شكلت حماس وفتح حكومة وحدة وطنية كانت جاهزة للتفاوض على وقف طويل الأمد لإطلاق النار مع إسرائيل. لكن إسرائيل، مع ذلك، رفضت التفاوض مع حكومة تضم حماس.

استمرت إسرائيل في ممارسة اللعبة القديمة القائمة على فكرة "فرق تسد" مع الفصائل الفلسطينية. ففي أواخر الثمانينيات، كانت إسرائيل قد دعمت حركة حماس الناشئة من أجل إضعاف فتح، الحركة القومية العلمانية التي يقودها ياسر عرفات. والآن، شرعت إسرائيل بتشجيع قادة فتح الفاسدين والطيعين على الإطاحة بمنافسيهم من الساسة المتدينين وإعادة الإمساك بزمام السلطة. وشارك المحافظون الجدد الأميركيون العدائيون في المؤامرة الدنيئة من أجل إشعال حرب أهلية فلسطينية. وقد شكل تدخلهم عاملاً رئيسياً في انهيار حكومة الوحدة الوطنية وفي دفع حماس إلى الاستيلاء على السلطة في غزة في شهر حزيران-يونيو عام 2007 من أجل استباق وإجهاض انقلاب فتح.

كانت الحرب التي أطلقتها إسرائيل على غزة يوم 27 كانون الأول (ديسمبر) هي حصيلة تراكم سلسلة من الصدامات والمواجهات مع حكومة حماس. لكنها تبقى بالمعنى الأوسع، مع ذلك، حرباً بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، لأن الشعب هو الذي كان قد انتخب الحركة (حماس) وأوصلها إلى السلطة. وفي حين كان الهدف المعلن للحرب هو إضعاف حماس وتكثيف الضغط على قادتها من أجل الموافقة على وقف لإطلاق النار وفق الشروط الإسرائيلية، فإن الهدف غير المعلن لها هو ضمان أن يرى العالم إلى سكان غزة ببساطة على أنهم مشكلة إنسانية، وبالتالي إجهاض نضالهم من أجل الاستقلال والدولة.

كان توقيت الحرب قد تحدد وفق الشروط والمصالح السياسية. ثمة انتخابات عامة من المقرر أن تجري في العاشر من شباط (فبراير) القادم. وفي الطريق إلى تلك الانتخابات، يبحث كافة المتنافسين عن فرصة لإثبات صلابتهم. يريد كبار ضباط الجيش صناعة بطولات عن طريق توجيه ضربة ساحقة إلى حماس من أجل غسل لطخة العار التي لحقت بسمعتهم بسبب فشل الحرب ضد حزب الله في لبنان خلال تموز (يوليو) عام 2006. ويمكن لقادة إسرائيل المتشككين والخائفين بدورهم أن يعتمدوا على وهن وعجز الأنظمة العربية الموالية للغرب، وعلى الدعم الأعمى للرئيس بوش في فترة أفول رئاسته في البيت الأبيض. وقد التزم بوش سلفاً بإلقاء كامل اللوم في إثارة الأزمة على حماس، ناقضاً (باستخدام الفيتو) كافة اقتراحات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أجل وقف فوري لإطلاق النار، ومانحاً لإسرائيل شيكاً على بياض لتصعيد غزوها البري لغزة.

كما دائماً، تزعم إسرائيل القوية بأنها هي ضحية الاعتداءات الفلسطينية، لكن طبيعة توازن القوى الواضح بين الجانبين يترك القليل من المتسع للشك بمن هي الضحية الحقيقية. إن هذا الصراع في حقيقة الأمر إنما هو صراع بين داود وجوليات، لكن الصورة التوراتية قد جرى عكسها –ثمة داود فلسطيني صغير وأعزل في مواجهة جوليات إسرائيلي ثقيل السلاح، عديم الشفقة وبالغ القوة. ويترافق اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية الوحشية، كما هو الحال دائماً، مع خطابة عريضة عن دور الضحية وخليط مضطرب من الرثاء للذات المثقل بالأحقية الأخلاقية وصواب الرأي. في العبرية يعرف هذا بمتلازمة "بوخيم في-يوريم" أي "البكاء وإطلاق الرصاص".

لا شك في أن حماس ليست فريقاً بريئاً تماماً في هذه الأزمة. فعندما وجدت نفسها محرومة من جني ثمار انتصارها الانتخابي وفي مواجهة عدائية شرسة، لجأت إلى سلاح الضعيف –الإرهاب. واستمر مسلحون من حماس والجهاد الإسلامي بشن هجمات بصواريخ القسام على المستوطنات الإسرائيلية قرب حدود غزة حتى قامت مصر بالتوسط في إقرار هدنة لمدة ستة أشهر في شهر حزيران-يونيو الماضي. وعلى أن الضرر الذي أحدثته تلك الصواريخ البدائية كان محدوداً جداً، إلا أن تأثيرها النفسي كان هائلاً، دافعاً بالجمهور إلى مطالبة الحكومة الإسرائيلية بتوفير الحماية. وفي ظل هذه الظروف، أصبح لإسرائيل الحق في التصرف دفاعاً عن النفس، لكن ردة فعلها على الوخز الخفيف الذي لا يذكر لهجمات الصواريخ كان غير متناسب جملة وتفصيلاً. وتتحدث الأرقام في هذا الصدد عن نفسها. في السنوات الثلاث التي أعقبت الانسحاب من غزة، قتل 11 إسرائيلياً بنار الصواريخ. وعلى الجهة الأخرى، وفي الفترة ما بين عامي 2005-2007 وحدها، قتل الجيش الإسرائيلي حوالي 1.290 فلسطينياً في غزة، بمن فيهم 222 طفلاً.

كيفما كانت الأرقام، يظل قتل المدنيين عملاً خاطئاً. وتنطبق هذه الحقيقة على إسرائيل بقدر ما تنطبق على حماس، غير أن كامل سجل إسرائيل يظل سجلاً من الوحشية غير المنضبطة والمنفلتة من عقالها ضد سكان غزة. وقد أبقت إسرائيل أيضاً إغلاقها على غزة بعد أن وضع اتفاق وقف إطلاق النار موضع التنفيذ، وهو ما ارتقى، حسب وجهة نظر قادة حماس، إلى حد انتهاك الاتفاقية. وخلال فترة الهدنة، منعت إسرائيل أي صادرات من مغادرة القطاع في خرق واضح لتوافق عام 2005، وهو ما أفضى إلى انخفاض حاد في فرص العمل. وتقول الأرقام الرسمية إن 49.0% من السكان يعانون من البطالة. وفي الوقت نفسه، حدت إسرائيل بشكل جذري من عدد الشاحنات التي تحمل الغذاء والوقود واسطوانات الغاز اللازمة للطبخ، وقطع الغيار اللازمة لمحطات المياه والتصريف الصحي، وكذلك الإمدادات الطبية إلى غزة. ولعل من الصعب رؤية الكيفية التي يعمل بها تجويع وتجميد سكان غزة من البرد على حماية الناس في الجانب الإسرائيلي من الحدود. لكنه حتى لو فعل، فإنه سيظل مع ذلك فعلاً غير أخلاقي، وشكلاً من العقاب الجماعي المحظور بصرامة في القانون الدولي الإنساني.

إن وحشية الجنود الإسرائيليين تتوافق تماماً مع صلافة وكذب الناطقين باسمه. فقبل ثمانية أشهر من إطلاق الحرب الراهنة على غزة، أنشأت إسرائيل "دائرة إعلام وطنية". وكانت الرسائل الجوهرية التي قدمتها هذه الدائرة لوسائل الإعلام هي أن حماس قد خرقت اتفاقيات وقف إطلاق النار؛ وأن أهداف إسرائيل هي الدفاع عن سكانها؛ وأن القوات الإسرائيلية تتوخى بالغ الحذر إزاء عدم إلحاق الأذى بالمدنيين الأبرياء. وكان صناع قلب الحقائق في إسرائيل ناجحين على نحو لا يصدق في تمرير هذه الرسالة. ولكن دعايتهم كانت، من حيث الجوهر، محض حزمة من الأكاذيب.

ثمة فجوة عريضة تفصل ما بين حقيقة التصرفات الإسرائيلية وبين خطابة الناطقين باسمها. إنها لم تكن حماس التي خرقت الهدنة وإنما كان الجيش الإسرائيلي هو الذي فعل. لقد فعل ذلك بشن غارة على غزة في الرابع من تشرين الثاني (نوفمبر)، والتي قتل فيها 6 من عناصر حماس. كما أن هدف إسرائيل لا يقتصر فقط على الدفاع عن سكانها، وإنما الإقصاء النهائي لحكومة حماس في غزة عن طريق قلب السكان على حكامهم. وبعيداً عن الاهتمام بالحفاظ على أرواح المدنيين، تظل إسرائيل مذنبة بجريمة القصف من دون تمييز، وبفرض حصار طال ثلاث سنوات، والذي جلب على سكان غزة البالغ عددهم الآن 1.5 مليون نسمة، إلى حافة كارثة إنسانية.

إن المقولة التوراتية عن العين بالعين تظل وحشية بما يكفي. لكن اعتداء إسرائيل المجنون على غزة يبدو وأنه يتبع منطق العين بالرمش. بعد 8 أيام من القصف، وبحصيلة موت بلغت 400 فلسطيني مقابل 4 إسرائيليين، أمرت عصابة مجلس الوزراء بشن هجوم بري على غزة، والذي ستكون تبعاته عصية على الحصر.

لن يكون بوسع أي حجم من التصعيد الإسرائيلي أن يشتري لإسرائيل الحصانة من هجمات الصواريخ التي يطلقها الجناح العسكري لحماس. وعلى الرغم من حصيلة الموت والدمار التي أوقعتها إسرائيل بهم، فقد تمسكوا بمقاومتهم وأداموها واستمروا في إطلاق الصواريخ. إننا أمام حركة تمجد التضحية والشهادة. وليس هناك ببساطة أي حل عسكري للصراع بين المجتمعين. إن المشكلة في الفهم الإسرائيلي للأمن هي أنها تنكر على المجتمع الآخر حتى الحد الأدنى الأساسي من الأمن. ولعل الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها إسرائيل تحقيق الأمن لا تمر عبر إطلاق النار، وإنما عبر إجراء حوار مع حماس، والتي كانت أعلنت تكراراً استعدادها للتفاوض على هدنة طويلة الأمد مع الدولة اليهودية الواقعة ضمن حدودها قبل عام 1967، ولمدى 20، 30، بل وحتى 50 سنة. وقد رفضت إسرائيل هذا العرض لنفس السبب الذي رفضت به مبادرة السلام العربية عام 2002، والتي ما تزال مطروحة على المائدة: إنه ينطوي على تنازلات وتسويات.

تجعل هذه المراجعة الموجزة لسجل إسرائيل طوال أربعة عقود من الصعب مقاومة الاستنتاج بأنها قد أصبحت دولة مارقة تحكمها "جماعة فاقدة كلية للضمير". والدولة المارقة عادة ما تنتهك القانون الدولي، وتمتلك أسلحة الدمار الشامل، وتمارس الإرهاب –واستخدام العنف ضد المدنيين من أجل تحقيق غايات سياسية. وتفي إسرائيل بكل هذه السمات الثلاث؛ ذلك أن القبعة على مقاس الرأس وينبغي أن ترتديها. إن هدف إسرائيل الأساسي ليس هو التعايش السلمي مع جيرانها الفلسطينيين، وإنما إدامة الهيمنة العسكرية. وهي تستمر بزيادة كم أخطائها السابقة بإضافة أخرى جديدة أكثر كارثية. ويظل الساسة أحراراً بالطبع، مثل كل الآخرين، في تكرار أكاذيب الماضي وأخطائه، ولو أن ذلك يظل غير ملزم.

* آفي شلايم: أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، ومؤلف كتاب "الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي وأسد الأردن: حياة الملك حسين في الحرب والسلام".

Leftouts

كانت للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في أعقاب حرب حزيران (يونيو) 1967 قليل صلة بالأمن، وكل الصلة بالنزعة التوسعية في الأراضي.

إن المقولة التوراتية عن العين بالعين تظل وحشية بما يكفي. لكن اعتداء إسرائيل المجنون على غزة يبدو وأنه يتبع منطق العين بالرمش.

لم تكن حماس هي التي خرقت الهدنة، وإنما كان الجيش الإسرائيلي هو الذي فعل. وقد فعل ذلك بشن غارة على غزة في الرابع من تشرين الثاني(نوفمبر) الماضي.

تجعل هذه المراجعة الموجزة لسجل دولة إسرائيل طوال أربعة عقود من الصعب مقاومة الاستنتاج بأنها قد أصبحت دولة مارقة تحكمها "جماعة فاقدة كلية للضمير"