منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

#13156
سياسات عشوائية في مواجهة
العشوائيات المصرية
د. محمد حلمي عبدالوهاب
في تصريح له ينم عن الضحالة السياسية، كما العادة في تصريحاته الأخرى، أعلن أحمد نظيف رئيس الوزراء المصري، وفي معرض حديثه عن قانون البناء الموحد، «أن العشوائيات في العالم تتكون من عشش صفيح، أما في مصر، فمن إسمنت وخرسانة»! وفي الواقع، فإن مشكلة العشوائيات في مصر، لاتزال تتفاقم بشدة. وسواء كانت مبنية من الصفيح أم من الأسمنت والخرسانة فإن هذا لا يغير من الوضع في شيء، بل على العكس تماما إنه يزيد أوضاعها سوءا لأنه يتطلب تحمل أعباء كثيرة من أجل إزالتها، ليس فقط فيما يتعلق بتكلفة الهدم وإنما أيضا فيما يتعلق بالقيمة المهدرة التي يتم هدمها.

وبما أن نظام مبارك لم يول مثل هذه المناطق أدنى درجة من العناية وانصرف كليةً لتيسير حياة الشرائح العليا من المجتمع المصري، ارتفعت هذه المناطق لتصل إلى 1005 مناطق بحلول العام 1999.

وفيما كانت الحقبة الناصرية تعلن انحيازها للطبقات المهمشة ومصلحة الأغلبية العظمى من السكان، أدى الانفتاح الاقتصادي إبان عصر السادات إلى حدوث تأثيرات كبيرة على الاهتمام بالشرائح الدنيا من المجتمع المصري وصولا إلى الانتكاسة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في عهد مبارك، راعي نهضة مصر الحديثة كما يقال!

فقد اتسمت السياسات الحكومية الخاصة بقطاع الإسكان خلال الثلاثين عاما الماضية بالانسحاب التدريجي للدولة، سواء فيما يتعلق بإضفاء حمايتها على المستأجرين، الفئة الأكثر ضعفا في العلاقة التجارية، أو في مجال الإنفاق المالي وبناء وحدات سكنية لمحدودي الدخل.

وتبعا لذلك، كان لجوء المواطنين لسكن العشوائيات نتيجة حتمية وحلا أهليا لتخلي النظام عنهم. خاصة، أن اهتمامه فجأة بهذه المشكلة، خلال التسعينيات من القرن الماضي، إنما كان لدواع أمنية ليس إلا! وذلك عقب قيام إحدى الجماعات الإسلامية بإدارة حكم منطقة إمبابة بالقاهرة وتسيير أمورها بعيدا عن أجهزة الدولة، وهو ما اصطلح عليه إعلاميا آنذاك باسم «جمهورية إمبابة»! أضف إلى ذلك، الغياب المطلق للتخطيط الاستراتيجي المسبق لحل هذه الوضعية اللاإنسانية بالمرة.

وعلى المستوى التشريعي، لم تعرف الوثائق الدستورية المصرية، ومنذ وثيقة السيستانامة عام 1839 وحتى دستور ثورة يوليو الأول عام 1956، ما يسمى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، باستثناء المادتين رقم 19 و21 من دستور 1923، والذي لم يمنح الفقراء والفلاحين والطبقات الشعبية المهمشة حقوقهم الاقتصادية وبما يكفل لهم حدا أدنى من الحياة الكريمة، رغم أنهم كانوا وقود الثورة وحطبها.

أما دستور سنة 1956، فقد تضمن قرابة 36 مادة من أصل 195 تتعلق جميعها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، كالحق في التعليم والسكن والرعاية الصحية والتضامن الاجتماعي...إلخ، والتي تكررت بدورها في كافة دساتير النظم العسكرية 1964 و1971 وحتى يومنا هذا. وقد ترتب على إقرار مثل هذه الحقوق من الناحية الدستورية سن العشرات من القوانين والقرارات التنفيذية بغية تحقيق وتنفيذ هذا الإلزام الدستوري، حيث شهدت حقبة ما بعد قيام ثورة يوليو 1952 سن العديد من القوانين الناظمة للعلاقات الإيجارية في مجال السكن، كالقانون رقم 46 لسنة 1962، ورقم 169 لسنة 1961، ورقم 52 لسنة 1969، وذلك بهدف تحقيق التوازن المطلوب في سوق العقارات وحماية المستأجرين من تغول الملاك وجشعهم.

وبفرض هذه القوانين الصارمة نسبيا، إضافة إلى تحيّز الدولة الناصرية ووقوفها إلى جانب المستضعفين، ومع تدخل أكثر اتساعا في استيلاء الدولة على فوائض الأموال لدى الطبقات العليا من الملاك والتجار طوال الفترة من 1957 حتى 1973، انسحب القطاع الرأسمالي من الاستثمار التدريجي في مجال العقارات وحلت الدولة محله فبنت عشرات الآلاف من الوحدات السكنية للعمال والموظفين.

وكان من الممكن أن تحافظ الدولة المصرية على مثل هذا التوازن بين معدلات النمو السكاني من جهة ومعدلات استثمارها في الفضاء العقاري من جهة ثانية، ولو ضمن حدوده الدنيا، لولا حدوث العدوان الإسرائيلي في الخامس من يونيه عام 1967، والذي أخل بكافة التوازنات الاقتصادية والاجتماعية وقتذاك.

يقصد بمصطلح الإسكان العشوائي التجمعات السكانية التي أقامها الأهالي من تلقاء أنفسهم دونما تنسيق أو تخطيط بعضهم مع بعض، أو مع أية أجهزة حكومية. ويمثل هذا الشكل من أشكال السكن العشوائي النمط الغالب منذ منتصف السبعينيات وحتى يومنا هذا. وإلى جانبه نصادف كلا من إسكان الإيواء، ويقصد به الوحدات التي تنشئها المحافظات المختلفة لإيواء الأسر التي انهارت منازلها بحكم الزلازل أو تهالكها. وسكنى العشش والمقابر...إلخ.

ووفقا لتقرير مجلس الشورى المصري، يطلق الإسكان العشوائي على «مناطق محرومة من الخدمات الأساسية، وهي عبارة عن تجمعات سكانية غير مخططة تنتشر فيها الأمراض المستعصية والبطالة وانخفاض مستوى المعيشة وشيوع ظاهرة الحقد الاجتماعي». أي أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من الحياة الإنسانية الكريمة، حيث يندر وجود شبكات للمياه أو حتى الكهرباء والصرف الصحي بطبيعة الحال! فقد أسفرت الآثار المتراكمة لعوامل عدة عن وجود مشكلة إسكان مزمنة في مصر امتد عمرها لعدة عقود. ومن هذه العوامل: عجز دخول الأسر عن الوفاء بقيمة المسكن، والهجرة المتزايدة من الريف إلى الحضر، وارتفاع أسعار البناء. فضلا عن الانسحاب التدريجي للدولة من هذا المجال. وللأسف الشديد لا تبدو في الأفق القريب، ولا حتى البعيد، بوادر ومؤشرات تدل على قرب أو انحسار المشكلة، بل على العكس تماما تتفاقم المشكلة يوما بعد يوم.

ففيما كانت العشوائيات قديما تنتشر على هامش المدن، تتمتع القاهرة، دون أية عاصمة عربية أخرى، بتزاوج شاذ وغريب بين السكن العصري والعشوائي. فخلف منطقة ماسبيرو الشهيرة، والتي تضم كلا من وزارتي الإعلام والخارجية والفنادق المطلة على النيل مباشرة، هناك أكثر من عشر مناطق عشوائية من بين 81 منطقة على مستوى القاهرة.

وفي كل أولئك، تتضارب البيانات حول عدد المواطنين الذين يقطنون العشوائيات ما بين 5,7 ملايين نسمة حسب أرقام جهاز الإحصاء لعام 2002، وسبعة ملايين، و18 مليونا حسب مصادر أخرى! كما أشار تقرير وزارة التنمية المحلية لعام 2007 إلى أن إجمالي عدد المناطق العشوائية قد بلغ 1221 منطقة موزعة على 24 محافظة و181 مدينة من بين إجمالي 220 مدينة، وبما يعادل نسبة 82 في المائة من إجمالي عدد المدن المصرية!

ومع انسحاب الحكومة من الاهتمام بهذا المجال، بدأ العمل الأهلي في الظهور تدريجيا حيث قام نفر من أساتذة العمارة بإنشاء الجمعية المركزية للتكافل السكاني، والتي استهدفت بناء وحدات سكانية بسعر التكلفة للفقراء. إلا أن ظهور جمعية إسكان المستقبل التي يرأسها جمال مبارك استقطبت بدورها كل مساندة حكومية، ما أدى إلى تجميد نشاط الجمعية الأهلية دون أن تقوم الأولى بأدوار الثانية.

كاتب من مصر





: