منتديات الحوار الجامعية السياسية

على مقهى الحياة

المشرفون: عبدالله العجلان،عبد العزيز ناصر الصويغ

By سلطان ال طلحان 81
#56630
الحاكمية ومجالس النواب
ارتبط موضوع "الحاكمية" بفرض تصورات معينة للمجالس النيابية، فقد ذهبت بعض التجمعات الإسلامية إلى رفض وجود المجالس النيابية أصلا، بناء على رفض العملية التشريعية على اعتبار أن الشارع هو الله استنادا إلى الآية (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) [الشورى آية 21]، وما دور الإنسان إلاّ تنفيذ أحكام الشريعة و تلقيها، وذهبت طوائف أخرى إلى رفض مصطلح "المجالس التشريعية"، منعا للالتباس بين النظام الإسلامي وبين النظام "اللا إسلامي" ، وبالتالي: استدعاء أو إبداع مصطلحات أخرى، مثل: مجالس الشورى، مجالس الاجتهاد التشريعي.
بعيداً عن جدل المصطلحات في هذا الشأن، فإنّ الحاكمية لا تتعارض مع العملية التشريعية في الحياة السياسية والمدنية؛ بل على النقيض من ذلك فهي تنبني عليها، ذلك أنّ الاجتهاد أمر ضروري ولازم في كل وقت، سواء في التعامل مع متغيرات العصر و بناء الأحكام الشرعية التي تلائمها، أو في فهم النصوص و الواقع وإنزال النصوص على المسائل.
يضاف إلى ما سبق أنّ النصوص في المسائل السياسية والاقتصادية والإدارية معوزة -كما يقول الجويني- بمعنى أنها نادرة و قليلة، وهذا كله يتطلب عملية تشريعية فاعلة و دؤوبة من قبل المجالس النيابية لتسيير الشؤون العامة في الدولة، بالتالي لا غنى عن الوظيفة التشريعية في الدولة الإسلامية.
وهنا يبرز سؤال آخر: هل مجالس النواب بشكلها الحالي تصلح للقيام بالعملية التشريعية الإسلامية؟
إنّ هذه مسألة يقررها دستور الدولة الإسلامية، إلاّ أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ فقهاء السياسة الإسلاميين قد وضعوا شروطاً لمن يتولى شؤون الحل والعقد (أو أهل الاختيار أو أصحاب الشورى)، حيث اتفق أغلبهم على ثلاثة شروط: الورع، العلم والرأي، العدالة. وهذه الشروط يمكن أن تترجم في واقعنا المعاصر بشكل عملي، وبضبط التعريف الإجرائي لها، وبالتالي الوصول إلى تحديد شروط الأهلية لمن يصل إلى مقاعد البرلمان.
لكن السؤال الآخر: هل يشترط - انطلاقا من مبدأ الحاكمية- أن يكون عضو مجلس النواب قد بلغ درجة الاجتهاد في العلم الشرعي، حتى يستطيع استنباط الحكم الشرعي للمسائل؟
الجواب على ذلك بالنفي، فالدين يقسم في أحكامه العملية التشريعية إلى قسمين : العبادات والمعاملات ، والعبادات قد أكمل رسول الله - صلى الله عليه وسلّم- عملية تشريعها، واعتبر أن أيّة زيادة "إحداث أمر جديد" فيها تعتبر "بدعة"، ولا تجوز شرعاً، وبالتالي فليس موضوع العبادات، وما يرتبط به من الشؤون الدينية المحضة مجالاً للتشريع أو اجتهاد النواب. أما موضوع المعاملات والشؤون الإنسانية فهناك مسائل قطعية لا مجال للمشرع فيها، وهناك مسائل ظنية ينظر فيها إما بإلحاقها بالمسائل القطعية أو الاجتهاد في فهم دلالاتها، وهناك منطقة واسعة من القضايا المستحدثة تدخل في دائرة "مالم يرد فيه نص"، وهذه بحاجة إلى علماء ومتخصصين في ميادينها يقومون بعملية استجلائها و بيانها، ثم وضع القوانين المناسبة لها.
لكن ما الذي يضمن ألاّ تتعارض هذه القوانين مع قطعيات الشريعة ومقاصدها العامّة، هنا نحن أمام عدة خيارات، منها: ما ذهب إليه (رشيد رضا) -رحمه الله- بضرورة وجود عدد من المجتهدين داخل مجلس النواب يقومون بعملية المواءمة بين التشريعات الصادرة وبين أحكام الشريعة الإسلامية، أو وجود لجنة - كما هو الحال في عدد كبير من دول العالم النيابية- تبت في موضوع دستورية القوانين قبل صدورها، وفي الحالة الإسلامية تتشكّل اللجنة من علماء مجتهدين في الشريعة، ولديهم إطلاع على شؤون الحياة المختلفة، تعرض القوانين عليها بعد إقرارها من البرلمان وقبل صدورها، وتبت في مسألة توافقها من عدمه مع الشريعة الإسلامية.
وبذلك نصل إلى تطبيق ممكن وعملي للحاكمية في شؤون السياسة والحكم، ويدفع باتجاه الاجتهاد والتجديد والتطبيق العملي لأحكام الشريعة الإسلامية في أرض الواقع، ويمكننا من الدخول إلى العصر بالإسلام - على حد تعبير (محمد حسين فضل الله)- ، كما أنّه يبعد تهمة الجمود والرجعية عن أحكام الشريعة الإسلامية وقابليتها للتطبيق والنفوذ في حياتنا المعاصرة، كما أننا نصل إلى قراءة عملية موضوعية لمعادلة الأصالة والمعاصرة؛ تلك المعادلة التي أرهقت الأمّة عقوداً طويلة.

الحاكمية و تطور مفهوم الدولة
أحيل في هذا السياق لكتاب الدكتور (هشام جعفر) بعنوان "الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية" -الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي-، ففيه تأصيل للأبعاد السياسية فكرياً وعملياً لمفهوم الحاكمية، من خلال رؤية معرفية تتلمّس وتحلل معاني واشتقاقات الحاكمية في مصادر التنظير الإسلامي، وكيفية تطبيق المفهوم في حياتنا المعاصرة.
لكن ما أود الإشارة العاجلة له هنا هو ما سمّاه (طه علواني) "الدور التحريضي" لمفهوم الحاكمية، حيث إنّ التداول الأكثر للمفهوم منذ اشتقاقه الاصطلاحي المعاصر كان في مواجهة النظم القائمة على أثر الاستقلال القطري، وبداية الصراعات الداخلية على هوية الدولة والمجتمع، والتي أدت إلى عمليات مواجهة كبيرة بين الحركات الإسلامية وبين الأنظمة العربية المعاصرة، والتي أرادت أن تستثني الدين من مناهج الحكم والتوجيه العام في المجتمع، فبرز مفهوم الحاكمية كأداة أيدلوجية فعّالة في مواجهة تلك المرحلة.
أمّا اليوم و قد زالت الأنظمة الشمولية، ووصلت" ثورة الأنفوميديا" إلى مرحلة متقدمة، وبدأت بفعل هذه العوامل السلطة تنسحب من ميادين متعددة وهامة، تاركة المجال للشركات الخاصة ولمؤسسات المجتمع المدني (طبعا مازالت الدول العربية مصرة على الاحتفاظ بدور أمني فعّال في مواجهة المد الشعبي الإسلامي، وحماية لمؤسسات الفساد التي توفر لها دخلاً إضافيا هائلاً، إلاّ أننا يجب أن نستثمر الفرصة في مدافعة الأنظمة وخلق أدوار للمجتمع والأمة من خلال المشاركة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والعمل الاجتماعي الأهلي، .. إلخ)، وبالتالي هنا ضرورة لإعادة قراءة مفهوم الحاكمية وفق التطورات الجديدة، مثلا: بتوجيه هذا المفهوم للاهتمام بالحاكمية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وعدم قصر المفهوم على البعد التحريضي في المواجهة مع الأنظمة، وإنما نطرح على أنفسنا السؤال التالي: كيف يمكن أن نُفعل مبدأ الحاكمية في حياتنا الاقتصادية الخاصة والاجتماعية والثقافية والأهلية ونشاطاتنا المتعددة والمختلفة، مستثمرين فرصة تراجع دور السلطة، وتعاظم دور الأمة في التأثير؟
وهذا يؤدي -في المحصّلة- إلى تفعيل الجهاد العام ثقافياً وسياسياً وفكرياً واجتماعياً ونفسياً واقتصادياً وإعلامياً؛ لإقرار مفهوم الحاكمية في واقع الناس وميادين حياتهم المختلفة.