صفحة 1 من 1

ميكافيلي

مرسل: الأربعاء ديسمبر 12, 2012 9:43 am
بواسطة ماجد الشهراني81
حضي المفكر الإيطالي نيقولو ميكافيلي(Niccolo Machiavelli) اهتماماً كبيراً يستحقه (بتقديرنا) قلما حضي به مفكر آخر (من مفكري العصور الوسطى) في كافة أرجاء العالم وفي ثقافات معظم الأمم.

وكنا قد درسنا أعمال هذا المفكر في مراحل دراسية في إطار مباحث الفكر السياسي الحديث، ولكن فهمنا لهذا المفكر يتطور، مع إدراكنا المغزى الحقيقي للأفكار التي أراد ميكافيلي أن يعبر عنها، الدولة أولاً والدولة ثانيا وثالثاً، وفي سبيل الحفاظ على الدولة وهي برأيه قيمة مادية كبيرة جداً، أباح ميكافيلي للسياسي، للأمير(الحاكم) أو حاشيته من رجال السياسة والإدارة، إدارة مصالح الدولة بالوسائل العقلية، وترك المؤثرات العاطفية جانباً، التي نادراً ما لها وزنها المؤثر في تقرير سمت الأحداث والتطورات، لا سيما تلك الخطيرة منها المؤثرة على مصير الدولة، ويسجل له أنه كان من أوائل المفكرين الذين طالبوا بوضوح، إبعاد المؤسسة الدينية عن الحكم، وكانت مثل هذه الأفكار في تلك القرون، لها عواقبها الوخيمة، وليست نادراً ما أفضت إلى أن يدفع المفكر حياته ثمناً لها.

في البدء كان نظام الحكم هو عبارة عن اتحاد تام بين السلطتين: الروحية، الكنيسة (المعبد) والزمنية، القيصر (الملك) الذي يحكم إما وفق نظرية الحق الإلهي (Devine Right) أو شبه إلهي(َQuasi Divune)، بل ربما هناك من الحكام من يزعم أنه مخول من الله، أو قد حل به روح الله (Inkarnation). ويستند بذلك على ما شاء له من معطيات عقلية، بعضها حيكت بدرجة عالية من المهارة، تمكنت من عقل فئات كثيرة من المجتمعات. بيد أن مرحلة سطوة المعبد(الكنيسة) أنقضت في مسيرة استغرقت قروناً، مقابل تصاعد وبروز السلطة الزمنية المتمثلة بالملوك والقياصرة والأمراء.

وطيلة قرون هيمن على الدولة تحالف بين المعبد والحكم، في سياسة أطلق عليها اتحاد أو تحالف سلطة السيفين(Glasnias): سيف الكنيسة وسيف الملك. ولم تكن الدولة سوى مطية تؤمن مصالح هاتين المؤسستين، فلا أهمية لمؤسسات الدولة ذات الصلة الوثيقة بمصالح الشعب على المدى القريب والبعيد. وكانت المؤسسة الدينية إن تعرضت للضعف، لأي سبب من الأسباب، فذلك يعني طغيان الملك، أو بالعكس إذا كان بدت سلطة الملك واهنة، تبرز وتطغي سلطة المؤسسة الدينية. وكان هناك عبر التاريخ ولأسباب عديدة، ملوك ضعفاء، مقابل مؤسسة دينية تتفاوت قوتها بين مرجعية وأخرى. ودون ريب فإن الأمر لم يكن يجري باتساق متكامل نهائي، بل كانت التيارات التي تهب في هاتين المؤسستين، هي التي تقرر سياسة الدولة في نهاية المطاف، وهي على الأرجح لا علاقة لها بمصالح الدولة.

وفي سبيل لأبعاد هيمنة المؤسسة الدينية، ناضل العلماء على خطين متوازيين:
الأول: هو رفع مستوى وعي الناس وإشاعة أفكار التحرر والأدب والفن، وقبل كل شيئ، نشر المنجزات العلمية والفلكية والجغرافية، فلا شيئ يدحر الظلام سوى الضياء.
الثاني: هو النضال من أجل تقليص الهيمنة السياسية في الحكم، من خلال إضعاف أواصر الثلاثي المهيمن: المؤسسة الدينية ـ الملوك ـ الإقطاع. وعندما تحقق لهم ذلك، تمكنوا من وضع دساتير وجعل الملكيات مقيدة بالدستور.
وقد جازف فلاسفة ومفكرون، بأرواحهم أحياناً، أن يأخذوا على عاتقهم مهمة طرح الأفكار وإنضاجها، فكانوا رموزاً لعصر النهضة (Renaissance) لتفضي أولاً إلى تقليص، دور المؤسسة الدينية، ومن ثم أضعافها وإبعادها في عصور التنوير لاحقاً، والنضال من أجل حكومات دستورية، توجت بالثورة الفرنسية التي أنهت عصر الملكيات، أو الملكيات المطلقة وجعلتها دستورية مقيدة.

وأفكار ميكافيلي، وهنا لا بد أن نؤشر لميكافيلي رهافة وشدة إحساسه وإدراكه لعمق مغزى الدولة، تلك الأفكار كانت بمثابة حزمة ضوء في تلك القرون، ضوء أنطلق ولا سبيل إلى حبسه بل سيتواصل على يد غيره، وصولاً إلى كروشيوس، توماس مور، قادت إلى عصر التنوير (Enlightenmet)، وعلى يد مفكرين أمثال: سبينوزا، جون لوك، مونتسيكيو، فولتير، كانت، ديدرو، روسو.

وهكذا يمكننا أدراك الدور الكبير الذي قام به ميكافيلي، في تطور الفكر السياسي، بل في تطور مفهوم الدولة، وإذا كان قد قرر التصدي لسلطة المؤسسة الدينية، وكان قد أيقن أن لا تقدم جوهري مع هيمنة الكنيسة، فكان لابد له من أن يتعكز في مهمته على السلطة الزمنية، وسيكون من قلة التبصر لو أنه تصدى للمؤسستين في آن واحد. ولإن خشي ميكافيلي على نفسه من السجن والتصفية، (وهو لم يسلم من ذلك في النهاية)، فالنفس البشرية محتوم لها أن يدب الخوف في قلب بعض الأشخاص، ربما في بعض اشد المعارك ضراوة، أو عند إحساسه بأن السيف قد وصل عنقه، فيكون رد فعله الطبيعي، أن يداري خوفه بمدح هذا الحاكم أو ذاك، وهو ما فعله ميكافيلي وأعاب عليه المؤرخون ذلك.

ليس دفاعاً عن ميكافيلي، فعندما هادن هذا المفكر الكبير الأسر القوية الحاكمة في فلورنسا، كان لابد له أن يلجأ إلى قوة الدولة في التصدي لقوة الكنيسة، ثم أنه كان يأمل أن تتم وحدة بلاده إيطاليا على أيديهم، من جهة، وأعتقد أنه بعمله في دبلوماسية الحكومة، عله سيكون في عمله (وهي رؤية لا تخلو من الصواب) ذي فائدة أكثر من ابتعاده في قرية نائية، لن يكون فيها مؤثراً ولو بقدر بوصة على الأحداث، لا عمل له سوى الكتابة، على أمل أن ينصفه التاريخ يوماً، وهي جملة شهيرة أطلقها تروتسكي قبل أن يلفظ أنفاسه (1940) اغتيالاً في المكسيك: سوف ينصفنا التاريخ.

بالطبع هو لم يقل ذلك، ولكني تعمقت في دراسة أعمال ميكافيلي وما كتب عنه، ومطالعاتي الكثيرة عنه، حملتني أن أعدل بعض أرائي عنه، أو قل لعلنا ذقنا لسعة نيران التجربة، فقد أدركت أن ميكافيلي شعر بأهمية الدولة وهو ليس بالفقيه القانوني، ولكنه أدرك أن الدولة جهاز قانوني، ولهذا الجهاز وظيفة هي حماية مصالح الشعب على المدى القريب والبعيد، وهناك وسيلة محترمة للتعبير عن سياسة الدولة وهي: الدبلوماسية، والدبلوماسية ينبغي أن يكون لها جهازها وموظفيها الأكفاء القادرين حقاً على تحقيق مصالح الدولة بالأساليب السياسية، ولا مناص من الاعتراف أن هذا فهم متطور ليس في مقاييس ذلك العصر، بل تصلح حتى لعصرنا الراهن، فغالباً ما يدور الأمر هكذا، أن يربط بعض الحكام ملوك وأمراء، رؤساء، ديكتاتوريين وطغاة، أنظمة لا تقيم وزناً كبيراً لقيمة المواطن وحقوق المواطنة، فمثل هذه الأفكار لن تنال رضا الحكام، أو ليست مفضلة لديهم.

هل نجح ميكافيلي في مساعيه ..؟
نكاد نجزم فنقول أن مساعيه الفكرية كانت باهرة، وليس أدل على ذلك من أن كتبه وآثاره، وبصفة خاصة كتابة (الأمير) يدرس في جامعات العالم كافة، وليس من سياسي محترف(دبلوماسي أو رجل دولة) لم يقرأ هذا الكتاب، بل أن بعضهم يحفظه عن ظهر قلب، وإن انكروا ذلك ..! نعم ناجحة بحيث أن الملوك، والرؤساء لم يعدوا سوى موظفين في الدولة لا يستطيعون مغادرة الفقرة الدستورية التي تمنحهم السلطة قيد أنملة واحدة، والسلطة كل السلطة لممثلي الشعب، ومؤسسات الدولة وفي مقدمتها القضاء.

ولكن من المؤسف حقاً، أن بعض من يقرأ ميكافيلي، لا يذهب أكثر من الحروف المطبوعة أمامه، أي لا يذهب إلى لب الأمر وجوهره، أو يتمسك بالمثاليات، فيتهم حرص ميكافيلي على الدولة بالانتهازية، وخشيته على مصيرها بالنفاق. متجاهلين أن المبدأ الرئيسي عند ميكافيلي (معمقاً لفكر أرسطو في: الدولة أولاً) هو الحفاظ على الدولة، والأمير هو رأس الدولة، أعلنها جهاراً نهاراً دون خشية من الكنيسة، وعلى الرغم من أنه كان متديناً، لكن ليس للكنيسة مكان في فكر ميكافيلي، لذلك حاز على سخطها وغضبها.

وأخيراً، عندما أدرك الأمراء أن ولاء ميكافيلي هو للدولة، وللدولة فقط، أستحق النفي والسجن والإبعاد.

نعم هو كان على استعداد أن يعمل تحت من هم أقل منه ذكاء وكفاءة، ولكنه لم يكن ليقبل أن يصبح مهرجاً في البلاط، لذلك تعرض للنفي أولاً، ثم العزل، فمضى إلى المصير الذي كان يحاول أن يتجنبه: النفي إلى قرية نائية ليفرغ للكتابة وليموت بهدوء وهو في سن 51 سنة.

ضرغام الدباغ


مدخل

نيكولو ميكافيلي (Niccolo 1469 - 1527 Machiavelli) إيطالي، رجل دولة ومؤرخ، إيطالي، ولد في فلورنسا وعاش ما بين عامي – 1469- 1527 لأب كان محامياً متوسط الحال، أشتهر بكتابه الأمير الذي وضعه عام 1532، حصل على وظيفة صغيرة في حكومة فلورنسا، ثم تقدم وتقلب في الوظائف الدبلوماسية ثم أصبح المستشار الثاني للجمهورية.
له خصوم ومعجبين كثيرين، ولكن كتابه (الأمير The Prince) خالد على مر العصور والأزمان، ولم يكن ليدر بخلد نيقولا ميكافيلي، أن كتابه الأمير الذي انتهي من كتابته قبيل وفاته بأربعة عشر سنة في 1532 ميلادية سيصبح أثراً خالداً ومرجعا فكرياً وسياسيا مهما لكل حكومات الدنيا عقب الثورة الصناعية العالمية، وكذلك للحكام وللدبلوماسيين والطلبة والباحثين.
وضع كتاب آخر ولكنه أقل شهرة وأهمية (المطارحات). ميكافيلي وبحسب علماء سياسة كثيرون، أنه أول من وضع الحدود بين علم السياسة وعلم الأخلاق، ولكن جمهرة من المؤرخين يعتبرون أن ميكافيلي انتهازي وأساء للدبلوماسية والسياسة إذ أعتبرها أداة أباح لها استخدام كل شيئ حتى الكذب والدجل من أجل تحقيق مصالح الدولة، واعتبروا، أن شارل مونتسيكيو الفرنسي(1689 ـ 1755 Chales Montesquieu) يتفوق عليه وإليه يعود الفضل في وضع أسس علم السياسة الحديث والدولة في أثره الهام (روح القوانين).