إيران وعامان على ربيع الشعوب العربية
مرسل: الأربعاء ديسمبر 12, 2012 7:42 pm
إيران وعامان على ربيع الشعوب العربية
مواقف للتاريخ
عامان يكادان ينقضيان على ما سُمّي "الربيع العربي"، تلك الكرة الملتهبة بالغضب على الظلم والاستبداد والفساد والتي انطلقت من تونس لتعبر إلى مصر، ثم ما تلبث أن عادت إلى ليبيا. لم تتوقف في أفريقيا العربية، بل عبرت إلى المشرق العربي لتمرّ باليمن، ثم لتحط في سوريا.
تطورات بدأت في أواخر عام 2010، لكنها تطورت وتتطور معها بشكل متسارع ودراماتيكي يكاد يشكل خريطة سياسية واجتماعية جديدة في
المنطقة العربية، ويلقي بظلالها على ما حولها، بل وعلى العالم.
ولأن هذا “الربيع” بدا كحركة ممتدة مساحياً فقد أجبر كل من هو محيط به في أن يكون له موقف، فـ”الربيع العربي” لم يسمح لمن يريد أن يبقى في المنطقة الرمادية بالبقاء فيها، فالحدث فرض اتخاذ الموقف والمواقف في التاريخ كما هي في السياسة لها أثمان، وفيها خسائر وأرباح وهي في ذات الوقت تبقى كامنة في ذاكرة الشعوب. لكن حتى نفهم هذه المواقف يبدو من الضروري إدراك حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن تلك المواقف التي فرضت على متخذيها أن يأخذوها، ليس بالضرورة أن تعكس الحقيقة في ما يشعرون وما يريدون، فهي مواقف فرضتها القراءة الآنية للمصالح المتعلقة بهذا الطرف أو ذلك.
إن أي تغيير سياسي مفاجئ من حيث التوقيت لا يلقى ذلك الإعجاب الذي يتوقع، فالتغيير السياسي فيه تغيير لمياه راكدة ولأعراف وترتيبات سياسية مضى عليها ردح من الزمن عرف أصحابها كيف يديرونها وهي في الغالب معروفة بتأمين المصالح لإطرافها بالشكل الذي يرضي الطرفين، حتى وإن لم يكن ذلك عادلا. التغيير الذي حدث في العالم العربي يكاد يكون قلب الأمور سافلها عاليها، فهو تغيير ارتبط بالقاعدة الشعبية المهمشة، وهو تغيير أتى بنخبة سياسية كانت تتضرر مما كان سائدا وهي حانقة ربما على المستوى الشخصي لما كان يتعرض له الآلاف من الناس من قمع واستبداد. وهو تغيير بمفاهيم بالضرورة تتعارض مع ما كان سائدا من حيث الأولويات وشكل التحالفات ومسار العلاقات. من هنا فهو تغيير قد لا يكون مُرحبا فيه كما تبدو الأمور، لأنه وبعبارة قصيرة، يفرض على الآخر تغييرات قليلة أو كثيرة كانت، فهي مكلفة سياسيا واقتصاديا وهي الضرورة ستبقى محتكمة إلى قدرة مجتمعات ما بعد الثورة على الانتقال من المراحل الانتقالية إلى مراحل الدول المستقرة.
لقد تباينت المواقف المعلنة من أحداث “الربيع العربي” من دولة إلى أخرى، فمن مؤيد مقتنع بحتمية التغيير إلى مشكك في الدوافع واحتمالية النجاح، إلى قلق بشأن المستقبل الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور. في هذا السياق يأتي الحديث عن إيران الدولة الشرق أوسطية غير العربية التي أنهت القرن العشرين بثورة إسلامية على نظام كان يوصف بأنه الأكثر استبدادا في المنطقة. هذه الدولة أسست لما تسميه النظام الإسلامي المستند إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، وسعت باستمرار إلى أن تبقي في ذاكرة الداخل الخارج أن نظامها السياسي ثوري إسلامي، وأنه يدافع عن المستضعفين والمظلومين.
إيران التي مضى على ثورتها ودولة ما بعد الثورة حوالي 33 عاماً، تجد نفسها في مواجهة “تسونامي الربيع العربي”، وهو تسونامي مفاجئ من حيث انتشاره الجغرافي، ومن حيث مطالباته، ومن حيث موقفه من إيران ذاتها.
المواقف الإيرانية ومستويات التحليل
إن أي حالة لفهم وتحليل الموقف الإيراني من “الربيع العربي” يجب أن تستند إلى ثلاثة مستويات من التحليل: الأول: بتركيبة النظام السياسي أو النخبة السياسة الإيرانية خلال الأعوام العشر الماضية. الثاني: متعلق بالمشهد السياسي الداخلي الإيراني. والثالث: متعلق بحركة السياسة الخارجية الإيرانية ومتعلق بالمشهد السياسي الإيراني الداخلي. مستويات لا ينبغي الاعتقاد بوجود فواصل يينها، بل إنها في الحقيقة تتقاطع كثيراً، وهو الأمر الذي يزيد من حجم الإشكالية الفكرية التي يراها البعض حول تحليل الموقف الإيراني.
بالنسبة للنخبة السياسية الإيرانية وعلى رأسها المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية والبرلمان رئيسا وأعضاء وكذلك المؤسسة العسكرية، كانت قراءتهم تركز على مسار واضح وهو أن “الربيع العربي” موجه إلى حد كبير لأنظمة وضعت نفسها في الجانب الأميركي، وهو الأمر الذي أثار غضب شعوبها، من هنا فالترحيب يكاد يكون فريضة
في محاولات فهم الموقف الإيراني كانت السمة الأبرز تصور موقف إيراني واحد، وهو أمر فيه قدر من التضليل، بل أحيانا التحليل الخاطئ، كما أنه في بعض الأوقات تصور أن إيران كل متجانس يعبر عنه صوت واحد هو صوت الحكومة، وهو أيضا مغالطة كبيرة. لهذا كله كان تقديم هذه المستويات في محاولة لتفكيك المشهد السياسي الإيراني لفهم موقفه وفي الغالب مواقفه. بالنسبة للنخبة السياسية الإيرانية والتي أعني بها السياسيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية والبرلمان رئيسا وأعضاء وكذلك المؤسسة العسكرية، كانت قراءتهم تركز على مسار واضح وهو أن “الربيع العربي” موجه إلى حد كبير لأنظمة وضعت نفسها في الجانب الأميركي، وهو الأمر الذي أثار غضب شعوبها، من هنا فالترحيب يكاد يكون فريضة. استجلاب البعد الأميركي له علاقة بالمنهج الإيراني الموجود لدى النخبة السياسية التي تحكم إيران منذ عام 2005، والتي يمكن القول إنها ترى في واشنطن أصل كل خطيئة ومصيبة تحدث لإيران.
استجلاب البعد الأميركي كمحدد للموقف الإيراني من “الربيع العربي” بقدر ما كان يخدم النخبة السياسية في الداخل الإيراني، فهي بذلك تؤكد ما هو مؤكد لها من أن الولايات المتحدة الأميركية هي “الشيطان الأكبر”، ولذلك فهي تدفع بثمن سياساتها في المنطقة. بذلك فهي تذكر الداخل الإيراني بضرورة التحالف مع النخبة التي تعادي واشنطن بالأساس.
لكن هذا الأمر كان له أيضا مخاطرة، فالنخبة السياسية التي كانت تسعى لتأكيد الصورة غير الحسنة لواشنطن وتشكك في شرعية الأنظمة المتحالفة منها، هي في الحقيقة وعبر ثورات “الربيع العربي” تفقد أهم مكون لخطابها المعادي لولايات المتحدة، والذي لن يعود برّاقا كما كان. استحضار الولايات المتحدة في خلفية التصور الإيراني لحركة الربيع، كان المدخل لما حدث من تقييمات إيرانية ومواقف اعتبرت فيما بعد مصلحية ضيقة تريد من خلالها طهران المحافظة على مصالحها، من دون النظر إلى خيارات الشعوب.
اللافت للانتباه في هذا السياق، هو أنه باستجلاب البعد الأميركي، فإن صفة المظلومية التي يرددها الشيعة تنتقل من الشعوب إلى النظام السياسي وبذلك تصبح مسألة تأييده تنسجم مع ثقافة الدفاع عن المظلومين ـ وهنا المقصود النظام السياسي ـ وليس الشعب الذي يحكم من قبل هذا النظام. وقد لوحظ بوضوح أن هذا الموقف لم يستطع أن يثبت خلال العامين الماضيين، بل طاله تغيير متأثرا ببعض الثورات، وتحديدا
الثورة السورية
في المستوى المتعلق بالمشهد السياسي الداخلي الإيراني، فمن الواضح أنه بدا منقسما بطريقة جلية، فالتيار السياسي القريب من النخبة الحاكمة، كان يتبنى خطاب النخبة ويحاول أن يبرره وينشره، سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر المؤسسة الدينية. هذا التيار الديني المحافظ أو ما تفرع منها مما أسميه “المحافظين الجدد”، سعى إلى إبقاء الولايات المتحدة في خلفية المشهد التحليلي لكل ما يحدث. وقد ذهب التحليل إلى تصور أن كل ما يحدث في المنطقة هو مخطط أميركي تساعد بعض بلدان المنطقة في تنفيذه.
في المقابل كان هناك التيار الإصلاحي والحركة الخضراء اللذان لا يتفقان مع النخبة ولا مع التيار السياسي الآخر، إذ يعتبرون أن المسألة برمتها تتعلق بمطالبات الشعوب ورفع الاستبداد، وأن استحضار واشنطن ليس إلا نوعا من تشويه سمعة ما يحدث. وهم يذكرون بأن النخبة السياسية الإيرانية كانت قد ربطت بين اعتراضاتهم في عام 2009 على نتائج الانتخابات العاشرة لرئاسة الجمهورية وبين الولايات المتحدة، مذكرين أن السلطات رأت في حركتهم امتدادا للتحريض الأميركي على نظام الجمهورية الإسلامية. لم يكن صوت الحركة الإصلاحية والحركة الخضراء قويا كصوت النخبة، فالسياسة التي تبنتها الحكومة الإيرانية منذ عام 2009 ـ كما يرى الإصلاحيون – جعلت فرص إيصال صوتهم ضعيفا وأحيانا متأخرا.
في المستوى الثالث كانت حركة السياسية الخارجية هذه نقطة الارتكاز التي يجب أن ينظر إليها. لا يشكنّ أحد أن “الربيع العربي” أصبح يشكل نوعا من التحدي وربما تهديدا للبعض الآخر، لا سيما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. فحركة “الربيع العربي” تفرض تغييرات على ثلاثة أصعدة بالغة الأهمية. الأول: يتعلق بالخطاب السياسي الداخلي لكل دولة شهدت ثورة. الثاني: مرتبط بإعادة تشكيل الهوية السياسية، والثالث: متعلق بالتحالفات السياسية التي ستتبعها كل دولة من دول ذلك الربيع. وهنا يصبح الحديث عن السياسة الخارجية الإيرانية مشروعا.
إن أداء السياسة الخارجية الإيرانية كان في الحقيقة يحاول أن يوازن بين موقف النخبة الحاكمة الذي عرضنا له في بداية المقالة، وبين مواقف تراها إيران مبدئية مثل الدفاع عن الشعوب المظلومة. الأمر الآخر وهو السؤال الكبير عن البعد المذهبي وحضوره في حركة السياسة الخارجية الإيرانية.
حاولت مؤسسة وزارة الخارجية الإيرانية أن تعكس في أوائل أحداث “الربيع العربي” وجهة نظر النخبة السياسية بنوع من الحذر، مما يمكن أن تؤول إليه الأمور لاسيما بعد تدخل الناتو في ليبيا، وبعد النقاش الدولي والخليجي حول تطورات اليمن.
لكن هذا الأمر لم يستمر، فالتطورات المتسارعة في أكثر من بلد لا سيما في ليبيا وفي اليمن والبحرين وسوريا، فرضت على إيران أن تتحرك في دبلوماسيتها، لكنه حركة بطيئة شكلتها محاولة إيران الموازنة ين المواقف الثورية والدفاع عن المظلومين وبين مواقف الدولة التي ترى في التغيرات تحديا سياسيا دبلوماسيا لإيران. من هنا كان التأييد لثورة الليبيين، لكن في ذات الوقت كان الانتقاد الشديد للعملية العسكرية التي قادها الناتو هنا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليمن انتقاد للتدخل الإقليمي والدولي، وهو الأمر الذي امتد للحالتين البحرينية والسورية.
في هذا السياق يبدو أن إيران بدأت تواجه نوعين من التحدي لسياستها الخارجية كنتيجة لتطورات “الربيع العربي”، الأول: مرتبط بما يحدث في تلك الدول وطبيعة النخبة السياسية القادمة، وكيف سيكون موقفها من نظام الجمهورية الإسلامية، والتحدي الثاني مرتبط بظهور منافس إقليمي يبدو جاذبا أكثر وهو تركيا.
هذان التحديان أضافا إلى رصيد تحديات السياسة الخارجية الحاجة الماسة إلى الرد والاستجابة إلى هذين التحديين. لقد كانت إيران تعتقد أن تحديات سياستها الخارجية كانت دائما مرتبطة بالعلاقة المأزومة مع الولايات المتحدة ومع الغرب، وهي مسألة كانت في أحد جوانبها تظهر الجانب الضحية للنظام السياسي، وهو الأمر الذي يدفع إلى تعاطف داخلي يريده النظام السياسي أن يبقى ويتزايد.
سوريا الاختبار المعقد
لقد مثلت مواقف إيران من تطورات “الربيع العربي” فصلا مهما في دراسة ومتابعة تلك التطورات، لكن الموقف من سوريا كان بحد ذاته فصلا مستقلا. فالموقف الايراني الذي انتقل من الإيمان برواية النظام ومظلومية النظام ومنطقة الاستهداف الذي يتعرض له، الى التعبير عن مشاركتها (ايران) للنظام السياسي في سوريا بالحاجة للإصلاح. انتقال أريد منه الموازنة بين إرضاء الرأي العام العربي الذي طاما راهنت عليه إيران في خصومتها مع الولايات المتحدة والغرب، وبين الموقف من تأييد الحليف الاستراتيجي سوريا.
على أن المهم من وجهة نظري هو محاولة العودة الى المبدأ الدستوري الإيراني الذي طالما ما تحدثت عنه ايران وهو الدفاع عن المستضعفين والمظلومين، وهو في ما يبدو محاول لتحقيق نوع من التوازن الخلقي بين مبادئ الجمهورية وبين مصالح الجمهورية. محاولة لم تكن مقبولة من الرأي العام العربي المناصر للثورة السورية، الذي اعتبر أن المبادئ انتهكت عندما لم تدن ايران قتل المدنيين والاستخدام المفرط للقوة من قبل الحكومة السورية ضد المدنيين.
لقد تزايد الموقف الإيراني تعقيدا في نظر الكثيرين في المنطقة وفي العالم، عندما بدا الحديث بأن ما تقوله ايران في الحقيقة ما هو الا موقف كلامي، لكن الحقيقة أن هناك دعما ماديا لنظام السوري. مثل هذا الأمر الذي تتحدث عنه دوائر سياسية واستخباراتية زاد من مستوى الأزمة التي تواجهها ايران في موقفها من سوريا. في الحقيقة فإن البعض يرى أن السياسة الإيرانية من سوريا تكاد تكون في مستوى البرنامج النووي من حيث الأهمية، لا سيما في نظر بعض القوى الغربية الاقليمية، فالمحافظة على النظام السوري أصبحت في نظر هؤلاء قضية سيادية بالنسبة الى طهران، كما هو الأمر بالنسبة للاستمرار في البرنامج النووي الإيراني.
مثل هذا التحليل يحتاج إلى التفحص، صحيح أن إيران حريصة على النظام السوري والعلاقة مع حزب الله، لكنها في ذات الوقت تدرك حجم وزخم الانتقاد الدولي والإقليمي الرسمي والشعبي لما يحدث في سوريا، وربما تدرك أن ذلك قد يعصف بما بقي لها من تعاطف في المنطقة.
من هنا فإن ايران سعت إلى تغيير مسار تعاملها مع الأزمة السورية، وهو تغيير ما زالت تغلب عليه محاولة الموازنة، لكن ارتفاع وتيرة المواجهة مع النظام، وخسارته مناطق جغرافية وازدياد العزلة الدولية كلها عوامل تدفع باتجاه تغيير تدريجي بطيء. هذا التغيير بدأ بمحاولة الحديث مع المعارضة السورية وهو الأمر الذي لم ينجح ـ في ما يبدو – ثم انتقلت للعمل مع الجوار السوري وهنا الحديث عن تركيا صفتها اللاعب الذي تركز عليه الأضواء بسبب الجغرافيا السياسية. وامتد الأمر إلى اعتماد دبلوماسية نشطة من خلال طرح مبادرات وعقد اجتماعات مثل الذي عقد في طهران في اغسطس (آب) عام 2012.
البعض يرى أن السياسة الإيرانية من سوريا تكاد تكون في مستوى البرنامج النووي من حيث الأهمية، لا سيما في نظر بعض القوى الغربية الاقليمية، فالمحافظة على النظام السوري أصبحت في نظر هؤلاء قضية سيادية بالنسبة الى طهران، كما هو الأمر بالنسبة للاستمرار في البرنامج النووي الإيراني
كل هذا دفع البعض للاعتقاد بأن ايران ايقنت أن النظام السوري لن يستطيع البقاء حتى وان استطاع الاستمرار مؤقتا، وانها تسعى الى تراجع تكتيكي تسعى من خلاله المحافظة على مكتسباتها السياسية في المنطقة، وذلك من خلال التعامل مع اللاعبين الاقليميين. مثل هذا الاعتقاد يواجه مشكلة اساسية هي أن مستوى الثقة بين ايران وبين اللاعبين الإقليميين مثل تركيا والسعودية مثلا في أدنى مستوياته، وأنه من المستبعد أن يتعاون هؤلاء بالشكل الذي ترغب فيه إيران. ولعل الفشل التي تواجهه مبادرة الرئيس المصري محمد مرسي والتي ضمت مصر وإيران وتركيا والسعودية ما هو إلا مؤشر على تدني مستوى الثقة بين ايران، وبين بعض هؤلاء اللاعبين المؤثرين.
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى أحد أهم العوامل في تدني مستوى الثقة هو أن الدول الإقليمية تتوقع من ايران أن تؤثر إلى النظام السوري انطلاقا من مبادئها الثورية وهو الأمر الذي لا يبدو أنه يحدث، كما أن الاعتقاد بأن ايران تأمل في شراء مزيد من الوقت لإيجاد تسوية مشرفة لها كما هو الحال بالنسبة للبرنامج النووي يثير حفيظة الدول التي تبدو قلقة من تزايد أعداد الضحايا في سوريا والدمار الذي يعم في كل مكان.
نتيجة..
إن الديناميكية التي خلقها “الربيع العربي” آخذة في التشكل وستستمر، ولعل القادرين على أبداء المرونة نحوها هم الذين سيستطيعون تحصيل المنافع وتقليل الأضرار.
من هنا فإن كثيرا من الدول ومنها إيران في حالة اختبار حقيقي أمام المبادئ وأمام التاريخ وأمام الشعوب والرأي العام. لقد اختارت إيران ـ في ما يبدو ـ خيار المصالح العليا والاستراتيجية التي تتحقق لها، ولعل من الصعوبة بمكان اقناع الرأي العام الذي كثيرا ما تغنى بإيران أن ما تفعله طهران هو دفاع عن الثوابت والمبادئ التي تتحدث عنها الجمهورية الإسلامية. إن الرأي العام يطرح سؤالا كبيرا يتعلق بأهم مبدأ لدى إيران الشيعية، وهو مبدأ المظلومية والضحية، فما الذي حدث ليتم التخلي عن هذا المبدأ الذي يتذكره الإيرانيون الشيعة وغيرهم من الشيعة في كل مناسبة عاشوراء.
الأمر الآخر في هذا السياق الذي يطرح في تساؤلات المتابعين لما يحدث حول السابقة الثورية، والتي يرى البعض أنها يجب أن تدفع ايران لموقف أكثر وضوحا من تلك الثورات ولا سيما السورية منها. إن هذه الأسئلة تتعلق بالأحكام القيمية على المواقف، وافتراض الحالة المثالية، وفي ظني كما كما هو ظن الكثيرين لا يمكن تجاهل السياسة كعامل يصوغ المواقف ويشكلها، لا بل يزود بأدوات الاقناع أيضا.
إن المواقف الإيرانية من تطورات المشهد العربي ستطرح أسئلة كثيرة حول العلاقات المستقبلية بين العرب وإيران، سواء بين الدول التي شهدت الثورات، أو تلك التي لم تشهد. كما ستطرح الكثيير من القضايا للنقاش العلني حول العلاقة بين السنة والشيعة ومستقبلها، سواء داخل المجتمعات العربية أو خارجها. إضافة إلى كل هذا، يبقى التساؤل عما إذا حصلت هناك إعادة تعريف للمظلومية والمظلومين الجديرين بالدعم والمساندة؟
كلها أسئلة أثارها ربيع الشعوب العربية، كما يجمع الكثيرون، أسئلة من المبكر جدا حسم إجاباتها، لكنها بلا شك ستخط تاريخا جديدا لأجيال المستقبل القريب قبل البعيد!
بقلم : د. محجوب الزويري
مواقف للتاريخ
عامان يكادان ينقضيان على ما سُمّي "الربيع العربي"، تلك الكرة الملتهبة بالغضب على الظلم والاستبداد والفساد والتي انطلقت من تونس لتعبر إلى مصر، ثم ما تلبث أن عادت إلى ليبيا. لم تتوقف في أفريقيا العربية، بل عبرت إلى المشرق العربي لتمرّ باليمن، ثم لتحط في سوريا.
تطورات بدأت في أواخر عام 2010، لكنها تطورت وتتطور معها بشكل متسارع ودراماتيكي يكاد يشكل خريطة سياسية واجتماعية جديدة في
المنطقة العربية، ويلقي بظلالها على ما حولها، بل وعلى العالم.
ولأن هذا “الربيع” بدا كحركة ممتدة مساحياً فقد أجبر كل من هو محيط به في أن يكون له موقف، فـ”الربيع العربي” لم يسمح لمن يريد أن يبقى في المنطقة الرمادية بالبقاء فيها، فالحدث فرض اتخاذ الموقف والمواقف في التاريخ كما هي في السياسة لها أثمان، وفيها خسائر وأرباح وهي في ذات الوقت تبقى كامنة في ذاكرة الشعوب. لكن حتى نفهم هذه المواقف يبدو من الضروري إدراك حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن تلك المواقف التي فرضت على متخذيها أن يأخذوها، ليس بالضرورة أن تعكس الحقيقة في ما يشعرون وما يريدون، فهي مواقف فرضتها القراءة الآنية للمصالح المتعلقة بهذا الطرف أو ذلك.
إن أي تغيير سياسي مفاجئ من حيث التوقيت لا يلقى ذلك الإعجاب الذي يتوقع، فالتغيير السياسي فيه تغيير لمياه راكدة ولأعراف وترتيبات سياسية مضى عليها ردح من الزمن عرف أصحابها كيف يديرونها وهي في الغالب معروفة بتأمين المصالح لإطرافها بالشكل الذي يرضي الطرفين، حتى وإن لم يكن ذلك عادلا. التغيير الذي حدث في العالم العربي يكاد يكون قلب الأمور سافلها عاليها، فهو تغيير ارتبط بالقاعدة الشعبية المهمشة، وهو تغيير أتى بنخبة سياسية كانت تتضرر مما كان سائدا وهي حانقة ربما على المستوى الشخصي لما كان يتعرض له الآلاف من الناس من قمع واستبداد. وهو تغيير بمفاهيم بالضرورة تتعارض مع ما كان سائدا من حيث الأولويات وشكل التحالفات ومسار العلاقات. من هنا فهو تغيير قد لا يكون مُرحبا فيه كما تبدو الأمور، لأنه وبعبارة قصيرة، يفرض على الآخر تغييرات قليلة أو كثيرة كانت، فهي مكلفة سياسيا واقتصاديا وهي الضرورة ستبقى محتكمة إلى قدرة مجتمعات ما بعد الثورة على الانتقال من المراحل الانتقالية إلى مراحل الدول المستقرة.
لقد تباينت المواقف المعلنة من أحداث “الربيع العربي” من دولة إلى أخرى، فمن مؤيد مقتنع بحتمية التغيير إلى مشكك في الدوافع واحتمالية النجاح، إلى قلق بشأن المستقبل الذي يمكن أن تؤول إليه الأمور. في هذا السياق يأتي الحديث عن إيران الدولة الشرق أوسطية غير العربية التي أنهت القرن العشرين بثورة إسلامية على نظام كان يوصف بأنه الأكثر استبدادا في المنطقة. هذه الدولة أسست لما تسميه النظام الإسلامي المستند إلى المذهب الشيعي الاثني عشري، وسعت باستمرار إلى أن تبقي في ذاكرة الداخل الخارج أن نظامها السياسي ثوري إسلامي، وأنه يدافع عن المستضعفين والمظلومين.
إيران التي مضى على ثورتها ودولة ما بعد الثورة حوالي 33 عاماً، تجد نفسها في مواجهة “تسونامي الربيع العربي”، وهو تسونامي مفاجئ من حيث انتشاره الجغرافي، ومن حيث مطالباته، ومن حيث موقفه من إيران ذاتها.
المواقف الإيرانية ومستويات التحليل
إن أي حالة لفهم وتحليل الموقف الإيراني من “الربيع العربي” يجب أن تستند إلى ثلاثة مستويات من التحليل: الأول: بتركيبة النظام السياسي أو النخبة السياسة الإيرانية خلال الأعوام العشر الماضية. الثاني: متعلق بالمشهد السياسي الداخلي الإيراني. والثالث: متعلق بحركة السياسة الخارجية الإيرانية ومتعلق بالمشهد السياسي الإيراني الداخلي. مستويات لا ينبغي الاعتقاد بوجود فواصل يينها، بل إنها في الحقيقة تتقاطع كثيراً، وهو الأمر الذي يزيد من حجم الإشكالية الفكرية التي يراها البعض حول تحليل الموقف الإيراني.
بالنسبة للنخبة السياسية الإيرانية وعلى رأسها المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية والبرلمان رئيسا وأعضاء وكذلك المؤسسة العسكرية، كانت قراءتهم تركز على مسار واضح وهو أن “الربيع العربي” موجه إلى حد كبير لأنظمة وضعت نفسها في الجانب الأميركي، وهو الأمر الذي أثار غضب شعوبها، من هنا فالترحيب يكاد يكون فريضة
في محاولات فهم الموقف الإيراني كانت السمة الأبرز تصور موقف إيراني واحد، وهو أمر فيه قدر من التضليل، بل أحيانا التحليل الخاطئ، كما أنه في بعض الأوقات تصور أن إيران كل متجانس يعبر عنه صوت واحد هو صوت الحكومة، وهو أيضا مغالطة كبيرة. لهذا كله كان تقديم هذه المستويات في محاولة لتفكيك المشهد السياسي الإيراني لفهم موقفه وفي الغالب مواقفه. بالنسبة للنخبة السياسية الإيرانية والتي أعني بها السياسيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية والبرلمان رئيسا وأعضاء وكذلك المؤسسة العسكرية، كانت قراءتهم تركز على مسار واضح وهو أن “الربيع العربي” موجه إلى حد كبير لأنظمة وضعت نفسها في الجانب الأميركي، وهو الأمر الذي أثار غضب شعوبها، من هنا فالترحيب يكاد يكون فريضة. استجلاب البعد الأميركي له علاقة بالمنهج الإيراني الموجود لدى النخبة السياسية التي تحكم إيران منذ عام 2005، والتي يمكن القول إنها ترى في واشنطن أصل كل خطيئة ومصيبة تحدث لإيران.
استجلاب البعد الأميركي كمحدد للموقف الإيراني من “الربيع العربي” بقدر ما كان يخدم النخبة السياسية في الداخل الإيراني، فهي بذلك تؤكد ما هو مؤكد لها من أن الولايات المتحدة الأميركية هي “الشيطان الأكبر”، ولذلك فهي تدفع بثمن سياساتها في المنطقة. بذلك فهي تذكر الداخل الإيراني بضرورة التحالف مع النخبة التي تعادي واشنطن بالأساس.
لكن هذا الأمر كان له أيضا مخاطرة، فالنخبة السياسية التي كانت تسعى لتأكيد الصورة غير الحسنة لواشنطن وتشكك في شرعية الأنظمة المتحالفة منها، هي في الحقيقة وعبر ثورات “الربيع العربي” تفقد أهم مكون لخطابها المعادي لولايات المتحدة، والذي لن يعود برّاقا كما كان. استحضار الولايات المتحدة في خلفية التصور الإيراني لحركة الربيع، كان المدخل لما حدث من تقييمات إيرانية ومواقف اعتبرت فيما بعد مصلحية ضيقة تريد من خلالها طهران المحافظة على مصالحها، من دون النظر إلى خيارات الشعوب.
اللافت للانتباه في هذا السياق، هو أنه باستجلاب البعد الأميركي، فإن صفة المظلومية التي يرددها الشيعة تنتقل من الشعوب إلى النظام السياسي وبذلك تصبح مسألة تأييده تنسجم مع ثقافة الدفاع عن المظلومين ـ وهنا المقصود النظام السياسي ـ وليس الشعب الذي يحكم من قبل هذا النظام. وقد لوحظ بوضوح أن هذا الموقف لم يستطع أن يثبت خلال العامين الماضيين، بل طاله تغيير متأثرا ببعض الثورات، وتحديدا
الثورة السورية
في المستوى المتعلق بالمشهد السياسي الداخلي الإيراني، فمن الواضح أنه بدا منقسما بطريقة جلية، فالتيار السياسي القريب من النخبة الحاكمة، كان يتبنى خطاب النخبة ويحاول أن يبرره وينشره، سواء عبر وسائل الإعلام أو عبر المؤسسة الدينية. هذا التيار الديني المحافظ أو ما تفرع منها مما أسميه “المحافظين الجدد”، سعى إلى إبقاء الولايات المتحدة في خلفية المشهد التحليلي لكل ما يحدث. وقد ذهب التحليل إلى تصور أن كل ما يحدث في المنطقة هو مخطط أميركي تساعد بعض بلدان المنطقة في تنفيذه.
في المقابل كان هناك التيار الإصلاحي والحركة الخضراء اللذان لا يتفقان مع النخبة ولا مع التيار السياسي الآخر، إذ يعتبرون أن المسألة برمتها تتعلق بمطالبات الشعوب ورفع الاستبداد، وأن استحضار واشنطن ليس إلا نوعا من تشويه سمعة ما يحدث. وهم يذكرون بأن النخبة السياسية الإيرانية كانت قد ربطت بين اعتراضاتهم في عام 2009 على نتائج الانتخابات العاشرة لرئاسة الجمهورية وبين الولايات المتحدة، مذكرين أن السلطات رأت في حركتهم امتدادا للتحريض الأميركي على نظام الجمهورية الإسلامية. لم يكن صوت الحركة الإصلاحية والحركة الخضراء قويا كصوت النخبة، فالسياسة التي تبنتها الحكومة الإيرانية منذ عام 2009 ـ كما يرى الإصلاحيون – جعلت فرص إيصال صوتهم ضعيفا وأحيانا متأخرا.
في المستوى الثالث كانت حركة السياسية الخارجية هذه نقطة الارتكاز التي يجب أن ينظر إليها. لا يشكنّ أحد أن “الربيع العربي” أصبح يشكل نوعا من التحدي وربما تهديدا للبعض الآخر، لا سيما في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. فحركة “الربيع العربي” تفرض تغييرات على ثلاثة أصعدة بالغة الأهمية. الأول: يتعلق بالخطاب السياسي الداخلي لكل دولة شهدت ثورة. الثاني: مرتبط بإعادة تشكيل الهوية السياسية، والثالث: متعلق بالتحالفات السياسية التي ستتبعها كل دولة من دول ذلك الربيع. وهنا يصبح الحديث عن السياسة الخارجية الإيرانية مشروعا.
إن أداء السياسة الخارجية الإيرانية كان في الحقيقة يحاول أن يوازن بين موقف النخبة الحاكمة الذي عرضنا له في بداية المقالة، وبين مواقف تراها إيران مبدئية مثل الدفاع عن الشعوب المظلومة. الأمر الآخر وهو السؤال الكبير عن البعد المذهبي وحضوره في حركة السياسة الخارجية الإيرانية.
حاولت مؤسسة وزارة الخارجية الإيرانية أن تعكس في أوائل أحداث “الربيع العربي” وجهة نظر النخبة السياسية بنوع من الحذر، مما يمكن أن تؤول إليه الأمور لاسيما بعد تدخل الناتو في ليبيا، وبعد النقاش الدولي والخليجي حول تطورات اليمن.
لكن هذا الأمر لم يستمر، فالتطورات المتسارعة في أكثر من بلد لا سيما في ليبيا وفي اليمن والبحرين وسوريا، فرضت على إيران أن تتحرك في دبلوماسيتها، لكنه حركة بطيئة شكلتها محاولة إيران الموازنة ين المواقف الثورية والدفاع عن المظلومين وبين مواقف الدولة التي ترى في التغيرات تحديا سياسيا دبلوماسيا لإيران. من هنا كان التأييد لثورة الليبيين، لكن في ذات الوقت كان الانتقاد الشديد للعملية العسكرية التي قادها الناتو هنا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليمن انتقاد للتدخل الإقليمي والدولي، وهو الأمر الذي امتد للحالتين البحرينية والسورية.
في هذا السياق يبدو أن إيران بدأت تواجه نوعين من التحدي لسياستها الخارجية كنتيجة لتطورات “الربيع العربي”، الأول: مرتبط بما يحدث في تلك الدول وطبيعة النخبة السياسية القادمة، وكيف سيكون موقفها من نظام الجمهورية الإسلامية، والتحدي الثاني مرتبط بظهور منافس إقليمي يبدو جاذبا أكثر وهو تركيا.
هذان التحديان أضافا إلى رصيد تحديات السياسة الخارجية الحاجة الماسة إلى الرد والاستجابة إلى هذين التحديين. لقد كانت إيران تعتقد أن تحديات سياستها الخارجية كانت دائما مرتبطة بالعلاقة المأزومة مع الولايات المتحدة ومع الغرب، وهي مسألة كانت في أحد جوانبها تظهر الجانب الضحية للنظام السياسي، وهو الأمر الذي يدفع إلى تعاطف داخلي يريده النظام السياسي أن يبقى ويتزايد.
سوريا الاختبار المعقد
لقد مثلت مواقف إيران من تطورات “الربيع العربي” فصلا مهما في دراسة ومتابعة تلك التطورات، لكن الموقف من سوريا كان بحد ذاته فصلا مستقلا. فالموقف الايراني الذي انتقل من الإيمان برواية النظام ومظلومية النظام ومنطقة الاستهداف الذي يتعرض له، الى التعبير عن مشاركتها (ايران) للنظام السياسي في سوريا بالحاجة للإصلاح. انتقال أريد منه الموازنة بين إرضاء الرأي العام العربي الذي طاما راهنت عليه إيران في خصومتها مع الولايات المتحدة والغرب، وبين الموقف من تأييد الحليف الاستراتيجي سوريا.
على أن المهم من وجهة نظري هو محاولة العودة الى المبدأ الدستوري الإيراني الذي طالما ما تحدثت عنه ايران وهو الدفاع عن المستضعفين والمظلومين، وهو في ما يبدو محاول لتحقيق نوع من التوازن الخلقي بين مبادئ الجمهورية وبين مصالح الجمهورية. محاولة لم تكن مقبولة من الرأي العام العربي المناصر للثورة السورية، الذي اعتبر أن المبادئ انتهكت عندما لم تدن ايران قتل المدنيين والاستخدام المفرط للقوة من قبل الحكومة السورية ضد المدنيين.
لقد تزايد الموقف الإيراني تعقيدا في نظر الكثيرين في المنطقة وفي العالم، عندما بدا الحديث بأن ما تقوله ايران في الحقيقة ما هو الا موقف كلامي، لكن الحقيقة أن هناك دعما ماديا لنظام السوري. مثل هذا الأمر الذي تتحدث عنه دوائر سياسية واستخباراتية زاد من مستوى الأزمة التي تواجهها ايران في موقفها من سوريا. في الحقيقة فإن البعض يرى أن السياسة الإيرانية من سوريا تكاد تكون في مستوى البرنامج النووي من حيث الأهمية، لا سيما في نظر بعض القوى الغربية الاقليمية، فالمحافظة على النظام السوري أصبحت في نظر هؤلاء قضية سيادية بالنسبة الى طهران، كما هو الأمر بالنسبة للاستمرار في البرنامج النووي الإيراني.
مثل هذا التحليل يحتاج إلى التفحص، صحيح أن إيران حريصة على النظام السوري والعلاقة مع حزب الله، لكنها في ذات الوقت تدرك حجم وزخم الانتقاد الدولي والإقليمي الرسمي والشعبي لما يحدث في سوريا، وربما تدرك أن ذلك قد يعصف بما بقي لها من تعاطف في المنطقة.
من هنا فإن ايران سعت إلى تغيير مسار تعاملها مع الأزمة السورية، وهو تغيير ما زالت تغلب عليه محاولة الموازنة، لكن ارتفاع وتيرة المواجهة مع النظام، وخسارته مناطق جغرافية وازدياد العزلة الدولية كلها عوامل تدفع باتجاه تغيير تدريجي بطيء. هذا التغيير بدأ بمحاولة الحديث مع المعارضة السورية وهو الأمر الذي لم ينجح ـ في ما يبدو – ثم انتقلت للعمل مع الجوار السوري وهنا الحديث عن تركيا صفتها اللاعب الذي تركز عليه الأضواء بسبب الجغرافيا السياسية. وامتد الأمر إلى اعتماد دبلوماسية نشطة من خلال طرح مبادرات وعقد اجتماعات مثل الذي عقد في طهران في اغسطس (آب) عام 2012.
البعض يرى أن السياسة الإيرانية من سوريا تكاد تكون في مستوى البرنامج النووي من حيث الأهمية، لا سيما في نظر بعض القوى الغربية الاقليمية، فالمحافظة على النظام السوري أصبحت في نظر هؤلاء قضية سيادية بالنسبة الى طهران، كما هو الأمر بالنسبة للاستمرار في البرنامج النووي الإيراني
كل هذا دفع البعض للاعتقاد بأن ايران ايقنت أن النظام السوري لن يستطيع البقاء حتى وان استطاع الاستمرار مؤقتا، وانها تسعى الى تراجع تكتيكي تسعى من خلاله المحافظة على مكتسباتها السياسية في المنطقة، وذلك من خلال التعامل مع اللاعبين الاقليميين. مثل هذا الاعتقاد يواجه مشكلة اساسية هي أن مستوى الثقة بين ايران وبين اللاعبين الإقليميين مثل تركيا والسعودية مثلا في أدنى مستوياته، وأنه من المستبعد أن يتعاون هؤلاء بالشكل الذي ترغب فيه إيران. ولعل الفشل التي تواجهه مبادرة الرئيس المصري محمد مرسي والتي ضمت مصر وإيران وتركيا والسعودية ما هو إلا مؤشر على تدني مستوى الثقة بين ايران، وبين بعض هؤلاء اللاعبين المؤثرين.
وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى أحد أهم العوامل في تدني مستوى الثقة هو أن الدول الإقليمية تتوقع من ايران أن تؤثر إلى النظام السوري انطلاقا من مبادئها الثورية وهو الأمر الذي لا يبدو أنه يحدث، كما أن الاعتقاد بأن ايران تأمل في شراء مزيد من الوقت لإيجاد تسوية مشرفة لها كما هو الحال بالنسبة للبرنامج النووي يثير حفيظة الدول التي تبدو قلقة من تزايد أعداد الضحايا في سوريا والدمار الذي يعم في كل مكان.
نتيجة..
إن الديناميكية التي خلقها “الربيع العربي” آخذة في التشكل وستستمر، ولعل القادرين على أبداء المرونة نحوها هم الذين سيستطيعون تحصيل المنافع وتقليل الأضرار.
من هنا فإن كثيرا من الدول ومنها إيران في حالة اختبار حقيقي أمام المبادئ وأمام التاريخ وأمام الشعوب والرأي العام. لقد اختارت إيران ـ في ما يبدو ـ خيار المصالح العليا والاستراتيجية التي تتحقق لها، ولعل من الصعوبة بمكان اقناع الرأي العام الذي كثيرا ما تغنى بإيران أن ما تفعله طهران هو دفاع عن الثوابت والمبادئ التي تتحدث عنها الجمهورية الإسلامية. إن الرأي العام يطرح سؤالا كبيرا يتعلق بأهم مبدأ لدى إيران الشيعية، وهو مبدأ المظلومية والضحية، فما الذي حدث ليتم التخلي عن هذا المبدأ الذي يتذكره الإيرانيون الشيعة وغيرهم من الشيعة في كل مناسبة عاشوراء.
الأمر الآخر في هذا السياق الذي يطرح في تساؤلات المتابعين لما يحدث حول السابقة الثورية، والتي يرى البعض أنها يجب أن تدفع ايران لموقف أكثر وضوحا من تلك الثورات ولا سيما السورية منها. إن هذه الأسئلة تتعلق بالأحكام القيمية على المواقف، وافتراض الحالة المثالية، وفي ظني كما كما هو ظن الكثيرين لا يمكن تجاهل السياسة كعامل يصوغ المواقف ويشكلها، لا بل يزود بأدوات الاقناع أيضا.
إن المواقف الإيرانية من تطورات المشهد العربي ستطرح أسئلة كثيرة حول العلاقات المستقبلية بين العرب وإيران، سواء بين الدول التي شهدت الثورات، أو تلك التي لم تشهد. كما ستطرح الكثيير من القضايا للنقاش العلني حول العلاقة بين السنة والشيعة ومستقبلها، سواء داخل المجتمعات العربية أو خارجها. إضافة إلى كل هذا، يبقى التساؤل عما إذا حصلت هناك إعادة تعريف للمظلومية والمظلومين الجديرين بالدعم والمساندة؟
كلها أسئلة أثارها ربيع الشعوب العربية، كما يجمع الكثيرون، أسئلة من المبكر جدا حسم إجاباتها، لكنها بلا شك ستخط تاريخا جديدا لأجيال المستقبل القريب قبل البعيد!
بقلم : د. محجوب الزويري